أولويات في نقد القراءات المعاصرة للقرآن: نموذج محمد أركون.

إنضم
25/01/2010
المشاركات
109
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
المغرب - فاس
دوافع البحث في الموضوع:
لعل من الأسئلة التي قد تتبادر إلى ذهن القاريء الكريم لهذا العنوان، سؤال هو: ما السب في اختيار محمد أركون ليكون فكره موضع نقد بدلا من غيره ممن يعدون أو يعتبرون من المفكرين الحداثيين ومن في حكمهم؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أن الحداثة (Modernisme) ليست هي التحديث (Modernité) ، فبين المصطلحين بون شاسع وفرق كبير، فالأول يمكن أن نُسلم بأنه مذهب فكري له أصول ومرتكزات يقوم عليها في بنائه لآرائه وأفكاره؛ والثاني يراد منه جعل الوسائل والأدوات ملائمة للعصر وفي تناغم معه أو بعبارة أخرى جعلها "عصرية"، أما جوابا على السؤال المذكور فيمكن الإشارة إلى ما يلي:
1. في صيف سنة 1986م أو في صف السنة الموالية لها استمعت إلى برنامج (لا أذكر اسمه) بثته الإذاعة الجهوية للدار البيضاء وكان ضيف البرنامج مفكر اسمه محمد أركون، وأكثر المُقدم للبرنامج وفي ثنايا استضافته له من وصفه بـ" المفكر الإسلامي" فاعتقدت أنه بهذا الوصف من طينة الشيخ عبد الحميد كشك ومحمد الغزالي رحمها الله وجميع المسلمين، وكنت حينها أدرس بالمدرسة الثانوية، أي قبل الحصول على الباكالوريا. بالإضافة إلى هذا وخلال زياراته للمغرب فإن عددا من التلاميذ ممن كنت أدرس معهم كانوا يتبادلون الحديث عنه بكثرة رغم أنهم لم يقرؤوا له، والسبب في هذا الضجة التي كانت ترافقه وكان يحدثها دخوله إلى المغرب في تلك المرحلة. كما أن وسائل إعلامنا خاصة المكتوبة من مجلات وصحف تتقاطع النظر مع أركون فيما يهدف إليه أظهرته على أنه ذلك العبقري الذي لم يسبق أن ظهر مثله في الغرب الإسلامي.
2. لما التحقت بالجامعة ودرست السنة الأولى في شعبة الاقتصاد لفت نظري استعمال البعض من المدرسين للعديد من المصطلحات والألفاظ التي نطق بها أركون في البرنامج الإذاعي الذي حل ضيفا عليه بإذاعة الدار البيضاء، وهنا بدأ البحث بالنسبة لي عن وفي كتابات أركون وإنتاجه الفكري.
3. إيراد أركون في كتاباته وحواراته وأحاديثه الإذاعية والتلفزية للكثير من مفاهيم ومصطلحات الفكر الغربي ومحاولته تقديمها على أنها أدوات منهجية حديثة لنقد "العقل الديني والإسلامي" وإعادة قراءة القرآن وتاريخ الإسلام وتراثه، ومن هذه الألفاظ: الابستمولوجيا، الأنتروبولوجيا، الإبيستمية، البنيوية، الميتافزيقا، التاريخية، الأركيولوجيا، التيولوجيا... وغيرها من المصطلحات، لإيهام قليلي العلم والاطلاع على أنها البديل أو الاجتهاد المخلص من التقليد والجمود الذي يعاني منه الفكر الإسلامي والاجتهاد المعاصر (المتمثل أساسا في الدعوة الإسلامية المعاصرة ومعها اليقظة الإسلامية) في فهم الدين الفهم العلمي الصحيح وقراءة الميراث العلمي للأمة قراءة علمية كذلك.
4. إن مطاردة الأغلاط العلمية والأخطاء التي وقع فيها أركون أو غيره والوقوف عندها واحدا تلو الآخر أمر مقبول لكنه يتطلب وقتا أطول وجهدا أكبر قد لا ينتهي، لأن أغلب ما كتبه أو قاله وصرح به هنا وهناك فيه وعليه نظر أو نظرات طويلة وعميقة بعمق القصد الفكري الذي أراده ويريده؛ ويبدو لي أن الوقوف عند أركان أو نقط ضعف المشروع الأركوني لتكون منطلقا ومرتكزات يُبنى عليها لنقده، قد تكون أنجع في نبشه وتقويضه من الداخل ثم نسفه، كما أراد أن يفعل مع الميراث العلمي للأمة، وقد خاب سعيه وبوادر بوار مشروعه لاحت في الأفق منذ مدة، ويزداد فشل مشروعه في الظهور يوما عن يوم، لمن له بصر وبصيرة.
5. غياب الشروط العلمية والموضوعية في التعامل مع الميراث العلمي للأمة ومع الوحي (القرآن والسنة) مصدر هذا الميراث؛ وهنا يُطرح مسوغ المشروع "العلمي" لأركون وأبعاده، ومراده ومبتغاه مما يقوله أو يتبناه، ففي الغالب غياب الوضوح والمبتغى. يقول هاشم صالح:" إن ما يفعله أركون بالنسبة للتراث الإسلامي يشبه إلى حد بعيد ما فعله علماء أوروبا ومفكريها بالنسبة للمسيحية" [ينظر: قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟ لمحمد أركون، ص:15] كدين يقابل التراث الإسلامي، مما يعني إدخال الوحي بشقيه القرآن والسنة ضمن التراث، الذي هو إنتاج بشري؛ فهذه النظرة "العلمية" المسبقة لها ما بعدها، من اعتبار الوحي بمنزلة الكلام البشري يجري عليه جميع ما يجري على كلام البشر من السهو والنسيان والوقوع في الخطأ؛ وهذا يفتح الباب لتصحيحه وتصويبه وإعطائه معنى حسب هذه السمات أو الخصائص التي للكلام البشري.
هذه هي الدوافع التي كانت وراء اختياري محمد أركون ليكون فكره مجال نقد وقراءة في جوانب تعد في نظري الأكبر والأضخم، بناء على ملاحظات اختمرت في ذهني لمدة تزيد على العقدين.
وهنا لابد من الإشارة إلى أنني لم أطلع على كل ما كتبه أركون أو كتب عنه، رغم تتبعي وقراءتي لبعض كتاباته. كما أن غالبية ما سأعرضه تجمع لدي في أوراق وجذاذات خاصة، قمت بنفض الغبار عنها راجيا أن يكون إخراج ما بداخلها ذا فائدة، وقد زاد من رغبتي وحماسي لهذا، أمران:
أولهما لقائي بمدير إشراف "ملتقى الانتصار للقرآن الكريم" الأخ اللطيف الدكتور حاتم بن عابد القرشي، لقائي به في "المؤتمر العالمي الثاني للباحثين في القرآن الكريم وعلومه" المنعقد بفاس خلال هذا العام (1434هـ)، وما راج بيني وبينه من نقاش في موضوع الانتصار للقرآن الكريم؛
وثانيهما ظهور موضوعات قديمة/جديدة في هذا الملتقى المبارك، وما عرفته وقد تعرفه من الردود والتعليقات على آراء وأفكار أركون التي ستظل موضع نقاش وتحليل مدة طويلة.
ومن ثم يمكن الوقوف عند ومع خمسة أركان أتناولها تباعا، وهي:
 
أولا: محمد أركون لا يعرف اللغة العربية.
يقدم أركون نفسه على أنه مجتهد، مجدد، مكتشف للرأي العلمي غير المسبوق في تاريخ الفكر العربي الإسلامي لإحياء علوم الدين، وتجديد الفكر الإسلامي المقروء بنظارات الفكر الغربي العلماني المعادي لكل ما هو إسلامي. هذا المجتهد المجدد الأسطورة يجهل أساليب العربية وطرق الكتابة بها وعلومها المتحكمة فيها، والأدلة على هذا يمكن حصرها في:
ü اعترافه وإقراره على أنه لا يعرف العربية، حيث قال: " كل من استمع إلى كلامي ألح علي أن تقدم كتبي بالعربية، بل أن أكتبها مباشرة بالعربية لتكون الفائدة أتم للغة العربية والناطقين بها. لم يتسع لي الوقت مع الأسف لأقوم بعملين مهمين مجهدين في وقت واحد وهما:
متابعة التيارات العلمية المختلفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية بالاطلاع على جميع ما يصدر من كتب باللغات الغربية؛
ثم إيجاد المصطلحات اللازمة لنقل أجهزة المفهومات المتجددة والمتحولة من كل لغة من اللغات الأصلية (الإنجليزية والفرنسية والألمانية خاصة) إلى العربية..." [ ينظر: تاريخية الفكر العربي الإسلامي لمحمد أركون، ص: 7. والكلام لمؤلف الكتاب وليس لمترجمه كما قد يُظن].
هذا الكلام يلخص عمل واجتهاد أركون من الناحية العلمية ويدل دلالة قاطعة في فقرته الثانية على أن كتبه ومقالاته ومحاضراته وحواراته كانت بغير العربية، فأثناء زيارته لأمريكا يتكلم بالإنجليزية ويكتب بها وفي مقامه بفرنسا (موطن دراسته العليا وتدريسه) يكتب بالفرنسية، وعند زيارته لبلاد المغرب العربي يحاضر ويفضل الحوار والتكلم مع الآخرين باللغة الفرنسية أيضا.
وفي حدود اطلاعي فإن أغلب كتبه في أصلها محاضرات باللغة الفرنسية خاصة، ألقاها على طلابه وفي ندوات وملتقيات فكرية، الغرض منها مخاطبة غير المسلمين باسم الإسلام وتقديم نفس الصورة التي يقدمها الاستشراق المعادي للإسلام إلى الرأي العام الأوروبي.
فكيف بمن لا يتقن اللغة العربية، لغة القرآن الكريم والعلوم المنبثقة منه، لغة الاجتهاد في فهم الإسلام، كيف يصبح مجتهدا ومجددا لقراءة القرآن والفكر الإسلامي؟
إن اللغة العربية التي لا يعرفها أركون هي اللغة التي نزل بها القرآن وفُسر بها وبأساليبها وبناء على قواعدها، وهي اللغة التي تجسد انتماء الأمة العربية والإسلامية، إلى دين الإسلام الذي يريد من خلاله لا بغيره تجديد هويتها ونهضتها لكن "بالحداثة" أولا وأخيرا. هذا فضلا عن كونها لغة الميراث العلمي للأمة العربية والإسلامية أو "التراث الفكري" الذي يريد أركون نقده وغربلته وتجديد فهمه وكشف الجانب "العلمي المغطى" فيه بأدواته الجديدة ومنهجه الجديد المستمد أصوله وجذوره في الفكر الغربي خاصة العلماني منه.
يقول أركون:"... يستطيع القاريء أن يدرك أسباب الفوضى الدلالية السائدة اليوم في اللغة العربية فيما يخص التعبير عن الحداثة الفكرية... لهذا السبب لم نوفق بعد إلى إيجاد مصطلحات وافية سليمة للدلالة الفكرية الكاملة على مفهومات... ولا يعني ذلك أبدا أن اللغة العربية غير قادرة على تأدية المعاني التابعة لتلك المفهومات؛ وإنما يعني أنها كسائر اللغات لها تاريخها الفكري الخاص، أي منظومتها الخاصة من الدلالات الحافة المرتبطة بالنزاعات الايديولوجية بين القوى الاجتماعية وأنها بحاجة إلى تطوير وتجديد... ولا يعود هذا إلى أن اللغة العربية قاصرة عن ذلك... لقد قام الدكتور هاشم صالح باجتهاد مثمر في هذا الميدان وساهم مسامة جدية في إثراء اللغة العربية والفكر الإسلامي بتلك الأجهزة من المفهومات والاصطلاحات التي أشرت إليها كأجهزة لازمة لمن يريد التعرف النقدي على الفكر الإسلامي لا في مراحله التاريخية فحسب، بل أيضا في الممارسات المعاصرة المتعددة بتعدد الحركات الاجتماعية والسياسية التي تقدم نفسها في معاجم وتصورات إسلامية... لقد ألححت على هاشم صالح حتى يكثر من الشروح والتعليقات في هوامش الصفحات لكي يساعد القاريء على الفهم الدقيق وينقذه من سوء الفهم والتورط في أحكام سريعة على أشياء لم يعرفها حق المعرفة..." [ينظر: تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ص:8-9].
أعود فأتساءل فكيف يتحول غير متمكن من اللغة العربية إلى قاريء للقرآن (بمعنى القراءة عنده) مجتهد في تفسيره بل في تغييره لمفاهيمه؟ وكيف يمكن أن يُجدد فهم الدين (الإسلام) مَن يعتمد على مترجم ظل لثلاثة عقود وهو يردد العديد من الألفاظ والمصطلحات باللغة التي يكتب بها شيخه أركون دون أن يجد لها مقابلا ؟ في لغة تزيد عدد كلماتها عن أربعين (40) مليون كلمة حسب بعض الاحصائيات، وعدد جذورها اللغوية قد يصل أو يفوق أربعة آلاف جذر لغوي. وهي أوسع وأشمل من كل اللغات اللاتينية، كيف بمترجم أمام هذه اللغة عجز وفشل في الإيفاء بمراد شيخه؟ وفي الدفاع عن اللغة التي يتكلم بها ويدافع عن كينونة الأمة التي ينتمي إليها، ويدعي أنه غيور عليها؟ ويلاحظ القاريء الكريم كيف أثنى أركون على تلميذه في مجهوده الجبار لإغناء اللغة العربية "بأجهزة من المفهومات والاصطلاحات"، لأن اللغة العربية في نظر أركون ارتبطت بأفكار نزعتها إيديولوجية وهي بحاجة إلى تطوير لنقد الفكر الإسلامي سواء في تاريخه القديم أو في ثوبه الجديد ذي المعجم الخاص.
وهذه الدعوى، دعوى تطوير اللغة العربية بقدر ما هي اقتراح وجيه، فإن التطوير الذي يريده أركون، تطوير خارجي يتمثل في تعريب ونقل المفاهيم التي تخدم مشرعه الفكري العلماني المعادي للإسلام، لذالك نجده يطلب ويلح على مترجمه الإكثار من البيان المؤدي إلى مراده حتى لا يرفض القاريء آرائه وأفكاره، ويحكم عليها بالبطلان المبني على عدم المعرفة المسبقة لما يريد أن يقنع به القاريء العربي. وهذا "الإنقاذ من سوء الفهم" الذي يريده ويدعيه أركون فيه نوع من الاستخفاف بالقاريء العربي، الذي هو بالأساس واع وعلى قدر من التعلم، فليس كل القراء العرب يقرؤون له، إنما النخبة والنوعية من المثقفين هي التي تقوم بقراءة الكتابات الأركونية. فموضوع النقد بالنسبة لأركون بالإضافة إلى التراث الفكري القديم، الجماعات والأحزاب الإسلامية باعتبارها الحاملة لمعجم من المفاهيم المجددة لفهم الدين بلغة القرآن والسنة، ولم يصرح بهذا إنما عبر عنه بـ "الممارسات المعاصرة" و "الحركات الاجتماعية والسياسية".
إن اللغة الحاملة لرسالة القرآن والمبلغة للوحي والحامية لمفاهيمه أولى بأركون وتلاميذه أن تكون عندهم في موقع الصدارة والوعاء الأول لأفكارهم وآرائهم، تشريفا وتعظيما لها، لأن الله شرفها بأن جعلها وعاء لكلامه، يقول جل ذكره: [FONT=&quot][FONT=&quot]][/FONT][/FONT]إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[[يوسف:2]. وقال أيضا: [FONT=&quot][FONT=&quot]][/FONT][/FONT]وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ[FONT=&quot][FONT=&quot][[/FONT][/FONT][ الشورى: 7]وفي هذا القرآن النازل من عند الله بلغة العرب وكذالك معانيه ومفاهيمه التي يمكن أن يفهم بها، قال تعالى: [FONT=&quot][FONT=&quot]][/FONT][/FONT]بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[[الشعراء: 195].وجعلها الخزان الأول والأخير لهذه المفاهيم وللدلالات المتنوعة لهذا الكلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال عز وجل: [FONT=&quot][FONT=&quot]][/FONT][/FONT]وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [FONT=&quot][FONT=&quot][[/FONT][/FONT][النحل: 103]. وأعزها الله فجعلها معبرة عن مراده، يقول سبحانه وتعالى: [FONT=&quot][FONT=&quot]][/FONT][/FONT] وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ[FONT=&quot][FONT=&quot][[/FONT][/FONT][النور: 54].و كانت إبداعية قبل نزل القرآن، وزادها عزا بأن جعلها الحافظ الأمين للدين وللإنتاج المعرفي الناتج عنه، وجعلها أيضا الجسر المتين لعبور الإسلام والحضارة والتاريخ إلى الضفة الأخرى التي سكن وأقام بها أركون مع من ترجم له، وأنتج انطلاقا منها فكرا بعيدا عن الدين باسم الدين بلغة ليست هي لغة الدين الذي يريد تجديده وقراءته بها.
يقول أركون عن اللغة العربية: "... يلاقي الباحث العربي الصعوبتين الأساسيتين إذا أراد استعمال اللغة العربية لتقديم بحوث تحليلية انتقادية للتراث، وهما صعوبتان مرتبطتان، إذ الأولى متعلقة باللغة والثانية بالأطر الاجتماعية للمعرفة على حد التعبير في سوسيولوجية الثقافة. لا أعني طبعا أن اللغة العربية غير قادرة على تأدية المعاني والأفكار المستحدثة... وكما أن الفلاح بقي يستعمل المحراث العتيق دون أي تحسين آلي، فكذلك بقيت اللغة العربية محافظة على تعابير دينية ونتف من الفقه والنحو والأدب، منفصلة عن المعاجم العلمية الثرية التي أحدثها المفكرون والأدباء والعلماء، في عصور الازدهار. ولم تزل إلى الآن منفصلة عن المعجم العقلاني العلمي الذي أحدثه الفلاسفة، ... وبلغ ابتعاد الأطر الاجتماعية عن المعاجم والتعابير العلمية إلى أنها اكتفت بترديد قواعد فارغة جامدة في علم النحو –وهو من أخصب علوم العربية- ودفنت مؤلفات من الأهمية بمكان، راجعة لا إلى عهد سيبويه فحسب، بل إلى النحاة المتأخرين كالاستراباذي مثلا" [ينظر: الفكر العربي لمحمد أركون، ص: 7-8].
هذا الكلام تتناقض فقراته فبقدر ما يتهم فيه أركون اللغة العربية بعدم القدرة على الإيفاء بالمطلوب من حيث الألفاظ والمصطلحات إذا تعلق الأمر بتقديم دراسة نقدية للتراث بقدر ما ينفي في الآن ذاته هذه التهمة "عدم القدرة" في استيعاب المفاهيم الجديدة أو المستحدثة، وفي مقابل هذا النفي حصر استعمالها في نتف من الفقه والأدب وترديد " قواعد فارغة جامدة في علم النحو"، وأنها بقيت منفصلة عن المعجم العلمي العقلاني، الذي يقترح أركون إضافته إليها لإثرائها؟ وهذا يدل على أن أركون يحتقر اللغة العربية التي نقلت النور(الإسلام) والعلوم ومختلف فنون المعرفة إلى أوربا، والكلام هنا يطول. وفي نظري فقد عمد إلى قول مثل هذا الكلام والكتابة عن الفكر العربي الإسلامي بغير العربية لإرضاء أساتذته ومن هم وراءه مقابل الزعامة المغشوشة والزائفة التي كان يعتقد أنها لديه أو عنده، فاستغل بطريقة بشعة من حيث لا يدري لتصدير نفايات فكرية ضارة، من قبيل: اتهام اللغة العربية بالقصور، والافتراء على الإسلام دين الأمة، التي ينتمي إليها والتي احتضنته وأعطته الكثير قبل أن يستدرج، فيصبح في صف أعداء الدين والملة ويحارب إلى جانبهم بشراسة أكبر منهم.
لم يكتف أركون بما سبق من التقول على لغة القرآن، بل زاد في الاتهام بقوله:"... إلا أن مفهومات: خطاب وأسطورة وبنية لم يفكر فيها بعد كما ينبغي في الفكر العربي المعاصر. ولن تؤدي المناقشة إلى أية نتيجة صالحة إذا تمسك هذا الطرف المذكور بأحكام فقه اللغة التقليدي والتاريخ الروائي- الخطي واستخدام القرآن لمفهوم أسطورة".[ ينظر: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص:10].
أورد هذا الكلام أثناء رده على من نددوا وصرخوا ضده باستعماله لهذه الجملة:" القرآن خطاب أسطوري البنية". وهو بهذا يريد من الآخرين أن يقبلوا منه عدم التقيد بأحكام اللغة وضوابط الكتاب بها، وعدم مراعاة الذوق العربي في قبول التعابير أو رفضها، ومن ثم القبول بأي تعبير مركب من حروف وكلمات عربية وإن لم يُؤد معنى مفهوما ولم يحترم أحكام العربية في الكتابة، بالإضافة إلى عدم تأديته لدلالة معينة.
 
