قال ابن القيم في سياق بيانه لمعنى المثل في قول الله عز وجل :{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ }(ابراهيم:24) :
( فإن المقصود بالمثل المؤمن، والنخلة مشبهةُ به وهو مشبه بها ، وإذا كانت النخلة شجرةً طيبةً فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك .) هكذا في إعلام الموقعين 2/301 بتحقيق مشهور حسن سلمان
ولم يظهر لي وجه هذا الكلام ، فمن يشرحه لي مشكوراً ؟
قال ابن قيم الجوزية تعقيبًا على هذا المثل المذكور:(شبه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع.. وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين، الذين يقولون: الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، فكل عمل صالح مرضي لله عز وجل ثمرة هذه الكلمة.
وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:{ أصلها ثابت } قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن. { وفرعها في السماء} يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.
وقال الربيع بن أنس:{ كلمة طيبة } هذا مثل الإيمان. والإيمان: الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت، الذي لا يزول: الإخلاص فيه، وفرعه في السماء: خشية الله.
والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن؛ فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل، الباسقة الفرع في السماء علوًا).
فعلى هذا القول يكون المراد بالكلمة الطيبة: كلمة التوحيد، ويكون المراد بالشجرة الطيبة: المؤمن، أوقلبه.. وهذا واضح.
ثم أضاف ابن قيم الجوزية قائلاً:(ومن السلف من قال: إن الشجرة الطيبة هي النخلة، ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح.
ومنهم من قال: هي المؤمن نفسه؛ كما قال محمد بن سعد: حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله:{ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ } يعني بالشجرة الطيبة: المؤمن، ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض، ويتكلم، فيبلغ قوله وعمله السماء، وهو في الأرض.
وقال عطية العوفي في{ ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة } قال: ذلك مثل المؤمن، لا يزال يخرج منه كلام طيب، وعمل صالح يصعد إلى الله .
وقال الربيع بن أنس:{ أصلها ثابت وفرعها في السماء } قال: ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له. قال:{أصلها ثابت} قال: أصل عمله ثابت في الأرض. {وفرعها في السماء} قال: ذكره في السماء).
فعلى القول الأول تكون الشجرة الطيبة هي النخلة، شبِّه بها المؤمن.. وعلى الأقوال الأخرى تكون الشجرة الطيبة هي المؤمن نفسه شبِّهت به النخلة.. وهذا ما قد يكون خفي عليكم وفقكم الله .
ولهذا قال ابن قيم الجوزية:(ولا اختلاف بين القولين؛ فالمقصود بالمثل المؤمن، والنخلة مشبهة به، وهو مشبه بها. وإذا كانت النخلة شجرة طيبة، فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك).
[align=center]مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة[/align]قال الله تعالى:(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) إبراهيم: 25- 27
هذان مثلان ضربهما الله تعالى للكلمة الطيبة، والكلمة الخبيثة، مثل الأولى بشجرة طيبة، ومثل الثانية بشجرة خبيثة. ومناسبتهما لما قبلهما أن الله تعالى لما ذكر مثل أعمال الكفار، وأخبر أنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وشرح أحوال الأمة الطيبة، وأحوال الفرقة الخبيثة، ذكر مثلاً يبين الحال في حكم هذين القسمين، ويصور سنته الجارية في الطيب والخبيث في هذه الحياة، فقال سبحانه :{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}.
وقوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً }. أي: ألم تعلم كيف قدَّر الله تعالى مثلاً، ووضعه في موضعه اللائق به، فكان خاتمةً لِما تَقدَّمه ؛ كتعليق الراوية على الرواية بعد إسدال الستار. وهو تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكلِّ أحدٍ، من كيفية ضرب هذا المثل.
