أسرار العطف فی كتاب الله

الجوهرة الواحدة والخمسون

{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

والجمهور: " الملائكةُ " رفعاً عطفاً على اسم " الله ". وقرأ الحسن وأبو جعفر: " والملائكةِ " جراً وفيه وجهان، أحدُهما: الجر عطفاً على " ظُلَلٍ " ، أي: إلا أن يأتيهم في ظللٍ وفي الملائكة؛ والثاني: الجر عطفاً على " الغمام " أي: من الغمام ومن الملائكة، فتوصفُ الملائكة بكونِهَا ظُللاً على التشبيه.
 
الجوهرة الثانية والخمسون
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } * { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

قال الالوسي فى تفسيره:

{ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآء } ابتداء إخبار بأن بعض هؤلاء الذين أمروا بمقاتلتهم يتوب من كفره فيتوب الله تعالى عليه وقد كان كذلك حيث أسلم منهم / أناس وحسن إسلامهم. وقرأ الأعرج وابن أبـي إسحاق وعيسى الثقفي وعمرو بن عبيد { وَيَتُوبَ } بالنصب ورويت عن أبـي عمرو ويعقوب أيضاً، واستشكلها الزجاج بأن توبة الله تعالى على من يشاء واقعة قاتلوا أو لم يقاتلوا والمنصوب في جواب الأمر مسبب عنه فلا وجه لادخال التوبة في جوابه،

وقال ابن جني: إن ذلك كقولك: إن تزرني أحسن إليك وأعطِ زيداً كذا على أن المسبب عن الزيارة جميع الأمرين لا أن كل واحد مسبب بالاستقلال، وقد قالوا بنظير ذلك في قوله تعالى:
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تأخَّرَ }
[الفتح: 1-2] الخ وفيه تعسف.

وقال بعضهم: إنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على البعض فإذا قاتلوا جرى قتالهم جرى التوبة من تلك الكراهية فيصير المعنى إن تقاتلوهم يعذبهم الله ويتب عليكم من كراهة قتالهم، ولا يخفى أن الظاهر أن التوبة للكفار، وذكر بعض المدققين أن دخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى لأنه يكون منصوباً بالفاء فهو على عكس
{ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن }
[المنافقون: 10] وهو المسمى بعطف التوهم، ووجهه أن القتال سبب لغل شوكتهم وإزالة نخوتهم فيتسبب لذلك لتأملهم ورجوعهم عن الكفر كما كان من أبـي سفيان وعكرمة وغيرهما، والتقييد بالمشيئة للإشارة إلى أنها السبب الأصلي وأن الأول سبب عادي وللتنبيه إلى أن إفضاء القتال إلى التوبة ليس كإفضائه إلى البواقي؛ وزعم بعض الأجلة أن قراءة الرفع على مراعاة المعنى حيث ذكر مضارع مرفوع بعد مجزوم هو جواب الأمر ففهم منه أن المعنى ويتوب الله على من يشاء على تقدير المقابلة لما يرون من ثباتكم وضعف حالهم. وأما على قراءة النصب فمراعاة اللفظ إذ عطف على المجزوم منصوب بتقدير نصبه وليس بشيء، والحق أنه على الرفع مستأنف كما قدمنا { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } لا تخفى عليه خافية { حَكِيمٌ } لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمة ومصلحة فامتثلوا أمره عز وجل، وإيثار إظهار الاسم الجليل على الإضمار لتربية المهابة وإدخاله الروعة.

وقال السمين الحلبي فى الدر المصون:
وقرأ زيد بن علي والأعرج وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد، وعمرو بن فائد، وعيسى الثقفي، وأبو عمرو ـ في رواية ـ ويعقوب: " ويتوبَ " بالنصب.

فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فإنها استئنافُ إخبارٍ، وكذلك وقع فإنه قد أَسْلَمَ ناسٌ كثيرون. قال الزجاج وأبو الفتح: " وهذا أمرٌ موجودٌ سواءً قوتلوا أم يُقاتَلوا، ولا وجهَ لإِدخال التوبة في جوابِ الشرط الذي في " قاتِلوهم ". يَعْنيان بالشرط ما فُهِمَ من الجملةِ الأمرية.

وأمَّا قراءةُ زيد وَمَنْ ذُكِر معه، فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلةً في جوابِ الأمر من طريقِ المعنى. وفي توجيهِ ذلك غموضٌ: فقال بعضهم: إنَّه لمَّا أَمَرَهُمْ بالمقاتلة شَقَّ ذلك على بعضِهم، فإذا أقدموا على المقاتلةِ، صار ذلك العملُ جارياً مَجْرى التوبة من تلك الكراهة. قلت: فيصير المعنى: إن تقاتلوهم يُعَذِّبْهم ويتبْ عليكم من تلك الكراهة لقتالهم.

وقال آخرون في توجيه ذلك: إنَّ حصولَ الظفر وكثرةَ الأموال لذَّةٌ تُطلب بطريقٍ حرامٍ، فلمَّا حَصَلَتْ لهم بطريقٍ حلالٍ، كان ذلك داعياً لهم إلى التوبة ممَّا تقدم، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة.

وقال ابن عطية في توجيهِ ذلك أيضاً: " يتوجَّه ذلك عندي إذا ذُهِب إلى أن التوبةَ يُراد بها هنا [أنَّ] قَتْلَ الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبةٌ لكم أيُّها المؤمنون وكمالٌ لإِيمانكم، فتدخلُ التوبة على هذا في شرطِ القتال ". قال الشيخ: " وهذا الذي قدَّره من كونِ التوبة تدخل تحت جوابِ الأمر، وهو بالنسبة للمؤمنين الذين أُمِرُوا بقتال الكفار. والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكفار، والمعنى: على مَنْ يشاء من الكفار، لأنَّ قتالَ الكفارِ وغلبةَ المسلمين إياهم، قد يكونُ سبباً لإِسلام كثير. ألا ترى إلى فتح مكة كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون، وحَسُن إسلامُ بعضِهم جداً، كابن أبي سرح وغيره ". قلت: فيكون هذا توجيهاً رابعاً، ويصيرُ المعنى: إن تقاتلوهم يتب الله على مَنْ يشاء من الكفار أي: يُسْلِمُ مَنْ شاء منهم.

