السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حياكم الله أهل هذا الملتقى المبارك الذي أسأل الله تعالى أن يكون من دروب العلم الخالدة , نتقاطف منها ثماره
الناضجة , فنفيد ونستفيد , إنه خير معين لنا . ثم أما بعد :
ففي أثناء قراءتي لكتاب الدلائل لعبد القاهر الجرجاني , وجدت حديثاً قيماً تحدث فيه عن قضية اللفظ والمعنى , وهي
قضية عملاقة تختص بفن الكلام عامة , ولكني صدفتُ عن ذلك كله هنا , لأسجل ما يختص بالإعجاز القرآني في ملتقى
التفسير القرآني .
فقارئ القرآن , حين يبحر مع ألفاظه ومعانية مقتطفة على حدة , سيجدها مما نتناقلها وليست غريبة علينا , ثم تراه
يتعجب من ورودها في المصحف بليغة معجزة فيزداد إعجاباً به , وليس ذلك غريباً على معجزة نزلت من لدن حكيم خبير .
وقضية اللفظ والمعنى , قضية شغلت الدارسين منذ القدم ,واختلفت وجهات نظرهم فيها , فمنهم من يرى للفظ مزية ,
ومنهم من يرى ذلك للمعنى , ومنهم من يجمع بينهما في المزية , ولكنا هنا سنقتصر على موقف عبدالقاهر منها ,
وكلامه عنها , لأن المتكلمين عنها كثر , وقد أجاد عبد القاهر الجرجاني الحديث عنها , خاصة فيما يخص بالإعجاز
القرآني .
يوضح عبدالقاهر في ( الدلائل ) نظرية ساقها على رأي المعتزلة يوضح فيها فساد رأيهم في قضية اللفظ , وتمجيدهم
له , وجعله العامل المهم من عوامل البلاغة المطلوبة , والإعجاز المؤثر, فانظر له حين يقول : " ومن المعلوم أن لا معنى
لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها , مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة , وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون
المعنى " 1
ثم يردف حديثه بتعليلٍ نابع من عقل واعٍ بالفكرة , فيبرر لنا سبب عدم مثالية اللفظ لوحده في أداء الإعجاز المطلوب
بقوله : " وهل تجد أحداً يقول : ( هذه اللفظة فصيحة ) إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملائمة معناها لمعاني
جاراتها , وفضل مؤانستها لأخواتها ؟ , وهل قالوا : (لفظة متمكنة ومقبولة ) وفي خلافه : ( قلقة ونابية ومستكرهة ) إلا
وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما , وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا ً
للتالية في مؤداها " 2
وقد وضح عبدالقاهر مقولته السابقة بتحليل قوله تعالى : (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء
وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين )) 3
فالكلمات الواقعة في هذه الآية لو أخرجت من هذا السياق ووضعت في سياق آخر, لا يمكن أن تاتي بمثل ما أتت به
في الآية من البلاغة ومن ثم الإعجاز, فكل هذه الكلمات قد استعملتها العرب وليس منها ما يعجب منه العقل العربي , غير
أن السياق الذي سبكت فيه جاء معجزاً باهراً, انظر في قوله عن ذلك :
" فتجلى لك منها الإعجاز, وبهرك الذي ترى وتسمع , أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة , والفضيلة القاهرة ,
إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض , وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية ,
والثالثة بالرابعة , وهكذا إلى أن تستقريها إلى آخرها , وأن الفضل ناتج بينها , وحصل من مجموعها " 4
وخلاصة قول عبدالقاهر في اللفظ والمعنى مقولة جامعة مانعة لرأيه في اللفظ والمعنى حين يقول : " فقد اتضح إذن
اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً , أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة , ولا من حيث هي كلم مفردة , وأن
الفضيلة وخلافها , في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها , وما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ "5
ثم يجمع عبدالقاهر كلاماً جميلاً عن وجوب تمازج اللفظ والمعنى في الاستخدام فيقول : " لو عمد عامد إلى ألفاظ
فجمعها من غير أن يراعي فيها معنى , ويؤلف منها كلاماً , لم تر عاقلاً يعتد السهولة فيها فضيلة ؛ لأن الألفاظ لا تراد
لأنفسها , وإنما تراد لتجعل أدلة على المعاني , فإذا عدمت الذي له تراد , أو اختل أمرها فيه , لم يُعتد بالأوصاف التي
تكون في أنفسها عليها , وكانت السهولة وغير السهولة فيها واحداً " 6
وهذه القضية شبية بقضية النظم , ورجوع الميزة له , إلا أنها أوسع تناولاً , وأدق تعبيراً , لأنها تفسر خروج اللفظ
لوحده , وكذلك المعنى , بمعنى معروف متداول بين العرب , ثم تلجأ لبيان السبب , وهو وقوعها في نظم بديع معجز .
وثمة كلام كبير عن هذه القضية نجدها في صفحات بعض النقاد المحدثين الذين تباينت آراؤهم , واختلفت وجهاتهم حياز
هذه القضية , فمن مؤيد لعبد القاهر , ومن معارض له بدليل أو بغير دليل , والمقام يضيق لبسطه هنا , وثمة كتاب قيم
جمع ذلك في رسالة دكتوراه , من جامعة الأزهر, وهي بعنوان ( قضية اللفظ والمعنى , وأثرها في تدوين البلاغة
العربية ) للدكتور / علي محمد العماري .
أرجو من الله تعالى أن ينفع بما قلت , وأن يبلغني رتباً عالية في العلم الشرعي , أو مامن شانه أن يخدم القرآن
الكريم , إنه على ذلك قدير , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين .
حياكم الله أهل هذا الملتقى المبارك الذي أسأل الله تعالى أن يكون من دروب العلم الخالدة , نتقاطف منها ثماره
الناضجة , فنفيد ونستفيد , إنه خير معين لنا . ثم أما بعد :
ففي أثناء قراءتي لكتاب الدلائل لعبد القاهر الجرجاني , وجدت حديثاً قيماً تحدث فيه عن قضية اللفظ والمعنى , وهي
قضية عملاقة تختص بفن الكلام عامة , ولكني صدفتُ عن ذلك كله هنا , لأسجل ما يختص بالإعجاز القرآني في ملتقى
التفسير القرآني .
فقارئ القرآن , حين يبحر مع ألفاظه ومعانية مقتطفة على حدة , سيجدها مما نتناقلها وليست غريبة علينا , ثم تراه
يتعجب من ورودها في المصحف بليغة معجزة فيزداد إعجاباً به , وليس ذلك غريباً على معجزة نزلت من لدن حكيم خبير .
وقضية اللفظ والمعنى , قضية شغلت الدارسين منذ القدم ,واختلفت وجهات نظرهم فيها , فمنهم من يرى للفظ مزية ,
ومنهم من يرى ذلك للمعنى , ومنهم من يجمع بينهما في المزية , ولكنا هنا سنقتصر على موقف عبدالقاهر منها ,
وكلامه عنها , لأن المتكلمين عنها كثر , وقد أجاد عبد القاهر الجرجاني الحديث عنها , خاصة فيما يخص بالإعجاز
القرآني .
يوضح عبدالقاهر في ( الدلائل ) نظرية ساقها على رأي المعتزلة يوضح فيها فساد رأيهم في قضية اللفظ , وتمجيدهم
له , وجعله العامل المهم من عوامل البلاغة المطلوبة , والإعجاز المؤثر, فانظر له حين يقول : " ومن المعلوم أن لا معنى
لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها , مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة , وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون
المعنى " 1
ثم يردف حديثه بتعليلٍ نابع من عقل واعٍ بالفكرة , فيبرر لنا سبب عدم مثالية اللفظ لوحده في أداء الإعجاز المطلوب
بقوله : " وهل تجد أحداً يقول : ( هذه اللفظة فصيحة ) إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملائمة معناها لمعاني
جاراتها , وفضل مؤانستها لأخواتها ؟ , وهل قالوا : (لفظة متمكنة ومقبولة ) وفي خلافه : ( قلقة ونابية ومستكرهة ) إلا
وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما , وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا ً
للتالية في مؤداها " 2
وقد وضح عبدالقاهر مقولته السابقة بتحليل قوله تعالى : (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء
وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين )) 3
فالكلمات الواقعة في هذه الآية لو أخرجت من هذا السياق ووضعت في سياق آخر, لا يمكن أن تاتي بمثل ما أتت به
في الآية من البلاغة ومن ثم الإعجاز, فكل هذه الكلمات قد استعملتها العرب وليس منها ما يعجب منه العقل العربي , غير
أن السياق الذي سبكت فيه جاء معجزاً باهراً, انظر في قوله عن ذلك :
" فتجلى لك منها الإعجاز, وبهرك الذي ترى وتسمع , أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة , والفضيلة القاهرة ,
إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض , وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية ,
والثالثة بالرابعة , وهكذا إلى أن تستقريها إلى آخرها , وأن الفضل ناتج بينها , وحصل من مجموعها " 4
وخلاصة قول عبدالقاهر في اللفظ والمعنى مقولة جامعة مانعة لرأيه في اللفظ والمعنى حين يقول : " فقد اتضح إذن
اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً , أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة , ولا من حيث هي كلم مفردة , وأن
الفضيلة وخلافها , في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها , وما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ "5
ثم يجمع عبدالقاهر كلاماً جميلاً عن وجوب تمازج اللفظ والمعنى في الاستخدام فيقول : " لو عمد عامد إلى ألفاظ
فجمعها من غير أن يراعي فيها معنى , ويؤلف منها كلاماً , لم تر عاقلاً يعتد السهولة فيها فضيلة ؛ لأن الألفاظ لا تراد
لأنفسها , وإنما تراد لتجعل أدلة على المعاني , فإذا عدمت الذي له تراد , أو اختل أمرها فيه , لم يُعتد بالأوصاف التي
تكون في أنفسها عليها , وكانت السهولة وغير السهولة فيها واحداً " 6
وهذه القضية شبية بقضية النظم , ورجوع الميزة له , إلا أنها أوسع تناولاً , وأدق تعبيراً , لأنها تفسر خروج اللفظ
لوحده , وكذلك المعنى , بمعنى معروف متداول بين العرب , ثم تلجأ لبيان السبب , وهو وقوعها في نظم بديع معجز .
وثمة كلام كبير عن هذه القضية نجدها في صفحات بعض النقاد المحدثين الذين تباينت آراؤهم , واختلفت وجهاتهم حياز
هذه القضية , فمن مؤيد لعبد القاهر , ومن معارض له بدليل أو بغير دليل , والمقام يضيق لبسطه هنا , وثمة كتاب قيم
جمع ذلك في رسالة دكتوراه , من جامعة الأزهر, وهي بعنوان ( قضية اللفظ والمعنى , وأثرها في تدوين البلاغة
العربية ) للدكتور / علي محمد العماري .
أرجو من الله تعالى أن ينفع بما قلت , وأن يبلغني رتباً عالية في العلم الشرعي , أو مامن شانه أن يخدم القرآن
الكريم , إنه على ذلك قدير , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) دلائل الإعجاز , 43
(2)المصدر نفسه , 44 , 45
(3)سورة هود , 44
(4)دلائل الإعجاز , 45
(5)المصدر نفسه , 457
(6)المصدر نفسه , 522