أما قوله تعالى:{ كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ.. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } فهو بيان للمثل وتفسير له، يقوم على تشبيه معقول بمحسوس. فالكلمة الطيبة تشبه الشجرة الطيبة، والكلمة الخبيثة تشبه الشجرة الخبيثة. وما بين المشبه والمشبه به وجه شبَه، دلَّت عليه كاف التشبيه. وعندما تكون الكاف هي أداة التشبيه، فإنها تدل على أن وجه الشبه، الذي يجمع بين المشبه، والمشبه به في تشبيه واحد، يتناول جهةً أو أكثر من جهات الذات، وصفةً أو أكثر من الصفات الخارجة عن الذات.
وبيان ذلك: أنك إذا قلت: زيد مِثل الأسد، بكسر الميم وسكون الثاء، فإنك تريد أنه يُماثله- أي: يساويه- في تَمام ذاته. وإذا قلت: زيد مَثَل الأسد، بفتحتين، فإنك تريد أنه يشبهه في تمام صفاته. فإذا قلت: زيد كالأسد، فإنك تريد أنه يشبهه في جهةٍ أو أكثر من جهات الذات، وفي صفةٍ أو أكثر من صفات الذات.
ومن هنا يُخطىء من يفسر الكاف بمعنى المثل، أو المثل بمعنى الكاف.. فليس قول مريم عليها السلام:{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}(آل عمران:36) معناه: ليس الذكر مثل الأنثى. وليس قوله تعالى:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة:275) معناه: إنما البيع كالربا ؛ كما يذهب إلى ذلك جُمهورُ المفسرين . فتأمل!
وعلى هذا الذي ذكرناه يحمل قوله تعالى:{كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ}؛ لأن المراد أن هذه الكلمة طيبة في حقيقتها، وفي صفاتها، وهي في ذلك تشبه الشجرة الطيبة.. وليس كذلك قوله تعالى:{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}؛ لأن المراد- هنا- تشبيه الكلمة الخبيثة في صفاتها، دون التعرض لحقيقتها، بالشجرة الخبيثة في حقيقتها وصفاتها. هذا ما يدل عليه لفظ المثل المذكور- هنا - بجانب المشبه.
فإذا كان هذا هو شأن الكلمة الخبيثة، فما بالك بحقيقتها؟ إنها لقبحها في ذاتها وبشاعتها، لا يُمكنُ أَنْ تشبَّه بحقيقة أخرى؛ إذ لا شيء يشبهها في ذلك.. وكذلك إذا كان الشيء لعظمه وجلاله؛ بحيث لا يُمكن تصويره في مثل محسوس؛ لأنه فوق كل تصور، فإنه يُكتفَى بتشبيه ما يتصف به من صفات بشيء محسوس في حقيقته وصفاته؛ كقوله تعالى:{ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ }.. فتأمل ذلك، فإن هذه الأسرار الدقيقة في البيان المعجز، لا تجدها في كتب المفسرين على كثرتها !
ونعود بعد ذلك إلى المفسرين، فجمهورهم على القول بأن الكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد، وأن الشجرة الطيبة هي المؤمن. وقيل:الكلمة الطيبة هي المؤمن، والشجرة الطيبة هي النخلة.. وأن الكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر والشرك، وأن الشجرة الخبيثة هي الكافر أو هي شجرة الحنظل .. وقيل غير ذلك.
والظاهر من تنكير كُلٍّ مِنْ {كَلِمَةٍ} و{شَجَرَةٍ} في الموضعين أَنَّ المراد بالكلمة الطيبة كل كلمةٍ يُرادُ بِها حَقٌّ، وبالكلمة الخبيثة كل كلمة يراد بها باطل، وبالشجرة الطيبة كل شجرة مثمرة طيبة الثمار ؛ كالنخلة، وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك. وبالشجرة الخبيثة كل شجرة لا يطيب ثمرها؛ كشجرة الحنظل، ونحوها.. فكما تثمر الكلمة الطيبة العمل الصالح، كذلك تثمر الشجرة الطيبة الثمر النافع. وكما تثمر الكلمة الخبيثة العمل الفاسد، كذلك تثمر الشجرة الخبيثة الثمر الفاسد.