وقال القرطبي فى تفسيره:
قوله تعالىٰ: { وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } القراءة بالرفع على الاستئناف؛ لأنه ليس من جنس الأوّل. ولهذا لم يقل «ويتُبْ» بالجزم؛ لأن القتال غير موجب لهم التوبة من الله جلّ وعزّ. وهو موجب لهم العذاب والخزي، وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم ونظيره: «فَإنْ يَشَإ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ» تَم الكلام. ثم قال:
{ وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ }
[الشورى: 24]. والذين تاب الله عليهم مثل أبي سفيان وعِكرمة بن أبي جهل وسليم بن أبي عمرو؛ فإنهم أسلموا. وقرأ ابن أبي إسحاق «وَيَتُوبَ» بالنصب. وكذا رُوي عن عيسى الثّقفي والأعرج، وعليه فتكون التوبة داخلة في جواب الشرط؛ لأن المعنى: إن تقاتلوهم يعذبهم الله. وكذلك ما عطف عليه. ثم قال: { وَيَتُوبُ ٱللَّهُ } أي إن تقاتلوهم. فجمع بين تعذيبهم بأيديكم وشفاء صدوركم وإذهاب غيظ قلوبكم والتوبة عليكم. والرفع أحسن؛ لأن التوبة لا يكون سببها القتال؛ إذْ قد تُوجد بغير قتال لمن شاء الله أن يتوب عليه في كل حال.
 
الجوهرة الثالثة والخمسون

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:
وقال الزمخشري: { وَمَن كَفَرَ } عَطْفٌ على " مَنْ آمَنَ " كما عَطَفَ " ومِنْ ذريتي " على الكافِ في " جاعِلُك ". قال الشيخ: أمَّا عطفُ " مَنْ كَفَر " على " من آمَنَ " فلا يَصِحُّ لأنه يتنافى تركيبُ الكلامِ، لأنه يصيرُ المعنى: قال إبراهيم: وارزُقْ مَنْ كَفَرَ لأنه لا يكونُ معطوفاً عليه حتى يُشْرِكَه في العامل، و " من آمن " العامل فيه فعلُ الأمر وهو العاملُ في " ومَنْ كفر " ، وإذا قَدَّرْتَه أمراً تنافى مع قوله " فَأُمَتِّعه " لأنَّ ظاهرَ هذا إخبارٌ من اللهِ بنسبةِ التمتع وإلجائِهم إليه تعالى وأنَّ كلاً من الفعلين تضمَّن ضميراً، وذلك لا يجوزُ إلا على بُعْدٍ بأن يكون بعد الفاء قولٌ محذوفٌ فيه ضميرٌ الله تعالى أي: قال إبراهيم وارزُقْ مَنْ كفر، فقال الله أمتِّعُه قليلاً ثم اضطرُّه، ثم ناقَضَ الزمخشري قوله هذا أنه عَطَفَ على " مَنْ " كما عَطَفَ " ومِنْ ذرِّيتي " على الكاف في " جاعِلك " فقال: " فإنْ قُلْتَ لِمَ خَصَّ إبراهيمُ المؤمنينَ حتى رَدَّ عليه؟ قلت: قاسَ الرزقَ على الإِمامة فَعَرَف الفرْقَ بينهما بأنَّ الإِمَامة لا تكون للظالِم، وأمَّا الرزقُ فربما يكون استدراجاً، والمعنى: قال وأرزقُ مَنْ كفر فأمتِّعه " فظاهرُ قولِه " والمعنى قال " أنَّ الضمير ٌٌٌٌٌٌفي " قال " لله تعالى، وأنَّ " مَنْ كَفَرَ " منصوبٌ بالفعلِ المضارعِ المسندِ إلى ضميرِ المتكلِّم "
قال الامام ابو حيان فى البحر:

وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما: { فأمتعه قليلاً ثم أضطره } على صيغة الأمر فيهما، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على إبراهيم، لما دعا للمؤمنين بالرزق، دعا على الكافرين بالأمتاع القليل والإلزاز إلى العذاب. ومن: على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع، على أن تكون موصولة أو شرطية، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضاً.
وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على الله تعالى،
 
الجوهرة الرابعة والخمسون

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ ٱلْكِتَابِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون
قوله: { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ } يجوزُ في " ما " وجهان، أحدُهما: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ عطفاً على " نعمة " أي اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم، فعلى هذا يكون قولُه " يَعِظُكُم " حالاً، وفي صاحبِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه الفاعلُ في " أنزل " وهو اسمُ الله تعالى، أي: أنزله واعظاً به لكم. والثاني: أنه " ما " الموصولةُ، والعاملُ في الحالِ اذكروا. والثالث: أنه العائد على " ما " المحذوفُ، أي: وما أنزلهُ موعوظاً به، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ أَنْزَل.

والثاني: من وَجْهَي " ما " أن تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء، ويكون " يَعِظُكُم " على هذا في محلِّ رفعٍ خبراً لهذا المتبدإِ، أي: والمُنَزَّلُ عليكم موعوظُ به. وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ.
 
الجوهرة الخامسة والخمسون

فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ } في محلِّ " مَنْ " أوجهٌ،

أحدُها: الرفعُ عطفاً على التاءِ في " أَسْلَمْتُ " ، وجاز ذلك لوجودِ الفصلِ بالمفعولِ، قاله الزمخشري وبه بَدَأَ، وكذلك ابنُ عطية. قال الشيخُ: " ولا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على ظاهِرِهِ؛ لأنه إذا عُطِفَ على الضميرِ في نحو: " أُكلتُ رغيفاً وزيدٌ " لَزِمَ مِنْ ذلك أَنْ يَكونا شريكَيْنِ في أكلِ الرغيف، وهنا لا يَسُوغُ [فيه] ذلك لأنَّ المعنى ليس على: أَسْلَمُوا هم وهو صلى الله عليه وسلم وجهَه الله، بل المعنى على أنَّه صلى الله عليه وسلم أَسْلَمَ وجهَهُ لله، وهم أَسْلموا وجوهَهم لله، فالذي يَقوَى في الإِعرابِ أنه معطوفٌ على الضمير محذوفٌ منه المفعولُ، لا مشارِكٌ في مفعولِ " أَسْلَمْتُ " والتقديرُ: " وَمَنِ اتَّبَعَنِي وجهَه أو أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ، لدلالةِ المعنى عليه، والتقديرُ: ومَنِ اتَّبعني كذلك أي: أَسْلَموا وجوهَهم لله، كما تقول: " قَضَى زيدٌ نَحْبَهُ وعَمروٌ " أي: وعمروٌ كذلك، أي: قَضَى نَحْبَه ".

قلت: إنَّما صَحَّ في نحوِ: " أكلتُ رغيفاً وزيدٌ " المشاركةُ لإِمكانِ ذلك، وأمَّا نحوُ الآيةِ الكريمةِ فلا يَتَوَهَّمُ أحدٌ فيه المشاركةَ.

الثاني: أنه مرفوعٌ بالابتداءِ والخبرُ محذوفٌ كما تقدَّم تقريرُهُ.