ü إن الدكتور هاشم صالح (وهو من سورية عجل الله بالفرج لشعبها) والذي حسب علمي نقل إلى العربية على مدى ربع قرن أربعة عشر (14) كتابا لأركون، طرح سؤالا في مقدمة ترجمته لكتاب "الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر لمحمد أركون"، هذا السؤال هو قوله:" لماذا حاولت نقل فكر محمد أركون إلى العربية؟" وكان الأولى به أن يطرحه في مقدمة أول ترجمة له لأركون، وكانت سنة 1986م.
وفي ثنايا الجواب أورد آراء وأفكارا ليست بالجديدة، وقدم شيخه أركون على أنه الوحيد من بين كل مفكري العرب والإسلام القادر على القيام بالتعرية الأركيولوجية أو الجيولوجية لتراث الإسلام، ووصفه بـ "مسلم كبير" وأنه المتفرد الذي "قال لنا بأن العرب يعانون من قطيعتين لا قطيعة واحدة:
الأولى مع عصرهم الذهبي وتراثهم المبدع الخلاق،
والثانية مع الحداثة الأوربية التي تلته وحلت محله؟... هناك مصطلح آخر في فكر أركون هو: مصطلح (الظاهرة القرآنية/ والظاهرة الإسلامية). وقد فوجئت به في البداية لأني كنت أعتقد أنهما شيء واحد، ولكن فيما بعد فهمت أن هناك فرقا بينهما على الرغم من العلاقة الترابطية بالطبع.
فالظاهرة القرآنية تعني ذلك الحدث اللغوي الذي هز التاريخ هزا.
أما الظاهرة الإسلامية فتعني بكل بساطة التراث الفقهي والكلامي والتشريعي والتفسيري وكتب العقائد والملل والنحل والفرق وكل التراث الإسلامي الذي تشكل بعد ظهور القرآن بفترة طويلة نسبيا. وهناك فرق بين نص القرآن والتفاسير التي تشكلت عنه لاحقا على مدار التاريخ. وأحيانا تغطي التفاسير عليه أو تحل محله. هناك أشياء عديدة غير موجودة في القرآن ولكنهم يسقطونها عليه لكي يستمدوا منه المشروعية"اهـ [ينظر: الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر، ص: 8 - 35].
هذا الكلام بتمامه أورده الدكتور هاشم صالح في مقدمته للكتاب المذكور، نسبه كما نسب غالبية ما ذكر في هذه المقدمة إلى شيخه أركون. وليس مهما هل الكلام للشيخ أو للتلميذ؟ إنما المهم عندي هو أن أركون وتلميذه لم يجدا حلا للمشكلة الكبرى التي ناضلا من أجل معالجتها وإيجاد حل جذري ونهائي لها، وهي القطيعة الكبرى بين الإسلام والمشروع الذي يريدان إقامته وهو "علمنة الإسلام" أو إيجاد صلح بين الإسلام والحداثة: الحل المثالي والوحيد للنهضة العربية وللتجديد والاجتهاد واستمرار الأمة العربية والإسلامية على قيد الحياة؟ فالحداثة العقلية و" فتوحاتها العلمية والفلسفية" [ينظر: الهوامل والشوامل، ص: 22]. يرى أركون أن مفاهيم الحداثة الغربية إنجاز علمي غير مسبوق، وتطور فلسفي جديد، وهي السبيل الأنجع والوحيد لمحاربة الجمود والتقليد وسيطرة الأصوليين على الساحة، الذين لا تنفع محاربتهم أمنيا ولا عسكريا.

الذي يعنيني من هذا الكلام هو:
1. اعتراف هاشم صالح بعدم قدرته على الإيفاء بمراد شيخه أركون، بل بعجزه مع طول المدة التي تتلمذ فيها عليه بقوله "حاولت نقل فكر..." من اللغة التي كتب بها إلى العربية، وهذا الاعتراف أمر محمود ومقبول من تلميذ مع أستاذه؛ إلا أن ادعاء المحاولة هنا يُفهم منه أيضا التهويل والتخويف بمدى قوة وخطورة وأهمية هذا الفكر المنقول إلى العربية للأخذ به وقبوله على أنه الخلاص من الأزمة وأنه المنقذ من الضلال الذي عليه الأمة؟ يقول هاشم صالح منبها قراء الفكر الأركوني بأن الهدف من المقابلات الأربع التي ضمنها كتابه "قضايا في نقد العقل الديني" هو:"المساعدة على فهم فكره الصعب على القراء حتى في اللغة الفرنسية" [ينظر: قضايا في نقد العقل الديني، ص: 16] التي كُتب بها هذا الفكر، فصعوبته تكمن في عدم امتلاكه لقوة ذاتية ووضوح لا غبار عليه يدفع عنه الشكوك، ولذلك كان هاشم صالح يكثر من الشروح والبيان لإضفاء بعض المصداقية المفقودة على فكر شيخه. وهذا التهويل والأسئلة التشكيكية التي طرحها أركون ويُكثر منها تلميذه (منها على سبيل المثال 16 سؤالا في الصفحة الثامنة من كتاب " الهوامل والشوامل"، وهذه الأسئلة وإن كانت في ظاهرها علمية إلا أنها في مضمونها تشكيكية) تجعل الأتباع والحيارى يقبلون بنسب متفاوتة بالتصور المحمول جوا أو المنقول لحل الأزمة. وقد ناقشت عددا من الأتباع الذين يرون أركون والجابري قدوة في بعض الأفكار والآراء، ومنهم مدرسون بالجامعة فلا يجيبون أو يحيلونك على الأصل الفرنسي أو الإنجليزي للكلمة أو الفكرة، دون تقديم توضيح أو بيان مقنع وشاف عما يريده من هذه الفكرة أو تلك أو من هذا اللفظ أو ذاك. وذلك حتى لا ينكشف أمرهم أمام العامة والبسطاء في الفهم من الناس؛ فنزول القرآن على سيدنا محمد [FONT=&quot][FONT=&quot]r[/FONT][/FONT]"حدث لغوي" بالنسبة لأركون كالأحداث التاريخية، حدث لغوي يرى ضرورة قراءته بطريقته الخاصة والمناسبة وليس وفق قواعد وطرق التأويل في لغة من نزل فيهم الوحي.
2. أقف عند مصطلح أبهر وفاجأ التلميذ هاشم صالح (وهناك العديد من الأمثلة) وهو (الظاهرة القرآنية/ والظاهرة الإسلامية)؛ الذي يُفهم من كلام التلميذ أن هذا المصطلح أو التعبير، هو من إبداع وإنتاج أركون؛ ونسي أو تناسى أن مالك بن نبي رحمه الله كتب كتابه الحامل للعبارة ذاتها "الظاهرة القرآنية" كتبه بالفرنسية التي يكتب بها أركون سنة 1946م أو قبلها،وقد تصفحت نسخة منه وهي من الحجم الصغير، طبعت سنة 1973م بباريس وتحمل عنوان "le phénomène coranique [FONT=&quot] " [/FONT]وأخرى صادرة سنة 1980م وغيرهما من الطبعات الفرنسية والعربية للكتاب.
وهذا الأمر عندي ليس هو الغلط أو الأسوأ، إنما الأسوأ أن يترجم التلميذ عن طريق الجهل أو القصد العبارة الأصل ترجمة خاطئة، والعبارة المترجمة كما أوردها في الهامش هي: Le Fait Islamique[FONT=&quot]/[/FONT]Le Fait Coranique[FONT=&quot]. [/FONT]فبين كلمة "Le Fait" و الصواب في ترجمتها كلمة "الحدث"، وكلمة " الظاهرة" الترجمة السليمة والأقرب لكمة "le phénomène " بينها فرق كبير لا يخفى.
والذي يبدو أنه عمد إلى هذا لإظهار أن أستاذه في مستوى عال من التفكير وأن اختيار ما يناسب للتنظير لقراءته الجديدة للقرآن، حتى وإن تعلق الأمر بتجاوز النص الأصلي للكلام وتقويل الشيخ ما لم يقله أمر مقبول، ويجوز في مثل هذه الحالة الاعتداء على الحق الفكري للآخرين.
رجعت إلى قاموسين: الأول: عربي- فرنسي، والثاني: فرنسي- فرنسي، فوجت فيهما ما أشرت إليه؛ ولم أكتف بهذا بل سألت متخصصا في الترجمة من اللغتين: الإنجليزية والفرنسية إلى العربية، فكان جوابه ما أثبته. فرحم الله مالك بن نبي الذي كان سباقا إلى استعمال هذا المصطلح قبل أركون وتلميذه.
وأترك المزيد من التعليق للقارئ الكريم، كما أرحب بما يبدو للبعض أنها أخطاء أو نقد غير علمي في حق أركون وتلميذه أو تلاميذه.
إن بين أركون وتلميذه وبين التراث الإسلامي قطيعتين: الأولى تتمثل في عدم التمكن من ضبط الوعاء الحاوي لهذا التراث والثانية تظهر في ضعف وبُعد الأدوات المنهجية المستعملة "في القراءة" لغُربتها عنه وعن البيئة التي ولد فيها فنشأ وترعرع، ثم نما وكبر؛ ولذلك وجدناه يقول: "... والثانية مع الحداثة الأوربية التي تلته وحلت محله..." يقصد بذلك التراث، الذي يريد جعل القطيعة أبدية معه وإحلال الحداثة محله.
انطلاق مالك بن نبي رحمه الله في تحديده للفظ "الظاهرة" من نظرته إلى "الإعجاز العلمي" على ضوء معطيات تاريخ الأديان وبصورة خاصة في القرآن الكريم، فميز بين نوعين من الإعجاز: الأول يدرك بالتذوق العلمي والثاني يدرك بالذوق الفطري، وفي سياق الحديث عن ضرورة إعادة النظر في هذه القضية العلمية في ظل الظروف الاجتماعية والثقافية والنفسية المتغيرة بالنسبة للأمة الإسلامية، فقد خلص إلى أن مفتاحها يمكن أخذه، بل هو موجود في الآية الكريمة: ]قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ [ [الأحقاف: 9] من عند الله أقدمه لكم وأحاججكم به. ووقف مع هذه الآية من زاويتين، وقال:
"فهي تحمل أولا إشارة خفية إلى أن تكرار الشيء في ظروف معينة يدل على صحته، أي أن سوابقه في سلسلة معينة تدعم حقيقته بوصفه ظاهرة بالمعنى الذي يسبغه التحديد العلمي على هذه الكلمة، فالظاهرة هي: الحدث الذي يتكرر في الظروف نفسها، مع النتائج نفسها.
وهي تحمل في مدلولها ثانيا ربطا واضحا بين الرسل والرسالات خلال العصور، وأن الدعوة المحمدية يجري عليها أمام العقل ما يجري على هذه الرسالات... ولا مانع إذن من أن نعيد النظر في معنى الإعجاز في ضوء منطق الآية الكريمة... فهذه في مجملها الأسباب التي دعتنا إلى تطبيق التحليل النفسي خاصة لدراسة القرآن بوصفه ظاهرة" [الظاهرة القرآنية ص: 63-64-68]؛ وقد لا تكون للظاهرة نفس النتائج التي لسابقاتها، كما أن الأسباب العامة قد تتكرر في هذا الحدث أو ذاك، والأسباب الخاصة قد تختلف من حدث إلى آخر. والظواهر الفزيائية أو الطبيعية قد لا تتكرر، وقد تتكرر بفوارق مختلفة، وفي بعض الظواهر الطبيعية تفاصيل وجزئيات مختلفة فيما بينها أو متناقضة أحيانا، يعني أن هناك استثناءات خارجة عن القاعدة. والظواهر الاجتماعية قد لا تتكرر أو تتكر بصور مختلفة لكون الظروف والأسباب الكامنة خلفها ليست مطردة، فقد تكون لكل ظاهرة ظروف وأسباب ونتائج خاصة أو مختلفة عن سابقاتها. ثم إن الظاهرة أحيانا قد لا تفهم على حقيقتها فيعسُر فهمها واستخلاص النتائج والدروس منها بسبب الغموض الذي قد يلفها ويكتنفها والرصد المصاحب لها أو الاستقراء المتبع في التعاطي معها وتحليها.
ومن هذا المنطلق لا أرى صوابا في الجمع بين لفظ "الظاهرة" وكلمة "القرآن" في مركب إضافي، فالقرآن يقتضي العلم الحق، والحقيقة اليقينية المطلقة بدليل ما جاء فيه، وهو قوله تعالى: ] وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [[سبأ: 6][FONT=&quot]؛[/FONT]أما الظاهرة فنسبية وتحتمل التفسير المتعدد وقد لا تفهم بسبب غموضها، أو تفهم بعد زوالها عن طريق مخلفاتها. هذا رأيي في هذا المركب الإضافي (الظاهرة القرآنية)، ولست ناقدا لمالك بن نبي رحمه الله تعالى.
استوقفتني عبارة استعملها الدكتور هاشم صالح في مقدمته لكتاب "الهوامل والشوامل"، وهذه العبارة هي " بعض الرتوش" [ينظر: ص 46 من الكتاب المذكور] ؛ الكلمة الأخيرة منها قد تبدو للقاريء غير الناقد أو غير المتمعن على أنها عربية، وهي ليست كذلك، فهي ترجمة حرفية لـ " retouches"؛ ورغم أنها سهلة في ترجمتها إلا أن المترجم لم يكلف نفسه عناء في إثبات مقابلها في اللغة العربية الذي هو: تهذيب، أو إضافات، أو إصلاحات طفيفة. ومن ثم فقد يأخذها البعض من القراء العرب على أنها عربية فيستعملونها عن جهل بحقيقتها.
 
