أقوال في التفسير من غير كتب التفسير (مع التنبيه على فوائد تهم الباحثين ) [ 2]

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,760
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
السعودية
الموقع الالكتروني
www.tafsir.org
سبق ذكر جمل من هذا الباب تحت هذا الرابط
سلسلة : التفسير من غير كتب التفسير
ومما يذكر في هذا الموضوع :
أقوال كثيرة لأبي بكر ابن الأنباري في كتابه الممتع : الزاهر في معاني كلمات الناس ؛ ففيه من أقوال التفسير جمع كثير يستحق العناية .
ومن ذلك قوله - شارحاً لقول الناس : قد حسّ فلانٌ - : ( قال أبو بكر : العامة تخطئ في هذا ، فتظن أن معنى حسّ : سمع ووجد . وليس كذلك ؛ العرب تقول : أحس فلان الشيء يحسه إحساساً : إذا وجده .
قال الله تعالى: ﴿ هل تحس منهم من أحد ﴾ فمعناه : هل تجد . ....
وقال الله تعالى وهو أصدق قيلاً : ﴿ إذ تحسونهم بإذنه ﴾ معناه : تقتلونهم بإذنه . ) انتهى باختصار 2/131-132 .

وقال - في معنى قولهم : هو من الصابئين - : ( الصابئون قوم من النصارى ، قولهم ألين من قول النصارى ؛ سموا صابئين لخروجهم من دين إلى دين . وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم صابئاً ، ويسمون أصحابه كذلك لخروجهم من دين إلى دين ...
قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ )(البقرة: من الآية62) فيقال : الذين آمنوا هم المنافقون ، أظهروا الإيمان وأضمروا الكفر ، والذين هادوا : هم اليهود المغيرون المبدلون ، والنصارى : المقيمون على الكفر بما يصفون به عيسى من المحال ، والصابئون : الكفار أيضاً ، المفارقون للحق .
ويقال : الذين آمنوا : المؤمنون حقاً ، والذين هادوا : الذين تابوا ولم يغيروا ولم يبدلوا ، والنصارى : نصار عيسى ، والصابئون : الخارجون عن الباطل إلى الحق . من آمن بالله : معناه : من دام منهم على الإيمان بالله ؛ فله أجره عند ربه . ) انتهى 2/215 .
 
في كتب الإمام محمد بن نصر المروزي كنوز تفسيرية تحتاج إلى باحث يقوم بجمعها ودراستها ، وهو إمام محدث متقدم توفي سنة 294 هـ .
وهذا مثال واحد يدل على ما ذكرت من كتابه قيام الليل ،- وقد سبق ذكر شيء من التفسير من كتابه : السنة -

( وَقَالَ قَتَادَةُ : " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ هُوَ الَّذِي يُزَمِّلُ ثِيَابَهُ " وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : " زَمَّلْتُ هَذَا الْأَمْرَ فَقُمْ بِهِ : وَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ دَثَّرْتُ هَذِهِ الْأَمْرَ فَقُمْ بِهِ " وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ الْمُزَّمِّلُ وَالْمُدَّثِّرُ بِالتَّشْدِيدِ وَالْإِدْغَامِ وَكَذَلِكَ نَقْرَأُهُمَا وَعَلَيْهِمَا الْأُمَّةُ وَالْمُزَّمِّلُ الْمُلْتَفُّ بِثَوْبِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : سَمِعْتُ مَنْ أَثِقُ بِخَبَرِهِ وَعِلْمِهِ يَذْكُرُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فَرْضًا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ نَسْخَهُ بِفَرْضٍ غَيْرِهِ ، ثُمَّ نَسَخَ الثَّانِي بِالْفَرْضِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ . قَالَ : كَأَنَّهُ يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ : يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ثُمَّ نَسْخَهُ فِي السُّورَةِ مَعَهُ بِقَوْلِهِ : إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ إِلَى قَوْلِهِ : فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَسَخَ قِيَامَ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفَهُ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ بِمَا تَيَسَّرَ . قَالَ : وَيُقَالُ نَسَخَ مَا وَصَفَ فِي الْمُزَّمِّلِ بِقَوْلِ اللَّهِ : أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ زَوَالُهَا إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ الْعَتَمَةُ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ فَأَعْلَمَهُ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ نَافِلَةٌ لَا فَرِيضَةٌ ، وَالْفَرَائِضُ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ لَيْلٍ وَنِهَارٍ . قَالَ : فَفَرَائِضُ الصَّلَوَاتِ خَمْسٌ وَمَا سِوَاهَا تَطَوُّعٌ . وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو : نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بِالْخَفْضِ وَكَانَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَقْرَأُونَهَا نَصَبًا نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ كَانَ يُخَفِّفُ ثُلُثَهُ . وَقَالَ وَقِرَاءَتُنَا الَّتِي نَخْتَارُهَا الْخَفْضُ لِقَوْلِهِ : عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَكَيْفَ تَقْدُرُونَ عَلَى أَنْ تَعْرِفُوا نِصْفَهُ مِنْ ثُلُثِهِ وَهُمْ لَا يَحْصُونَهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَتَأَوَّلَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ قَوْلَهُ : عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ : لَنْ تَعْرِفُوهُ ذَهَبَ إِلَى الْإِحْصَاءِ فِي الْعَدَدِ . وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عُبَيْدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ ، إِنَّمَا قَوْلُهُ : لَنْ تُحْصُوهُ : لَنْ تُطِيقُوهُ . وَقَالَ تَقُولُ الْعَرَبُ مَا أَحْصَى كَذَا ، أَيْ مَا أُطِيقُهُ . وَقَالَ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا " ، أَيْ لَنْ تُطِيقُوا أَنْ تَسْتَقِيمُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ يَقُولُ : " سَدِّدُوا وَقَارِبُوا " عَنْ أَبِي صَالِحٍ لَمَّا نَزَلَتْ : " إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ إِلَى قَوْلِهِ : عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ : أَشُقَّ عَلَيْكُمْ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " . قَالَ : وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ " ، وَعَنْ قَتَادَةَ : " إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَمِنْ نِصْفِهِ وَأَدْنَى مِنْ ثُلُثِهِ " وَقَالَ مُجَاهِدٌ : " تَقُومُ أُدْنِيَ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَتَقُومُ نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَهُ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ " وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ : عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ، لَنْ تُطِيقُوهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ : قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ صَلِّ اللَّيْلَ إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا مِنْهُ تَنَامُ فِيهِ وَهُوَ الثُّلُثُ . ثُمَّ قَالَ : نِصْفَهُ أَيْ قُمْ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنَ النِّصْفِ قَلِيلًا أَيِ الثُّلُثَ أَوْ زِدْ عَلَى النِّصْفِ إِلَى الثُّلُثَيْنِ . فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ وَأَحَدَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسِهِمْ بِالْقِيَامِ عَلَى الْمَقَادِيرِ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ أَيْ وَتَقُومُ نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَسَائِرَ أَجْزَائِهِ . عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أَيْ لَنْ تُطِيقُوا مَعْرِفَةَ حَقَائِقِ ذَلِكَ ، وَالْقِيَامَ فِيهِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَادِيرِ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ رَخَّصَ لَهُمْ فِي أَنْ يَقُومُوا مَا أَمْكَنَ وَخَفَّ بِغَيْرِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا مِقْدَارٍ . قَالَ : ثُمَّ نَسَخَ هَذِهِ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ . قَالَ : وَلَوْ قَرَأْنَا : أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفِهِ وَثُلُثِهِ بِالْخَفْضِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا قَامَ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَفِي هَذِهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ لَأَنَّ اللَّهَ قَالَ لَهُ : قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا إِلَى الثُّلُثِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الثُّلُثِ شَيْئًا . قَالَ : فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحِكَايَةِ الَّتِي حَكَاهَا وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ عَلَى الْمَقَادِيرِ الَّتِي ذَكَرَهَا ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَأَوْجَبَ قِرَاءَةَ مَا تَيَسَّرَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ فَرْضًا ، ثُمَّ نَسَخَ فَرْضَ قِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ . وَأَمَّا سَائِرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ آخِرَ السُّورَةِ نَسَخَتْ أَوَّلَهَا ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ بِنُزُولِ آخِرِ السُّورَةِ ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ اخْتِيَارٌ لَا إِيجَابُ فَرْضٍ . وَقَالَ : وَهَذَا أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ نَسَخَتْ قِيَامَ اللَّيْلِ ، وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مَفْرُوضَاتٌ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ، فُرِضَتْ عَلَيْهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ ، وَالْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ إِنَّمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَنَفْسُ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، قَوْلُهُ : عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الزَّكَاةُ إِنَّمَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُمْ فِي الْجَيْشِ وَقَدْ كَانَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ ، وَبَعْثُهُ الْجُيُوشَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَالَ : وَيُقَالُ لِمَنْ أَوْجَبَ الْقِيَامَ بِاللَّيْلِ فَرْضًا بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ : فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ، خَبِّرْنَا عَنْهُ إِذَا لَمْ يُخَفِّفْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ أَنْ يَقْرَأَ بِشَيْءٍ هَلْ تُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُخَفِّفْ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ . فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ ، خَالَفَ ظَاهِرَ الْكِتَابِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ . وَإِنْ قَالَ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَكَلُّفُهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ ، وَيُخَفِّفُ ، فَقَدْ أَسْقَطَ فَرْضَهُ ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا لَوَجَبَ عَلَيْهِ خَفَّ أَوْ لَمْ يَخِفَّ كَمَا قَالَ : انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَقَوْلُهُ : مَا تَيَسَّرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَدْبٌ وَاخْتِيَارٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ . قَالَ : وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ فِي إِيجَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ بِقَوْلِهِ : فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَسْقَطُوا فَرْضَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مُتَأَوِّلِينَ لِهَذِهِ الْآيَاتِ فَقَالُوا : إِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَلَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ . ثُمَّ نَاقَضُوا فَقَالُوا : لَابُدَّ أَنْ يَقْرَأَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ فَصَاعِدًا أَوْ بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ نَحْوَ آيَةِ الدِّينِ أَوْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ . فَإِنْ قَرَأَ بِآيَةٍ قَصِيرَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ مُدْهَامَّتَانِ وَ لَمْ يَلِدْ ، لَمْ يَجُزْ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ فِي شَيْءٍ . إِنَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ ، وَإِنَّمَا أُخِذَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أُخِذَ عَدَدُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَسَائِرُ مَا فِي الصَّلَاةِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَلِذِكْرِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ كِتَابٌ غَيْرُ هَذَا سَنَحْكِي اخْتِلَافَ النَّاسِ وَاحْتِجَاجَاتِهِمْ فِيهَا هُنَالِكَ . وَمَا أَدْخَلْنَا عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى فِي إِيجَابِهِمْ قِرَاءَةَ مَا تَيَسَّرَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ دَاخِلٌ عَلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ : خَبِّرُونَا عَمَّنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُخَفِّفْ ، هَلْ تُوجِبُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِقْدَارَ مَا حَدَّدْتُمْ مِنْ قِرَاءَةِ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ . وَإِنْ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ ؟ فَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ . قِيلَ : فَمِنْ أَيْنَ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ مَا لَمْ يَتَيَسَّرْ عَلَيْهِ ؟ وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ فِي زَعْمِكُمْ ، وَيُلْزِمُكُمْ أَنْ تُجِيزُوا لِلْمُصَلِّي إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ أَنْ يَقُولَ أَلْفًا وَيَرْكَعَ وَيَقُولُ : لَمْ يَتَيَسَّرْ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنْ أَجَازُوا ذَلِكَ خَالَفُوا السُّنَّةَ وَخَرَجُوا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ . قَوْلُهُ : وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بَيِّنْهُ تَبْيِينًا وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : إِنِّي سَرِيعُ الْقِرَاءَةِ أَقْرَأُ الْبَقَرَةَ فِي مَقَامٍ . فَقَالَ : لَأَنْ أَقْرَأَ الْبَقَرَةَ فَأُرَتِّلُهَا وَأَقْدِرُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ كَمَا تَقُولُ وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ . فَقَالَ : رَتِّلْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي . فَإِنَّهُ زَيْنُ الْقُرْآنِ . قَالَ عَلْقَمَةُ : صَلَّيْتُ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى انْصِرَافِهِ مِنَ الْفَجْرِ فَكَانَ يُرَتِّلُ وَلَا يَرْجِعُ وَيُسْمِعُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ وَعَنْ قَتَادَةَ : بَلَغَنَا أَنَّ عَامَّةَ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتِ الْمَدَّ وَعَنْ مُجَاهِدٍ : وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا . قَالَ : تُرْسِلُ فِيهِ تَرْسِيلًا ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : بَعْضُهُ عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ وَعَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلِ مِنْهَا ) انتهى المراد نقله
 
