أعمدة العلم الحلقة الرابعة..عناصر الدراسة وخطواتها

إنضم
26/12/2005
المشاركات
770
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فهذه بعض العناصر التي يمكن أن تُدار وفقها دراسة أعمدة العلم،ولا شك أنها مجرد أمثلة غير حاصرة لجهات هذا الدرس..
أولاً: تكرار القراءة.
إذا حددت الكتاب الذي تريد أن تخضعه لهذا اللون من الدرس والبحث والتمحيص =فأول عملك فيه :أن تستهلكه قراءة مدى ماتستطيع، قراءة لوجه القراءة فحسب ولست أرى أن يقل عدد مرات هذه القراءة الأولى عن ثلاث مرات.
وإذا ارتسم العجب على وجهك وعددت ذكري لهذه الخطوة لغو وأنها شرط بدهي = فدعني أخبرك أني أعرف باحثاً حصل على درجة الماجستير في منهج مؤلف ما في كتاب ما وكان من صنيعه أنه لم يقرأ الكتاب مرة واحدة مستوية وإنما تعامل معه بالقطعة؛يقرأ منه بحسب ما يحتاج إليه في كل فصل ،وقراءة كحثو الطائر تقفز من بين السطور كلاعب(الحجلة) وفي الوقت الذي حصل فيه على الماجستير بامتياز كنت موقناً أن له إخوة في بلاد الإسلام يسلكون سبيله؛ولم لا ؟؟؟ أليس طلب السهولة هو سنة هذا العصر ؟؟!!... وأهون السقي التشريع كما تقول العرب
ماعلينا...
وتكرار قراءة الكتاب والصبر عليه هو مفتاح استبطان مكامن الإبداع فيه ولذلك كان سنناً وشرعة لعلمائنا لا يحيدون عنه، متواترة في ذلك أخبارهم :
1- ذكر ابنُ السُّبكي في ((طبقات الشافعية الكبرى)) في ترجمة الربيع ابن سليمان المزني صاحب الشافعي قال: (( قال الأنماطي: قال المُزَني: أنا انظر في كتاب ((الرسالة)) منذ خمسين سنة، ما أعلم أني نظرتُ فيه مرَّةً إلا وأنا أستفيد شيئًا لم أكن عرفته )) اهـ.
2- جاء في ترجمة الإمام غالب بن عبدالرحمن بن غالب بن تمام ابن عَطيَّة المحاربي من كتاب ((الغُنية)) للقاضي عياض، و((الصلة)) لابن بشكُوال قال: ((قرأتُ بخط بعض أصحابنا أنه سمع أبا بكر بن عطية يذكر أنه كرَّر ((صحيح البخاري)) سبع مئة مرَّة)) اهـ.
3- ذكر القاضي عياض في ((ترتيب المدارك)) في ترجمة الإمام أبي بكر الأبهري أنه قال عن نفسِه: ((قرأتُ مختصر ابن عبدالحكم خمس مئة مرة، والأسدية خمسًا وسبعين مرة، والموطأ خمسًا وأربعين مرة، ومختصر البرقي سبعين مرة، والمبسوط ثلاثين مرة)).
هذه نماذج من سيرة قومِ عَقِلوا أن مُعَاودة مطالعة الكتاب الواحد مرَّات -خاصة مع تباعد وقت القراءة- يُوْقفك على مسائل وفوائد لم تكن لتقفَ عليها في أوِّل قراءتك، وذلك لتوسيع مداركك وزيادة فهمك، وهذا أمر مجرَّب.
ثانياً: تحديد المصادر التي يُظن أن مؤلف الكتاب قد استقى منها شيئاً من مادته.
وهذه الخطوة هي من أجل خطوات هذا النوع من الدراسة ذلك أنك ((لا تستطيع أن تتعرف على عقل الكاتب إلا إذا حللت مادته في ضوء المعرفة الواعية بمصادره التي كونت بناءه العلمي وكيف كانت المادة العلمية التي انتخبها من هذه المصادر تتشكل عنده وتنبسط وتتجلى وتضئ بحيويته وبسخائه وموهبته ، وكيف كانت تكون كالماء السالك في طيات الأرض الكريمة يلبث فيها زمناً ثم يتفجر ويفيض ويقدم لنا فكراً آخر فيه مذاق هذا الإرث الذي بناه وفيه معدنه ومنه جوهره ، ولكنه شيء آخر ، وقلت إنه لا ريب في أن مصادر أى عمل علمي تتنوع وتختلف فمنها ما يكون له حضور بارز عند المؤلف وهو يعالج أصلاً من أصول البناء العلمي لكتابه ، ومنها ما يكون عند الاستشهاد والترجيح أو ما يشابه ذلك والواجب أن نحدد هذا بدقة ، وقد تعودنا أن نقول مثلاً أن سيبويه والخليل و الفارسي والعسكري وقدامة والجاحظ وعلى بن عبد العزيز كل هؤلاء ممن أخذ عنهم عبد القاهر ثم نترك التفصيل ونسوي بين ما لا تجوز التسوية فيه....
