وكما أُمر بترتيله عليهم أمر بتفسيره لهم:
قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل : 44].
(فَالدِّينُ الَّذِي اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ اجْتِمَاعًا ظَاهِرًا مَعْلُومًا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ نَبِيِّهِمْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، نَقَلُوا الْقُرْآنَ وَنَقَلُوا سُنَّتَهُ، وَسُنَّتُهُ مُفَسِّرَةٌ لِلْقُرْآنِ مُبَيِّنَةٌ لَهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - لَهُ:{بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين إليهم ولعلهم يتفكرون}[النحل:44]
، فَبَيَّنَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ، فَصَارَ مَعَانِي الْقُرْآنِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ اتِّفَاقًا ظَاهِرًا مِمَّا تَوَارَثَتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ نَبِيِّهَا، كَمَا تَوَارَثَتْ عَنْهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يَكُنْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ شَيْءٌ مُحَرَّفٌ مُبَدَّلٌ مِنَ الْمَعَانِي، فَكَيْفَ بِأَلْفَاظِ تِلْكَ الْمَعَانِي؟!
فَإِنَّ نَقْلَهَا وَالِاتِّفَاقَ عَلَيْهَا أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْأَلْفَاظِ، فَكَانَ الدِّينُ الظَّاهِرُ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِمَّا نَقَلُوهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ، لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، لَا لِلَّفْظِ وَلَا لِلْمَعْنَى، بِخِلَافِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِنَّ مِنْ أَلْفَاظِهَا مَا بَدَّلَ مَعَانِيَهُ وَأَحْكَامَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، تَبْدِيلًا ظَاهِرًا مَشْهُورًا فِي عَامَّتِهِمْ) [SUP](
[SUP][1][/SUP][/SUP]).
قلت: وهذا ظاهر، ومع ذلك فقد اعترض بعض أهل العلم، فقال: إن الأحاديث التي نقلت في التفسير قليلة.
والجواب عن ذلك: أن الآية المتقدمة نصٌّ في المسألة، فلا شك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيََّنَ للأمَّةِ مَعَانِيَ الآيَاتِ وَفَسَّرَهَا لَهُمْ، فَمَثَلًاً الإسلامُ والإيمانُ والإحسانُ، وهي كثيرةُ الدورانِ فِي القرانِ الكريمِ، بَيَّنَ المقصودَ مِنْهَا كما في حديث جبريل قَالَ: يَا مُحَمَّدُ, أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَمِ, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم: «الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم, وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ, وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ, وَتَصُومَ رَمَضَانَ, وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً», قَالَ: صَدَقْتَ, قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ, وَيُصَدِّقُهُ, قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ, قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ, وَمَلاَئِكَتِهِ, وَكُتُبِهِ, وَرُسُلِهِ, وَالْيَوْمِ الآخِرِ, وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ», قَالَ: صَدَقْتَ, قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ, قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ, فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[SUP](
[SUP][2][/SUP][/SUP]).
وهكذا الصلاةُ: فبيَّنَ -صلى الله عليه وسلم- شُروطَهَا وفَرائضَهَا وسُنَنَها، وكيفيةَ أقامَتِها.
ومِثْلُهَا: الزَّكاةُ، والصِّيامُ، والحَجُّ، وغيرُ ذِلِكَ..
فسنَّتُه، وسَيرَتًه مُفَسِّرَةٌ لَهَذَا القرآنِ.
ولما سألت عائشةُ رضي الله عنها عن خُلِقِه، فَقَالتْ: (كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنُ) [SUP](
[SUP][3][/SUP][/SUP]).
ولذا قال ابن مسعود فيما رواه ابن جرير الطبري (
[4]): من طريق الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قال: (كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ، لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يُعْرَفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ). وإسناده جيد.
وأخرج أحمد (
[5]): من طريق عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ, عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ, قَالَ: (حَدَّثنا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليه وَسَلم: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَليه وَسَلم عَشْرَ آيَاتٍ, فَلاَ يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الأُخْرَى, حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ).وإسناده جيد.
ولذا قَالَ أبو حامدٍ الغَزَالي: (والتفصيل في مقدار القراءة، أنه إن كان من العابدين السالكين طريق العمل، فلا ينبغي أن ينقص عن ختمتين في الأسبوع، وإن كان من السالكين بأعمال القلب وضروب الفكر، أو من المشتغلين بنشر العلم، فلا بأس أن يقتصر في الأسبوع على مرة، وإن كان نافذ الفكر في معاني القرآن، فقد يكتفي في الشهر بمرة لكثرة حاجته إلى كثرة الترديد والتأمل)[SUP](
[SUP][6][/SUP][/SUP]).
وقال أبو العباس ابن تيمية في مقدمة التفسير: (وَحَاجَةُ الْأُمَّةِ مَاسَّةٌ إلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ).(
[7])
وقال محمد بن علي الموزعي المعروف بابن الخطيب تيسير البيان (
[8]): (واعلموا أن الله تَعَالى أَوْجَبَ عَلَى نَبِيِّهِ بَيَانَ مَا أَنْزَلَ عَلَيهِ، وَجَعَلَ بَيَانَ ذَلكَ إِليهِ وخصَّه بِهَذا المنصبِ الشريفِ ... قال تعالى {
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون}[النحل:44]، ثم اعلموا أن بيانه لأمته من ثلاثة أوجه، فوجهان متفق عليهما وفي الثالث اختلاف عندهم:
الأول: ما نص اللهُ جل جلاله عليه وأحكم فَرْضَه وبَيَّنَه بأوضحِ بيانٍ، ثم بيَّنَه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، إما بقولٍ أو فعلٍ، كما بيَّنَه اللهُ،
الثاني: ما نصَّ اللهُ تعالى عليه جُمْلةً، وَأَحْكَمَ فَرْضَهُ، وَجَعَلَ إِلى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بَيَانَ تِلْكَ الجُمْلَةِ، فَبَيَّنَ مَوَاقِيْتَهَا وَأَحْوَالَهَا وَفَرَائِضَهَا وَآدَابَهَا وَمُقَدِّمَاتِهَا وَلَوَحِقَهَا، وَبَيَّنَ عَمَّنْ تَجِبْ، وَعَمَّنْ تَسْقُطْ، وَكَيْفَ يَأْتِي بِهَا العَبْدُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الأَحْوَالِ،
الثالث: ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يَرِدْ فِيْهِ كِتَابٌ، فَهَذَا المُخْتَلَفُ فِيْهِ، فَمِنْهُم مَنْ قَالَ: جَعَلَ اللهُ لَهُ ذَلِكَ لِمَا خَصَّهُ مِنْ وُجُوْبِ طَاعَتِهِ وَتَوفيقِهِ لِمَا يَرضَاه، وعِصمَتِه عن الخطأ أنْ يَسِنَّ فيما لم يَردْ فِيه كِتَابُ، وَإليهِ مَيْلُ الإمامِ الشافعي, ومنهم من قال لم يَسِنَّ سنةً قطٌ إِلَّا وَلَها أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللهِ).اهـ
......................يتبع
([1])الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح [3/17].
([2]) صحيح مسلم [ 8 ]
([3]) مسند أحمد [25240]
([4]) [1/80]
([5]) [23878]
([6])إحياء علوم الدين [2/35].
([7]) [مجموع الفتاوى/13/330]
([8]) [1/11]