بارك الله فيك يا أبا مجاهد على جهادك هذا وموضوعاتك الطريفة والنافعة . وخاصة مثل هذا الموضوع الجميل فقد انتفعت به كثيراً.
وكما ذكرت أن كتب اللغة مليئة بالتفاسير البديعة كما نقلت لنا كثيراً منها بارك الله فيك .
وعندي اقتراح :
هو أن تقوم بجمعها بعد أن تصل لحلقات وتنسقها في ملف أو في كتاب تطبعه وينتفع به طلاب العلم.
أرجو لك التوفيق

أخوك
فهد
 
وللإمام ابن قيبة أقوال في التفسير تستحق الجمع والدراسة .

ومن أقواله ما أورده في كتابه تأويل مختلف الحديث حول قول الله تعالى :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) المائدة:3 ، حيث قال :
( فإن هذه الآية نزلت عليه عليه الصلاة والسلام يوم حجة الوداع ، حين أعز الله تعالى الإسلام ، وأذل الشرك ، وأخرج المشركين عن مكة ، فلم يحج في تلك السنة إلا مؤمن ، وبهذا أكمل الله تعالى الدين ، وأتم النعمة على المسلمين .
فصار كمال الدين - ههنا - عزه وظهوره ، وذل الشرك [ودروسه ].
لا تكامل الفرائض والسنن ؛ لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهكذا قال الشعبي في هذه الآية .
ويجوز أن يكون الإكمال للدين [ برفع ] النسخ عنه بعد هذا الوقت . ) انتهى المقصود نقله .ص442
 
وهذه مختارات تفسيرية متنوعة وتحتاج إلى تأمل ودراسة من كتاب المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير

[color=CC0000][frame="7 80"](واعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وثيابك فطهر ‏}‏ فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب لا الملبوس وهذا لا بد له من دليل لأنه عدول عن ظاهر اللفظ )[/frame][/color]

[frame="7 80"](وذهب بعضهم في الفرق بين التفسير والتأويل إلى شيء غير مرضي فقال‏:‏ التفسير‏:‏ بيان وضع اللفظ حقيقة كتفسير الصراط بالطريق والتأويل‏:‏ إظهار باطن اللفظ كقوله تعالى ‏"‏ إن ربك لبالمرصاد ‏"‏ فتفسيره من الرصد يقال‏:‏ رصدته ‏,‏ إذا رقبته وتأويله تحذير العابد من تعدي حدود الله ومخالفة أوامره والذي عندي في ذلك أنه أصاب في الآخر ولم يصب في الأول لأن قوله ‏"‏ التفسير بيان وضع اللفظ حقيقة ‏"‏ لا مستند لجوازه بل التفسير يطلق على بيان وضع اللفظ حقيقة ومجازاً لأنه من الفسر وهو الكشف كتفسير الرصد في الآية المشار إليها بالرقبة وتفسيره بالتحذير من تعدي حدود الله ومخالفة أوامره‏.‏
وأما التأويل فإنه أحد قسمي التفسير وذاك أنه رجوع عن ظاهر اللفظ وهو مشتق من الأول وهو الرجوع يقال‏:‏ آل يؤل إذا رجع وعلى هذا فإن التأويل خاص والتفسير عام فكل تأويل تفسير وليس كل تفسير تأويلاً . )
[/frame]