وإذاً فالقضية الأساسية التي يدور الحديث حولها هي أهمية معرفة مصادر المادة العلمية لأى كتاب نقرؤه وأن هذه المعرفة ستمنحنا فهماً آخر للكتاب وتذوقاً آخر لمادته وتحدد لنا ملامح مؤلفه بشكل أكثر تحديداً وإذا أردت أن تتأكد من ذلك فاصنع هذا بنفسك اقرأ كتاباً ثم حدد حصيلتك منه ، وما أفادك من علم وخبرة وكيف أضاء في نفسك وما هي مساحات هذه الإضاءة ثم راجع أصول هذا الكتاب ومصادره التي قرأها مؤلفه بصر وجد وانقطاع وقس حالك بعد هذه المراجعة بحالك قبلها ، وإلى أى مدى تغيرت صورة الكتاب عندك واتسعت وتعمقت وقامت في نفسك الحدود الفاصلة بين المعرفة التي قدمها))[محمد محمد أبو موسى]
وقد شغلت زمناً بتتبع أصول مايحكيه ويعرضه ابن القيم في درته: ((إعلام الموقعين)) من أقوال الفقهاء والعلماء...
وأُقر أنني كنت أجد متعة كبيرة حين أقف على القول الذي يعرض له ابن القيم في كتب قائليه الأصليين وكنت أجد متعة أكبر حين أتأمل تصرف ابن القيم في عرض هذا القول وحسن تأتيه في عرض حجج ذلك القول وإنصافه في ذلك ولو كان قولاً هو رافضه ومبطله..ومن شاء أن يقف على طرف من هذا فليقرأ أولاً كتاب ((الفصول في الأصول)) للجصاص الحنفي ،ثم فليقبل على ((إعلام الموقعين ))؛لينظر كيف تعامل ابن القيم مع أفكار الجصاص عرضاً ونقداً..
ومن أمتع ما وجدته حينها أني استطعت بشيء من التأمل أن أقف على النفسية الفقهية التي كانت منتشرة في هذا العصر وذلك حين ربطت بين مايعرض له ابن القيم وبين قراءتي لطبقات الشافعية لابن السبكي في نفس التوقيت تقريباً وإنها لتجربة أدعو من شاء لتجربتها...
وأعود فأقول: إن مرادنا من تحديد المصادر والموارد ليس هو ماتراه في الكتب والدراسات الأكاديمية المصدرة بهذا العنوان والتي تراها قد ملئت أرقاماً تدوخ الرأس وغايتها: كم مرة نقل ؟ وعن أي الكتب نقل أكثر؟ وهكذا...
لا..بل هذا اللون من الكتب قليل الفائدة لايعدُو أن يكون هو الخطوة الأولى لدراسة المصادر..فأنا أحب أن أسمي كتب الموارد المطبوعة بالدراسة الإحصائية للموارد ،أما مانحن فيه فأسميه: الدراسة التحليلية للموارد..وهو كما أسلفت أجل مراحل دراسة الكتب المُؤَسِسِة للعلوم...
وفيها يتم تجاوز المصادر التي ليس لها كبير أثر في صناعة العلم وإن كثر العزو إليها فصحيح البخاري مثلاً وإن كثر العزو إليه فليس هو مما يعتنى به في الدراسة التحليلية فهو مصدر رئيس للاحتجاج تشترك في الإفادة منه كل العلوم وإنما يكون الصحيح مصدراً نعتني به حين يكون الكتاب الذي نتوجه له بالدراسة هو كتاب وثيق الصلة بالصحيح لذاته مثل:((هدي الساري)).
وفي الدراسة التحليلية للمصادر توجه العناية إلى الروافد التي استقى منها المصنف سيان في ذلك مااستقى منه موافقاً له أو مااستقى منه ليعترضَ عليه وينقده أو حتى ينقضه.
وفي الدراسة التحليلية للمصادر يعتني الباحث برصد عملية التطوير والتحوير التي يُجريها المصنف على المصدر الذي ينقل منه ،وكيف تعامل مصنف الكتاب مع الفكرة التي نقلها من مصدره ..
هل زاد عليها؟
هل نقص منها؟
هل أصاب في فهم الفكرة التي نقلها قبل أن يبني عليها؟
هل أخطأ؟
هل تأثر في التعامل مع الفكرة التي نقلها بمصنف آخر تعامل مع نفس الفكرة؟
وبمثل ماترى يكون التعامل مع الأفكار المستقاة من المصادر فكرة فكرة = فيقودك هذا إلى دروس منهجية لا يستهان بها في صناعة العلم
ثالثاً: دراسة البيئة الزمانية والمكانية التي صاحبت تأليف هذا الكتاب المُؤَسِسِ.
ومحاولة الوقوف على الخلفيات العلمية والتاريخية التي قد تشكل دافعاً لخروج فكرة معينة في الكتاب أو حتى لخروج أفكار الكتاب ككل.