ووصف سبحانه الشجرة الطيبة بأربع صفات: الصفة الأولى: كونها {طَيِّبَةً}. وذلك يحتمل كونها طيبة المنظر والصورة والشكل. أو كونها طيبة الرائحة. أو كونها طيبة الثمرة. أي: لذيذة مستطابة. أو كونها طيبة بحسب المنفعة. يعني: أنها كما يستلذ بأكلها، فكذلك يعظم الانتفاع بها. قال الرازي: ويجب حمل قوله:{ َشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} على مجموع هذه الوجوه؛ لأن باجتماعها يحصل كمال الطيب. الصفة الثانية: كونها{ أَصْلُهَا ثَابِتٌ }. أي: ضارب بعروقه في الأرض. وهو صفة كمال لها؛ لأن الشيء الطيب، لا يعظم السرور به إلا إذا كان ثابتًا، بخلاف ما لو كان معرَّضًا للزوال .. والمراد أن هذه الشجرة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل؛ ولا تقوى عليها معاول الطغيان ـ وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان.
وقرأ أنس بن مالك:{كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثَابِتٌ أَصْلُهَا}. وقراءة الجمهور أقوى في اللفظ، وفي المعنى. أما في اللفظ فلأن فيها حسن التقسيم:{أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}.وأما في المعنى فلأن الصفة فيها أجريت على الشجرة لفظًا ومعنى. وأما في قراءة أنس فقد أجريت الصفة على الشجرة لفظًا فقط. وأنت إذا قلت: مررت برجل أبوه قائم، كان أقوى من قولك: مررت برجل قائمٌ أبوه ؛ لأن المخبر عنه إنما هو الأب، لا رجل. والصفة الثالثة: كونها {فَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}. أي : سامق شامخ متعال ذاهب في الفضاء على مد البصر، قائم أمام العين يوحي بالقوة والثبات. وهو أيضا صفة كمال لها؛ لأنها متى كانت مرتفعةً كانت بعيدةً عن عفونة الأرض وقاذورات الأبنية، فكانت ثمرتها نقيةً خالصةً عن جَميع الشوائب.. والمراد بـ{فرعها} أعلاها ورأسها، وإن كان المشبه به ذا فروع؛ فيكون من باب الاكتفاء بلفظ الجنس. وكأنَّ هذه الشجرة تطل بفروعها على الشر والظلم والطغيان من علُ ، وإن خُيّل إلى البعض أحيانًا أن الشر يزحمها في الفضاء.. وكذلك كلمة الحق تعلو، ولا يُعلَى عليها؛ لأنها هي العليا دائمًا وأبدًا. والصفة الرابعة: كونها {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}. أي: لا ينقطع ثمرها أبدًا؛ فهي تؤتيه كاملاً حسنًا كثيرًا طيبًا مباركًا، في كل وقت وقته الله تعالى لإثمارها. وهو صفة كمال أيضًا؛ إذ الانتفاع بها غير منقطع حينئذ. وقال:{تُؤْتِي أُكُلَهَا}، ولم يقل:{تُعْطي ثمَرَهَا}؛ لما في الإيتاء من سرعة الإعطاء، وسهولته؛ ولأن الأكُل- بضم الهمزة والكاف- يطلق على كل ما يؤكل من الثمر، فهو أخصُّ من الثمر؛ لأن الثمر منه ما لا يؤكل.
و(الحين) في قوله تعالى:{كُلَّ حِينٍ} القطعة من الزمان. واختلف في تقديره: فقيل: سنة؛ لأن الشجرة تحمل الثمرة من العام إلى العام. ولذلك قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحكم، وحماد، وجماعة من الفقهاء:(من حلف أن لا يفعل شيئًا حينًا، فإنه لا يفعله سنة). واستشهدوا على ذلك بهذه الآية. وقال عكرمة وغيره:(الحين ستة أشهر) وهي مدة بقاء الثمر، وإليه ذهب أبو حنيفة. وقال ابن المسيب:(الحين شهران) لأَنَّ النخلة تدوم مثمرة شهرين. وقال ابن عباس أيضًا، والضحاك، والربيع:(كل حين. أي: كل غدوة وعشية).