[frame="7 80"](فمثال الحقيقة والمجاز قوله تعالى ‏"‏ ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون‏.‏ حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ‏"‏ فالجلود ههنا تفسر حقيقة ومجازاً‏:‏ أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقاً وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة وهذا هو الجانب البلاغي الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه وقد يسأل ههنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز من غير الجانب البلاغي ويقال‏:‏ ما بيان هذا الترجيح فيقال‏:‏ طريقه لفظ الجلود عام فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقاً أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال الخاصة ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة شهادة باطلة إذ هي شهادة غير شاهد والشهادة غير شاهد والشهادة هنا يراد بها الإقرار فتقول اليد‏:‏ أنا فعلت كذا وكذا وتقول الرجل‏:‏ أنا مشيت إلى كذا وكذا وكذلك الجوارح الباقية تنطق مقرةً بأعمالها فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح وإذا أريد به الجوارح فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض فإن أريد به الكل دخل تحته السمع والبصر ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة وإن أريد به البعض فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح لأمرين أحدهما‏:‏ أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج فكان حمل الجلد عليه أولى ليستكمل ذكر الجميع الآخر‏:‏ أنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج فكني عنه بالجلد لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته‏.‏ فإن قيل‏:‏ إن تخصيص السمع والبصر بالذكر من باب التفصيل كقوله تعالى ‏"‏ فاكهةٌ ونخلٌ ورمانٌ ‏"‏ والنخل والرمان من الفاكهة‏.‏
قلت في الجواب هذا القول عليك لا لك لأن النخل والرمان إنما ذكر التفضيل لهما في الشكل أو في الطعم والفضيلة ههنا في ذكر الشهادة إنما هي تعظيم لأمر المعصية وغير السمع والبصر أعظم في المعصية لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة أو في سماع صوت مزمار أو وتر أو ما جرى هذا المجرى ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم وكلتا المعصيتين لا حد فيهما وأما المعاصي التي توجد من غير السمع البصر فأعظم لأن معصية اليد توجب القطع ومعصية الفرج توجب جلد مائة أو الرجم وهذا أعظم فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة‏.‏ )
[/frame]*

[frame="7 80"]( وأما مثال المعنيين إذا كان أحدهما مناسباً لمعنى تقدمه أو لمعنى تأخر عنه والآخر غير مناسب‏:‏ فالأول هو ما كان مناسباً لمعنى تقدمه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ‏}‏ فالدعاء ههنا يدل على معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ النهي أن يدعى الرسول باسمه فيقال يا محمد كما يدعو بعضهم بعضاً بأسمائهم وإنما يقال له‏:‏ يا رسول الله أو يا نبي الله الآخر‏:‏ النهي أن يجعلوا حضورهم عنده إذا دعاهم لأمر من الأمور كحضور بعضهم عند بعض بل يتأدبون معه بأن لا يفارقوا مجلسه إلا بإذنه وهذا الوجه هو المراد لمناسبة معنى الآية التي قبله وهو قوله تعالى ‏"‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه ‏"‏
أما الثاني‏:‏ وهو ما كان مناسباً لمعنى تأخر عنه فكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ والتين والزيتون وطور سينين ‏}‏ فالتين والزيتون هما هذا الشجر المعروف وهما اسما جبلين أيضاً وتأويلهما بالجبلين أولى للمناسبة بينهما وبين ما أتى بعدهما من ذكر الجبل الذي هو الطور‏.‏ )
[/frame]

هذه بعض المقتطفات ، ولها بقية ، أرجو أن ييسر الله تعالى إضافتها .
 
ولابن قدامة المقدسي أقوال كثيرة في التفسير ، وقد سجلت عدة رسائل في تفسير آيات الأحكام من كتابه المغني .

ومن أقواله في التفسير ما جاء في كتابه ذم التأويل :
(فقوله تعالى :(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ) [آل عمران:7] . فذم مبتغي تأويل المتشابه ، وقرنه بمبتغي الفتنة في الذم ثم أخبر أنه لا يعلم تأويله غير الله تعالى ، فإن الوقف الصحيح عند أكثر أهل العلم على قوله :(إلا الله ) ولا يصح قول من زعم أن الراسخين يعلمون تأويله لوجوه :

أحدها : أن الله ذم مبتغي التأويل ، ولو كان معلوما للراسخين لكان مبتغيه ممدوحا غير مذموم .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فهم الذين عنى الله فاحذروهم ) . يعني كل من اتبع المتشابه فهو من الذين في قلوبهم زيغ ، فلو علمه الراسخون لكانوا باتباعه مذمومين زائغين ، والآية تدل على مدحهم ، والتفريق بينهم وبين الذين في قلوبهم زيغ ، وهذا تناقض .
الثالث : أن الآية تدل على أن الناس قسمان ، لأنه قال : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } ، وأما لتفصيل الجمل ، فهي دالة على تفصيل فصلين أحدهما : الزائغون المتبعون للمتشابه ، والثاني : الراسخون في العلم . ويجب أن يكون كل قسم مخالفا للآخر فيما وصف به ، فيلزم حينئذ أن يكون الراسخون مخالفين للزائغين في ترك اتباع المتشابه مفوضين إلى الله تعالى بقولهم : آمنا به كل من عند ربنا ، تاركين لابتغاء تأويله . وعلى قولنا يستقيم هذا المعنى ، ومن عطف الراسخين في العلم أخل بهذا المعنى ، ولم يجعل الراسخين قسما آخر ، ولا مخالفين للقسم المذموم فيما وصفوا به فلا يصح .
الرابع : أنه لو أراد العطف لقال : ويقولون ( بالواو ) لأن التقدير : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون .
الخامس : أن قولهم { آمنا به كل من عند ربنا } كلام يشعر بالتفويض والتسليم لما لم يعلموه لعلمهم بأنه من عند ربهم ، كما أن المحكم المعلوم معناه من عنده .
السادس : أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا رأوا من يتبع المتشابه ، ويسأل عنه ، استدلوا على أنه من أهل الزيغ . ولذلك عد عمر صبيغا من الزائغين ، حتى استحل ضربه وحبسه ، وأمر الناس بمجانبته ، ثم أقرأ صبيغ بعد بصدق عمر في فراسته فتاب وأقلع وانتفع ، وعصم بذلك من الخروج مع الخوارج ، ولو كان معلوما للراسخين لم يجز ذلك .
السابع : أنه لو كان معلوما للراسخين لوجب أن لا يعلمه غيرهم ، لأن الله تعالى نفى علمه عن غيرهم ، فلا يجوز حينئذ أن يتناول إلا من ثبت أنه من الراسخين ، ويحرم التأويل على العامة كلهم والمتعلمين الذين لم ينتهوا إلى درجة الرسوخ ، والخصم في هذا يجوز التأويل لكل أحد ، فقد خالف النص على كل تقدير .

فثبت بما ذكرناه من الوجوه : أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ، وأن متبعه من أهل الزيغ ، وأنه محرم على كل أحد .) انتهى
 
وهذا نص من كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائرتأليفأحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي
فيه تعليق على بعض الآيات ، وتصحيح لبعض الفهوم الخاطئة ؛ قال رحمه الله :

( وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } رُبَّمَا فَهِمَ مِنْهُ بَعْضُ مَنْ لَا تَأَمُّلَ لَهُ أَنَّ فِيهِ رَجَاءً عَظِيمًا ، وَأَيُّ رَجَاءٍ عَظِيمٍ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ تَعَالَى شَرَطَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي مَغْفِرَتِهِ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ : التَّوْبَةَ وَالْإِيمَانَ الْكَامِلَ الْمُرَادَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ ، ثُمَّ سُلُوكَ سَبِيلِ الْمُهْتَدِينَ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُهُودِهِ ، وَإِدَامَةِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْإِقْبَالِ بِالْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَالِهِ وَحَالِهِ وَدُعَائِهِ وَإِخْلَاصِهِ .

وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ } ، وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا قِيلَ : ( عَسَى ) : مِنْ اللَّهِ وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْثَرِيٌّ لَا كُلِّيٌّ . قَالَ تَعَالَى : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } ، وَفِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَلَمْ يَخْشَ تَذَكُّرًا وَخَشْيَةً نَافِعَيْنِ لَهُ ، بَلْ نَبَّهَك اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّك إذَا تُبْت تَوْبَةً نَصُوحًا وَآمَنْت إيمَانًا كَامِلًا وَعَمِلْت صَالِحًا كُنْت عَلَى رَجَاءِ حُصُولِ الْفَلَاحِ لَك وَالْهِدَايَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ حَضْرَةِ الْحَقِّ ؛ فَإِيَّاكَ وَأَنْ تَأْمَنَ مَكْرَ اللَّهِ وَإِنْ وَصَلْتَ إلَى مَا وَصَلْتَ . { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } وَاسْتَحْضِرْ قَوْله تَعَالَى : { لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ } وَقَوْلَهُ : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّك إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } الْآيَةَ ، وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّك حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } وَقَوْلَهُ : { وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } وَقَوْلَهُ : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلَّا فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلَهُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَقَوْلَهُ : { وَالْعَصْرِ إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } . فَانْظُرْ بِعَيْنِ بَصِيرَتِك وَنُورِ سَرِيرَتِك إلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ إذْ أَلْ فِيهِ لِلْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَنَّهُ خَاسِرٌ إلَّا مَنْ جَمَعَ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ فَإِنَّهُ الَّذِي يَنْجُو مِنْ الْخُسْرَانِ الْمُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ : الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ بِأَنْ يَتَلَبَّسُوا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالْأَحْكَامِ وَالشُّرُوطِ فِي سَائِرِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَلَا يُوجَدُ مِنْهَا شَيْءٌ إلَّا وَقَدْ أَخْلَصُوا فِيهِ وَابْتَغَوْا بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَحْدَهُ ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الطَّاعَاتِ وَمَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ الْمَكَارِهِ وَالْبَلِيَّاتِ ، وَعَنْ الْمَعَاصِي وَمَا لَهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ ، فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا ذَكَرْنَا كَانَ عَلَى رَجَاءٍ عَظِيمٍ مِنْ السَّلَامَةِ مِنْ الْخَسَارِ وَالْعَارِ وَالشَّنَارِ وَالْبَوَارِ ، وَمِنْ الْوُصُولِ إلَى شُهُودِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ ، وَالْفَوْزِ بِرِضَاهُ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ ، حَقَّقَ اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .) انتهى المراد نقله
 
ومن أقوال ابن حجر الهيتمي في كتابه السابق :

( قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ : نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَقِيلَ فِي الْيَهُودِ لِكَتْمِهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ ، وَقِيلَ : إنَّهَا عَامَّةٌ ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ ، وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ ، وَكِتْمَانُ الدِّينِ يُنَاسِبُ اسْتِحْقَاقَ اللَّعْنِ ؛ فَوَجَبَ عُمُومُ الْحُكْمِ عِنْدَ عُمُومِ الْوَصْفِ ، وَقَدْ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْعُمُومِ كَعَائِشَةَ فَإِنَّهَا اسْتَدَلَّتْ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إلَيْهِ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ وَنَحْوُهَا مَا كَثُرَ الْحَدِيثُ ، وَالْكَتْمُ تَرْكُ إظْهَارِ الشَّيْءِ الْمُحْتَاجِ إلَى إظْهَارِهِ ، وَنَظِيرُهَا { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } وَنَظِيرُهَا أَيْضًا : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } فَهَاتَانِ ، وَإِنْ كَانَتَا فِي الْيَهُودِ أَيْضًا لِكَتْمِهِمْ صِفَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَهَا إلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَقَرَّرَ : وَالْبَيِّنَاتِ : مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْكُتُبِ وَالْوَحْيِ . وَالْهُدَى : الْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ ، وَمِنْ بَعْدِ : ظَرْفٌ لَيَكْتُمُونَ ، لَا لَأَنْزَلْنَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى .

قِيلَ : وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لِمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا ثُمَّ تَرَكَهَا أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَقَدْ لَحِقَهُ هَذَا الْوَعِيدُ انْتَهَى ؛ وَاللَّعْنَةُ لُغَةً الْإِبْعَادُ ، وَشَرْعًا الْإِبْعَادُ مِنْ الرَّحْمَةِ ، اللَّاعِنُونَ : دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا تَقُولُ : مُنِعْنَا الْقَطْرَ لِمَعَاصِي بَنِي آدَمَ ، وَلِإِدْرَاكِهَا ذَلِكَ جُمِعَتْ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ نَحْوُ { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } { أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْجِنَّ ، وَالْإِنْسَ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ ، الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ ، أَقْوَالٌ . وَصَوَّبَ الزَّجَّاجُ أَنَّهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ . وَرُدَّ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى نَصٍّ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَرَدَّهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ خَبَرٌ فِي ابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ اللَّاعِنُونَ بِدَوَابِّ الْأَرْضِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ : هُمْ جَمِيعُ عِبَادِ اللَّهِ . قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكِتْمَانَ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ فِيهِ اللَّعْنَ ، وَالنَّبْذَ وَرَاءَ الظَّهْرِ كِنَايَةً عَنْ الْإِعْرَاضِ الشَّدِيدِ ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنْ سَفَلَتِهِمْ بِرِئَاسَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ ، { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } مَعْنَاهُ قَبُحَ شِرَاؤُهُمْ وَخَسِرُوا فِيهِ .)
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ، و الصلاة والسلام على خير البريات ، وبعد
الشيخ الفاضل أبو مجاهد العبيدى :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وجزاك الله خير الجزاء على هذه الدراسات القيمة ، و اعتذر على مداخلتى فما ينبغى لمثلى ان يقطع عليكم هذه السلسلة المباركة ، و لكن احببت أن أشير إلى أنه من الكتب المهمة فى هذا الشأن كتب البلاغة العربية و منها على سبيل المثال كتاب (أسرار البلاغة)للإمام عبدالقاهر الجرجانى المتوفى سنة 471هجريةفعلى طول الكتاب احسن الإمام عبدالقاهر التعرض لآيات القرآن الكريم بالإستشهاد على القضايا البلاغية ولم يخل هذا من التعرض لتفسير الآيات خاصة عند التحدث عن المجاز و الحقيقة ، فتراه يتكلم عن معنى اليد فى الحقيقة والمجاز ويتعرض لآيات :(يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله ) ، ( و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ).
وكذلك حديثه عن التشبيه العقلى مستشهدا عليه بقول الله (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ). و قد أحسنت إذ نبهت إلى ان فى غير كتب التفسير أقوالا فى التفسير جديرة بالدراسة و النظر ،
وفقنى الله و إياك إلى ما يحب ويرضى .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد محمود على أحمد
ليسانس لغة عربية
 
ومن أقوال ابن حجر الهيتمي في كتابه السابق :

( قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بِالْعُهُودِ ، وَهِيَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، وَحَرَّمَ ، وَمَا فَرَضَ ، وَمَا حَدَّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الضَّحَّاكُ هِيَ الَّتِي أَخَذَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يُوَافُوا بِهَا مِمَّا أَحَلَّ وَحَرَّمَ وَمِمَّا فَرَضَ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ إنَّهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ . أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْكُمْ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } ، وَمِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ : أَرَادَ بِهَا الْحِلْفَ الَّذِي تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ).
 
بسم الله الرحمن الرحيم

ومن الأئمة الذين لهم أقوال تفسيرية تستحق الدراسة : عبدالرحيم العراقي ؛ فله أقوال كثيرة في التفسير في كتابه طرح التثريب.
ولو جمعها باحث وقام بدراستها لكان ذلك نافعاً صالحاً لرسالة ماجستير.

ومن أقواله في الكتاب المشار إليه على سبيل المثال:

1- ( فَإِنْ قُلْت دَعَا السَّيِّدُ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ بِالْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } قَالَ قَتَادَةُ لَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ أَحَدٌ إلَّا يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَكَامَلَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ ، وَجُمِعَ لَهُ الشَّمْلُ اشْتَاقَ إلَى لِقَاءِ رَبِّهِ قُلْت الْمُخْتَارُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّ مُرَادَهُ تَوَفَّنِي عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِي مُسْلِمًا ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ اسْتِعْجَالَ الْمَوْتِ ...)


2- ( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ , أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا

( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ......