الثالث: أنه منصوبٌ على المعيَّة، والواوُ بمعنى مع، أي: أَسْلَمْتُ وجهيَ لله مع مَنِ اتَّبعني، قاله الزمخشري أيضاً. قال الشيخُ: " ومِن الجهة التي امتَنَعَ عَطْفُ " ومَنْ " على الضمير إذا حَمَلَ الكلامَ على ظاهِرِهِ دونَ تأويلٍ يمتنعُ كونُ " مَنْ " منصوباً على أنه مفعولٌ معه، لأنَّك إذا قلت: " أكلتُ رغيفاً وعمراً " أي: مع عمرٍو دَلَّ ذلك على أنه مشارِكٌ لك في أَكْلِ الرغيف، وقد أجاز الزمخشري هذا الوجه، وهو لا يجوزُ لِما ذكرنا على كلِّ حال؛ لأنه لا يجوزُ حَذْفُ المفعولِ مع كونِ الواوِ واوَ " مع " البتة ". قلت: فَهْمُ المعنى وعَدَمُ الإِلباسُ يُسَوِّغُ ما ذكرَهُ الزمخشري، وأيُّ مانِعٍ من أنَّ المعنى: فقل: أسلمتُ وجهيَ لله مصاحباً لِمَنْ أسلمَ وجهَهُ لله أيضاً، وهذا معنًى صحيح مع القولِ بالمعية.

الرابع: أنَّ محلَّ " مَنْ " الخفضُ نَسَقاً على اسمِ الله تبارك وتعالى، وهذا الإِعرابُ وإنْ كان ظاهرُهُ مُشْكلاً، فقد يُؤَوَّلَ على معنى: جَعَلْتُ مَقْصَدِي لله بالإِيمانِ به والطاعةِ له ولِمَنْ اتَّبعني بالحفظِ له، والتحفِّي بعلمه وبرأيه وبصحبته.
 
الجوهرة السادسة والخمسون

{ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: " وثامِنُهُم " في هذه الواوِ أوجهٌ، أحدُها: أنها عاطفةٌ، عَطَفَتْ هذه الجملةَ على جملةِ قولِه " هم سبعة " فيكونون قد أَخبَرو بخبرين، أحدُهما: أنهم سبعةُ رجالٍ على البَتِّ. والثاني أنَّ ثامنَهم كلبُهم، وهذا يُؤْذِنُ بأنَّ جملةَ قولِه { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } مِنْ كلام المتنازِعِيْنَ فيهم.

الثاني: أنَّ الواوَ للاستئنافِ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى أخبر عنهم بذلك. قال هذا القائلُ: وجيءَ بالواوِ لتعطي انقطاعَ هذا ممَّا قبله.

الثالث: أنها الواوُ الداخلةُ على الصفةِ تأكيداً، ودلالةً على لَصْقِ الصفةِ بالموصوفِ. وإليه ذهب الزمخشري، ونَظَّره بقولِه:
{ مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ }
[الحجر: 4].

ورَدَّ الشيخ عليه: بأنَّ أحداً من النحاة لم يَقُلْه، وقد تقدَّم القولُ في ذلك.

الرابع: أنَّ هذه تُسَمَّى واوَ الثمانية، وأنَّ لغةَ قريش إذا عَدُّوا يقولون: خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة، فيُدْخلون الواوَ على عَقْدِ الثمانيةِ خاصة. ذكر ذلك ابن خالويه وأبو بكر راوي عاصم. قلت: وقد قال ذلك بعضُهم في قولِه تعالى:
{ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا }
[الآية: 73] في الزمر فقال: دخلَتْ في أبوابِ الجنة لأنها ثمانيةٌ، ولذلك لم يُجَأْ بها في أبوابِ جهنم لأنها سبعةٌ وسيأتي هذا إن شاء الله.

وقال الالوسي فى تفسيره:

أما إذا قيل إن قوله تعالى: { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } استئناف منه سبحانه لا حكاية عنهم فيفهم أن القائلين سبعة أصابوا ولا يلزم أن يكون خبراً بعد خبر، ويقويه ذكر { رَجْماً بِٱلْغَيْبِ } قبل الثالثة فدل على أنها مخالفة لما قبلها في الرجم بالغيب فتكون صدقاً البتة إلا أن هذا الوجه يضعف من حيث إن الله تعالى قال: { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } فلو جعل { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } تصديقاً منه تعالى لمن قال سبعة لوجب أن يكون العالم بذلك كثيراً فإن أخبار الله تعالى صدق فدل على أنه لم يصدق منهم أحد، وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجملة كلها متساوية في المعنى، وقد تعذر أن تكون الأخيرة وصفاً فوجب أن يكون الجميع كذلك انتهى.

وقال الرازى فى تفسيره

روى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبياً كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال العاقب وكان نسطورياً كانوا خمسة سادسهم كلبهم، وقال المسلمون كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، قال أكثر المفسرين هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه. الأول: أن الواو في قوله: { وَثَامِنُهُمْ } هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله تعالى:
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَـٰبٌ مَّعْلُومٌ }
[الحجر: 4] وفائدتها توكيد ثبوت الصفة للموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، فكانت هذه الواو دالة على صدق الذين قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، وأنهم قالوا قولاً متقرراً متحققاً عن ثبات وعلم وطمأنينة نفس. الوجه الثاني: قالوا: إنه تعالى خص هذا الموضع بهذا الحرف الزائد وهو الواو فوجب أن تحصل به فائدة زائدة صوناً للفظ عن التعطيل، وكل من أثبت هذه الفائدة الزائدة قال المراد منها تخصيص هذا القول بالإثبات والتصحيح. الوجه الثالث: أنه تعالى أتبع القولين الأولين بقوله: { رَجْماً بِٱلْغَيْبِ } وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه، فوجب أن يكون المخصوص بالظن الباطل هو القولان الأولان، وأن يكون القول الثالث مخالفاً لهما في كونهما رجماً بالظن. والوجه الرابع: أنه تعالى لما حكى قولهم: { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } قال بعده: { قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } فاتباع القولين الأولين بكونهما رجماً بالغيب واتباع هذا القول الثالث بقوله: { قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } يدل على أن هذا القول ممتاز عن القولين الأولين بمزيد القوة والصحة.

والوجه الخامس: أنه تعالى قال: { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } وهذا يقتضي أنه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل وكل من قال من المسلمين قولاً في هذا الباب قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول. كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: كانوا سبعة وأسماؤهم هذا: يمليخا، مكسلمينا، مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوس، ودبرنوس، وسادنوس، وكان الملك يستشير هؤلاء الستة في مهماته، والسابع هو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم واسم كلبهم قطمير، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أنا من ذلك العدد القليل، وكان يقول: إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.