التعريب المزيف

التعريب المزيف

أولا: ما عمله عدد من تلاميذ أركون ليس ترجمة لمقالاته بل هو تعريبا مزيفا لها (مثل النقود المزيفة).
1- فعادل العوا
2- وعلي المقلد
3- وخليل أحمد
4- وآخرهم هاشم صالح
انما قاموا بتعريب كتب جمع فيها أركون مقالاته المتفرقة " مع التصرف" في المعاني والدلالات، وبينهم وبين ما يصطلح عليه بـ "الترجمة " ما بين السماء والأرض،وذلك لأن كثيرا مما يقوله أركون عن القرآن لا يصدر الا عمن خرج عن ربقة الاسلام، وانطبق عليه وصف (الزندقـة) كما هي مقررة في كتب فقه المالكية.
ثانيا:اعتبارا لذلك فان أول أوليات نقد هذه "القراءات" توثيق ترجمة النصوص بالرجوع الى أصلها الأعجمي ما أمكن.
بل أذهب الى أبعد من ذلك لأؤكد أن كثيرا مما ينسب الى أركون ليس له،بل هو مجرد منتحل له من كتابات تيار لاهوتي مسيحي أوربي: فأركون الذي عاش طفولته ويفاعه في أحضان البعثة التنصيرية الفرنسية لشمال افريقيا( الرهبان البيض les pères blancs ) وقضى شبابه تحت رعاية الراهب المستشرق ( لويس غارديه Louis Gardet) تـ 1986 وكان مسؤولا بالفاتيكان عن العلاقات مع غير المسيحيين.
وأفنى ما بقي من عمره المديد -84 عاما- مقتنصا ما يصدر عن هذا التيار اللاهوتي المسيحي بشأن التوراة والاناجيل ليسقط نفس الشيء على القرآن ويدعي ذلك لنفسه زورا...
وقد عرف عن هذا التيار أنه دعا - ويدعو الآن - الى تخليص المسيحية من معتقداتها الغيبية (mythiques)،ومذهبه في فهم دين النصارى اصطلح عليه في فرنسا بـ l humanisme chrétien وأكثر منشوراته صدرت عن دار J.Vrin بباريس وهي التي طبعت أولا رسالة أركون للدكتوراه 1970م.
ثالثا:وأخيرا أقف على أنموذجين للتعريب المزيف لكتب أركون التي عربها تلاميذه
1- أنموذج من العناوين:
في (قراءات للقرآن) بالفرنسية جاء عنوان الفصل الثاني كالتالي
le problème de l authenticité divine du Coran" ; p27"
عربه هاشم صالح بـ "موقف المشركين من ظاهرة الوحي" القرآن من التفسير الموروث...ص 93.
والترجمة العربية الأقرب للعنوان الفرنسي هي : ( معضلة توثيق نسبة القرآن الى الله).
ولما كان نقل العنوان الفرنسي الى العربية سيكشف فساد عقيدة أركون بخصوص ربانية مصدر القرآن وتلقيه وحيا فقد "غيره المعرب" وأقحم فيه لفظ " المشركين polythéistes " الذي لم يرد لفظا ولا معنى في العنوان ؟؟؟
2- أنموذج من تزييف المعاني:
نفس الكتاب أعلاه ص 12 فقرة 2 نشر أركون بالفرنسية :
.."il faut en finir avec la DÉRISION du paradis d Allah peuple du houris lascives "
ترجمها تلميذه خليل أحمد في "الاسلام أصالة ومعاصرة" ص 121بـ (انه يتوجب علينا أن نتخلص من المقولة التي تتحدث عن جنة الله المملوءة بالحور العين...)
وبغض النظر عما في الكلام من انكار لعقيدة الايمان بالجزاء الأخروي،فان المعرب تحاشى تعريب لفظ dérision في النص الذي يعني في المعجم الفرنسي ( ما يثير السخرية أو الاستهزاء )، فهل الايمان بنعيم الجنة مدعاة للسخرية والاستهزاء؟؟ لقد اخترت هذا الأنموذج حتى يعرف القارىء بعض ما يدعو اليه هذا التيار المسيحي الملحد و خلفه أركون والحمد لله على نعمة الهداية والايمان...
 
أحسنت أستاذنا بن هرماس بارك الله فيك وجزاك خيرا كثيرا،،
إن "أنسنة المسيحية" مرت بمراحل كثيرة متعددة مختلفة بداية من "أنسنة الإله" أي البداية من "الكلام اللاهوتي الفلسفي" منه الجدل أو الجدال حول طبيعة أي أقنومية المسيح وصولا إلى "الرمزية" معناه أن الإنتماء للمسيحية إنتماء رمزي في شكل الهوية لا مضمونها لأن الرمز غير العامل (أو المؤثر الفعلي) والعوامل هي التي تحدد الهوية. إلا أن هذا الرمز أصبح، خاصة من وجهة نظر غربية سياسية وفي أوتار العولمة بشكل عام، يؤدي دورا ما فيما هو جيوسياسي ومنه يتشكل الإحساس بالإنتماء مما يسهل الإنبطاح ويخلق القابلية للإنصهار وإن كان ذلك يحدث تحت سقف تبريرات سطحية كالادعاءات التي نسمعها أن هذا الفكر أو تلك الفكرانية من إنتاج الجهد البشري بل وقد يدعي البعض الآخر كونية ذاك أو تلك. المهم، لا تستغرب إن وجدت ألد أعداء الأديان وهو ملحد جلد يصف نفسه أنه "مسيحي الثقافة". وهذا شائع خاصة في العالم الغربي أما المسيحيين خارج هذا العالم فمسيحيين من الدرجة الثانية إلى حين أي إلى ينتشر التعليم وتتحسن الاوضاع المعيشية بينهم فإن الإلحاد مع مسيحية رمزية حتمية من الحتميات.
تلك المراحل التي مرت بها عملية أنسنة المسيحية دفعت بهم رويدا رويدا إلى علمنتها ووضعنتها وأخيرا دهرنتها حيث إرتفعت كل العوائق القدسية والغيبية والروحية والأخلاقية والحكمية العملية. هنا العلمنة فصل الدين عن الدولة والدهرنة فصل الأخلاق عن الدين من خلال التنظير لأخلاق وضعية بمصطلحات حداثية ترجع أصولها لمضامين مسيحية بعد رفع القدسية والغيبية عنها. ويبقى ما هو روحي بدوره تحول إلى رياضة بنظرة برغماتيكية كما تحول مظاهره إلى طقوس هي التي تعبّر عن المرحلة التي وصلت إليها أنسنة المسيحية ألا وهي تلك الرمزية. من هنا علينا أن نفهم سهولة وسرعة تقبل "مسيحيى الثقافة" الإستهزاء والسخرية بما هو، في الأصل طبعا، من الأصول في المسيحية من المقدّسات لكن الويل كل الويل للصين الشعبية عندما تمنع توزيع الأناجيل خلال الألعاب الأولمبية. إذن هو إلحاد مغلف وورقة سياسية أما الباقي فإسقاطات وهذا كل ما عند الحداثويين ولولا محركات العولمة المادية لما ...
 
مع احترامي للإخوة الفضلاء محجوبي وزاوشثتي والصديق هرماس وما قدمه الأخ طارق منينة وغيره من الإخوة الفضلاء تقبل الله صيام الجميع وشكر لهم حسن نيتهم في الدفاع عن دينهم وعقيدتهم في انتقادات أركون والجابري إلا أنه يبدو لي أن ثمة "غض طرف" لكيلا أقول تحاملا ، غض طرف عن المقصد العلمي النبيل في ذاته الذي قضى فيه الراحل أركون حياته، ففي كل ما أوردوه من نصوص لإدانته يمكن فهمها من زاوية أخرى لصالح الكاتب لا ضده،[باستثناء بعض الجمل القصيرة الأخيرة التي نجهل سياقها في النص الأصل] فانتقاده لعدم قدرة الكاتب على الكتابة بالعربية المعاصرة عن موضوعات حساسة هو ليس انتقادا للغة بذاتها بل انتقاد ضمني لأهلها ولمجامع اللغة الكسولة حدّ الإسفاف في خدمة اللغة وتقريب المصطلحات وتعريبها والاتفاق الجزئي عليها رغم سهولة وسائل التواصل اليوم بين الناس.
لا أريد أن أطيل الكلام على الصيّام ولكن إذا رددْنا كل ما قدمه الجابري وأركون رحمهما الله فليت شعري ماذا عندنا من محاولات فهم التراث بآليات الفهم الحديثة والمعاصرة التي أنتجتها مسيرة ثلاثة قرون من تحول الإنسان من "ثقافة الأذن العمياء" إلى ثقافة العين المبصرة، وإخضاع "تراث الأذن" لقوانين العين؟.
النقد مشروع بحد ذاته ، والدفاع عن الدين وعن القيم الإسلامية والعقيدة واجب شرعي وأخلاقي، ولكن الإنصاف مطلوب والجوانب الإيجابية والمحاولات العلمية الصادقة في كتابات الأستاذين الكبيرين محمد عابد الجابري ومحمد أركون تساعد المسلم المعاصر على تفهم الصراع الفكري الفلسفي الحديث والمعاصر، والدخول في حلبة السباق العالمي فكريا وعلميا.

حين جاء الإسلام قدم نفسه للعالم منتقدا لكل سلبيات بني إسرائيل وجميع أهل الكتاب وتقصيرهم في الوفاء لمقتضيات الدين الحق ولكنه مجد كل إيجابيات تراث بني إسرائيل فكان (مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) فكانت رسالته الإلاهية للإنسان هي الأكثر حداثة وصدقا وتنويرا لأعماق الإنسان وروحه، واليوم قد شاء الله أن تهتدي شعوب أخرى إلى الانتقال بالمعرفة من (الأذن) إلى (العين) فتحاكم مرويات الأذن عن الواقع في ضوء قوانين العين فكان واجب المسلمين (العقلي) و(الشرعي) و(الأخلاقي) أن يسارعوا فيكتسبوا كل وسائل التطور العلمي والفلسفي والتحليلي التي بها يستطيعون إعادة تقديم دينهم الذي هو خاتم الأديان وأكثرها قدرة على تطهير الإنسان وإنقاذه في الدنيا والآخرة، تقديمه إلى العالم بلغة ذكية معاصرة وبخطاب مستبصر عارف بما يريد، ولما لم يفعلوا اضطروا إلى التخندق خلف (ثقافة شفاهية) يلوذ أذكياؤها بتُرس (تمجيد الكليات) والمحافظة على "أصالة" هي في حقيقتها انغلاق، و"هروب إلى الأمام".

لا أستطيع أن أتفهم إمكانية الاستغناء عن مشروع الجابري في (نقد العقل العربي) وفي (نحن والتراث - قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي) وفي ما نذر حياته له من محاولة تزويد العرب بآليات دخول الثقافة العالمية المعاصرة، فهذا غير ممكن الفهم من قبل عقلي المتواضع.
قرص سيدي أو (المكتبة الشاملة) تغنيني عن كل ما يقوله العلماء التقليديون والوعاظ وموظفو الأوقاف في شؤون الدين والدنيا فقصاراهم أن يلخصوا لي أقوال عالم متقدم أو أكثر من عالم مع المحافظة على ثابت بنيوي في الثقافة الشفاهية وهو (تمجيد الكليات) دون أدنى قدرة على تحليل المسائل المشكلة في أصول الدين وبيان أسس خلافها اللغوي والتاريخي والوجودي، والمشكلة أن جامعاتنا قد حذت حذو المؤسسات التقليدية فصرنا نحسب (انغلاقنا) عن العالم و(هروبنا إلى الأمام) أصالة وصدق عقيدة ونأيا عن البدع والأفكار الشيطانية، وصارت بحوثنا "بيان منهج فلان الذي مات قبل كذا سنة في الموضوع الفلاني" مع قصورنا حتى عن فهم منهجه فعلاً!، ولكن لا يوجد على حد تجربتي القاصرة وبضاعتي المزجاة ما يغنيني عن مشروع الجابري إلى اليوم.

مشكلتنا ذات جذرين هي أن الذين يقرأون الفكر الفلسفي التحليلي من أي نوع يكونون في الغالب من الذين لم ينفقوا الوقت اللازم في اكتساب العلوم اللغوية والشرعية ومن التربية الدينة ما يحميهم من الانزلاق إلى عداء الثقافة الإسلامية بدلا من التجند لنصرتها. فأحوج الناس وأولاهم بقراءة أركون والجابري هم طلبة العلوم الشرعية الذين يريدون أن يجمعوا بين (الكليات) و(الجزئيات) فيكونوا علماء وباحثين أكاديميين يستطيعون أن يفرضوا أنفسهم على (الثقافة العالمية العينية) وأن يكون نجاحهم عالميا، وهذا لا يكون بالتنكر والعداء لأركون والجابري بل بالقراءة لهما وتفهمهما وتفهم كتابات المؤرخ المحلل عبدالله العروي ثم القيام بترجمة وتقريب الكتب المهمة التي تصدر عن التراث الإسلامي بعين ثاقبة تكشف عن "إساءات فهوم" الآخرين "الحاصلة بالضرورة" عن التراث الإسلامي.
فوجهة نظري التي لا أستطيع تغييرها أن التنكر للجهود العلمية للأساتذة الكبار (الجابري والعروي وأركون) هو هروب إلى الأمام واستمرار في الخروج من التاريخ بدلا من العودة إليه. مع الاعتراف أن كتابات أركون ومترجمه المنحدر من التراث النصيري، المثقف هاشم صالح تسير في مناطق خطرة من حيث انطلاقها من نقطة (إنسانية) خارج الثقافة الإسلامية و"اعتقادها" بكونية منطلقات تلك المنطقة. لذلك أحث الإخوة من طلبة العلوم الشرعية على القراءة الجادة لكتابات الأستاذين الكبيرين محمد عابد الجابري رحمه الله وعبدالله العروي حفظه الله والاستفادة منها قدر الطاقة فإن فقرنا إلى الكتب التحليلية مريع وحاجتنا إليهما أكثر من ماسة. والله من وراء القصد
 
بارك الله فيك أستاذنا عبدالرحمن الصالح،،
لاكن أخي الفاضل لا أرى أي مجال للمقارنة بين كتابات أرغون وكتابات الجابري. كتابات أرغون لا علاقة لها بالإسلام لا من بعيد ولا من قريب، رغم إستخدام ألفاظ متداولة في الحقل الإسلامي، وهذا الإستعمال هو ما أشار إليه الدكتور بن هرماس بالإسقاطات، والدكتور لم يخرج بهذا الوصف لكتابات أرغون قيد أنملة عن حقيقة الأمر; هذا الوصف هو عين إستنتاجات الفيلسوف المغربي د/ عبدالرحمن طه الذي اطلع على كتابات أرغون باللغة الأصلية. وهذا فعل فعله النصارى قديما عندما أسقطوا تعدد القراءات القرآنية على تعدد روايات الأناجيل، على سبيل المثال. أليس كذلك؟ بل هو كذلك.