( الثَّانِيَةُ ) تَبَيَّنَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ , أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا هِيَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَهَذَا يَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَحَكَاهُ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَطِيَّةَ الْمُفَسِّرُ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ التَّأْوِيلَ , ثُمَّ قَالَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا إحْدَى ثَلَاثٍ إمَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَإِمَّا خُرُوجُ الدَّابَّةِ وَإِمَّا خُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَالَ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ تَرُدُّهُ وَتُخَصِّصُ الشَّمْسَ ( قُلْت ) وَقَدْ عَرَفْت رِوَايَةَ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَهِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَهِيَ مُشْبِهَةٌ لِهَذَا الْمَحَلِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إلَّا أَنَّ فِيهَا بَدَلَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ; خُرُوجَ الدَّجَّالِ وَزَمَنُهُمَا مُتَقَارِبٌ لَكِنْ فِي كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ اسْتِقْلَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ بِذَلِكَ وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ تَرَتُّبُ ذَلِكَ عَلَى مَجْمُوعِهَا , وَفِي ثُبُوتِ ذَلِكَ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ إشْكَالٌ فَإِنَّ نُزُولَ عِيسَى بَعْدَ ذَلِكَ , وَهُوَ زَمَنُ خَيْرٍ كَثِيرٍ دُنْيَوِيٍّ وَأُخْرَوِيٍّ , وَالظَّاهِرُ قَبُولُ التَّوْبَةِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيُقَوِّي النَّظَرَ أَيْضًا أَنَّ الْغَرْغَرَةَ هِيَ الْآيَةُ الَّتِي تُرْفَعُ مَعَهَا التَّوْبَةُ ( قُلْت ) حَالَةُ الْغَرْغَرَةِ تُشَارِكُ حَالَةَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ وَإِذَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .......

( الثَّالِثَةُ ) بَيَّنَ النَّبِيُّ كَيْفِيَّةَ طُلُوعِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا , وَهُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ , وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَقَالَ أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ , قَالَ إنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِي وَارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْت فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مُطْلِعِهَا , ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَالِك تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهَا ارْتَفِعِي اصْبَحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِك فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا , تَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ ذَاكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا , فَقَالَ جَمَاعَةٌ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلُ إذَا غَرَبَتْ كُلَّ يَوْمٍ اسْتَقَرَّتْ تَحْتَ الْعَرْشِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ مَعْنَاهُ تَجْرِي إلَى وَقْتٍ لَهَا وَأَجَلٍ لَا تَتَعَدَّاهُ قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَعَلَى هَذَا مُسْتَقَرُّهَا انْتِهَاءُ سَيْرِهَا عَنْ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ تَسِيرُ فِي مَنَازِلِهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مُسْتَقَرِّهَا الَّتِي لَا تُجَاوِزُهُ , ثُمَّ تَرْجِعُ إلَى أَوَّلِ مَنَازِلِهَا وَاخْتَارَ ابْنُ قُتَيْبَةَ هَذَا الْقَوْلَ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ لَمُسْتَقَرَّ لَهَا أَيْ إنَّهَا جَارِيَةٌ أَبَدًا لَا تَثْبُتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ( قُلْت ) كَيْفَ يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ صَرِيحِ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ وَمَا مُسْتَنَدُ الْعَادِلِينَ عَنْهُ إلَّا كَلَامُ أَهْلِ الْهَيْئَةِ وَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ قَوْلِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْأَخْبَارِ عَنْ الْمَغِيبَاتِ فَكَيْفَ , وَقَدْ عَارَضَهُ كَلَامُ أَصْدَقِ الْخَلْقِ وَأَعْرَفِهِمْ بِرَبِّهِ وَبِأَحْوَالِ الْغَيْبِ , وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَيْسَتْ حُجَّةً عَلَى الْمَشْهُورِ فَكَيْفَ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ فِي الْمَعْنَى لِلْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ , وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الصَّحِيحَيْنِ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا قَالَ مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا التَّفْسِيرِ الْبَيِّنِ الْعُدُولُ عَنْهُ
.......
( الْخَامِسَةُ ) مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنْفَعُهُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا الْإِيمَانُ وَأَنَّ الْعَاصِيَ لَا يَنْفَعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْبَةُ وَاكْتِسَابُ الْخَيْرِ بَلْ يُخْتَمُ عَلَى أَحَدٍ بِالْحَالَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلُهُ , أَوْ كَسَبْتِ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا يُرِيدُ جَمِيعَ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا . )​
 
جزاك الله خيراً أبا مجاهد , وليتك تتكرم بوضع ما اقترحته من موضوعات صالحة للبحث , في المشاركة المخصصة لذلك , فأخشى أن يذهب هذا المقترح مع الوقت , فلا يستفاد منه .
 
المنتقى - شرح الموطأ - (ج 1 / ص 25)
حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِك عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَفَلَ مِنْ خَيْبَرَ أَسْرَى حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ عَرَّسَ وَقَالَ لِبِلَالٍ اكْلَأْ لَنَا الصُّبْحَ وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَكَلَأَ بِلَالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ ثُمَّ اسْتَنَدَ إِلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْفَجْرِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِلَالٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الرَّكْبِ حَتَّى ضَرَبَتْهُمْ الشَّمْسُ فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بِلَالٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَادُوا فَبَعَثُوا رَوَاحِلَهُمْ وَاقْتَادُوا شَيْئًا ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ ثُمَّ قَالَ حِينَ قَضَى الصَّلَاةَ مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي }.

جاء في الشرح : ( وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي تَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَأَخَذَهُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ الْأَمْرَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ وَأَنَّ هَذَا مِمَّا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ فِيهِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي فَقَالَ مُجَاهِدٌ مَعْنَاهُ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي فِيهَا وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَقِمْ الصَّلَاةَ لِأَنْ أَذْكُرَك بِالْمَدْحِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَقِمْ الصَّلَاةَ إِذَا ذَكَرْتنِي وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَقِمْ حِينَ تَذْكُرُهَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا أَبْيَنُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِذِكْرِي غَيْرَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ إِذَا ذَكَرَهَا لَمَا صَحَّ احْتِجَاجُهُ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ.)



تنبيه : الأقوال التفسيرية من هذا الكتاب كثيرة ؛ فهي جديرة بالجمع الدراسة.
 
[frame="1 80"][align=justify]تنبيه مهم للباحثين : كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي كتاب ملئ بالأقوال التفسيرية، كما أن لمؤلفه ترجيحات وتنبيهات مفيدة؛ فهو جدير بالبحث والدراسة، وهو يصلح بحثاً للماجستير أو للدكتوراه.[/frame]

وهذا نقل مهم من كتابه المشار إليه ، وهو من أفضل ما قرأت في تفسير آية السحر :