الوجه السادس: أنه تعالى لما قال: { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } والظاهر أنه تعالى لما حكى الأقوال فقد حكى كل ما قيل من الحق والباطل لأنه يبعد أنه تعالى ذكر الأقوال الباطلة ولم يذكر ما هو الحق. فثبت أن جملة الأقوال الحقة والباطلة ليست إلا هذه الثلاثة، ثم خص الأولين بأنهما رجم بالغيب فوجب أن يكون الحق هو هذا الثالث. الوجه السابع: أنه تعالى قال لرسوله؛ { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظَـٰهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً } فمنعه الله تعالى عن المناظرة معهم وعن استفتائهم في هذا الباب، وهذا إنما يكون لو علمه حكم هذه الواقعة، وأيضاً أنه تعالى قال: { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبي ولا يحصل للنبي، فعلمنا أن العلم بهذه الواقعة حصل للنبي عليه السلام، والظاهر أنه لم يحصل ذلك العلم إلا بهذا الوحي، لأن الأصل فيما سواه العدم، وأن يكون الأمر كذلك فكان الحق هو قوله: { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } واعلم أن هذه الوجوه وإن كان بعضها أضعف من بعض إلا أنه لما تقوى بعضها ببعض حصل فيه كمال وتمام، والله أعلم
 
الجوهرة السابعة والخمسون

قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله تعالى: { وَأَخِي }: في ستة أوجه

أظهرها: أنه منصوب عطفاً على " نفسي " والمعنى: ولا أملك إلا أخي مع مِلْكي لنفسي دون غيرنا.

الثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على اسمِ " إنَّ " ، وخبرُه محذوفٌ للدلالة اللفظية عليه أي: وإنَّ أخي لا يملك إلا نفسَه.

الثالث: أنه مرفوعٌ عطفاً على محل اسم " إنَّ " لأنه بعد استكمالِ الخبر، على خلافٍ في ذلك، وإن كان بعضُهم قد ادَّعى الإِجماعَ على جوازِه.

الرابع: أنه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ للدلالة المتقدمة، ويكون قد عَطَف جملةً غيرَ مؤكدة على جملة مؤكَّدة بـ " إنَّ "

الخامس: انه مرفوع عطفاً على الضمير المستكنِّ في " أملك " ، والتقدير: ولاَ يَمْلِكُ أخي إلا نفسَه، وجاز ذلك للفصلِ بقوله: { إِلاَّ نَفْسِي } وقال بهذا الزمخشري ومكي وابن عطية وأبو البقاء وردَّ الشيخ هذا الوجهَ بأنه يلزم منه أن موسى وهرون لا يملكان إلا نفسَ موسى فقط، وليس المعنى على ذلك ". وهذا الردُّ ليس بشيءٍ، لأنه القائلَ بهذا الوجهِ صرَّح بتقدير المفعول بعد الفاعل المعطوف، وأيضاً اللَّبْسُ مأمونٌ، فإنَّ كلَّ أحدٍ يتبادر إلى ذهنه انه يملك أمرَ نفسِه.

السادس: أنه مجرورٌ عطفاً على الياء في " نفسي " أي: إلا نفسي ونفسَ أخي، وهو ضعيفٌ على قواعد البصريين للعطف على الضمير المجرور مِنْ غيرِ إعادةِ الجارّ وقد تقدَّم ما فيه.
 
الجوهرة الثامنة والخمسون

{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ } فيه ثلاثة أوجه.

أظهرُها: أنه مجرورٌ عطفاً على اسم الله تعالى أي: وفي سبيل المستضعفين.

والثاني: ـ وإليه ذهبَ الزجاج والمبرد ـ أن يكونَ مجرواً عطفاً على نفس " سبيل ". قال أبو البقاء ـ بعد أَنْ حكاه عن المبرد وحده ـ: " وليس بشيء " كأنه لم يظهر لأبي البقاء وجهُ ذلك، ووجهُ أنَّ تقديرَه: " وفي خلاص المستضعفين "

والثالث ـ وإليه ذهب الزمخشري ـ: أن يكونَ منصوباً على الاختصاص تقديره: وأَخُصُّ من سبيلِ الله خلاصَ المستضعفين، لأنَّ سبيلَ اللَّهِ عامٌّ في كلِّ خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخيور. والجمهورُ على " والمستضعفين " بواو العطف، وقرأ ابن شهاب: " في سبيل الله المستضعفين " وفيها تخريجان، أحدُهما: أن يكونَ حرفُ العطف مقدراً كقولهم: " أكلت لحماً تمراً سمكاً " والثاني: أن يكونَ بدلاً من " سبيل الله " أي: في سبيلِ الله سبيلِ المستضعفين، لأنَّ سبيلَهم سبيلُ الله تعالى.
 
الجوهرة التاسعة والخمسون

فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } * { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }


قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ }: فيه خمسةُ أوجه،

أحدهما: - وهو الظاهر- أنَّ " مِنْ " متعلقة بقوله " أخذنا " والتقدير الصحيح فيه أن يقال: تقديرُه: " وأَخَذْنا من الذين قالوا: إنَّا نصارى ميثاقهم " فتوقع " الذين بعد " أَخَذْنا " وتؤخِّر عنه " ميثاقهم " ولا يجوز أن تقدِّر " وأَخَذْنا ميثاقَهم من الذين " فتقدم " ميثاقَهم " على " الذين قالوا " وإنْ كان ذلك جائزاً من حيثُ كونُهما مفعولين، كلُّ منهما جائزُ التقديم والتأخيرِ، لأنه يلزم عودُ الضميرِ على متأخر لفظاً ورتبة، وهو لا يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ، نصَّ على ذلك جماعةٌ منهم مكي وأبو البقاء

الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ قامَتْ صفتُه مَقامه، والتقدير: " ومن الذين قالوا إنّا نصارى قومٌ أخذنا ميثاقهم " فالضمير في " ميثاقهم " يعود على ذلك المحذوف.

والثالث: أنه خبر مقدم أيضاً، ولكن قَدَّروا المبتدأ موصولاً حُذِف وبقيت صلتُه، والتقدير: " ومن الذين قالوا: إنَّا نصارى مَنْ أخذنا ميثاقهم " فالضمير في " ميثاقهم " عائد على " مَنْ " والكوفيون يجيزون حَذْفَ الموصول، وقد تقدم لنا معهم البحث في ذلك. ونقل مكي مذهب الكوفيين هذا، وقَدَّره عندهم: " ومن الذين قالوا: إنَّ نصارى مَنْ أخذنا " وهذا التقدير لايؤخذ منه أن المحذوف موصول فقط، بل يجوز أن تكونَ " مَنْ " المقدرةُ نكرةً موصوفةً حُذِفت وبقيت صفتُها، فيكون كالمذهب الأول.

