صار عندنا لغاية الآن مجموعة ألفاظ منها:أولا: (بَرَّك على فلان):وثبتت مشروعية التلفظ بها -بقصد الدعاء بالبركة- بأحاديث صحيحة كما مرّ وذُكر معناها في (لسان العرب) : (يُقَالُ: بَرَّكْتُ عَلَيْهِ تَبْريكاً أَيْ قُلْتَ لَهُ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ)
ثانيا: (بارك على فلان)،و(بارك لفلان) فهذه لم تذكر في (لسان العرب) بمعنى الدعاء بالبركة، وهي التي استنكرها الشيخ صالح آل الشيخ بقوله: (فلا يجوز للمخلوق أن يقول باركتُ على الشيء أو أبارك فعلكم) ولكن ورد فيها -كما ذكره الأخ اليعربي-الحديث الذي أخرجه ابن وهب في (الجامع) -بمعنى الدعاء بالبركة أيضا- ويبين هذا المعنى الرواية التي قبلها حيث قال ابن وهب:
وَكَتَبَ إِلَيَّ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ تُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ إِذَا وُلِدُوا لِكَيْ تَدْعُوَ اللَّهَ لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ، فَأُتِيَتْ بِصَبِيٍّ , فَذَهَبَتْ تَأْخُذُهُ، وَإِذَا تَحْتَ وِسَادَتِهِ شَيْءٌ , فَرَمَتْ. . . . . . وَقَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَانَ يَعِيبُ الطِّيَرَةَ وَيَنْهَى عَنْهَا»
فإذا كان الراوي الذي مدار لفظة (لِتُبَارِكَ عَلَيْهِ)و( لَا أُبَارِكُ عَلَيْهِ حَتّىَ ) ممن عاش في زمن الاحتجاج ولم يعرف باللحن، وصح إليه الإسناد، فإنه يحتج به ولو كان-الحديث- ضعيفاً إلى من فوقه، فهذا ما نحتاج الآن لبحثه من أخ قوي في علم الحديث.
وأرى أن استعمال العوام في زمننا للفظ (أبارك لك بكذا) مما يحسن العدول عنه-ولو احتياطا- إلى (أهنّئك بكذا).
ولمزيد من الفائدة فمما قال الشيخ بكر أبو زيد-رحمه الله- في (معجم المناهي اللفظية وفوائد في الألفاظ):
((بالبركة:
بسط ابن القيم - رحمه الله تعالى- في (جلاء الأفهام ص / 178 - 179) القول في حقيقة ((البركة)) لغة واصطلاحاً. وأن أصل حقيقتها الثبوت واللزوم والاستقرار، فمنه: برك البعير، إذا استقر على الأرض. والبركة: النماء والزيادة. والتبريك: الدعاء بذلك. ويُقال: باركه الله، وبارك فيه، وبارك عليه، وبارك له. والمبارك: الذي قد باركه الله سبحانه ... والرب سبحانه يقال في حقه: ((تبارك)) ولا يقال: مبارك ... إلخ.
وشيخه ابن تيمية - رحمه الله تعالى- سُئِل كما في الفتاوى 27/64 عمن يقول: قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ. فأجاب - رحمه الله تعالى- 27 /95 - 96: بأن هذا منكر من القول، فإنه لا يُقرنُ بالله في مثل هذا غيره كما نهى - صلى الله عليه وسلم - من قال: ((ما شاء الله وشئت)) ..
ثم قال - رحمه الله تعالى- ص/ 96: (وقول القائل: ببركة الشيخ قد يعني بها دعاءه، وأسرع الدعاء إجابةً: دعاء غائب لغائب. وقد يعني بها بركة ما أمره به وعلمه من الخير. وقد يعني بها بركة معاونته له على الحق وموالاته في الدين، ونحوه ذلك. وهذه كلها معانٍ صحيحة. وقد يعني بها دعاء للميت والغائب، إذ استقلال الشيخ بذلك التأثير، أو فعله لما هو عاجز عنه، أو غير قادر عليه، أو غير قاصد له؛ متابعته أو مطاوعته على ذلك من البدع المنكرات، ونحو هذه المعاني الباطلة....) .
إذاً فيكون هذا اللفظ من الألفاظ المجملة المحتملة للحق والباطل فيحسن التوقي منها. والله أعلم.
(وأما قول القائل: نحن في بركة فلان، أو: من وقت حلوله عندنا حلت البركة، فهذا كلام، صحيح باعتبار، باطل باعتبار، فأما الصحيح: فأن يراد به أنه هدانا وعلمنا وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، فببركة إتباعه وطاعته حصل لنا من الخير ما حصل، فهذا كلام صحيح. كما كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، في بركته لما آمنوا به، وأطاعوه، فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة، بل كل مؤمن آمن بالرسول وأطاعه؛ حصل له من بركة الرسول بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله.
و (أيضاً) إذا أُريد بذلك أنه ببركة دعائه وصلاحه دفع الله الشر وحصل لنا رزق ونصر، فهذا حق، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، - أي - بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم؟)) وقد يدفع العذاب عن الكفار والفجار؛ لئلا يصيب من بينهم المؤمنين ممن لا يستحق العذاب، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} - إلى قوله - {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . فلولا الضعفاء المؤمنون الذين كانوا بمكة بين ظهراني الكفار لعذَّب الله الكفار، وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ولولا ما في البيوت من النساء والذراري لأمرت بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة معنا، فأحرق عليهم بيوتهم)) . وكذلك ترك رجم الحامل حتى تضع جنينها. وقد قال المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} . فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله، وبدعائهم للخلق وبما ينزل الله من الرحمة، ويدفع من العذاب بسببهم: حقٌ موجود، فمن أراد بالبركة هذا، وكان صادقاً فقوله حق.
وأما ((المعنى الباطل)) فمثل أن يريد الإشراك بالخلق: مثل أن يكون رجل مقبوراً بمكان فيظن أن الله يتولاهم لأجله، وإن لم يقوموا بطاعة الله ورسوله، فهذا جهل. فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم مدفوناً بالمدينة عام الحرة، وقد أصاب أهل المدينة من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله؛ وكان ذلك لأنهم بعد الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالاً أوجبت ذلك، وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم بإيمانهم وتقواهم؛ لأن الخلفاء الراشدين كانوا يدعونهم إلى ذلك، وكان ببركة طاعتهم للخلفاء الراشدين، وبركة عمل الخلفاء معهم، ينصرهم الله ويؤيدهم. وكذلك الخليل - صلى الله عليه وسلم - مدفون بالشام وقد استولى النصارى على تلك البلاد قريباً من مائة سنة، وكان أهلها في شر. فمن ظن أن الميت يدفع عن الحي مع كون الحي عاملاً بمعصية الله؛ فهو غالط.
وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به وخرج عن طاعة الله ورسوله، مثل أن يظن أن بركة السجود لغيره، وتقبيل الأرض عنده، ونحو ذلك يحصل له به السعادة، وإن لم يعمل بطاعة الله ورسوله. وكذلك إذا اعتقد أن ذلك الشخص يشفع له، ويدخله الجنة بمجرد محبته، وانتسابه إليه، فهذه الأُمور ونحوها مما فيه مخالفة الكتاب والسنة، فهو من أحوال المشركين وأهل البدع، باطل لا يجوز اعتقاده ولا اعتماده، والله سبحانه وتعالى أعلم) انتهى.))