فالكتاب من أعمدة العلم–في نظري-هو نوع من التصنيف يندر أن تخلو أفكاره من دوافع لها شكلتها ظروف بيئية وتاريخية،ثم تتفاوت الكتب بعد ذلك في مدى التأثر بمثل ذلك.
وسأمثل لهذا العنصر بثلاثة كتب من الكتب المُؤَسِسِة للعلوم لا يستطاع درسها وتفهمها إلا بإيفاء هذا العنصر حقه:
1-الرسالة للإمام الشافعي.
وفيه ترى الجهد الدؤوب الذي بذله الشافعي لمحاولة التوفيق بين الآراء المعاصرة له والتي كانت تشكلها ثلاث مدارس:
أولها: المدرسة المدنية.
ثانيها:مدرسة الرأي بالكوفة.
ثالثها: محدثو العراق.
أضف إلى تلك المدارس الثلاث منهجاً آخر من مناهج التعامل مع نصوص الوحيين تعرض له الشافعي =وهو المنهج الاعتزالي، وكان تعامل الشافعي معه على جهة العرض والنقض.
وبدون الدراسة المتأنية للواقع العلمي والخلفيات التاريخية للمدارس الأربع ومناهجها في استنباط الأحكام=فإنه لا يمكنك أن توفي كتاباً كالرسالة حقه التام من التمحيص والدرس.
2-الإحكام في أصول الأحكام لأبي محمد بن حزم.
وهذا الكتاب وصنوه ((المحلى)) هما من أكثر الكتب التي عدت عليها جناية: القصور في بحث الظروف المكانية والزمانية والخلفيات العلمية التاريخية الدافعة لتوليد أفكار الكتابين.
3-كتاب التوحيد لإمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
وهذا أيضاً من الكتب التي إن لم يستحضر الناظر فيها هذا العنصر من عناصر الدرس=فإنه سَيُصدِرُ أحكاماً مغلوطة تأباها الطبيعة الدقيقة للدرس العلمي،وأصل ذلك أني ماوجدت رجلاً يصف أفكار هذا الكتاب وقضاياه بالسذاجة والسهولة والإمعان في تقرير الواضحات = إلا ووجدته من أجهل الناس بالواقع التاريخي للبيئة الزمانية والمكانية التي ألف فيها الإمام المجدد كتابه العظيم.
وأنت إذا عزلت هذا الكتاب بالذات عن بيئته لم تستطع فهم دوافع الإمام في تأليف كتابه ووضعه على هذه الصورة بالذات.
وأنا لضيق المقام إنما أكتفي بإثارة القضية وإنعاش الفكرة ولست أشك أن هناك عقولاً واعية ستفتح لها هذه النبذة آفاقاً من البحث والدرس والتمحيص.
رابعاً: وهي تتبع أثر الأفكار التي وردت في الكتاب محل الدراسة=فيما عاصره وماتلاه من كتب العلم.
فتتبع أثر هذه الجهود فوق أنها يدلنا على أهمية الكتاب=فهو يوفر لنا مادة خصبة من العمليات الفكرية التي أجراها أهل العلم على الكتاب المدروس ويضعنا أمام مجال خصب من مجالات صناعة العلم حين نرى كيف استضاء أهل العلم بأفكار الكتاب المدروس،وكيف تعاملوا معها قراءة ودرساً وموافقة ورفضاً.
وتزداد الحاجة إلى هذه الخطوة في حالة ماإذا كان الكتاب ليس من الكتب التي تواصى أهل العلم بشرحها؛كالاعتصام للشاطبي والخطط المقريزية،أو كان من الكتب التي لم يصلنا من شروحها شيء كرسالة الشافعي.
والحمد لله رب العالمين..

 
شكر الله لكم يا شيخ أبي فهر و ليسمح لي الشيخ حفظه الله بالتطفل علي موضوعه بهذه الاضافة البسيطة.
من الامور التي علي الدارس او القارئ الانتباه اليها خاصه في أثناء القراءه الاولي هي النظر في ترتيب المؤلف لابواب كتابه و علي اي اساس كان هذا الترتيب , وما هي العلاقة العقلية بين الابواب بعضها ببعض و علاقتها بالكتاب , وهل هي من قبيل علاقة الكل بالجزء ام الكلية بالجزئية , و هذا الامر مهم جدا لان الكتاب في حقيقته يشبه البناء الهندسي من جهة ضبط العلاقات بين اجزاءه بعضها ببعض , بحيث أن وجود اي خلل في هذه العلاقات سوف يودي الي ان يشعر القارئ بوجود قلق و اضطراب في متن الكتاب , يقول الإمام النووي رحمه الله في شرحه علي صحيح الإمام مسلم رحمه الله: (( ومن حقق نظره في صحيح مسلم - رحمه الله - واطلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحسن سياقته وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص طرقه واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة اطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات علم أنه أمام لا يلحقه من بعد عصره، وقل من يساويه، بل يدانيه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. )).
 
عودة
أعلى