الرابع: أن تتعلِّق " مِنْ " بـ " أخذنا " كالوجه الأول، إلا أنه لا يلزَمُ فيه ذلك التقديرُ، وهو أن توقع " من الذين " بعد " أخذنا " وقبل " ميثاقهم " ، بل يجوز أن يكون التقدير على العكسِ، بمعنى أنَّ الضميرَ في " ميثاقهم " يعودُ على بني إسرائيل، ويكون المصدرُ من قوله " ميثاقهم " مصدراً تشبيهياً، والتقدير: وأخذنا من النصارى ميثاقاً مثلَ ميثاق بني إسرائِيل كقولك: " أخَذْتُ من زيد ميثاق عمرو " أي: ميثاقاً مثل ميثاق عمرو، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري فإنه قال: " أَخَذْنا من النصارى ميثاقَ مَنْ ذُكِر قبلَهم من قوم موسى أي: مثل ميثاقِهم بالإِيمان بالله والرسل.

الخامس: أنَّ " من الذين " معطوف على " منهم " من قوله تعالى: " ولا تزال تَطَّلِعُ على خائنةٍ منهم أي: من اليهود، والمعنى: ولا تزال تَطَّلع على خائنةٍ من اليهود ومن الذين قالوا إنَّا نصارى، ويكون قوله: { ٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } على هذا مستأنفاً. وهذا ينبغي ألاَّ يجوز لوجهين، أحدهما: الفصلُ غيرُ المغتفر. والثاني: أنه تهيئةٌ للعامل في شيء وقطعه عنه، وهو لا يجوز.
 
الجوهرة الستون

وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ }

قال ابن كثير فى تفسيره

{ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ } قال بعضهم: الواو هاهنا حالية، أي: أتذره وقومه يفسدون في الأرض، وقد ترك عبادتك؟ وقرأ ذلك أبي بن كعب، وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك، حكاه ابن جرير، وقال آخرون: هي عاطفة، أي: أتدعهم يصنعون من الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى ترك آلهتك؟ وقرأ بعضهم: إلاهتك، أي: عبادتك. وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وغيره. وعلى القراءة الأولى قال بعضهم: كان لفرعون إله يعبده. قال الحسن البصري: كان لفرعون إله يعبده في السر، وقال في رواية أخرى: كان له جُمانة في عنقه معلقة يسجد لها. وقال السدي في قوله تعالى: { وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ } وآلهته - فيما زعم ابن عباس - كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء، أمرهم فرعون أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم السامري عجلاً جسداً.
 
الجوهرة الواحدة والستون

{ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:
قوله: { قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ } فيه أوجهٌ،

أحدها: أنه عطفٌ على " الصلاة " ، أي: وأَقِمْ قرآنَ الفجرِ، والمرادُ به صلاةُ الصبحِ، عَبَّر عنها ببعضِ أركانِها.
والثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراء، أي: وعليك قرآنَ الفجر، كذا قدَّره الأخفشُ وتَبِعه أبو البقاء، وأصولُ البصريين تَأْبَى هذا؛ لأنَّ أسماءَ الأفعالِ لا تعملُ مضمرةً.
الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ، أي: كَثِّر قرآنَ أو الزَمْ قرآنَ الفجرِ.
 
الجوهرة الثانية والستون

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { وَنَطْبَعُ } في هذه الجملة أوجه،

أحدها: أنها نسقٌ على " أَصَبْناهم " وجاز عطفُ المضارع على الماضي لأنه بمعناه وقد تقدم أنَّ " لو " تُخَلِّصُ المضارع للمضيِّ، ولما حكى الشيخ كلامَ ابن الأنباري المتقدِّم قال: " فجعل " لو " شرطيةً بمعنى " إنْ " ولم يجعلها التي هي " لِما " كان سيقعُ لوقوع غيره، ولذلك جعل " أَصَبْنا " بمعنى نُصيب. ومثال وقوعِ " لو " بمعنى " إنْ " قوله:
2253ـ لا يُلْفِكَ الرَّاجيك إلا مُظْهِرا خُلُقَ الكرامِ ولو تكون عَدِيما
وهذا الذي قاله ابن الأنباري رَدَّه الزمخشري من حيث المعنى، لكن بتقديرِ أنْ يكونَ " ونطبعُ " بمعنى طَبَعْنا، فيكون قد عَطَفَ المضارع على الماضي لكونه بمعنى الماضي، وابنُ الأنباري جَعَلَ التأويل في " أَصَبْنا " الذي هو جوابُ " لو نشاء " ، فجعله بمعنى نُصيب، فتأوَّل المعطوفَ عليه وهو جوابُ " لو نشاء " ، فجعله بمعنى نُصيب، فتأوَّل المعطوفَ ورَدَّه إلى المُضِيِّ، وأنتج ردُّ الزمخشري أنَّ كلا التقديرين لا يَصِحُّ ".

قال الزمخشري: " فإن قلت: هل يجوز أن يكون " ونطبع " بمعنى طبَعْنا، كما كان " لو نشاء " بمعنى لو شِئْنا، ويعطف على " أَصَبْناهم "؟ قلت: لا يساعد على المعنى، لأنَّ القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم، مَوْصوفين بصفة مَنْ قبلهم مِن اقتراف الذنوب والإِصابة بها، وهذا التفسير يؤدِّي إلى خلوِّهم من هذه الصفةِ، وأن الله لو شاء لاتَّصفوا بها ". قال الشيخ: " وهذا الردُّ ظاهرهُ الصحةُ، وملخصه أن المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ سواء تأوَّلنا المعطوفَ عليه أم المعطوفَ، وجوابُ " لو " لم يقع بعدُ، سواءً كانت حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى " إنْ " الشرطية، والإِصابةُ لم تقع، والطَّبْعُ على القلوب واقع فلا يَصحُّ أن تَعْطِفَ على الجواب. فإنْ تُؤَوِّل " ونطبع " على معنى: ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأن الاستمرار لم يقع بعدُ وإن كان الطبع قد وقع ". قلت: فهذا الوجه الأول ممتنع لِما ذكره الزمخشري.

الوجه الثاني: أنْ يكون " نطبع " مستأنفاً ومنقطعاً عَمَّا قبلَه فهو في نية خبرِ مبتدأ محذوف أي: ونحن نطبع. وهذا اختيارُ أبي إسحاق والزمخشري وجماعة.