أما المرحوم الجابري ففنان إختار التفنن في العبارات الأدبية والتراويح الفكرية من داخل السياق الذي يعيش فيه، كما إعترف، لكيلا يكون فنانا مثاليا. وقيمة كتاباته تتحدد بقيمة البارادايم التي قرأ بها ما تناقلته (معارف الأذن) ويصطلح عليها بالتراث. الإنسان غالبا لا يستطيع أن يعبر عن كل ما يدور في خاطره إلا أن أول تعبير ظاهر يكون أقرب لواقع ما يتصوره ويصوره، ويعتبر "نحن والتراث" أول ظاهرة عبّرت عما عاناه الجابري; من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب ولذلك تفرّغ له الدكتور طه عبدالرحمان في كتابه "تجديد المنهج في تقويم التراث" وبيّن تهافت بارادايم الجابري التي قرأ بها (التراث)، وأنا أتفق معه على طول كما يقول المصريون(؟). وذلك لسبب منطقي واضح جدا، خاصة عند المشتغلين/الدارسين في العلم أو التقانة لتميزهما بالجزئيات والدقة أما "الفكر" فليتفن كل فنان كما يحلو له شرط أن لا يأتي بالعجائب ويأتي يوم نقرأ لفنان يقول أن أصول الحركة الماسونية تعود إلى "مثقفي المعتزلة"، وهو أن أي آلية من الآليات أو أي منهج من المناهج لابد أن تثبت صلاحيته بادئ ذي بدء حتى لا تستعمل منظار رؤية ليلية لترقب طلوع الشمس في الأفق. وأنا أتعجّب لمن يشجع قراءة تفاسير القرآن الفقهية بنظرية "علمية" - أدبية "عصرية/حديثة" لا تصلح لحل إنشاءات شكسبير فضلا عن صلاحيتها لتحليل قانون نابليون. علينا إذن أن نفهم أن كل "نظرية" أو آلية أو منهج لا يتم وضع أو تطويره أو الهروب إليه إلا لسبب أو ظروف ولغاية وفي بيئة محددة متميزة بخصائصها. ونحن طبعا لن نرضى بالقول أن الله تعبير عن شعور نفسي للتفكير الرغبوي قصد تغليب روح التفاؤل وأن الدار الآخرة عامل ذاتي في إضفاء المعنى على الخير والشر وبالتالي على القانون من أجل إعادة تقديم الدين الإسلامي للنخبة التي لا تفهم إلا اللغة (الفكرية الأدبية والصوفية) التي إظطر إليها أربابها في المشرق البعيد بسبب الصراع مع الطبقية الهندوسية وأظطر إليها الإغريق بسبب الصراع مع الوثنية والغوغائية وإظطر إليها الغرب بسبب الصراع مع المؤسسة الكهنوتية.

والحمد لله رب العالمين.
 
الدكتور عبد الرزاق والأستاذ شايب جزاكما الله تعالى خيرا، أقدر جهودكم وإضافاتكم القيمة والمكملة لما أشرتُ إليه. والحمد لله أصحاب الهم المشترك يتقاطعون في آرائهم وأفكارهم وتصوراتهم، وهذا من نعمة الإسلام والإيمان عليهم.
أما تلاميذ أركون فعربوا أو ترجموا كتبه أو جمعوا بين الأمرين أو جانب التعريب كان طاغيا على نقلهم لكتبه من اللغة الأصلية التي كتبت بها، هذا بالنسبة لي ليس هو مجال البحث على وجه التحديد؛ نعم هو جزء منه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى " في المعضلة المصطلحية عند أركون". تعاملي مع الآراء الأركونية على أساس أنها شيء ثابت في كتب موضوعة في رفوف المكتبات، أو موجودة على الشبكة العنكبوتية، وإن كنتُ لا أومن بما يدعيه أركون أنه "قراءة للقرآن" أو "نقد للفكر الإسلامي". وعدم إيماني هذا نابع من غياب الحجج العقلية والعلمية فيما يكتب.
ثم إنه إذا بدا لك أخي الكريم عبد الرزاق أن "أول أوليات نقد هذه القراءات" هو "توثيق ترجمة النصوص بالرجوع إلى أصلها الأعجمي ما أمكن"، فإنه يمكنكم القيام بذلك، وسيكون هذا ذا فائدة كبيرة وعظيمة انتصارا لكتاب الله تعالى ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدكتور عبد الرحمن، حفظك الله ورعاك، عندما نتحدث عن "الإدانة" نتحدث عن قضاء وأحكام وقبلها محاضر شرطة، وتحقيقات قد تكون تعسفية، الإدانة مجالها قانوني قضائي، في المجال الفكري والمعرفي عموما أرى أن نتحدث عن الرأي والرأي الآخر والفكرة وما يقابلها والحجج العقلية والأدلة النقلية. ثم إن انتقال الألفاظ والمصطلحات من مجال إلى آخر واعتمادها في المجال الوافدة إليه يكون بعد التدقيق في الهوية وقبول الشروط الموضوعية لكل مجال، لستُ في موقع إدانة لأحد، أنا أناقش آراء غير صائبة وأحيانا فاسدة وأخطاء علمية، فيما بدا لي من محاور أعرضها على أنظار أساتذة أجلاء وقراء أعزاء.
إذا كان هناك "غض طرف" عن "المقصد العلمي النبيل" أو عن أشياء ظهر لك أني لا أعلمها أو أجهلها في فكر أركون خصوصا فيما أوردته من نصوص وأشرت إليه من آراء، فبناء على ما قمتُ به من توثيق لهذه النصوص يمكنكم إظهار هذا "المقصد العلمي النبيل" للقراء الأعزاء وسأكون ممتنا لك على ذلك. فبالرجوع إلى هذه النصوص في سياقاتها الأصلية (المعربة أو المترجمة) يمكنكم التأكد مما أقول ومما هو واقع. فادعاء أركون انحصار اللغة العربية في "نتف من الفقه والنحو" وباقي الادعاءات الأخرى التي أشرت إليها والموجودة في مظانيها وعدم التمكن من كتابة الأغلبية الساحقة من إرثـه بها، يجعلنا نقطع الشك باليقين أن قراءة أركون للقرآن الكريم وللتراث الإسلامي مردودة عليه، لأن المعرفة اللازمة بالعربية شرط أساسي وجوهري في هذه القراءة، مع استحضار مدلولات العرب في ذلك. وإذا قمتُم بإثبات خلاف أو ضد ما أوردته وأدعيه، فسأتخلى عن كل ما قلتُه وأعتذر للجميع. وأرجو عدم الهروب إلى الأمام (فالهروب إلى الأمام ليس من الشجاعة) وذلك بحصر النقاش في كل ما نسبته وأنسبه إلى أركون حتى نستفيد جميعا، ونصحح أخطائنا وفهومنا التي قد يكون فيها غبش أو عليها غلس.
إن الآراء الفاسدة مهما كثرت ووجدت، فإن وجودها ليس مسوغا أو مبررا لقبولها والأخذ بها، كما أن الباطل كان فكرا أو غيره، مهما علا وانتفخ يظل باطلا، الواقع هو الذي يكشف زيفه وبطلانه. والحق قوي في نفسه وفي وجوده وقوته كامنة في أدلته التي تحميه، والباطل ضعيف في ذاته، ويحمل بطلانه في أكتافه وعدم قدرته على الاستمرار. وما الأنظمة السياسية الفاسدة إلا خير دليل على هذا، مهما استمرت بكثرة المساحيق وبقيت فإن زوالها حتمي لا محالة. فكذالك الأنساق الفكرية المبنية على الكلمات المعسولة والعبارات الرنانة من قبيل تلك التي يذكر أركون أو عبارات من هذا النوع "تراث الأذن" و"المعرفة بالأذن" و"ثقافة شفاهية" مع عدم تحديد ذلك التراث وتلك المعرفة وهذه الثقافة، مآلها سلة المهملات بعد الكساد والبوار، فلا يصح إلا الصحيح، الصحيح في النقل والصحيح بالعقل، قرأت عبارة جميلة لابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه "الرد على المنطقيين"، يقول فيها:"العلم إما تصور أو تصديق"اهـ. أما المصدق به فالكلام الذي جاءت به النبوة، ومعه بيان هذا الكلام. وأما المتصور فالمقبول عقلا وذوقا ولم تأنفه العقول وطبائع الناس أو ما أثبتت التجربة صحته، يعني عن طريق القياس الخادم للمنطق.
لم أجد فكرا ولا فلسفة فيما قرأته ولا فيما أوردته من نصوص لأركون، ومن رأى الفكر والفلسفة والاجتهاد...فالرجاء كل الرجاء إظهار ذلك للناس حتى تستفيد منه وتأخذ به.
أجدد شكري لكم جميعا، وأرحب بتعليقاتكم وتعقيباتكم وإضافاتكم على ما سيأتي بإذن الله تعالى، والتي ستغني النقاش وتدحض الشبهات والأفكار المنكرات الأركونيات.
 