وقد ورد(الحين) في موضع آخر يراد به أكثر من ذلك؛ كقوله تعالى:{ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }(الإنسان:1). قيل في التفسير: أربعون عامًا. وحكى عكرمة أن رجلاً قال:(إن فعل كذا وكذا إلى حين، فغلامه حر. فأتى عمر بن عبد العزيز، فسأله، فسألني عنها، فقلت: إن من الحين حينًا لا يدرك؛ كقوله تعالى:{ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }(البقرة:36)، فأرى أن تمسك ما بين صرام النخلة إلى حملها. فكأنه أعجبه؛ وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعًا لعكرمة، وغيره).
وقال الزجاج:(جَميع مَنْ شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أن(الحين) اسم كالوقت، يصلح لجميع الأزمان كلها طالت، أم قصرت). وهذا قول الأزهري. وقال النحاس:(وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة؛ لأن (الحين)- عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم- بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره).
والظاهر من السياق أن الكلمة الطيبة مثلها كشجرة طيبة، لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت، من صيف أو شتاء، أو ليل أو نهار. كذلك الكلم الطيب، لا يزال يصعد إلى الله تعالى، ويرفعه العمل الصالح في السماء، آناء الليل وأطراف النهار، في كل وقت وكل حين. قال تعالى:{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}( فاطر:10).
و قوله سبحانه:{ بِإِذْنِ رَبِّهَا }. أي: بتسييره وتكوينه. ويدل على أن كل شيء لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى. وفيه دقيقة عجيبة؛ وذلك لأن ما أذن الله في إيتائه لا يكون إلا على أحسن حال، وأكمل وجه. وخصَّ إيتاء الأكل بالشجرة الطيبة بإذن ربها على سبيل المدح والتشريف.
قال الرازي:(ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة، أم غيرها؛ فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة، ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه؛ سواء كان لها وجود في الدنيا، أو لم يكن؛ لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل. واختلافهم في تفسير الحين أيضًا من هذا الباب، والله أعلم).
وعقَّب سبحانه على ذلك بقوله:{ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}؛ وذلك لأنها أمثال مصداقها واقع في الأرض، ولكن الناس كثيرًا ما ينسونه في زحمة الحياة؛ ففي ضربها لهم زيادة إفهام، وتذكير، وتصوير للمعاني. وذلك؛ لأن المعاني العقلية المحضة لا يقبلها الحس والخيال والوهم، فإذا ذكر ما يماثلها، أو يشابهها من المحسوسات، ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة، وانطبق المعقول على المحسوس، وحصل به الفهم التام، والوصول إلى المطلوب.
وفي مقابل تلك الصفات، التي وصف الله تعالى بها الشجرة الطيبة، التي شبه بها الكلمة الطيبة، وصف الشجرة الخبيثة، التي شبه بها الكلمة الخبيثة في صفتها بثلاث صفات: الصفة الأولى: كونها {خبيثة}. وذلك يحتمل أيضًا أن يكون بحسب الرائحة، وأن يكون بحسب الطعم، وأن يكون بحسب الصورة والمنظر، وأن يكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة. والشجرة الجامعة لكل هذه الصفات، وإن لم تكن موجودة، إلا أنها إذا كانت معلومة الصفة، كان التشبيه بها نافعًا في المطلوب.
وأصل(الخبث) في كلام العرب: المكروه. فإن كان في الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار، ومنه قيل لما يرمى من منفي الحديد: الخبث.