( قَالَ - تَعَالَى - : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ‏وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ ‏وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا ‏يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا ‏يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا ‏بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } .‏
فِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَلَالَاتٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى قُبْحِ السِّحْرِ وَأَنَّهُ إمَّا كُفْرٌ أَوْ كَبِيرَةٌ كَمَا يَأْتِي فِي ‏الْأَحَادِيثِ .‏
وَقَدْ وَسَّعَ الْمُفَسِّرُونَ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَرَدْت تَلْخِيصَهُ لِكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ وَعَظِيمِ ‏جَدْوَاهُ .‏
قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا } مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ " وَلَمَّا جَاءَهُمْ " إلَخْ ،وَزَعْمُ خِلَافِهِ ‏فَاسِدٌ.‏
و"َمَا " مَوْصُولَةٌ وَزَعْمُ أَنَّهَا نَافِيَةٌ غَلَطٌ.‏
‏ و"َتَتْلُوا " بِمَعْنَى تَلَتْ، وَ " عَلَى " بِمَعْنَى فِي : أَيْ فِي زَمَنِ مُلْكِهِ : أَيْ شَرْعِهِ ، أَوْ ‏تَتْلُوا مُضَمَّنٌ تَتَقَوَّلُ : أَيْ مَا تَتَقَوَّلُهُ وَتَكْذِبُ بِهِ عَلَى شَرْعِهِ ، وَهَذَا أَوْلَى إذْ التَّجَوُّزُ فِي ‏الْأَفْعَالِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْحُرُوفِ ، وَأَحْوَجَ إلَى ذَلِكَ أَنَّ " تَلَا " إذَا تَعَدَّى بِعَلَى يَكُونُ ‏الْمَجْرُورُ بِهَا مَتْلُوًّا عَلَيْهِ وَالْمُلْكُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ : يُقَالُ تَلَا عَلَيْهِ إذَا ‏كَذَبَ ، وَعَنْهُ إذَا صَدَقَ فَإِنْ أُطْلِقَ جَازَ الْأَمْرَانِ .‏
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ : وَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّ الَّذِي كَانُوا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ مَا يُتْلَى وَيُقْرَأُ ، ‏فَتَجْتَمِعُ كُلُّ الْأَوْصَافِ وَالتِّلَاوَةُ الِاتِّبَاعُ أَوْ الْقِرَاءَةُ وَهَذَا فِي الْيَهُودِ ، قِيلَ الَّذِينَ كَانُوا ‏فِي زَمَنِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقِيلَ : الَّذِي كَانُوا فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ مِنْ ‏السَّحَرَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ وَيَعُدُّونَهُ مِنْ جُمْلَةِ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ‏مُلْكَهُ نَشَأَ عَنْ السِّحْرِ ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْفِرْقَتَيْنِ .‏
قَالَ السُّدِّيُّ : عَارَضُوا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْرَاةِ فَوَافَقَتْ الْقُرْآنَ فَفَرُّوا إلَى ‏السِّحْرِ الْمَنْقُولِ عَنْ آصَفَ وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ فَهَذَا هُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ ‏رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ ‏وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } إلَخْ .‏
وَالشَّيَاطِينُ هُنَا مَرَدَةُ الْجِنِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنْ السَّمَاءِ وَيَضُمُّونَ إلَيْهِ ‏أَكَاذِيبَ يُلْقُونَهَا إلَى الْكَهَنَةِ فَدَوَّنُوهَا فِي كُتُبٍ ، وَعَلَّمُوهَا النَّاسَ ، وَفَشَا ذَلِكَ فِي زَمَنِ ‏سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالُوا إنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ وَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ وَمَا ‏تَمَّ مُلْكُهُ إلَّا بِهِ وَسَحَرَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالطَّيْرَ وَالرِّيحَ الَّتِي تَجْرِي بِأَمْرِهِ وَمَرَدَةَ الْجِنِّ ؛ ‏لِمَا رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ كَانَ قَدْ دَفَنَ كَثِيرًا مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي ‏خَصَّهُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهَا تَحْتَ سَرِيرِ مُلْكِهِ خَوْفًا عَلَى أَنَّهُ إنْ هَلَكَ الظَّاهِرُ مِنْ تِلْكَ ‏الْعُلُومِ يَبْقَى هَذَا الْمَدْفُونُ مِنْهَا فَبَعْدَ مُدَّةٍ تَوَصَّلَ مُنَافِقُونَ إلَى أَنْ كَتَبُوا فِي خِلَالِهَا أَشْيَاءَ ‏مِنْ السِّحْرِ تُنَاسِبُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَى تِلْكَ ‏الْكُتُبِ أَوْهَمُوا النَّاسَ أَنَّهُ مِنْ عَمَلِ سُلَيْمَانَ وَأَنَّهُ مَا وَصَلَ إلَى مَا وَصَلَ إلَّا بِهِ .‏
ثُمَّ إضَافَتُهُمْ السِّحْرَ لِسُلَيْمَانَ إمَّا لِتَفْخِيمِ شَأْنِ السِّحْرِ لِتَقْبَلَهُ النَّاسُ ، وَإِمَّا لِقَوْلِ الْيَهُودِ ‏إنَّهُ مَا وُجِدَ ذَلِكَ الْمُلْكُ إلَّا بِالسِّحْرِ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمَّا سُخِّرَ لَهُ مَا مَرَّ كَالْجِنِّ وَكَانَ ‏يُخَالِطُهُمْ وَيَسْتَفِيدُ مِنْهُمْ أَسْرَارًا عَجِيبَةً غَلَبَ عَلَى الظُّنُونِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ - حَاشَاهُ اللَّهُ ‏مِنْ ذَلِكَ - اسْتَفَادَ السِّحْرَ مِنْهُمْ وَذَلِكَ السِّحْرُ كُفْرٌ فَلِذَلِكَ بَرَّأَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ ‏‏: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُمْ نَسَبُوهُ لِلْكُفْرِ كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَحْبَارِ ‏الْيَهُودِ أَنَّهُمْ قَالُوا أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ نَبِيًّا وَمَا كَانَ سَاحِرًا .‏
وَرُوِيَ أَنَّ سَحَرَةَ الْيَهُودِ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَخَذُوا السِّحْرَ عَنْ سُلَيْمَانَ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ ‏وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْكُفْرَ الْقَبِيحَ إنَّمَا هُوَ لَاحِقٌ بِهِمْ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ ‏كَفَرُوا }. ‏
وَالسِّحْرُ : لُغَةً كُلُّ مَا لَطَفَ وَدَقَّ ، مِنْ سَحَرَهُ إذَا أَبْدَى لَهُ أَمْرًا فَدَقَّ عَلَيْهِ وَخَفِيَ ، ‏وَمِنْهُ : { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } وَهُوَ مَصْدَرٌ شَاذٌّ إذْ لَمْ يَأْتِ مَصْدَرٌ لِفِعْلِ ‏يَفْعَلُ بِفَتْحِ عَيْنِهِ فِيهِمَا عَلَى فِعْلٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ إلَّا هَذَا وَفَعَلَ .‏
وَالسَّحْرُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الْغِذَاءُ لِخَفَائِهِ وَالرِّئَةُ وَمَا تَعَلَّقَ بِالْحُلْقُومِ وَهُوَ يَرْجِعُ لِمَعْنَى الْخَفَاءِ ‏أَيْضًا ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي } ، وقَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ } مَعْنَاهُ مِنْ ‏الْمَخْلُوقِينَ الَّذِي يُطْعَمُونَ وَيَشْرَبُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { مَا أَنْتَ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا } أَيْ وَمَا ‏أَنْتَ إلَّا ذُو سِحْرٍ مِثْلُنَا .‏
وَشَرْعًا : يَخْتَصُّ بِكُلِّ أَمْرٍ يَخْفَى سَبَبُهُ وَعُمِلَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ ، وَيَجْرِي مَجْرَى ‏التَّمْوِيهِ وَالْخِدَاعِ ، وَحَيْثُ أُطْلِقَ فَهُوَ مَذْمُومٌ ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا فِيمَا يَنْفَعُ وَيُمْدَحُ ، ‏وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا } .....‏

قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : أَظْهَرُهَا أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ ‏عَطْفًا عَلَى السِّحْرِ : أَيْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَالْمُنَزَّلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ .‏
وَقِيلَ: نَافِيَةٌ ، أَيْ : وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إبَاحَةُ السِّحْرِ . ‏
وَقِيلَ مَوْصُولَةٌ مَحَلُّهَا جُرَّ عَطْفًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ؛ لِأَنَّ عَطْفَهَا عَلَى السِّحْرِ يَقْتَضِي ‏أَنَّ السِّحْرَ نَازِلٌ عَلَيْهِمَا ، فَيَكُونُ مُنْزِلُهُ هُوَ اللَّهُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ فِي ‏الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُبْعَثُوا لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَالْمَلَائِكَةُ أَوْلَى ، وَكَيْفَ يُضَافُ إلَى اللَّهِ مَا هُوَ كُفْرٌ ؟ ‏وَإِنَّمَا يُضَافُ لِلْمَرَدَةِ وَالْكَفَرَةِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ نَسَبُوا السِّحْرَ إلَى مُلْكِ ‏سُلَيْمَانَ وَالْمُنَزَّلِ عَلَى الْمَلَكَيْنِ مَعَ أَنَّ مُلْكَهُ وَالْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمَا بَرِيئَانِ مِنْ السِّحْرِ بَلْ ‏الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِمَا هُوَ الشَّرْعُ وَالدِّينُ .‏
وَكَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ قَبُولَهُ وَالتَّمَسُّكَ بِهِ ، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ تَتَمَسَّكُ وَأُخْرَى تُخَالِفُ .‏
انْتَهَى .‏
وَاعْتَرَضَهُ الْفَخْرُ بِأَنَّ عَطْفَهُ عَلَى " مُلْكٍ " بَعِيدٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ .‏
وَزَعَمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَازِلًا عَلَيْهِمَا لَكَانَ مُنْزِلُهُ هُوَ اللَّهُ لَا يَضُرُّ ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ صِفَةِ الشَّيْءِ ‏قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ التَّرْغِيبِ فِيهِ حَتَّى يُوجِدَهُ الْمُكَلِّفُ ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ التَّنْفِيرِ عَنْهُ حَتَّى ‏يُحْتَرَزُ عَنْهُ كَمَا قِيلَ : عَرَفْت الشَّرَّ لَا لِلشَّرِّ بَلْ لِتَوَقِّيهِ .‏
وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ لِتَعْلِيمِهِ لَا يُؤَثِّرُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا تَعْلِيمُ فَسَادِهِ ‏وَإِبْطَالِهِ ، وَزَعْمُ أَنَّ تَعْلِيمَهُ كُفْرٌ مَمْنُوعٌ ، وَبِتَسْلِيمِهِ هِيَ وَاقِعَةُ حَالٍ يَكْفِي فِي صِدْقِهَا ‏صُورَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَزَعْمُ أَنَّهُ إنَّمَا يُضَافُ لِلْمَرَدَةِ وَالْكَفَرَةِ إنَّمَا يَصِحُّ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْعَمَلُ لَا ‏التَّعْلِيمُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَتَعْلِيمُهُ لِغَرَضِ التَّنْبِيهِ عَلَى فَسَادِهِ مَأْمُورٌ بِهِ. ‏وَمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُمَا مَلَكَانِ هُوَ الْأَصَحُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ .‏
وَقُرِئَ شَاذًّا بِكَسْرِ اللَّامِ فَيَكُونَانِ إنْسِيَّيْنِ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ . ‏
وَالْبَاءُ فِي بِبَابِلَ مَعْنًى فِي ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ قِيلَ لِتَبَلْبُلِ أَلْسِنَةِ الْخَلْقِ بِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - ‏تَعَالَى - أَمَرَ رِيحًا فَحَشَرَتْهُمْ بِهَذِهِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَدْرِ أَحَدُهُمْ مَا يَقُولُ الْآخَرُ ، ثُمَّ فَرَّقَهُمْ ‏الرِّيحُ فِي الْبِلَادِ فَتَكَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ بِلُغَةٍ ، وَالْبَلْبَلَةُ : التَّفْرِقَةُ ، وَقِيلَ لَمَّا أَرْسَتْ سَفِينَةُ ‏نُوحٍ بِالْجُودِيِّ نَزَلَ فَبَنَى قَرْيَةً وَسَمَّاهَا ثَمَانِينَ بِاسْمِ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ فَأَصْبَحَ ذَاتَ يَوْمٍ ‏وَقَدْ تَبَلْبَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى ثَمَانِينَ لُغَةً ، وَقِيلَ لِتَبَلْبُلِ أَلْسِنَةِ الْخَلْقِ بِهَا عِنْدَ سُقُوطِ صَرْحِ ‏نُمْرُوذَ ، وَهِيَ بَابِلُ الْعِرَاقِ .‏
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : بَابِلُ أَرْضُ الْكُوفَةِ .‏
وَالْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ تَاءِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَهُمَا بِنَاءً عَلَى فَتْحِ لَامِ الْمَلَكَيْنِ بَدَلٌ مِنْهُمَا ‏، وَقِيلَ مِنْ النَّاسِ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ .‏
وَقِيلَ بَلْ هُمَا بَدَلٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ ، وَقِيلَ نَصْبًا عَلَى الذَّمِّ : أَيْ أَذُمُّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْ ‏بَيْنِ الشَّيَاطِينِ كُلِّهَا ، وَمَنْ كَسَرَ لَامَهُمَا أَجْرَى فِيهِمَا مَا ذُكِرَ ، نَعَمْ إنْ فُسِّرَ الْمَلَكَانِ ‏بِدَاوُد وَسُلَيْمَانَ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَجَبَ فِي هَارُوتَ وَمَارُوتَ أَنْ يَكُونَا بَدَلًا ‏مِنْ الشَّيَاطِينِ أَوْ النَّاسِ وَعَلَى فَتْحِ اللَّامِ قِيلَ هُمَا مَلَكَانِ مِنْ السَّمَاءِ اسْمُهُمَا هَارُوتُ ‏وَمَارُوتُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِلتَّصْرِيحِ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ... ‏
وَقِيلَ هُمَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ ، وَعَلَى كَسْرِهَا قِيلَ ‏هُمَا قَبِيلَتَانِ مِنْ الْجِنِّ ، وَقِيلَ دَاوُد وَسُلَيْمَانُ ، وَقِيلَ رَجُلَانِ صَالِحَانِ ؛ وَقِيلَ رَجُلَانِ ‏سَاحِرَانِ ، وَقِيلَ عِلْجَانِ أَقْلَفَانِ بِبَابِلَ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ.‏
‏ وَيُعَلِّمَانِ عَلَى بَابِهِ مِنْ التَّعْلِيمِ ، وَقِيلَ يُعَلِّمَانِ مِنْ أَعْلَمَ إذْ الْهَمْزَةُ وَالتَّضْعِيفُ يَتَعَاقَبَانِ ‏إذْ الْمَلَكَانِ لَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ إنَّمَا يُعْلِمَانِ بِقُبْحِهِ .‏
وَمِمَّنْ حَكَى أَنْ يُعَلِّمُ بِمَعْنَى أَعْلَمَ ابْنَا الْأَعْرَابِيِّ وَالْأَنْبَارِيِّ ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ ‏الْمَلَائِكَةِ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَلِيقُ بِهِمْ تَعْلِيمُ السِّحْرِ ، وَبِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { وَلَوْ ‏أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ } وَبِأَنَّهُمَا لَوْ نَزَلَا فِي صُورَتَيْ رَجُلَيْنِ كَانَ تَلْبِيسًا ‏وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَإِلَّا لَجَازَ فِي كُلِّ مَنْ شُوهِدَ مِنْ آحَادِ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رَجُلًا حَقِيقَةً ‏لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوَّلًا فِي صُورَتَيْ رَجُلَيْنِ نَافَى قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ ‏مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا } .‏
وَيُجَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَحْذُورَ تَعْلِيمُهُ لِلْعَمَلِ بِهِ لَا لِبَيَانِ فَسَادِهِ .‏
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا رَسُولًا دَاعِيًا إلَى النَّاسِ لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا حَتَّى ‏يُمْكِنَهُمْ الْأَخْذُ عَنْهُ وَالتَّلَقِّي مِنْهُ ، وَمَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا مَحْذُورَ فِي كَوْنِ الْمَلَكِ عَلَى ‏غَيْرِ صُورَةِ الرَّجُلِ .‏
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّا نَخْتَارُ أَنَّهُمَا لَيْسَا فِي صُورَتَيْ رَجُلَيْنِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ذَلِكَ وَتِلْكَ الْآيَةِ ‏كَمَا بَيَّنَّاهُ ، وَعَلَى أَنَّهُمَا فِي صُورَةِ رَجُلٍ فَإِنَّمَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَى كُلِّ ذَاتٍ بِأَنَّهُمَا مَلَكٌ ‏فِي زَمَنٍ يَجُوزُ فِيهِ إنْزَالُ الْمَلَائِكَةِ ، كَمَا أَنَّ صُورَةَ دِحْيَةَ مَنْ كَانَ يَرَاهَا بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّ ‏جِبْرِيلَ يَنْزِلُ فِيهَا لَا يَقْطَعُ بِأَنَّهَا صُورَةُ دِحْيَةَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا جِبْرِيلُ ، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ ‏الْمُفَسِّرِينَ عَنْ تِلْكَ الْحُجَجِ بِمَا لَا يُجْدِي بَلْ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ .‏
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا لِهَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ قِصَّةً عَظِيمَةً طَوِيلَةً ، حَاصِلُهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ‏لَمَّا اعْتَرَضُوا بِقَوْلِهِمْ { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } وَمَدَحُوا أَنْفُسَهُمْ ‏بِقَوْلِهِمْ : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِك وَنُقَدِّسُ لَك } أَرَاهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى - مَا يَدْفَعُ ‏دَعْوَاهُمْ ، فَرَكَّبَ فِي هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْهُمْ شَهْوَةً ، وَأَنْزَلَهُمَا حَاكِمَيْنِ فِي الْأَرْضِ ‏فَافْتُتِنَا بِالزَّهْرَةِ مُثِّلَتْ لَهُمَا مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ فَلَمَّا وَقَعَا بِهَا خُيِّرَا بَيْنَ عَذَابَيْ الدُّنْيَا ‏وَالْآخِرَةِ ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا فَهُمَا يُعَذَّبَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .‏