الوجه الثالث: أن يكونَ معطوفاً على " يرثون الأرض " قاله الزمخشري. قال الشيخ: " وهو خطأٌ لأنَّ المعطوف على الصلة صلة و " يرثون " صلةٌ للذين، فيلزم الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي، فإن قوله " أنْ لو نشاء ": إمَّا فاعلٌ ليَهْد أو مفعولُه كما تقدَّم، وعلى كلا التقديرين فلا تَعَلُّقَ له بشيء من الصلة، وهو أجنبيٌّ منها فلا يُفْصل به بين أبعاضها، وهذا الوجهُ مُؤَدٍّ على ذلك فهو خطأ ".

الرابع: أن يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه معنى " أو لم يهد لهم " كأنه قيل: يغفُلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم. قاله الزمخشري أيضاً. قال الشيخ: " وهو ضعيفٌ؛ لأنه إضمار لا يُحتاج إليه، إذ قد صَحَّ عطفُه على الاستئناف من باب العطف على الجمل فهو معطوفٌ على مجموع الجملة المصدَّرة بأداة الاستفهام، وقد قاله الزمخشري وغيره
 
الجوهرة الثالثة والستون

ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

و { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ } نسقٌ على " المطَّوِّعين " أي: يَعيبون المياسير والفقراء.

وقال مكي: " والذين " خفضٌ عطفاً على " المؤمنين " ، ولا يَحْسُن عَطْفُه على " المطَّوِّعين " ، لأنه لم يتمَّ اسماً بعد، لأن " فيسخرون " عطف على " يَلْمِزُون " هكذا ذكره النحاس في " الإِعراب " له، وهو عندي وهمٌ منه ". قلت: الأمر فيه كما ذكر فإن " المطَّوِّعين " قد تَمَّ من غيرِ احتياجٍ لغيره.

وقوله: { فَيَسْخَرُونَ } نسقٌ على الصلة، وخبر المبتدأ الجملةُ من قوله: { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ } ، هذا أظهرُ إعرابٍ قيل هنا. وقيل: { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ } نسقٌ علىٰ " الذين يَلْمزون " ، ذكره أبو البقاء. وهذا لا يجوزُ؛ لأنه يلزمُ الإِخبارُ عنهم، بقوله: { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ } وهذا لا يكون إلا بأَنْ كان الذين لا يَجِدون منافقين، وأمَّا إذا كانوا مؤمنين كيف يَسْخر الله منهم؟ وقيل: { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ } نسقٌ على المؤمنين، قاله أبو البقاء. وقال الشيخ: " وهو بعيدٌ جداً " ، قلت: وَجْهُ بُعْدِ أنه يُفْهِمُ أن الذين لا يجدون ليسوا مؤمنين؛ لأنَّ أصلَ العطفِ الدلالةُ على المغايرة فكأنه قيل: يَلْمِزون المطَّوِّعين من هذين الصنفين: المؤمنين والذين لا يجدون، فيكون الذين لا يجدون مطَّوِّعين غيرَ مؤمنين.
 
الجوهرة الرابعة والستون

{ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله تعالى: { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ }: العامَّة على رفع " قِطَعٌ " و " جنات ": إمَّا على الابتداء، وإمَّا على الفاعلية بالجارِّ قبله. وقرئ { قِطَعاً مُّتَجَاوِرَاتٍ } بالنصب، وكذلك في بعض المصاحف، على إضمار " جَعَلَ ".

وقرأ الحسن " وجناتٍ " بكسر التاء وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنه جرٌ عطفاً على { كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ }. الثاني: أنه نصبٌ نَسَقاً على { زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } قاله الزمخشري. الثالث: نَصْبُه نسقاً على " رواسي ". الرابع: نَصْبُه بإضمار " جَعَلَ " وهو أَوْلى لكثرةِ الفواصلِ في الأوجهِ قبله. قال أبو البقاء: " ولم يَقْرَأ أحدٌ منهم " وزرعاً " بالنصب ".

قوله: { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالرفع في الأربعة، والباقون بالخفض. فالرفعُ في { زَرْعٌ وَنَخِيلٌ } للنسقِ على " قِطَعٌ " وفي " صِنْوان " لكونِهِ تابعاً لـ " نخيل " ، و " غيرُ " لعطفِهِ عليه.

وعاب الشيخُ على ابن عطية قولَه " عطفاً على " قطع " قال: " وليسَتْ عبارةً محررةً؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطف وهو صِنْوان " قلت: ومثل هذا غيرُ مَعيبٍ لأنه عطفٌ محققٌ، غايةُ ما فيه أنَّ بعضَ ذلك تابعٌ، فلا يُقْدَحُ في هذه العبارة.

والخفضُ مراعاةُ لـ " أعناب ". وقال ابن عطية: " عطفاً على أعناب " ، وعابَها الشيخ بما تقدَّم، وجوابُه ما تقدَّم.

وقد طعنَ قومٌ على هذه القراءة وقالوا: ليس الزرعُ من الجنات، رُوِيَ ذلك عن أبي عمروٍ. وقد أجيب عن ذلك: بأنَّ الجنةَ احتَوَتْ على النخيلِ والأعنابِ والزرعِ كقوله:
{ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً }
[الكهف: 32]. وقال أبو البقاء: " وقيل: المعنى: ونبات/ زرعٍ فَعَطَفه على المعنى ". قلت: ولا أدري ما هذا الجوابُ؟ لأنَّ الذين يمنع أن تكون الجنةُ من الزرعِ يمنع أن تكونَ من نباتِ الزرع، وأيُّ فرق؟
 
الجوهرة الخامسة والستون

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { وَهُمْ دَاخِرُونَ } في هذه الجملة ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها حالٌ من الهاءِ في " ظلالُه ". قال الزمخشري: " لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق اللهُ مِنْ شيءٍ له ظِلٌّ وجُمِع بالواوِ والنون؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصافِ العقلاء، أو لأن في جملة ذلك مَنْ يَعْقِل فَغُلِّبَ ".

وقد رَدَّ الشيخُ هذا: بأن الجمهور لا يُجيزون مجيءَ الحال من المضافِ إليه، وهو نظيرُ: " جاءني غلامُ هندٍ ضاحكةً " قال: " ومَنْ أجاز مجيئَها منه إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزء جوَّز الحاليةَ منه هنا، لأنَّ الظِّلَّ كالجزءِ إذ هو ناشِئٌ عنه ".

الثاني: أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في " سُجَّدا " فهي حالٌ متداخلِةٌ.

الثالث: أنها حالٌ مِنْ " ظلالُه " فينتصبُ عنه حالان.