ومنه الحديث:(إن الحمى تنفي الذنوب؛ كما ينفي الكير الخبث). وخبث الحديد والفضة ما نفاه الكير ، إذا أذيبا؛ وهو ما لا خير فيه. والصفة الثانية: كونها {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ}. أي: استؤصلت. وهذه الصفة في مقابلة{أَصْلُهَا ثَابِتٌ} في صفة الشجرة الطيبة. وحقيقة(الاجتثاث) أخذ الجثة كلها- وهي شخص الشيء- من فوق الأرض، لكون عروقها قريبة من الفوق؛ فكأنها فوق. وهذا يعني: أنه ليس لها أصل، ولا فرع، وليس لها ثمرة ، ولا فيها منفعة. والصفة الثالثة: كونها {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}. وهذه كالمتممة للصفة الثانية؛ فنفى أن يكون لها
مكان تستقر فيه، وأن يكون لها استقرار في المكان. فان القرار يراد به مكان الاستقرار؛ كما قال تعالى في صفة جهنم:{ َجهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}(إبراهيم:29)، وقال:{جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء}(غافر:64). ويقال: فلان ما له قرار. أي: ثبات. وقد فسر القرار في الآية بهذا وهذا. ويقال: قرَّ الشيء قرارًا؛ كقولك: ثبت ثباتًا. قال الزمخشري:(شبِّه بها القول، الذي لم يعضَّد بحجة فهو داحض غير ثابت. والذي لا يبقى؛ إنما يضمحل عن قريب لبطلانه؛ من قولهم: الباطل لجلج .. وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء: ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقرًّا، ولا في السماء مصعدًا، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة).
وقرىء:{ومثلَ} بالنصب عطفًا على{كَلِمَةً طَيِّبَةً}. وقرأ أُبَيُّ:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً خَبيثةً كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ }. ولعل تغيير الأسلوب على قراءة الجماعة، للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان؛ وإنما ذلك أمر ظاهر، يعرفه كل أحد.
هذا هو مثل الكلمة الطيبة، ومثل الكلمة الخبيثة. وليس هذا وذاك مجرد مثل يضرب، ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع؛ وإنما هو الواقع في الحياة، ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان.. والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي، مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق. والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به، فقلما يوجد الشر خالصًا، وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير، فلا تبقى فيه منه بقية، فإنه يتهالك، ويتهشم مهما تضخم واستطال.
ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين: أصحاب الكلمة الطيبة، وأصحاب الكلمة الخبيثة، فبين سبحانه أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة، وأنه يضل الظالمين عن القول الثابت. فيضل هؤلاء بعدله لظلمهم، ويثبت الذين آمنوا بفضله لإيمانهم؛ وذلك قوله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}.
أي: يُدِيْمُهم على القول الثابت في الدنيا والآخرة، ويمنعهم من الزلل.. وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله طرفة عين؛ فإن لم يثبته، وإلا زلت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما. وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله:{ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}(الإسراء :74).
ففي ظل الشجرة الثابتة مثلاً للكلمة الطيبة{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ }.. وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار، ولا ثبات{ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ }.. فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق !
و {الْقَوْلِ الثَّابِتِ} هو القول الحق والصدق، الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه، وتمكن فيه، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وهو ضد القول الباطل الكذب، الذي لا يثبت بحجة، ولا برهان. وعليه فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له. وأثبت القول كلمة الحق ولوازمها؛ فهي أعظم ما يثبت الله بها عباده في الدنيا والآخرة؛ ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبًا، والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلويًا وأقلهم ثباتًا. وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق، من ثبات قلبه وقت الاختبار، وشجاعته ومهابته، ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة.. وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به، فقال:(والله ما فهمت منه شيئًا، إلا أني سمعت لكلامه صولة، ليست بصولة مبطل. فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت. ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم؛ كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذه
الآية نزلت في عذاب القبر. وقد جاء هذا مبينًا في أحاديث صحاح؛ فمنها ما روي عن أبي هريرة من أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :({ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ }. قال: إذا قيل له في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، جاء بالبينات من عند الله، فآمنت وصدقت. فيقال له: صدقت على هذا عشت، وعليه مت، وعليه تبعث).