ثانيا: الجهل بالأصول ومعاداتها:
المراد هنا بالأصول: أصول التشريع الإسلامي التي لا غنى للناظر في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن معرفتها والإحاطة بها بوجه. وأصل الأصول: الوحي بشقيه الكتاب والسنة.
يعرف أركون القرآن فيقول:" القرآن مجموعة محدودة ومفتوحة من نصوص اللغة العربية التي يمكن أن نصل إليها ماثلة في النص المثبت إملائيا بعد القرن 4/10 وإن جملة النص المثبت على هذا المنوال نهضت بآن واحد بوظيفة أثر مكتوب وكلام تعبدي" [ ينظر: الفكر العربي لمحمد أركون، ص:32].
يظهر من خلال هذا الكلام أن أركون لا يعترف بأن القرآن وحي من عند الله جل جلاله، إنما هو مجموعة من نصوص اللغة العربية، المحدودة من حيث العدد، والمفتوحة للقراءة، وهي تشبه النصوص التي أملاها الشيوخ على طلبة العلم في الحقبة الزمنية التي ذكر، وثابتة في حكم الشيء المكتوب، لكن مُتعبد بها.
كما يظهر أنه تحاشا قول: إنه من وضع محمد، وهو مفروض بقوة، يدل على هذا استعماله عبارة "المثبت".
إن الكلام السابق لأركون فيه عداوة مسبقة ومحكمة اتجاه القرآن الكريم، بل فيه إنكار (مسكوت عنه) عن كون القرآن وحي من الله جلت قدرته.
وعن الأسلوب الأنجع والأمثل في قراءة القرآن، والمنهج المعتبر في ذلك، يقول أركون: " أين يكمن المعنى؟ هل يكمن في الكلمة فقط أو في سياق لغوي أكثر اتساعا؟
توجد بالتحديد اليوم تقاليد ومقاربات جديدة، والتي تعود إلى علم اللسانيات المعاصر؛ ويمكن أن نقول: إن الأمر لا يتعلق فقط بترجمة القرآن، ولكن بفهم النص القرآني الذي لا يمكن أن يعرف تغييرا في حالة ما إذا طبقنا على القرآن تحليلا يعتمد نظرية الرموز والعلامات (السيميوتيك) كمقاربة جديدة لبنية القصص (وهي موجودة بكثرة في القرآن)، ويمكن في نفس الوقت أن نبين وظائف النص حسب الطريقة التقليدية ومنهج رجال الدين الذي يتضمن دلالات واستعارات قوية وذلك من أجل تمثل المعنى، وبذلك يمكن أن نوضح أن الاستعارات والرمز والأسطورة تشكل مجموع الخطاب القرآني آخذين بعين الاعتبار مرة أخرى مجموع مناهج التحليل (سيميوتيكية وبنيوية).
إن هذا الأمر جديد تماما بالمقارنة إلى القراءات القرآنية التي تمت لحد الساعة، وهذا يمكن أن يطرح أسئلة جديدة على موضوع التفسير، يعني تأويل النص تأويلا يوضح آلية الوظيفة الداخلية للنص وآلية إنتاج المعنى عن طريق النص، وليس لإعطاء دلالات جديدة دوغمائية كما فعل المفسرون القدماء، وذلك من أجل مقاربة جديدة كاملة وعلى ضوء قواعد جديدة، ليسنية وانتربولوجية وتاريخية...إلخ. لتجديد التفسير التقليدي وتجديد دراسة شخصية النبي- السيرة النبوية- وتبقى هذه القواعد هي الحكم الذي يمكن أن نرجع إليه فيما يتعلق بالنقد لتجاوز الذاتية، لأن اقتناء المناهج غير خاضع في شيء لصفة المسيحي أو المسلم" [ ينظر: مجلة الفكر العربي، ص: 319 عدد 32 الصادر في يونيو سنة 1983م].
لتأويل القرآن الكريم (أو القراءة) يقترح أركون الاعتماد على "مقاربات جديدة"، يرى أنها كفيلة بفهم كلام الله جل جلاله استنادا إلى "نظرية الرموز والعلامات" (السيميوتيك) والبنيوية خصوصا عندما يتعلق الأمر بالقصص القرآني؛ وإلى جانب هذا يمكن اعتماد الأسلوب أو المنهج المعروف في التفسير عند القدماء لبيان ما يرمي إليه كلام الله سبحانه وتعالى الذي هو في نظر أركون استعارات ورموز وأسطورة. وبهذه الآليات يُؤول النص القرآني بطريقة جديدة تعطيه معاني إضافية ليس كتلك التي وصفها بـ "الدوغمائية" عند المفسرين القدماء.
كما يقترح البدء بسؤال هو: كيف نقرأ القرآن؟ وفي الجواب عليه، قال:" لننتقل الآن إلى ما يدعوه الناس عموما بالقرآن. إن هذه الكلمة مشحونة إلى أقصى حد بالعمل اللاهوتي والممارسة الطقسية-العشائرية الإسلامية المستمرة منذ مئات السنين، إلى درجة أنه يصعب استخدامها كما هي. فهي تحتاج إلى تفكيك مسبق من أجل الكشف عن مستويات من المعنى والدلالة التي كانت قد طمست وكتبت ونسيت من قبل التراث التقوي الورع، كما من قبل المنهجية الفيلولوجية النصانية أو المغرقة في التزامها بحرفية النص...لنسم هذا القرآن إذن بالخطاب النبوي: أي ذلك الخطاب الذي يقيم فضاء من التواصل بين ثلاثة أشخاص قواعدية: أي ضمير المتكلم الذي ألف الخطاب المحفوظ في الكتاب السماوي. ثم الناقل بكل إخلاص وأمانة لهذا الخطاب والذي يتلفظ به لأول مرة (أي ضمير المخاطب الأول = النبي)، ثم ضمير المخاطب الثاني الذي يتوجه إليه الخطاب(أي الناس)." [ ينظر: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص:29-30].
أول شيء ينبغي قراءته هو كلمة قرآن التي طمست العديد من معانيها ودلالاتها في التراث التقوي الورع كما يسميه أركون؛ والمراد كما لا يخفى تأويلات علماء الأمة و مجتهديها في مختلف العصور والذين ندبوا أنفسهم لخدمة كتاب الله تعالى وخلفوا لنا هذا الكم الهائل من التفاسير ومن الآراء المعبرة عما كانت عليه الأمة من الفهم والإدراك لمعاني ودلالات كلام ربنا جل وعلا؛ فكلمة القرآن عند أركون تعني: الخطاب النبوي، الذي نسج علاقة ذات أبعاد ثلاثة: الأول يمثله صاحب الخطاب، فهو في نظر أركون كلام صادر عن مُؤلِّف وليس وحيا موحى به إلى رسول الله r، والثاني الناقل للخطاب، والثالث المُخاطب بالقرآن.
يعتمد منهج القراءة عند أركون على "قواعد جديدة" لسنية وأخرى أنتروبولوجية وثالثة تاريخية وغيرها من قواعد القراءة التي يرى أنها بمنزلة الحَكَم لإضفاء الموضوعية في التفسير بدلا من الذاتية التي توجد عليها التفاسير الموجودة والآراء الخادمة لفهم كلام الله تعالى، وتجديد الدراسة فيما يخص شخصية الرسول r.
إن هذه القواعد والمناهج المقترحة والمعتمدة في القراءة غير صالحة لقراءة أي نص سواء تعلق الأمر بتأويل كلام الله جل جلاله أو بتحليل نصوص التراث التي نشأت بعد نزول الوحي (بشقيه الكتاب والسنة) لأن هذه القواعد وتلك المناهج لها ظروف أنشأتها ولها بيئتها العلمية والتاريخية والحضارية المختلفة عن ظروف وواقع نزول القرآن وظهور التفسير بعده وباقي أنواع النصوص التي كان القرآن منطلق ظهورها ونشأة علومها المستقلة. فقواعد القراءة غير المستنبطة من النص والخارجة عن بيئته ولغته التي كتب بها لن تخدمه إيجابيا، بل هدفها الحقيقي هو هدمه بعد تقويض أركانه والتشكيك في مصدره.
وتبعا لهذا فإن مناهج التأويل(القراءة) وقواعدها تختلف من واقع إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، وتلك المحمولة جوا مآلها البوار لأنها خرجت عن أصل منشئها وبيئتها الخاصة التي أنتجت إرثا علميا وحضاريا كان السبب في ظهورها.
ويقول أركون في تعريف آخر للقرآن: "لنبتديء أولا بالبحث عن معنى كلمة قرآن التي هي، في اللغة العربية، مصدر للفعل قرأ. وفي القرآن نفسه نجد أن جذر المادة قرأ يدل بالأحرى على معنى التلاوة، وذلك أنه يفترض مسبقا وجود نص مكتوب أثناء التلفظ به للمرة الأولى من قبل محمد... ويرى المستشرقون المتخصصون بفقه اللغة أن كلمة قرآن ذات أصل سرياني أو عبري. ولكن ذلك لا يعدّل المعنى الذي يفرضه السياق القرآني نفسه. فالفكرة الأساسية تكمن في تلاوة المطابقة للخطاب المسموع، لا المقروء. ولهذا السبب بالذات أفضل التحدث شخصيا عن الخطاب القرآني وليس النص القرآني، عندما أصنف المرحلة الأولية للتلفظ أو التنصيص من قبل النبي. ذلك أن مرحلة الكتابة أي كتابة الخطاب القرآني قد جاءت فيما بعد في ظل الخليفة الثالث عثمان" [الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص: 73].
في هذا النص يظهر وبوضوح رأيان متناقضان في الأول يفترض أركون على سبيل الادعاء وجود نص مكتوب للقرآن قبل التلفظ به أول مرة من النبي r، مكتوب عند الله أو عند من؟ وهذا ينبني عليه تسمية القرآن بالخطاب؛ وفي الثاني أوعز كتابة هذا الخطاب إلى عهد ثالث الخلفاء الراشدين، عثمان بن عفان رضي الله عنه. هذا فضلا عن أنه لم يستكمل المعنى اللغوي لكمة قرآن التي هي على وزن فُعلان كغُفران وكُفران، وهذا الوزن في اللغة العربية صحيح معروف، وهو ما يفند الدعوى الاستشراقية القائلة بأن الكلمة من أصل غير عربي؛ وهذا الادعاء الذي تبناه أركون بالاستشهاد به وعدم رده ودحضه يدل على تنبي رأي المستشرقين في هذه المسألة لأنه وافق هواه، ويدعي أنه يعارضهم في آرائهم ومناهجهم التحليلية؛ ومما يرد هذه الدعوى الأركونية / الاستشراقية هو القرآن الكريم نفسه، الذي يقول: " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [يوسف:2]، ويقول جل ذكره: "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [الزخرف:3]، ويقول جل وعلا: " وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ " [الأحقاف:12]. والآيات الدالة على هذا المنحى والمؤكدة عليه موجودة في القرآن.
وقال السيوطي:" قال الجمهور: ليس في كتاب الله سبحانه شيء بغير لغة العرب... وادعى ناس أن في القرآن ما ليس بلغة العرب، حتى ذكروا لغة الروم والقبط والنبط" [ يُنظر: المزهر في علو م اللغة وأنواعها: 1/209]. ونسب قولا آخر لأبي عبيد القاسم بن سلام جاء فيه:" وزعم أهل العربية أن القرآن ليس فيه من كلام العجم شيء لقولـه تعالـى: "قُرْءَانًا عَرَبِيًّا" [الزخرف:3]، وقوله: "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " [الشعراء: 193]. وقد ذكر السيوطي وغيره من اللغويين أن القرآن الكريم تضمن عددا من الألفاظ غير العربية، صارت بتداولها واستعمالها في القرآن بعد ذلك عربية، ليس مجال ذكرها أو الحديث عنها هنا.
وإذا كان أركون في كلامه السابق يفترض أن يكون هناك نص مكتوب يقرأه محمد r، فإنه زاد من تأكيده على أن التنزيل الذي هو من أسماء القرآن، هو كتابة نازلة من السماء في ليلة القدر بقوله: "ينبغي أن نلاحظ أيضا أن القرآن يتخذ أسماء أخرى من مثل الكتاب، والتنزيل، أو الكتابة النازلة من السماء أثناء الليلة المباركة، والذكر، أي التنبيه والإشعار. وهكذا يُدعى أهل الكتاب بأهل الذكر أيضا" [الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص: 73-74] دون دليل على هذا يعضده، ويريد أركون من خلال ادعائه أن يشكك في نص القرآن الموجود الآن، إذا سلم البعض بنزول القرآن أول مرة في نص مكتوب، وهذا التسليم يطرح عند البعض الزيادة أو النقص فيه وفي هذا الذي هو بين أيدينا.
وفي مستهل حديثه عن "قراءة سورة الفاتحة"عرف أركون القرآن تعريفا ثالثا فقال:"النص الذي نريد قراءته قصير نسبيا. وهو يشكل جزءا من نص أكبر وأكثر اتساعا كان قد نقل إلينا تحت اسم القرآن.
من الناحية الألسنية أو اللغوية يمكن القول: بأن القرآن عبارة عن مدونة منتهية ومفتوحة من العبارات أو المنطوقات المكتوبة باللغة العربية. وهو مدونة لا يمكن أن نصل إليها إلا عن طريق النص الذي ثبت حرفيا أو كتابيا بعد القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. إن كلية النص المثبت على هذا النحو كانت قد عوملت بصفتها كتابا واحدا أو عملا متكاملا"[ القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص: 113-114] لكنه ليس كباقي الأعمال البشرية، صفته الكمال من جميع جوانبه التي أرادها الله تعالى، وكأني به يريد أن يقول: إن القرآن الكريم بعدما فُرض على المومنين أتباع سيدنا محمد r تعاملوا معه على أنه نص واحد يشكل مدونة مغلقة كتلك الخاصة بالأسرة أو بالصفقات العمومية أو بالتجار أو السير على الطريق وغيرها من الأنواع الأخرى؛ وميزة هذه المدونة أنها قابلة للقراءة أية قراءة، وهي تختلف عما كان عليه هذا الكلام المثبت أو القرآن قبل القرن الرابع الهجري. بمعنى أن القرآن الذي كان قبل القرن الرابع الهجري، ليس هو ذالك الذي كان بعده، وأنه "نقل إلينا" بطريقة أو طرق عليها وفيها نظر وبهذا الاسم الذي يحمله الآن وهو القرآن، وقد يكون له اسم آخر قبل نقله إلينا، هكذا يريد أركون التعامل مع نزول الوحي ونقله من جيل إلى جيل. والثابت أنه نقل إلينا تواترا وأنه محفوظ من الله في مبناه و معناه.
أما الوحي فيقول عنه أركون: "أما مسألة الوحي فهي دقيقة جدا وحرجة، خصوصا لمن يريد دراستها...ضمن المنظور الواسع الذي يتجاوز التعاليم الأرثوذكسية ويجددها، هذه التعاليم المذكورة داخل كل تراث توحيدي تقوي ورع (المقصود داخل التراث اليهودي، والمسيحي، والإسلامي)، نحن لا نريد بالطبع أن نتجاهل هذه التعاليم أو نقلبها" [ينظر: الفكر الإسلامي نقد و اجتهاد ص:74]. لكن يريد طمس حقيقتها أو إعطائها معنى لا تتحمله ويكون بعيدا عنها، ثم أين هي تجليات هذا الوصف " دقيقة جدا وحرجة"؟ أعتقد أن هذا يراد منه التشكيك والتهويل وإضفاء القبول والصبغة العلمية على ما يأتي بعده من الرأي والتحليل المبني على الهوى للأشياء. فالوحي هو كلام الله تعالى ألقاه إلى سيدنا محمد r عن طريق الإلهام أو الإشارة أو عن طريق الملك فيعلمه إياه ليبلغه إلى أصحابه و المومنين، يقول عز وجل: " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ " [الشورى:51] اقتضت حكمته أن يكلم أحد خلقه تارة إلهاما أو إيحاء أو إلقاء (في القلب) دون واسطة، وتارة من وراء حجاب بإسماع صوت دون ظهور لصورة صاحب الصوت، أو بواسطة ملك: أي الرسول المرسل إلى النبي عليه السلام.
 
من فضائل القرآن الكريم ومناقبه
قال الراغب:" والقرآن في الأصل مصدر، نحو كفران ورجحان، قال: " إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ " [القيامة: 17- 18] قال ابن عباس: إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به، وقد خُص بالكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فصار له كالعلم كما أن التوراة لما أنزل على موسى، والإنجيل على عيسى صلى الله عليهما وسلم. قال بعض العلماء: تسمية هذا الكتاب قرآنا من بين كتب الله لكونه جامعا لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم،... وتقرأت: تفهمت، وقارأته: دارسته" [ينظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني/قرأ].
ويعرف السيوطي رحمه الله تعالى القرآن بقوله:" وأما القرآن فاختلف فيه فقال جماعة: هو اسم علم غير مشتق خاص بكلام الله فهو غير مهموز...ولم يؤخذ من قرأت ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل" [ ينظر: الإتقان في علوم القرآن: 1/146]
وجاء عند محمد عبد الله دراز أن:" القرآن هو كلام الله تعالى المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته" [ينظر: النبأ العظيم: 1/14] في الصلاة أو أثناء القراءة العادية للورد اليومي، أو غيره.
من خلال ما سبق يمكن أن نستخلص ثلاث خصائص:
أولها: أن القرآن الكريم كتاب جمع كلام الله تعالى؛ تمييزا له عن باقي الكلام، سواء أكان للنبي صلى الله عليه وسلم أم لغيره من الخلق.
ثانيها: أنه أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا النزول من عند الله تعالى فيه إعجاز من حيث اللفظ والمعنى.
ثالثها: أن تلاوة القرآن الكريم بمنزلة العبادة التي يثاب عليها فاعلها، وباقي الكلام سواء أكان للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره، لا يتعبد بقراءته أو تلاوته، رغم ما يحصل في ذلك من الأجر والثواب.
وهذه الخصائص أو القيود في تعريف القرآن الكريم، غائبة فيما ذهب إليه أركون من التعريف بالقرآن، وهو ما يفيد أنه أراد أن يجعل منه أنه كلام أو نص مكتوب كباقي النصوص التي ورثناها عن العلماء السابقين والذين عرفتهم الحضارة الإسلامية عبر مختلف العصور والأمصار.
أما عن مناقب وفضائل القرآن المجيد، فمن الصعب تحديد هذه الفضائل والوقوف على جميعها أو تناولها في فقرات وورقات، لأنها مرتبطة بأعظم كتاب على وجه الأرض، هو القرآن، كتاب الله جل جلاله، الجامع لما تحتاجه البشرية، من تشريعات وفضائل وأحكام خاصة بأفعال المكلفين في جميع شؤون حياتهم إلى قيام الساعة. ومن ثم فإن إيراد بعض هذه الفضائل والمناقب والوقوف عندها هو من قبيل التمثيل والإشارة لمن يتعامل مع كلام الله تعالى وكأنه كلام عادي صادر عن إنسان ما.
فعن الحارث الأعور أنه قال: "مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على علي فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث قال: وقد فعلوها ؟ قلت: نعم. قال: أما إني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: "إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ" [الجن: 1-2] من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور" [أخرجه الترمذي في سننه: كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، حديث رقم: 2906. قال أبو عيسى هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال].
إن المخرج من الأزمات والعاصم من الكبوات وجميع أنواع الهزات التي تصيب الأفراد والجماعات هو كتاب الله تعالى الجامع لأنواع العلوم والفنون وقصص الأمم الغابرة وأخبارهم النادرة وأحوالهم المتقلبة وعباداتهم المتغيرة وعاداتهم السالفة، كل هذا وغيره من قصص الأنبياء تضمنه كتاب الله الجامع للهدى الذي هو قويم لا اعوجاج فيه ولا سبل تقطعه فيتعثر السائرون فيه وعلى منواله.
وعن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله القرآن عن ذكري، ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" [أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، حديث رقم: 2926. وقال: حديث حسن غريب] من حيث هو خالقهم، فهو العالم بما يحتاجونه في دنياهم وفي أخراهم، ومن ثم فإن الاشتغال بكلام الله عز وجل جزاؤه أفضل من جزاء الذكر، لأن كلام الله ذكرٌ مقدم على باقي الذكر وباقي الكلام أي كلام، ولأنه أيضا مغاير في معناه ومبناه لسائر الكلام، فأفضليته مستمدة من مصدريته التي جعلته أعلى من باقي الكلام.
وفي الحديث: "القرآن أفضل من كل شيء دون الله، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه فمن وقر القرآن فقد وقر الله، ومن لم يوقر القرآن فقد استخف بحق الله، وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده، القرآن شافع مشفع وماحلٌ مصدق فمن شفعَ له القرآن شفع، ومن محَلَ به القرآن صدَقَ، ومن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفَهُ ساقه إلى النار، حملةُ القرآن هم المحفوفون برحمة الله الملبسون نور الله المتعلمون كلام الله من عاداهم فقد عادى الله، ومن والاهم فقد والى الله، يقول الله عز وجل: يا حملة كتاب الله، استجيبوا لله بتوقير كتابه يزدكم حبا ويحببكم إلى خلقه يدفع عن مستمع القرآن سوء الدنيا ويدفع عن تالي القرآن بلوى الآخرة، ولمستمع آية من كتاب الله خير له من صبيرِ ذهبًا وتالي آية من كتاب الله خير له مما تحت أديم السماء، وإن في القرآن لسورة تدعى العظيمة عند الله يدعى صاحبها الشريف عند الله تشفع لصاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعةَ ومُضَر وهي يس" [ينظر: كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 1/527، حيث رقم: 2362].
وعَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ، فَتَعَلَّمُوا مَأْدُبَةَ اللهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللهِ، وَهُوَ النُّور الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ تَبِعَهُ، ولاَ يُعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلاَ يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، اتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلاَوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لاَ أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ عَشْرًا وَلاَمٌ عَشْرًا وَمِيمٌ عَشْرًا" [ينظر: إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، كتاب التفسير، باب فضل القرآن، حديث رقم:5949] من الحسنات جزاء على تلاوة كل حرف من الحروف المذكورة أو غيرها، فالقرآن الكريم بمنزلة المائدة اللذيذة الذوق والطعم، التزود منها والانتفاع بما فيها متاح في كل لحظة؛ وهذا التزود يزيد صاحبه نورا يضيء له طريق سيره في الحياة وفي التوجه نحو الله جلت قدرته، ويعالج الأسقام القلبية والبدنية التي يمكن أن يصاب بها المتزود سواء أكانت هذه الأسقام عضلية أم معنوية سببها حصول اضطراب مادي يصاب به الجسم أو نفسي تتعرض له الروح التي تارة ما تصاب بهزات وأزمات. فالسلامة في السير إلى الله لا يمكن أن تكون صحيحة وسليمة إلا إذا تم الاعتماد في جميع شروطها وجوانبها على السبب المتين الذي لا ينقطع ولا يصاب بالاعوجاج الناتج عن كثرة الاستعمال، فهو العاصم للقابض عليه والضامن للنجاة لمن التزم التمسك به والاعتماد عليه في تحقيق السير السليم في الطريق إلى الله وجنته.
وعن أَبى أُمامة قال: قل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأَ ثُلث القرآن أُعطي ثُلث النبوَّة، ومن قرأَ نصفه أُعطي نصف النبوَّة، ومن قرأَ ثُلثاه أُعطي ثُلثي النبوَّة؛ ومن قرأَ القرآن كلَّه أُعطي النبوّة كلها؛ ويقال له يوم القيامة: اقرأْ وارْقَه بكُّل آية درجةً حتَّى ينجز ما معه من القرآن، فيقال له: اقبض فيقبِض، فيقال له: هل تدري ما في يديك؟ فإِذا في يده اليمنى الخُلْد، وفى الأُخرى النعيم" [أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، فصل في إدمان تلاوة القرآن: 3/377، حيث رقم: 1838. وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، باب ثواب حافظ القرآن: 1/252] لمن جعل همه وشغله الشاغل قراءة القرآن، إذ القراءة تجعل صاحبها يقترب من مقام النبوة وفعل النبوة، حسب قدر القراءة، فالنبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله كانت وظيفتهم الأولى هي تبليغ كلام الله سبحانه وتعالى إلى باقي خلقه.
يقول أركون:" انطلاقا من مفهوم الدراسات التطبيقية، فإني أعطي قيمة خصوصية لدراسة القرآن والعلوم القرآنية، وليس فقط لإعادة كتابة علم القدماء، بل ومن أجل القيام بتحليل معماري لكل العلوم المتطورة حول القرآن" [ينظر: مجلة الفكر العربي، العدد 32 الخاص بالاستشراق، ص: 324].
كيفما كانت هذه العلوم المرتبطة بكتاب الله عز وجل فإنها تحظى بأهمية عند أركون وتخضع لـ "تحليل معماري" غير واضح المعالم والأدوات. وفي سؤال للمجلة المذكورة، لماذا هذا التحليل المعماري؟ أجاب أركون بقوله:" لأن الأمر يتعلق بنبش كل المباديء التي حكمت النحو وعلم الدلالة والتاريخ، والتي تدخلت في التفسير الكلاسيكي للقرآن. وإذا أخذنا على سبيل المثال تفسير الطبري، فإننا نجد عنده مجموعة من المسلمات التاريخية ومفهوما معينا للتاريخ وللغة وللمعنى... لأن التقييم اليوم ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار كل مكتسبات الفروع العلمية الجديدة وكل مكتسبات الشروط الجديدة التي تتطور في ظلها الظاهرة الدينية" [ ينظر: مجلة الفكر العربي، العدد 32 الخاص بالاستشراق، ص: 324].
بهذا الكلام يريد أركون هدم كل ما خدم تفسير القرآن الكريم حتى يشكك في أدوات التفسير وفي جدوى الاعتماد عليها فيقوضه ويفرغ الناتج عنه من محتواه، لهذا وجدناه أعطى مثالا بأهم تفسير مطبوع ومتداول هو "جامع البيان للطبري" الذي يرى أنه حوى مباديء، سماها "مسلمات تاريخية" دون ذكر واحدة من هذه المسلمات، ولو سئل قبل وفاته عن إعطاء الأدلة لما يدعيه لسكت، لأن غرضه من مثل هذا الكلام هو إدخال الشك على القاريء لهذا المؤلف الذي تلقته الأمة بالقبول ولم يصنف مثله في تاريخ المسلمين. فهو أهم تفسير مسند تضمن زبدة المعاني والآراء والأحاديث الوردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجال تفسير القرآن الكريم.
 