ثم لك في هذه الواو اعتباران،

أحدُهما: أن تجعلَها عاطفةً حالاً على مثلِها فهي عاطفةٌ، وليست بواوِ حال، وإن كان خُلُوُّ الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأيٍ. وممَّن صَرَّح بأنها عاطفةٌ أبو البقاء.

والثاني: أنها واوُ الحال، وعلى هذا فيقال: كيف يقتضي العاملُ حالين؟ فالجوابُ أنه جاز ذلك لأنَّ الثانيةَ بدلٌ مِن الأولى، فإن أُريد بالسجودِ التذلُّلُ والخضوعُ فهو/ بدلُ كلٍ من كل، وإن أُريد به حقيقته فهو بدلُ اشتمالٍ؛ إذ السجودُ مشتملٌ على الدُّخور، ونظير ما نحن فيه: " جاء زيد ضاحكاً وهو شاكٍ " فقولك " وهو شاكٍ " يحتمل الحاليةَ من " زيد " أو من ضمير " ضاحكاً
 
الجوهرة السادسة والستون

{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } * { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله تعالى: { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ }: فيه أربعةُ أوجهٍ،

أحدها: أنه متعلقٌ بمحذوف، فقدَّره الزمخشريُّ: " ونُسْقيكم من ثمراتِ النخيل والأعناب، أي: مِنْ عصيرِها، وحُذِف لدلالةِ " نُسْقيكم " قبلَه عليه ". قال: " وتَتَّخذون: بيانٌ وكَشْفٌ عن كيفية الإِسقاء ". وقدَّره أبو البقاء: " خَلَقَ لكم وجَعَلَ لكم ".

وما قدَّره الزمخشريُّ أَلْيَقُ، لا يُقال: لا حاجةَ إلى تقدير " نُسْقيكم " بل قولُه { وَمِن ثَمَرَاتِ } عطفٌ على قولِه { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } فيكون عَطَفَ بعضَ متعلِّقاتِ الفعلِ الأولِ على بعضٍ، كما تقول: " سَقَيْتُ زيداً من اللبن ومن العسل " فلا يحتاج إلى تقديرِ فعلٍ قبل قولك " من العسل " ، لا يُقال ذلك لأنَّ " نُسْقيكم " الملفوظَ به وقع تفسيراً لِعبْرة الأنعام فلا يَليقُ تَعَلُّق هذا به، لأنه ليس من العِبْرة المتعلقةِ بالأنعام. قال الشيخ: " وقيل: متعلِّقٌ بـ " نُسْقيكم ". فيكونُ معطوفاً على { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } أو بـ " نُسقيكم " محذوفةً دلَّ عليها " نُسْقِيكم ". انتهى. ولم يُعْقِبْه بنكير، وفيه ما قَدَّمْتُه آنفاً.

الثاني: أنه متعلِّقٌ بـ " تَتَّخذون " و " منه " تكريرٌ للظرف توكيداً نحو: " زيدٌ في الدارِ فيها " قاله الزمخشريٌّ. وعلى هذا فالهاءُ في " منه " فيها ستةُ أوجهٍ. أحدها: أنها تعودُ على المضافِ المحذوفِ الذي هو العصيرُ، كما رَجَعَ في قوله
{ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ }
[الأعراف: 4] إلى الأهلِ المحذوفِ. الثاني: أنها تعود على معنى الثمراتِ لأنها بمعنى الثَّمَر. الثالث: أنها تعودُ على النخيل. الرابع: أنها تعودُ على الجنس. الخامس: أنها تعودُ على البعض. السادس: أنها تعود على المذكور.

الثالث من الأوجهِ الأُوَلِ: أنه معطوفٌ على قولِه { فِي ٱلأَنْعَامِ } ، فيكونُ في المعنى خبراً عن اسمِ " إنَّ " في قوله: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } ، التقدير: وإنّ لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لَعِبْرَةً، ويكونُ قوله " تتخذون " بياناً وتفسيراً للعِبْرة كما وقع " نُسْقِيكم " تفسيراً لها أيضاً.

الرابع: أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ فقدَّره الطبريُّ: " ومن ثمراتِ النخيل ما تتَّحذون " / قال الشيخ: " وهو لا يجوزُ على مذهبِ البصريين ". قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ له أن يقول: ليسَتْ " ما " هذه موصولةً، بل نكرةٌ موصوفةٌ، وجاز حَذْفُ الموصوفِ والصفةُ جملةٌ، لأن في الكلام " مِنْ " ، ومتى كان في الكلام " مِنْ " اطَّرد الحذفُ نحو: " منا ظَعَنَ ومنا أقام " ولهذا نظَّره مكيٌّ بقولِه تعالى:
{ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ }
[الصافات: 164]، أي: إلا مَنْ له مقام.

قال: فَحُذِفَتْ " " مَنْ " لدلالةِ " مِنْ " عليها في قوله " وما مِنَّا ". ولما قدَّر الزمخشري الموصوفَ قدَّره: ثَمَرٌ تتخذون، ونظَّره بقول الشاعر:
2996- يَرْمي بكفِّيْ كان مِنْ أَرْمى البشر
تقديرُه: بكفَّيْ رجل، إلاَّ أنَّ الحذفَ في البيت شاذٌّ لعدم " مِنْ ": ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال: " وقيل: هو صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: شيئاً تتخذون منه، بالنصب، أي: وإنَّ من ثمراتِ النخيل. وإن شئت " شيء " بالرفعِ بالابتداء، و { مِن ثَمَرَاتِ } خبرُه ".
 
الجوهرة السابعة والستون

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ }

قال السمين الحلبي في الدر المصون

قوله: { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ } في هذه الجملةِ وجهان،

أظهرُهما: أنها عطفٌ على " يُعْجِبَك " ، فهي صلةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب أو صفةٌ، فتكونُ في محلِّ رفعٍ على حَسَبِ القول في " مَنْ

". والثاني: أن تكونَ حاليةً، وفي صاحبِها حينئذٍ وجهان،

أحدهُما: أنه الضميرُ المرفوعُ المستكنُّ في " يعجبك " ،

والثاني: أنه الضميرُ المجرُور في " قوله " تقديرُه: يُعْجِبُك أَنْ يقولَ في أمر الدنيا، مُقْسِماً على ذلك

. وفي جَعْلها حالاً نظرٌ من وجهين، أحدهُما: من جهةِ المعنى، والثاني من جهةِ الصناعة، وأمَّا الأول فلأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ الإعجابُ والقولُ مقيدين بحالٍ والظاهرُ خلافهُ. وأمَّا الثاني فلأنه مضارع مثبتٌ فلا يَقَعُ حالاً إلا في شذوذٍ، نحو: " قُمْتُ وأصُكُّ عينه، أو ضرورةً نحو:
894 ـ....................... نَجَوْتُ وأَرْهُنُهم مالِكا
وتقديرُه مبتدأً قبلَه على خلافِ الأصلِ، أي: وهو يُشْهِدُ.
 