وَنَازَعَ جَمَاعَةٌ فِي أَصْلِ ثُبُوتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بَلْ ‏صِحَّتُهُ بِهَا ......‏
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَالْحِكْمَةُ فِي إنْزَالِهِمَا أُمُورٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ السَّحَرَةَ كَثُرَتْ فِي ذَلِكَ ‏الزَّمَنِ وَاسْتَنْبَطَتْ أَنْوَاعًا عَجِيبَةً غَرِيبَةً فِي النُّبُوَّةِ ، وَكَانُوا يَدْعُونَهَا وَيَتَّحِدُونَ النَّاسَ بِهَا ‏، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْمَلَكَيْنِ ؛ لِيُعَلِّمَا النَّاسَ السِّحْرَ حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنْ مُعَارَضَةِ أُولَئِكَ السَّحَرَةِ ‏الْمُدَّعِينَ لِلنُّبُوَّةِ كَذِبًا وَهَذَا غَرَضٌ ظَاهِرٌ .‏
ثَانِيهَا : أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْمُعْجِزَ مُخَالِفٌ لِلسِّحْرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ مَاهِيَّتِهِمَا وَالنَّاسُ كَانُوا ‏جَاهِلِينَ مَاهِيَّةَ السِّحْرِ فَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ السِّحْرِ ، فَبَعَثَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ ‏لِتَعْرِيفِ مَاهِيَّةِ السِّحْرِ لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ .‏
ثَالِثُهَا : لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ السِّحْرَ الَّذِي يُوقِعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللَّهِ ، وَالْأُلْفَةَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ‏كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَنْدُوبًا فَبَعَثَهُمَا اللَّهُ لِتَعْلِيمِهِ لِهَذَا الْغَرَضِ ، فَتَعَلَّمَ الْقَوْمُ ذَلِكَ ‏مِنْهُمَا وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الشَّرِّ وَإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللَّهِ .‏
رَابِعُهَا : تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ حَسَنٍ ، وَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ‏مَعْلُومًا مُتَصَوَّرًا وَإِلَّا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ .‏
خَامِسُهَا : لَعَلَّ الْجِنَّ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنْ السِّحْرِ لَمْ يَقْدِرْ الْبَشَرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا ‏فَبَعَثَهُمَا اللَّهُ - تَعَالَى - لِيُعَلِّمَا الْبَشَرَ أُمُورًا يَقْدِرُونَ بِهَا عَلَى مُعَارَضَةِ الْجِنِّ .‏
سَادِسُهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَشْدِيدًا فِي التَّكَالِيفِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إذَا عُلِّمَ مَا يُمَكِّنُهُ أَنْ ‏يَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ ثُمَّ مَنَعَهُ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا كَانَ ذَلِكَ فِي نِهَايَةِ الْمَشَقَّةِ ‏يَسْتَوْجِبُ بِهِ الثَّوَابَ الزَّائِدَ ؛ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - إنْزَالُ ‏الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ .‏
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَانَتْ زَمَنَ إدْرِيسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ ‏الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ. ‏
وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ فِي الْآيَةِ الْمَحَبَّةُ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَالْمُطِيعُ مِنْ الْعَاصِي ، ‏وَإِنَّمَا قَالَا : { إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } إلَخْ بَذْلًا لِلنَّصِيحَةِ قَبْلَ التَّعْلِيمِ ، أَيْ هَذَا الَّذِي نِصْفُهُ ‏لَك وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَمْيِيزَ السِّحْرِ مِنْ الْمُعْجِزِ وَلَكِنَّهُ يُمْكِنُك أَنْ تَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى ‏الْمَفَاسِدِ وَالْمَعَاصِي ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا نُهِيت عَنْهُ .‏
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا ‏يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } فَقِيلَ : الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ إنَّمَا يَكُونُ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ‏السِّحْرَ مُؤَثِّرٌ فِيهِ ، وَهَذَا كُفْرٌ وَإِذَا كَفَرَ بَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْهُ .‏
وَقِيلَ : الْمُرَادُ أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّمْوِيهِ وَالْحِيَلِ ، وَذَكَرَ التَّفْرِيقَ دُونَ سَائِرِ مَا يَتَعَلَّمُونَهُ ‏تَنْبِيهًا عَلَى الْبَاقِي ، فَإِنَّ رُكُونَ الْإِنْسَانِ إلَى زَوْجَتِهِ زَائِدٌ عَلَى مَوَدَّةِ قَرِيبِهِ ، فَإِذَا وَصَلَ ‏بِالسِّحْرِ إلَى هَذَا الْأَمْرِ مَعَ شِدَّتِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ ‏بِهِ مِنْ أَحَدٍ } فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الضَّرَرَ ، وَلَمْ يَقْصُرْهُ عَلَى التَّفْرِيقِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا خُصَّ ‏بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ أَعْلَى مَرَاتِبِ الضَّرَرِ .‏
قَالَ الْفَخْرُ : وَالْإِذْنُ حَقِيقَةً فِي الْأَمْرِ وَاَللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالسِّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ ، وَلَوْ ‏أَمَرَهُمْ بِهِ لَمَا ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّأْوِيلِ فِي قَوْله : { إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } وَفِيهِ وُجُوهٌ : ‏أَحَدُهَا : قَالَ الْحَسَنُ : الْمُرَادُ مِنْهُ التَّخْلِيَةُ ، يَعْنِي إذَا سُحِرَ الْإِنْسَانُ فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنَعَهُ ‏مِنْهُ ، وَإِنْ شَاءَ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَرَرِ السِّحْرِ .‏
ثَانِيهَا : قَالَ الْأَصَمُّ : إلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ إذْ الْأَذَانُ وَالْإِذْنُ الْإِعْلَامُ .‏
ثَالِثُهَا : بِخَلْقِهِ إذْ الضَّرَرُ الْحَاصِلُ عِنْدَ فِعْلِ السِّحْرِ لَا يَكُونُ إلَّا بِخَلْقِهِ - تَعَالَى - .‏
رَابِعُهَا : بِأَمْرِهِ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ بِالْكُفْرِ ، لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ ‏شَرْعِيٌّ وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَمْرِهِ - تَعَالَى - .‏
وَالْخَلَاقُ : النَّصِيبُ ، فِي هَذَا آكَدُ ذَمٍّ وَأَقْبَحُ عَذَابٍ لِلسَّحَرَةِ إذْ لَا أَخْسَرَ وَلَا أَفْحَشَ ، ‏وَلَا أَحْقَرَ وَلَا أَذَلَّ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ ، وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَ - تَعَالَى - ‏ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ قَائِلًا : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا } أَيْ بَاعَ الْيَهُودُ ( بِهِ ) أَيْ بِالسِّحْرِ : ‏‏{ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أَيْ لَوْ عَلِمُوا ذَمَّ ذَلِكَ هَذَا الذَّمَّ الْعَظِيمَ لَمَا بَاعُوا بِهِ ‏أَنْفُسَهُمْ ، وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْعِلْمَ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { وَلَقَدْ عَلِمُوا } وَنَفَاهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ ‏ثَانِيًا : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } لِأَنَّ مَعْنَى الثَّانِي لَوْ كَانُوا يَعْملونَ بِعِلْمِهِمْ ، جَعَلَهُمْ حِينَ ‏لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ كَأَنَّهُمْ مُنْسَلِخُونَ عَنْهُ ، أَوْ الْمُرَادُ بِعِلْمِ الثَّانِي الْعَقْلُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ ثَمَرَتِهِ ‏، فَلَمَّا انْتَفَى الْأَصْلُ انْتَفَتْ ثَمَرَتُهُ فَصَارَ وُجُودُ الْعِلْمِ كَالْعَدَمِ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ ، كَمَا ‏سَمَّى اللَّهُ - تَعَالَى - الْكُفَّارَ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا إذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِحَوَاسِّهِمْ ، أَوْ تَغَايَرَ بَيْنَ ‏مُتَعَلِّقِ الْعِلْمَيْنِ : أَيْ عَلِمُوا ضَرَرَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَعْلَمُوا نَفْعَهُ فِي الدُّنْيَا ، هَذَا كُلُّهُ إنْ ‏كَانَ فَاعِلُ عَلِمُوا وَيَعْلَمُونَ وَاحِدًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ ، فَإِنْ قُدِّرَ مُخْتَلِفًا كَأَنْ يُجْعَلَ ‏الضَّمِيرُ " عَلِمُوا " لِلْمَلَكَيْنِ أَوْ الشَّيَاطِينِ ، وَضَمِيرُ " شَرَوْا " وَمَا بَعْدَهُ لِلْيَهُودِ فَلَا ‏إشْكَالَ .‏) [/align]
 
عودة
أعلى