وقال في جواب ضمن حوار عن سؤال للمجلة الفرنسية " لونوفيل أبسرفاتور" قال:" بالفعل، القرآن يقول: "فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ" [النساء: 175]، في مثل هذه الحالة الحسابية، لا يمكن فعل أي شيء إلا إعادة طرح مسألة التفسير الإسلامي (القرآني). لا يمكننا أن نستمر في قبول ألا يكون للمرأة قسمة عادلة. عندما يستحيل تكيف النص مع العالم الحالي، عندما يكون علانية منبثقا عن وضع اجتماعي لا يتناسب في شيء (مع عالمنا المعاصر)، ينبغي العمل على تغييره.
إن التفسير يبقى دائما جائزا على شرط أن يعاد التفكير في مسألة التنزيل على ضوء التاريخانية. الحجاب مثلا، ككل ما يمت إلى الجنس وإلى وضع المرأة في الإسلام ينتمي لقانون عرقي سابق على الإسلام.
الإسلام صادق على تقاليد قديمة متعلقة بأسس قبلية وأعطاها بعدا مقدسا. ويتعلق الأمر اليوم بإعادة التفكير في هذه المفاهيم على ضوء التاريخ، و للأسف فإن هذا العمل في بدايته في الإسلام بحكم سيطرة الايديولوجيا" [ترجمة الحوار من العربية إلى الفرنسية قام بها المهندس الدكتور محمد بريش: يعمل الآن مستشارا لوزير الأوقاف القطري، ونُشرت هذه الترجمة بمجلة الهدى المغربية عدد 15 في دجنبر 1986م/ ربيع الثاني 1407هـ، أما المجلة الفرنسية التي أجرت الحوار مع أركون فعددها 1109 وصدرت يوم الجمعة 07 فبراير 1986م].
القرآن الكريم في نظر أركون ظلم المرأة ولم يمكنها من قسمة عادلة مثل الرجل، وفي هذه الحال ينبغي تغييره. هذا هو التجديد والاجتهاد الذي يريد ويقصد: تغيير كلام الله جلت قدرته ليتناسب وهواه أو أحلامه وتطلعاته لإرضاء سادته وتثبيت زعامته التي كان عليها والمشكوك فيها. فهذه الجرأة على كلام الله سبحانه أحدثت ضجيجا نال به شهرة بوأته مقعدا مؤقتا في بعض "القنوات التلفزية" وفي بعض الصحف والمجلات ثم صورة أسطورية لم تلبث أن تشوهت فبدأت تحترق بنور المشاريع الثقافية والعلمية الجادة في المشرق كما في المغرب.
سمعت من الدكتور محمد بريش وهو الخبير بالفكر الأركوني، منذ حوالي ربع قرن في محاضرة له أنه لما زار أركون في السربون وجد أمامه ثمانية (8) طلاب بعضهم لا يدري ماذا يقول الأستاذ أركون و ماذا يريد؟
ومن هذا المنبر أدعوه إلى طبع الدراسة النقدية القيمة التي قام بها لفكره، ونشرت في أعداد متوالية من مجلة الهدى المغربية منذ 27 سنة مضت.
فأركون يرى أنه من الواجب إعادة قراءة القرآن، وأن قطع الأيادي، ورجم النساء، والحجاب... إلخ؛ "هذه الأفعال تقام باسم القرآن، ولكن هي في الواقع، خيانة له" [ مقتطف من حوار مع المجلة الفرنسية المذكورة، قام بالترجمة محمد بريش في مجلة الهدى المغربية عدد15، ص: 58].
فقطع يدي السارق ورجم المرأة الزانية والحجاب أفعال تعد خيانة للقرآن هكذا يرى ويقول أركون؟
من مظاهر عداوة أركون للقرآن الكريم الزيادة فيه؛ ففي بداية الفصل السابع وتحت عنوان " العجيب الخلاب في القرآن" من كتابه " الفكر الإسلامي قراءة علمية" في طبعته الثانية ص: 187 أورد أركون الآية الأولى من سورة الجن بإضافة حرف " لو" إلى الآية، هكذا: " قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا لو إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا ". هذه الزيادة يمكن أن تكون من قبيل الخطأ أو السهو الذي يقع فيه أي باحث أو إنسان، إلا أنها جاءت في الطبعة الثانية بعد عشر (10) سنوات من صدور الأولى التي قرأت فيها هذه الزيادة سنة 1989م. فإضافة هذا الحرف مع بقائه في الطبعة الثانية يراد منه شيء آخر وهو التشكيك في سماع الجنون للقرآن، ومن ثم في إيمانهم به وبما فيه من التشريعات ويصبح مسوغ القراءة عنده للآية أمرا سهلا، فيؤولها بناء على ما يقتضيه الحرف من الامتناع أوالشرطية. وهذه الزيادة لا يكتشفها إلا حافظ لكتاب الله عز وجل أو من يقرؤه باستمرار؛ أما الحداثيون وأنصارهم فيأخذونها على أنها أصل ثابت، لأن بينهم وبين القرآن أسوار وحواجز ]وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى[ [فصلت:44] لا يمكنهم الإبصار به أو التنور بنوره.
 
أما عن رسالة الشافعي فقال عنها:" تطرح هذه الرسالة أسس وقواعد القانون في أربعة مباديء: 1ـ القرآن، 2ـ الحديث، 3ـ الإجماع (لكن إجماع من؟هل هو إجماع الأمة كلها أم إجماع الفقهاء فحسب؟ وفقهاء أي زمن وأية مدينة؟ لا جواب)، 4- القياس.
هذه هي الحيلة الكبرى التي أتاحت شيوع ذلك الوهم الكبير بأن الشريعة ذات أصل إلهي. يتيح القياس حل المشاكل الجديدة المطروحة في حياة المجتمعات الإسلامية، أي الحالات التي لم يتعرض لها القانون والحديث. وبهذا الشكل يتم تقديس كل القانون المخترع. كل هذا العمل شيء حدث متأخرا. إن القانون المدعو قانونا إسلاميا كان قد تشكل زمنيا قبل ظهور هذه المباديء النظرية التي أدت إلى ضبط وتقديس القانون. من جهة أخرى، ينبغي أن نشير إلى حقيقة مهمة وهي أن هذه المباديء الأربعة غير قابلة للتطبيق؟ فأولا إن قراءة القرآن كانت قد أثارت اختلافا تفسيريا كبيرا. وأما الأمر مع الحديث فإن القضية أشد عسرا، ذلك أن الحديث ليس إلا اختلاقا مستمرا فيما عدا بعض النصوص القليلة التي يصعب تحديدها وحصرها."اهـ [ينظر: تاريخية الفكر العربي الإسلامي لمحمد أركون، ص: 297].
من أوجه العداوة والجهل والافتراء على القرآن أن يسميه أركون بالقانون وأن يصف التشريعات والاجتهادات الناتجة عن الأصول الأربعة بالمخترَعة، ولم يذكر المخترِع لها؟ لأن الاجتهاد في استنباط الأحكام في نظر أركون ينحصر فيه دون غيره، ومن أوجهها أيضا أن توصف الأصول الأربعة المتواطأ عليها من قبل الأمة بأنها من الحيل التي جعلت الشريعة الإسلامية من عند الله جل جلاله؟ ففي هذا الكلام السابق استعمل أركون كلمة "القانون" بدلا من القرآن والاجتهاد والأحكام الشرعية المتمثلة في الأوامر والنواهي التي أمر بها القرآن ودعت إليها السنة النبوية. هكذا ينظر "المسلم الكبير" محمد أركون إلى الأصول، وأنها غير قابلة للتطبيق، والأصل الثاني (الحديث) عنده اختلاق مستمر، باستثناء القليل؛ وهذا القليل يصعب حصره رغم قلته. فالكثير من الحديث النبوي مختلَقٌ، وغير المختلق قليل ويصعب في الآن ذاته حصره رغم قلته؟ فالقليل كيفما كان من اليسر إحصاؤه وتحديده، لكن عند أركون لا يمكن القيام بذلك، وهذا أمر عجيب عند أركون، خالف فيه التفكير السليم بالعقل السليم، وخالف فيه الحقيقة الدالة على أن استيعاب الشيء القليل والإحاطة به أمر مفروغ منه.
وأعتقد أنه كان يعانى من اضطراب فكري جعله غير قادر على الاختيار بين منهج غير منضبط وفكر غير متصور وبين الفكر الأصيل المبني على أسس وأصول قوية ومتينة لبناء الآراء والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، يقول الشافعي رحمه الله تعالى: " الاجتهاد والقياس والاستنباط إنما يكون على الأصول، فمن كان أعلم بالأصول كان استنباطه أصح، وقياسه أحق، وإلا فمتى اختلت معرفته بالأصول، قاس على اغترار، وبنى على شفا جرف هار" [ ينظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض:83/1-84 ].
لم يلتفت أركون إلى مثل هذا الكلام للإمام الشافعي رحمه الله الذي قيد الاجتهاد بالعلم بالأصول، وإلا فإنه بمنزلة البناء في مصب السيل الجارف. وهذا شأن الاجتهادات الأركونية التي لم تصمد كثيرا أمام نباهة المبصرين بنور القرآن وحذق الناقدين من المناضلين عن الميراث العلمي الرصين للأمة وما خلفه المجتهدون في هذا المجال.
يدعي أركون أن دراسة الإجماع: إجماع الأمة من خلال "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي، مجرد رأي مثالي في غاية من الدقة من حيث تحديده، ويقول في هذا المعنى:" عندما تحدث الغزالي عن الإجماع على سبيل المثال، فإنه أعطى تحديدا يترك إحساسا بالاعتقاد أنه عمل قابل للتحقق... وعندما نواجهه بتحليل تاريخي وسوسيولوجي، فإننا ندرك أن ذلك التحديد مجرد بناء مثالي للفكر" [ ينظر: مجلة الفكر العربي، العدد 32 الخاص بالاستشراق، ص: 322].
إن الإجماع هو اتفاق سلف الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر المجتهدين على أمر. فهو حق وأصل مقطوع بصحته، من غير خلاف ظاهر في ذلك وقت الإجماع، وإن ظهر خلاف من لاحق فإنه لا يقدح فيه، لأن أمة سيدنا محمد لا تجتمع على ضلالة؛ وإذا سلمنا أن المخالفة وقت الإجماع ظهرت من الواحد أو الاثنين فلا عبرة بخلافهما. وقد قال الله عز وجل: "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا " [النساء: 115] لمن خالف قول الله وسنة رسوله والسبيل الذي سلكه ويسلكه المومنون، فلا يمكن أن يكون أحد أصول الاجتهاد عند علماء الأمة، مجر رأي نظري، بل حقيقة ثابتة مسلم بها عند الأمة لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها إلى قيام الساعة.
من الأغلاط العلمية الفادحة الدالة على جهل أركون بالميراث العلمي للأمة الإسلامية ادعائه أن: "الفكر الإسلامي عرف النقد الابستيمولوجي وطور بعض عناصره في علم إسلامي هو علم أصول الفقه، لأن الفقه كان بحاجة إلى قراءة القرآن من أجل استنباط الأحكام الفقهية، هذا بالإضافة إلى ضرورة قراءة صحيحة، وعدم الوقوع في خطأ لغوي. والسؤال المطروح هو كيف يمكن تجنب ذلك؟.. إنها مسألة ابستيمولوجية نضع مشكلة الدلالة عن طريق اللغة، وهي مشكلة جذرية سابقة لكل المشاكل، كيف نحدد اللغة؟" [ينظر: مجلة الفكر العربي، ص: 318، العدد 32 الخاص بالاستشراق].
في هذا الكلام يرى أركون أن نقد النقد (النقد الابستيمولوجي) نما وعرف تجددا من خلال أصول الفقه، الذي هو ضرورة لازمة لاستنباط الأحكام الفقهية وقراءة القرآن، فالقراءة الصحيحة عنده "مسألة ابستيمولوجية" قائمة على اختيار وفقه اللغة. وهو هنا أقحم أصول الفقه للتشكيك في استقلاليته وعراقته كعلم إسلامي قائم بذاته دون مؤثرات خارجية نابعة من علم غريب عن الميراث العلمي للأمة؛ وجعله مطية عله يقنع البعض باستعمال ما سماه بـ (النقد الابستيمولوجي) في القراءة أي قراءة. ولعل السؤال المطروح هنا هو كيف يمكن استعمال "نقد النقد" في قراءة القرآن والفكر الإسلامي؟
يعرف الإمام الباجي أصول الفقه، فيقول:" أصول الفقه: ما انبنت عليه معرفة الأحكام الشرعية" [ينظر: الحدود في الأصول للإمام الباجي، ص: 36] من أوامر ونواهي وغيرها، يُتوصل إليها عن طريق الأسس التي يُبنى عليها ويستنبط بها، وهي أدلة ظنية غالبا، تحتاج إلى إعمال العقل من مجتهد يوظفها لاستنباط الأحكام، التي يستثمرها مستفيد أو مقلد.
وقال القرافي:"أصول الفقه أدلته" [ ينظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي، ص: 15] التي يُحتج بها ويعتمد عليها لاستنباط الأحكام الشرعية، كالكتاب والسنة و الإجماع والقياس... إلخ.
ويعرف العلامة العربي اللوه هذا المركب الإضافي بقوله:" أصول الفقه هو المعرفة، وهي طريقة جرى عليها كثير من الأصوليين، وبعضهم جعل مدلوله نفس القواعد والأدلة... الأصولي: هو العارف بدلائل الفقه الإجمالية وبطرق استفادتها وبطرق مستفيدها. والأصولي يفارق المجتهد في كون الأصولي هو العارف بهذه الأمور الثلاثة، أما المجتهد فهو العارف بدلائل الفقه الإجمالية، وبكيفية استفادة الأحكام منها، ويكون متصفا بصفات الاجتهاد، فالفرق بينهما من جهة هذه الصفات فإن المعتبر في مسمى الأصولي معرفتها وفي مسمى المجتهد قيامها به لاستنباط الأحكام دون الأصولي" [ينظر: أصول الفقه للعربي اللوه، ص: 41] الذي تنتهي مهمته في الوصول إلى تلك الأمور الثلاثة، والمجتهد يوظف ما توصل إليه الأصولي ويرتكز عليه لاستنباط الأحكام، فبين الأصولي والمجتهد تكامل، تبدأ مهمة الثاني عند انتهاء وظيفة الأول.
 