الجوهرة الثامنة والستون

{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

قال السمين فی دره المصون

قوله: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } في انتصابِها وجهان، أحدهما: أنها معطوفةٌ على " رأْفَةً ورحمةً ". و " جَعَلَ " إمَّا بمعنى خَلق أو بمعنى صيَّر، و " ابْتدعوها " على هذا صفةٌ لـ " رَهْبانية " وإنما خُصَّتْ بذِكر الابتداعِ لأنَّ الرأَفةَ والرحمةَ في القلب أمرُ غريزةٍ لا تَكَسُّبَ للإِنسانِ فيها بخلافِ الرهبانية فإنها أفعالُ البدن، وللإِنسانِ فيها تكسُّبٌ. إلاَّ أنَّ أبا البقاء منعَ هذا الوجهَ بأنَّ ما جعله اللَّهُ لا يَبْتدعونه. وجوابُه ما تَقَدَّم: مِنْ أنَّه لَمَّا كانت مكتسبةً صَحَّ ذلك فيها. وقال أيضاً: " وقيل: هو معطوفٌ عليها، وابتدعوها نعتٌ له. والمعنى: فَرَضَ عليهم لزومَ رهبانيةٍ ابتدعوها، ولهذا قال: { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ }.

والوجه الثاني: أنه منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ وتكون المسألةُ من الاشتغالِ. وإليه نحا الفارسيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء وجماعةٌ إلاَّ أنَّ هذا يقولون إنه إعرابُ المعتزلة؛ وذلك أنَّهم يقولون: ما كانَ مِنْ فِعْلِ الإِنسانِ فهو مخلوقٌ له، فالرحمةُ والرأفة لَمَّا كانتْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى نَسَبَ خَلْقَهما إليه. والرَّهْبانِيَّة لَمَّا لم تكنْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى بل مِنْ فعل العبدِ يَسْتَقِلُّ بفعلِها نَسَب ابتداعَها إليه، وللردِّ عليهم موضعٌ آخرُ هو أليقُ به من هذا الموضعِ، وسأبِّينُه إنْ شاء الله في " الأحكام ".

ورَدَّ الشيخُ عليهم هذا الإِعرابَ من حيث الصناعةُ وذلك أنَّه مِنْ حَقِّ اسمِ المُشْتَغَلِ عنه أن يَصْلُح للرفع بالابتداءِ و " رهبانيةً " نكرةٌ لا مُسَوِّغ للابتداء بها، فلا يصلُحُ نصبُها على الاشتغال. وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّمُ أولاً اشتراطَ ذلك، ويَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ قرأ " سورةً أنزَلْناها " بالنصب على الاشتغالِ كما قَدَّمْتُ تحقيقه في موضعه. ولئِنْ سَلَّمْنا ذلك فثَمَّ مُسَوِّغٌ وهو العطفُ. ومِنْ ذلك قولُه:
4235ـ عندي اصْطِبارٌ وشكْوى عند قاتلتي فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
وقوله:
4236ـ تَعَشَّى ونجمٌ قد أضاء فَمُذْ بدا مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضوْءُه كلَّ شارقِ
ذكر ذلك الشيخُ جمال الدين بن مالك.
 
الجوهرة التاسعة والستون

{ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ

الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }

قال السمين الحلبي فی الدر المصون

وقرأ محمد بن السائب الكلبي " كتابَ موسىٰ " بالنصبِ وفيه وجهان، أحدهما ـ وهو الظاهر ـ أنه معطوف على الهاء في " يتلوه " ، أي: يتلوه ويتلو كتابَ موسى، وفصلَ بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ. قال أبو البقاء: وقيل: تمَّ الكلامُ عند قولِه " منه " و " كتابَ موسىٰ " ، أي: ويتلو كتابَ موسىٰ " فقدَّر فعلاً مثلَ الملفوظِ به، وكأنه لم يرَ الفصلَ بين العاطفِ والمعطوفِ فلذلك قَدَّر فعلاً.

وقال القرطبي

وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ } بالنصب؛ وحكاها المهدويّ عن الكَلْبيّ؛ يكون معطوفاً على الهاء في { يَتْلُوهُ } والمعنى: ويتلو كتابَ موسى جبريلُ عليه السلام؛ وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ المعنى من قبله تلا جبريلُ كتابَ موسى على موسى. ويجوز على ما ذكره ابن عباس أيضاً من هذا القول أن يُرفع { كتاب } على أن يكون المعنى: ومن قبله كتاب موسى كذلك؛ أي تلاه جبريل على موسى كما تلا القرآن على محمد.
 
الجوهرة المائة

{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً }

قال السمين فی الدر المصون

قوله: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ }: في هذه الواوِ وجهان، أحدهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما قبلَها. وقال ابن عطية " { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قَسَمٌ والواو تَقْتَضيه، ويُفَسِّره قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ ماتَ له ثلاثٌ من الولد لم تَمَسَّه النار إلا تَحِلَّة القسمِ " قال الشيخ: " وذَهِلَ عن قولِ النحويين إنه لا يُستغنى عن القسمِ بالجواب لدلالةِ المعنى، إلا إذا كان الجوابُ باللامِ أو بـ " إنْ " والجوابُ هنا على زَعْمه بـ " إنْ " النافيةِ فلا يجوز حَذْفُ القسم على ما نَصُّوا. وقوله: " والواو تَقْتَضِيه " يدلُّ على أنها عنده واوُ القسم، ولا يذهبُ نحويٌ إلى أنَّ مِثْلَ هذه الواوِ واوُ قسمٍ لأنه يلزمُ مِنْ ذلك حَذْفُ المجرورِ وإبقاءُ الجارِّ، ولا يجوز ذلك إلا إنْ وَقَعَ في شعرٍ أو نادرِ كلامٍ بشرط أن تقومَ صفةُ المحذوف مَقامَه، كما أوَّلوا في قولهم: " نِعْمَ السيرُ على بئسَ العَيْرُ " ، أي: على عَيْرٍ بئسَ العَيْرُ، وقولِ الشاعر:
3250- واللهِ ما ليلى بنامِ صاحِبُهْ
أي: برجلٍ نام صاحبُهْ، وهذه الآيةُ ليست من هذا الضَّرْبِ؛ إذ لم يُحْذَفِ المُقْسَمُ به وقامَتْ صفتُه مَقامَه....
 
عودة
أعلى