وقوله تعالى:{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}، الذين لم يتمسكوا بحجة ولا برهان في دينهم؛ وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم؛ كما قلد المشركون آباءهم، فقالوا:{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }(الزخرف:22). فهؤلاء يضلهم الله تعالى بظلمهم، وبعدهم عن النور الهادي، واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات، واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى، لا من اختيار الله .. يضلهم وفق سنته، التي تنتهي بمن يظلم ويعمى عن النور، ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود.
والمراد بـ{الظالمين} الكفرة المشركين، بدليل مقابلتهم بـ{الذين آمنوا}، ووصفهم بالظلم إما باعتبار ظلمهم لأنفسهم؛ حيث بدلوا فطرة الله تعالى، التي فطر الناس عليها، فلم يهتدوا إلى القول الثابت، أو باعتبار أنهم قلدوا أهل الضلال وأعرضوا عن البينات الواضحة. وإضلالهم في الدنيا- على ما قال الزمخشري- أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن، وتزل أقدامهم أول شيء ، وهم في الآخرة أضل وأزل.. واخرج ابن جرير وابن أبي حاتم البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن الكافر إذا حضره الموت، تنزل عليه الملائكة عليهم السلام، يضربون وجهه ودبره، فإذا دخل قبره أُقعِد، فقيل له: من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئًا، وأنساه الله تعالى ذكر ذلك، وإذا قيل له: من الرسول الذي بعث إليكم؟ لم يهتد له، ولم يرجع إليهم شيئًا؛ فذلك قوله تعالى:{ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}.
{وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء}. أي: يفعل ما توجبه الحكمة؛ لأن مشيئة الله تعالى تابعة للحكمة من تثبيت الذين آمنوا، وتأييدهم، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم، وبين شأنهم عند زللهم.
وفي إظهار الاسم الجليل {اللَّهُ} في الموضعين من الفخامة، وتربية المهابة ما لا يخفى، مع ما فيه - كما قيل- من الإيذان بالتفاوت في مباديء التثبيت، والإضلال؛ فان مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ما هو مبدأ صدور الآخر. وفي ظاهر الآية من الرد على المعتزلة ما فيها.
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات. وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة باسم إبراهيم أبي الأنبياء، والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات، والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة، تحتوي دائماً على الحقيقة الكبرى.. حقيقة الرسالة الواحدة ، التي لا تتبدل، وحقيقة الدعوة الواحدة، التي لا تتغير، وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار.
[align=center]الجمعة، 18 آذار، 2005 محمد إسماعيل عتوك[/align]
واسمحوا لي رعاكم الله بمحاولة بيان معنى للآيات ، لم يخرج عن ما تفضلتم به .
واسمحوا لي رعاكم الله بمحاولة بيان معنى للآيات ، لم يخرج عن ما تفضلتم به .
معنى قوله تعالى في سورة إبراهيم : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى ٱلسَّمَآءِتُؤْتِىٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍۭ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) .
أم :
ألم تعلم – أيها الرسول – أن الله شبه كلمة التوحيد والإيمان ورسوخها في نفس المؤمن وما ينتج عنها من أعمال صالحة، كأطيب وأقوى أنواع الشجر ، جذورها راسخة ثابتة في الأرض، وهي في نمو مستمر ترتفع فروعها نحو السماء وتثمر دائما في موعدها بإذن ربها .
أما كلمة الشرك والكفر فهي في شدة تهافتها كأخبث أنواع الشجر، الذي لا جذور له تثبته في الأرض ، فيسهل استئصاله من فوقها، فلا تجد له استقرارا ولا ثباتاً.
والله تعالى أعلم بمراده .