ثالثا: الاضطراب وعدم الاطراد سمة المنهج الأركوني.
منهج أركون في تناول قضايا الفكر الإسلامي مضطرب ومرتبك، لم يستقر على أداة منهجية واحدة محددة تمكن القاريء لكتاباته من ضبط الأفكار والاستنتاجات والتقريرات التي يتوصل إليها، بل تعددت الأدوات المنهجية وتنوعت عنده حسب التحليل والنقد الذي يريده لهذه القضية أو لتلك، وما الذي يريده من هذه الدراسة ومن ذلك الرأي؟
إن منهج أركون: منهج تاريخي أطلق عليه اسم: "الدراسات الإسلامية التطبيقية" القائم على :" التعمق في مناهج فقه اللغة التي اختيرت، بالإضافة إلى حاجتنا الملحة إلى مناهج اللسانيات. وهذا يعني دمج الاثنين معا أو التنسيق بينهما" [ينظر: مجلة الفكر العربي، ص: 317، العدد 32 الخاص بالاستشراق] في القراءة وتحليل النص المقروء والاستنتاج منه بناء على المنهجين المذكورين.
ولنجاح هذا المنهج لابد من القيام بنقد من نوع خاص يحقق ذالك، وفي هذا المعنى يقول:" إنه بقدر ما تقودنا الدراسة التاريخية السوسيولوجية نحو النقد بالمعنى الفلسفي، وما أسميه بالدراسات الإسلامية النقدية، بقدر ما نقف على مظاهر المشاكل المطروحة اليوم، وكما هي في المجتمع. وهذا مظهر آخر للدراسات الإسلامية التطبيقية التي ترفض الانطلاق من النصوص النظرية القديمة والبقاء في رحابها والتهليل لها" [ ينظر: مجلة الفكر العربي، ص: 323، العدد 32 الخاص بالاستشراق].
بناء على هذا الكلام، فإن منهج أركون يرفض الاعتماد أو "الانطلاق" من نصوص التراث، ومن النصوص القديمة عموما، الانطلاق من خارج النص لنقد النص، فالنقد الفلسفي والدراسات الإسلامية النقدية للوقائع الاجتماعية والتاريخية لاستخلاص نتائج ومشاكل؟ غير محددة، ودون إجابة أو علاج لتلك الأدواء أو الأمراض الاجتماعية.
ولتحقيق ذلك المنهج، وجدناه يقول بأهمية وضرورة الاعتماد:"... على المستوى الأنتروبولوجي كمستوى للتحليل... وهذا مظهر آخر من التحليل، من المفروض أن يعرف طريقه إلى الفكر العربي المعاصر ويتعمق فيه، لأنه على أهمية بالغة" [ينظر: مجلة الفكر العربي، ص: 315 العدد 32 الخاص بالاستشراق] في تقويض المفاهيم الأصيلة والأصلية في فكرنا الذي له خصوصيته وبيئته التي نشأ فيها فأصبحت له مقومات ومرتكزات يقوم عليها ويستمر بها، وبناء عليها يستشرف الأفق الممكن أن تكون عليه الأفكار والتصورات التي قد تكسب دعائم جديدة تجعلها خادمة للحاضر والمستقبل. فالفكر العربي- الإسلامي اكتسب عبر التاريخ استقلاليته ووحدة منبعه، استقلاليته على مستوى المنهج، ووحدته على مستوى الأصول التي يقوم بها وعليها. ولا حاجة هنا لبيان تلك الاستقلالية وتلك الوحدة، لأن القاريء العربي والمسلم المتمكن من لغته المعتز بأصوله الفكرية والعلمية القائمة على الكتاب والسنة لا يحتاج إلى مزيد بيان.
و لإجراء هذا المنهج، يرى أركون أن:"... المنهج ليس هو فقط نهج الدراسة الذي نستخدمه، لأنه جزء مهم من المعرفة الفلسفية ومبحث نقدي من مباحث أصول العلوم والمنطق، وهو ما نصطلح علي تسميته بالابستمولوجيا، والتي لازالت لم تدخل الفكر العربي بشكلها الفلسفي الجذري؛ وهكذا فإن المنهج هو بعد فلسفي" [ينظر: مجلة الفكر العربي، ص: 318، العدد32 الخاص بالاستشراق] من حيث توظيفه في هدم الأسس التي بُني عليها الفكر الإسلامي، فكل أداة منهجية تحقق المبتغى عند أركون يجوز استعمالها حتى وإن تعارضت مع الأصول والأدوات المنهجية المتعارف عليها.
وما سماه بـ "التحليل المعماري" يعضد هذا الذي أقول، فالنبش بشتى الوسائل أمر محمود ومقبول عند أركون، لأن البناء الذي يريد هدمه عريق ومتين من الصعب تقويضه في وقت وجيز وبأداة تحليلية ومنهجية واحدة، بل لابد وأن تتعدد الأدوات والمناهج لتتم عملية الهدم بأسرع وقت ممكن؛ والقيام بالبناء على الأنقاض في وقت قياسي يتم فيه التمكين للعلمانية الأوروبية، التي أظهر الواقع عدم تمكنها من بناء المجتمع الغربي وصلاحيتها له، ظهر أنها محدودة فتعالت صيحات العقلاء في الغرب تنادي بالرجوع إلى القيم الأخلاقية والمباديء الدينية لإنقاذ المجتمعات الغربية من الإفلاس والانهيار. وهذا لا يتم إلا بدين العالم كله، دين الإسلام.
ولتطوير التفكير وجعل العقل ينتج بطريقة أجود وأسرع، يقول أركون:"ألححت ومنذ سنوات عديدة على ضرورة دراسة العلم الأنتروبولوجي وتدريسه، فهو الذي يخرج العقل من التفكير داخل السياج الدوغمائي المغلق إلى التفكير على مستوى أوسع بكثير..."[ينظر: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص: 6] لكن إنتاجه يظل محدودا لمحدودية هذا المنهج في تخصص ضيق يهتم فقط بالإنسان ودراسة المجموعات الإنسانية، فكيف بعلم خاص ينتج في غير ما خصص له، نعم يمكن توظيفه، ولكن بما يخدم إيجابا المجال الموظف فيه؛ أما إذا كان توظيفه لأغراض أخرى فهذا يسيء له كعلم، لأن العلم الذي يتم توظيفه للإساءة إلى الإنسان وإلى دينه عليه نظر، لأنه يسيء إلى الفطرة البشرية كلها، و إلى العقل السليم.
إن المنهج المتبع عند أركون في "قراءة القرآن" و"نقد العقل الإسلامي" و"التراث الإسلامي"، ليس منهج بناء، إنما هو منهج قائم على الهدم، يستخدم جميع أنواع الحفر وضرب البناء من أركانه وجوانبه المختلفة حتى يتمكن من تشويه صورته الخارجية والداخلية، ثم يزخرف تلك الأركان المنبوشة بطريقة عشوائيا وفوضوية، فيعتقد أن الزائر أو الداخل للبناء يقبل بالتشكيل الجديد وبتلك الزخرفة. ولكن عندما يقترب من كل ذلك يسقط عليه بسرعة، كما سقطت قوم عاد بالأحقاف (في اليمن) بسبب الرياح التي أُرسلت عليهم من الله جل جلاله أو كالهشيم تذروه الرياح؛ ومن ثم فالآخذ أو اللذين أخذوا بآراء وأفكار أركون يسقطون بسرعة فائقة عند هبوب رياح منهج الإيمان و فهم الإسلام عليهم.
 
رابعا: المعضلة المصطلحية عند محمد أركون.
المصطلحات خزان للمفاهيم والتصورات، إليها يرجع العالم والمتعلم لضبط معارفه وعلومه، وإليها تفتقر كل الفنون لتقييد معانيها وابتكاراتها، فهي مفاتيح المغلق منها والمقيد، وهي أداة بيان الجديد والمستجد، بها تبنى التصورات وتهدم، ومنها تنطلق الحروب وإليها أو بها تنتهي، وإليها يهرع كل راع لسياسة رعيته وكل عالم لتربية نشئه...إلخ. يقول أستاذي الدكتور الشاهد البوشخي:"المسألة المصطلحية هي محور الصراع، وجوهر النزاع، ومركز الدفاع؛ ذلك بأن عليها المدار منذ استخلاف آدم عليه السلام حتى قيام الساعة، وفيها النزاع بين المستكبرين والمستضعفين في مختلف الأمصار و الأعصار، و بها الدفاع عن الهوية الدينية، والخصوصية الثقافية، والوجهة الحضارية" [ينظر: دراسات مصطلحية للدكتور الشاهد البوشيخي، ص:75] النابعة من الذكر الحكيم والمصطلح القرآني القويم؛ فهذه الوجهة مصطلحاتها وألفاظها منبعها أو مصدرها الوحي واستعمالها و توظيفها لا يمكن أن يكون إلا خادما له في حفظه أولا وفهمه ثانيا.
يدرك أركون ومترجم كتبه هاشم صالح أهمية "المسألة المصطلحية" ولذلك وجدناه يقول:"... ينبغي العلم بأن معركة المصطلح لا تزال أمامنا وليس خلفنا على الرغم من كل ما تحقق حتى الآن، وهي من أشد المعارك وأخطرها هولا ولا يعرف ذلك إلا من مارس الترجمة لسنوات طويلة..." [ ينظر: الهوامل والشوامل، ص: 34]. منذ تعرفه على أركون سنة 1977م فتسجيله للدكتوراه تحت إشرافه؛ وقيامه فيما بعد بترجمة أول كتاب له.
إن أركون وتلميذه هاشم صالح في انسجام تام فيما يخص التطوير الخارجي للغة العربية بتتبع الجديد من الإنتاج الفكري في اللغات الثلاث اللاتي تحدث عنها، ثم"... اختراع آلاف المصطلحات الجديدة في لغتنا العربية لكي تقابل ذلك البحر الهائل من المصطلحات الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية في كافة العلوم والاختصاصات. بهذه الطريقة وبها وحدها تغتني لغتنا بالكلمات والتراكيب الجديدة وتتوسع إمكانياتها التعبيرية والمفهومية، وتصبح مرنة أكثر وقادرة على الاستيعاب أكثر. وعلى هذا النحو تعود لغتنا من جديد إلى سابق مجدها فتصبح لغة علم وفلسفة وليس فقط لغة أدب وشعر ونثر ودين وفقه"[ ينظر: الهوامل والشوامل، ص: 36] محصور في استنباط الأحكام وإصدارها، وهذا يؤكد الاتهامات السابقة للغة العربية من قبل أركون. وهو هنا تناسى ريادة العلماء العرب والمسلمين على غيرهم وقت الإشراق المادي والمعنوي للحضارة العربية الإسلامية، فبما كان يسمي هؤلاء العلماء اختراعاتهم وابتكاراتهم ومنتجاتهم؟ أليس بالعربية فقط؟ كما تناسى أن الفلسفة الإسلامية ظلت رائدة لقرون عديدة وليس لسنوات أو حقب، وأن الفلاسفة العرب والمسلمين كانوا سادة وروادا في تخصصهم، بل في تخصصاتهم، فبما كان يكتب هؤلاء؟ بالعربية أو بغيرها؟ الإجابة في الميراث العلمي لهؤلاء، والذي يجهله أركون.
إن الألفاظ والمصطلحات المستعملة في كتابات أركون متعددة ومتنوعة، يمكن التمييز فيها بين:
1. ما هو إسلامي يذكره القرآن والسنة النبوية.
2. [FONT=&quot] و ما هو غريب عنهما وعن الثقافة الإسلامية. [/FONT]
3. ومنها عبارات وألفاظ ظاهرها عربي ومعناها غير معروف.
فأما بالنسبة للصنف الأول فمتداول في الثقافة الإسلامية، يستعمله أركون للتقليل من شأنه والسعي إلى إفراغه من محتواه فتقويضه، ومن هذه الألفاظ: الاجتهاد، الجهاد، التقوى، الورع، التجديد، النضال، التعريف بالإسلام... إلخ.
وأول الألفاظ التي يريد أركون نبشها ونقدها وخلخلة استعمالها هو لفظ القرآن، وذلك بإعطائه تعريفا، يفتقد إلى القيود العلمية وإلى الخصوصية اللفظية.
ومما عرف به أركون القرآن قوله: "... لنسم هذا القرآن إذن بالخطاب النبوي" و"القرآن عبارة عن مدونة منتهية..."
والخطاب النبوي: النصوص المجموعة في كتب العهد القديم (أي La BIBLE والأناجيل والقرآن) [ ينظر: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني لمحمد أركون ، ص: 5 ].
ومن الأمثلة أيضا الدالة على الإساءة للألفاظ الإسلامية، محاولته الربط بين القتل وسفك الدماء والفتوى وتكفير الآخرين، بقوله:" فلولا التغطية اللاهوتية والفتاوى الدينية لما تجرؤوا على ذلك" [ينظر: الهوامل والشوامل، ص:8]. أي لما أقدم التكفيريون على القتل والاعتداء على الآخرين كما يدعيه. وقال أيضا بـ:" التخلي عن ذهنية التحريم أو التكفير والحروب الدينية..." و" المصحف الرسمي المغلق" و"التفسير التقليدي الموروث عن الطبري" و"الإجماع: بناء مثالي للفكر"...إلخ.
ومن الأمثلة في الصنف الأول من الألفاظ التي تعرض لها أركون من أجل تشويهها، لفظ الإسلام والجهاد، يدل على هذا قوله:"....لا ينبغي وضع كل شيء خبط عشواء على كاهل الدين، إننا نعرف أن جميع المجتمعات، لعدة قرون، استعملت لغة دينية للتعبير عن واقع، وهي في الحقيقة رجس وغير قانونية، والجهاد لفظ من هذه اللغة، لنكف عن الوضع على حساب الإسلام ذي الطموح الرباني، كجذب أو تجربة ميتافيزيقية مفتوحة على الحالة الإنسانية، هذه المعطيات التي هي في الواقع حقائق غير دينية ومدنسة، الموجودة في كل المجتمعات..." [ هذا الكلام أورده الدكتور محمد بريش في العدد 15 من مجلة الهدى المغربية سنة 1407هـ/1986م، ص: 44؛ ونسبه إلى أركون في كتابه"الإسلام دين ودنيا". ولم أتمكن من العثور على هذا الكتاب، أو الرجوع إلى نسخة مصورة منه].
الجهاد بالنسبة لأركون من لغة غير قانونية وهو من قبيل الرجس؟ والإسلام "تجربة ميتافيزيقية" و "طموح رباني"...إلخ. وفي هذا إنكار لتشريع الجهاد والاستهزاء بالإسلام وبالذات الإلهية التي لها طموح على حد تعبير أركون؟
أما الصنف الثاني فهو الذي سماه أركون بــ:" استخدام المنهج و المصطلح الأوروبي" [ ينظر: الهوامل والشوامل، ص: 8 ] الذي حاول إيجاد مقابل له باللغة العربية، أو نقله إليها بترجمة حرفية، أو قام بالترجمة إليها تلميذه هاشم صالح. ومن الأمثلة على هذا النوع ما يلي:
الإبيستيمية: épistémèاستعمله ميشيل فوكو، كما يدعيه هاشم صالح. لم أجده في القاموس الفرنسي الذي اعتمدته في الترجمة لهذا النوع من الألفاظ.
الأرثوذكسية: هي الكلمة الفرنسية l’orthodoxie وتعني: معتقد تقليدي أو استقامة الرأي.
الأركيولوجيا: archéologie وتعني: علم الآثار، أو دراسة الآثار.
الأنتروبولوجيا:anthropologie : علم الإنسان، دراسة الإنسان والمجموعات الإنسانية.
الأنسنة: humanismeالإنسانية: وتعني النظرة الفلسفية التي تضع الإنسان وقيمه فوق كل اعتبار.
الأنطولوجيا: anthologie: مقتطفات مختارة من الروائع الأدبية أو الموسيقية.
الابستيمولوجيا: épistémologie: نظرية المعرف، كما تعرّف على أنها: علم نقد العلوم.
البنيوية: أصلها الكلمة الفرنسية structuralisme تهتم بدراسة البنية، لغوية كانت أو غيرها، وهي من طرق العلوم الإنسانية التي تدرس الأشياء من خلال العلاقات الموجودة بين مكوناتها.
التاريخية: هي الكلمة الفرنسية historique.
التاريخانية: هي الكلمة الفرنسيةhistoricisme .
الجيولوجيا: geologiela وتعني: العلم المختص بدراسة الأرض.
الدوغمائية: dogmatique مبدئي، عقائدي:
السوسيولوجيا:هي الكلمة الفرنسية sociologieوتعني: دراسة الظواهر الاجتماعية.
السياج الدوغمائي المغلق:. la clôture dogmatique
السيميوتيك: sémiotiqueعلم دلالات الألفاظ وتطورها، أو الدراسة العلمية لمعاني الألفاظ.
الفيلولوجيا: la philologie علم فقه اللغة.
اللسانيات: linguistiques علم دراسة اللغة.
اللاهوتيين: من اللاهوت مأخوذة من الكلمة الفرنسية Théologie وتعني علم الديانات أو الإلاهيات أو العقيدة.
المفكر فيه/ اللامفكر فيه: pense/impense.
الممكن التفكير فيه/ المستحيل التفكير فيه: pensable/impensable
ومن هذا النوع من المصطلحات والتعابير هناك ألفاظ من قبيل: الظاهرة القرآنية، ظاهرة الوحي، الظاهرة الدينية، الظاهر الإسلامية، الدلالات الحافة والمحيطة، الأطر الاجتماعية للمعرفة، الحداثة العقلية، القرآن خطاب أسطوري البنية، تأسيس تاريخ منفتح وتطبيقي للفكر الإسلامي، الحفر الأركيولوجي في الأعماق، التعرية الأركيولوجية أو الجيولوجية لتراث الإسلام، فقه اللغة التقليدي، الحداثة الفكرية، سوسيولوجية الثقافة، العقل الميتافيزيقي الكلاسيكي، العقل المنبثق الجديد، الخطاب الأصولوي، النقد الابستيمولوجي، القلق الابستيمولوجي،...إلخ.
من خلال هذا الجرد القليل للألفاظ والتعابير التي استعملها المفكر محمد أركون في تحليله لبعض الأفكار أو التدليل على آرائه التي أراد إيصالها إلى الباحثين في الفكر الإسلامي وخاصة العرب منهم، نلاحظ أنه درس أو أراد دراسة مجموعة من الظواهر التي لاحت في الواقع المعاصر خلال العقود الأخيرة في البلاد العربية والإسلامية وفي أوروبا وهذه الظواهر إما اجتماعية أو فكرية- ثقافية أو دينية؛ كما أن عددا من الاصطلاحات والتعابير قد تكون لها مدلولات معينة في لغتها الأم أو الأصلية، إلا أن استعمالها بعد ترجمتها حرفيا أو بالمعنى إلى لغة أخرى قد يعطيها مدلولا آخر قد يكون مغايرا لذلك الأصلي الذي اتخذته قبل، عند استعمالها أول مرة في لغتها الأولى.
أما الصنف الثالث من المصطلحات التي استعمل أركون، فمنها ما يلي: التعابير الدينية، التعرف النقدي، الدراسات التطبيقية، التحليل التاريخي، التحليل المعماري، العقل الديني، العقل الفلسفي أو العلمي، المعجم العقلاني العلمي الذي أحدثه الفلاسفة، السلطات العقائدية للدين، رجال الدين، المومنون التوحيديون...إلخ.
هذا الصنف من المركبات الإضافية لم يحظ بعناية أركون في إظهار معناه للقاريء لكتبه وآرائه، وهو رغم أنه بين من حيث عربيته إلا أنه لم ينل نصيبه من البيان والتعريف لإراحة القاريء من الأسئلة والشك في مدلوله وماهيته؛ لأن أصحاب المشاريع العلمية الكبرى يضعون الدلالات والمعاني المعبرة لمصطلحاتهم الجديدة في مشاريعهم حتى لا تلتبس معانيها على التلاميذ والأتباع فيتيه الجميع مع القراء المفترضين في البحث عن المدلول الحقيقي لها وقد لا يجدونه إلا عند واضع هذه الألفاظ أول مرة. وإذا مات صاحب المشروع فإن تلك المعاني تضيع فيظل الغموض والشك هو السائد بشأنها.
فهذه العبارة "رجال الدين" في الفكر الغربي تتخذ معنا كنسيا يفرق بين ما هو من الدين و ما هو من غيره، لانفصال الدين عن باقي الحياة العامة، فيقولون "رجل سياسة" و "رجل اقتصاد" و "رجل قانون"...إلخ. أما في الفكر الإسلامي فعلماء الشريعة يمكن أن يكونوا أمراء للدولة أو سياسيين واقتصاديين بارزين ومجتهدين في استنباط أحكام الشريعة...إلخ. فلا توجد هذه التفرقة في الإسلام بين رجل كذا أو كذا في مجال كذا أو كذا، المسلم شخصية موسوعية متكاملة الجوانب و التكوين.
 
خامسا: الاستشراق: الوجه الآخر لأركون.
الاستشراق والاستعمار على وزن "استفعال"، الأول من الشرق والثاني من الإعمار.
والاستعمار (بمفهومه الحالي وليس القرآني) الابن البار للاستشراق والوارث لآرائه وأفكاره، بل المطبق لها (في عدد من الجوانب) فهو الدليل الفعلي والأمامي للاستعمار (الاستخراب) في مختلف تجلياته، وهو المرشد له في شِعَب وأودية العالم العربي (على حد تعبير إدوارد سعيد).
إن الاستشراق بمختلف تياراته الفكرية يمثل إحدى أهم نوافذ الغزو الفكري للأمة الإسلامية شأنه في ذلك شأن التبشير والدعوة إلى العلمانية صديقة القومية وأنواع الغزو الثقافي والفكري التي أنتجت الديكتاتورية وما صاحبها من الحرب على شريعة الإسلام وأحكام القرآن، يقول الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح:" لقد نجحت الحملات التي قامت بها مؤسسات الغزو الفكري الغربي في تحقيق أغراضها نجاحا بعيدا، حيث ضمت إليها فئات مثقفة من المسلمين وجعلتها في صفها تحارب الإسلام وثقافته، وأكثر من هذا، إن هؤلاء المثقفين صاروا يستنكرون الثقافة الإسلامية، إذا تناقضت مع الثقافة الغربية... وصاروا يستمرئون الثقافة الغربية ويتعشقونها. ويتجهون فـي الحياة طـبـق مفاهيمها". [ ينظر: كتاب الأمة عدد 38، الصادر في رجب 1414هـ، "في الغزو الفكري" للدكتور أحمد عبد الرحيم السايح، ص: 73_74].
لا يخرج أركون من هؤلاء المثقفين الذين ذكرهم أحمد السايح، سواء في أهدافهم التي هي أهداف الغزو الفكري أو في تصوراتهم التي تسير حذو نظرائهم الغربيين الذين استطاعوا استمالتهم لضعف أو لعجز سببه الانهزام النفسي والانبهار أمام كل ما هو غربي (يُنظر إليه على أنه إبداع وإن كان بعيدا عنه) أو لوجود قابلية لدى هؤلاء، قابلية تنم عن غياب حصانة داخلية بمنزلة الوقاية من الغزو الداخلي للإنسان، ناهيك عن الخارجي المتمثل في الاقتداء والتشبه، وهذا الغزو الداخلي للإنسان هو الأسوأ، لأن نظيره الخارجي انعكاس له.
لا يجد أركون حرجا ولا ترددا في التصريح بأن منهجه في نقد الفكر الإسلامي هو منهج المستشرقين، ويقول في هذا المعنى:" من الصعوبة بمكان، وانطلاقا من الفكر الإسلامي التقليدي، أن نصرح بشيء حول صحة المنهج الإبستيمولوجي المستعمل من طرف المستشرقين. وإذا أردنا أن نطور أنفسنا اتجاه الفكر الإسلامي، علينا أن نقبل بهذا المعطى الأولي والذي من الصعب أن يفلت منه فكر ما يخضع لقوانين التاريخ المتغيرة ويقبل بتغيير المناهج وأن الابستيمولوجيا نفسها تخضع للحالة العامة للمعارف في كل عصر ولكل ثقافة" [ينظر: مجلة الفكر العربي، ص: 319 العدد 32 الخاص بالاستشراق].
في هذا الكلام يفرق أركون بين "الفكر الإسلامي التقليدي" و بين "الفكر الإسلامي" ويتهم الأول بأنه لا يقبل النقد والتقويم بالمنهج الذي اختاره المستشرقون وهو الابستيمولوجيا، أداة التحليل والتقويم الوحيدة والممكنة للتعامل مع الميراث العلمي للأمة؛ ولتبني المنهج المذكور وإعطائه الشرعية في تناول القضايا الفكرية التي يتصدى لها ويعالجها به و يقبل بذلك القاريء لآرائه وأفكاره، يرى أركون استعمال ذلك المنهج بطريقة مرنة حتى لا يشعر القاريء المسلم والعربي على وجه الخصوص بالهدم الكلي للأصول والأركان التي يقوم عليها الإسلام، لأن الوظيفة الأساس للمنهج الابستيمولوجي هي الهدم أولا وأخيرا للأفكار والآراء، الهدم دون التفكير في البناء أو إعادة البناء على أسس أخرى.
إن المنهج الأركوني بناء على الكلام السابق، هو منهج المستشرقين القائم على الشك والاستقراء أقل من الناقص وتحليل الأفكار بطريقة معكوسة وطرح الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة في هذا التحليل حتى يأخذ القاريء برأي غير موجود أو مفقود دون مراعاة طريقة التوصل إلى ذلك الرأي، هل تم التوصل إليه بناء على ضوابط وأدوات القراءة التي يقبلها النص المقروء؟ أو لا يقبلها؟ وهل طريقة النقد المعتمدة تستند إلى أسس علمية وأخرى عقلية يقبلها ذلك النص أو لا؟
فالعلاقة أو الوجه المتحدث عنه ظاهر لمن يرى بنور القرآن والإيمان، وخفي على من لا يبصر، فموضوع الدراسات الأركونية هو موضوع واهتمام المستشرقين المتمثل في الإسلام والتراث الفكري الذي خلفه علماء الإسلام قدامى ومعاصرين، فأركون اجتهد وجدد، بل أبدع في اقتفاء أثر وخطى أساتذته المستشرقين الذين تتلمذ عليهم فصنعوه فأصبح نجما وحيدا على خشبة بمسرح فارغ، مسرحياته الفكرية جددت شكلا المنهج السيء في الدراسات الاستشراقية المعادية للإسلام وأهله، مع الحفاظ على المضمون الذي يمثل الاستمرار لهذا الصنف السيء للاستشراق المتعصب وغير المنصف، وهذا الصنف مثَّل القدوة لأركون في التأسيس لأفكاره والتنظير لمشروعه الذي انكشف زيفه ولم يكسب رشده وظل يطرح الأسئلة التشكيلية والتحذيرية والإجابات الفضفاضة وغير الواضحة.
يقول عمر عبيد حسنه: "لقد نجحت العقلية الأوروبية في فرض شكلية معينة من التحقيق والتقويم والنقد، وأوجدت القدوة والأنموذج، ويمكن القول: إن معظم الكتابات العربية المعالجة للتراث قد سارت على هذا النهج ولم تتجاوزه إلا في القليل النادر، إلى درجة إيجاد ركائز ثقافية عربية معبرة عنها ومتبنية لوجهة نظرها، ومدافعة عن المواقع الثقافية التي احتلتها؛ حتى في الجامعات والمؤسسات العلمية، لا يزال الخضوع والاحتكام للقوالب الفكرية التي اكتسبها المثقفون المسلمون من الجامعات الأوروبية" [ينظر: ص9 من كتاب الأمة عدد5: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري للدكتور محمد حمدي زقزوق، الطبعة الثانية في صفر الخير سنة 1404هـ] التي درسوا فيها وتخرجوا منها، فقراءة أركون للميراث العلمي للأمة لا تخرج عن ومن نظرة هذه العقلية التقويمية والنقدية التي أُنتجت بالفكر الأوروبي وتتكلم بالعربية، وهي أسوأ من العقلية الأوروبية في مجال التقويم والنقد، بل أقوى وأشرس منها لامتلاكها لفهم ومعرفة مسبقة بالتراث الإسلامي وإن كانت محدودة وجزئية.
ومن ثم فهذه العقلية العربية المعبرة عن تلك الأوروبية بمفاهيمها وبناء على منطلقاتها تجسد الاستمرار والتبعية لهذه العقلية لتلك الموجودة في الضفة الشمالية والتي قلما تجد عندها الإنصاف والعلمية فيما يتعلق بقضايانا المعرفية والفكرية وحتى السياسية.
إن نموذج العقلية القدوة المتحدث عنها والتي تتكلم العربية وتتخذ من مشروعها الفكري نقد وتقويم التراث العربي استطاعت أن تأثر سلبا في تقدم وظهور المشروع الإسلامي الحديث المأمول أن يحل محل النظم الفاسدة و الوافدة على البلاد الإسلامية والتي تبوأت الصدارة في مختلف المجالات؛ وذلك بإيجاد فئة من المتعلمين القادرين على الدفاع عن الفهم الخاطيء للإسلام من تلك النخب وفق منهج يستمد أصوله في الفكر الغربي البعيد عن مباديء وأصول الفكر الإسلامي الذي بنى مقومات وجوده على القرآن الكريم والسنة النبوية واجتهادات أكابر العلماء الذين عرفهم تاريخ الأمة كالباقلاني وابن تيمية وابن رشد وابن خلدون وغيرهم.
 
عودة
أعلى