أسباب الزيغ عن الحق (2) أوهام القبيلة.

إنضم
26 ديسمبر 2005
المشاركات
770
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
هذا هو النوع الأول من أنواع العوائق عن إصابة الحق وأسباب الزيغ عنه كما قررها الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون.

يقول بيكون: ((إن أوهام القبيلة ملازمة للطبيعة البشرية ولقبيلة الإنسان عينها أو لجنسه؛وذلك لأن اعتبار إحساس الإنسان مقياس الأشياء هو اعتبار كاذب.
بل العكس إن إدراكات كل من الحواس والعقل تتعلق بالإنسان وليس بالعالم.
والعقل البشري يشبه المرايا غير المستوية التي تضفي خواصها على الموضوعات المختلفة التي تصدر عنها الأشعة فتشوه الموضوعات وتغير من شكلها)).

يتحدث بيكون هنا عن أوهام القبيلة أو ما يسميه بعضهم أوهام الجنس وهي: الأوهام التي يكون سببها جنس الإنسان نفسه وما ركب فيه من عوامل الزيغ عن الحق،فمصدر هذه العوامل ليس تلقياً خارجياً وإنما من داخل نفس الإنسان من عيبه هو ونقصه هو.
وقد قصر الشراح كثيراً في أمثلة هذا النوع واقتصروا على بعض ما أشار له بيكون كالنزوع للتعميم قبل الاستقراء المفيد لهذا لتعميم،وكالعجلة للتصديق بالخرافات والأساطير،فهذا مثالان واضحان لكني سأتعداهما لمقصود هذه المقالات وهو :

بناء نسق متكامل لهذه الأوهام يجمع بين ما ذكره بيكون وما هو في الوحي في إطار من تفسير العموم المعنوي.

لكن قبل بسط القول في هذا لابد من الإشارة إلى قضية مهمة جداً ،وهي أننا إذا أردنا تأصيل باب أسباب الزيغ عن الحق = فينبغي أن ننتبه إلى أن الشريعة قد جمعت هذه الأسباب في سببين عظيمين هما الجهل والظلم الذي لا ينصف الحق من نفسه وإنما يضع هواه بينه وبين الحق.
فالجهل جهله بطرق تحصيل الحق ومعرفته،أو علم بها ولكن مع إعراض عن طلبها،أو طلبها لكن بتقصير في هذا الطلب يؤدي للخلل في تحصيل الحق فهذه أنواع الجهل الثلاثة.
والهوى: هو الاسم الجامع لكل تدخل ذاتي من رغبة الإنسان وإرادته في موضوع البحث يؤدي به للإعراض عن الحق وصرف البحث إلى ما يشتهيه.

يقول تعالى : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.

ويقول تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
فهذا الإعراض عن الحق الذي جاء به الوحي يؤدي إليه : اتباع الهوى.
والهوى شهوة أو شبهة تزيغ الإنسان عن الحق إما بأن يعرض عن سماعه وطلبه بالمرة فيجتمع الجهل والهوى وإما بأن يسمعه ويطلب تحصيله لكنه يسمح لشبهته أو شهوته بأن تتدخل في موضوع البحث فتزيغه الحق فيه من حيث يشعر أو لا يشعر.
فالصواب في نظري : أن أسباب الزيغ عن الحق التي يسوقها بيكون هي في حقيقة أمرها أسباب مؤدية للجهل أو للهوى أو لهما جميعاً،وحصول الجهل والهوى هو الذي يزيغ عن الحق ويضيعه ويٌضل عنه.

فكلامنا شرحاً لمقصود بيكون في أوهام القبيلة هو بيان للأخلاق السيئة التي تكون في الإنسان لا بمؤثر خارجي بل تعرض لكل إنسان بقطع النظر عن المؤثرات الخارجية،وهو ما أبسطه في النقاط التالية:

(1) لتحصيل الحق ثلاثة أبواب كبار هي : خبر الصادق(ومنه الوحي) – الفطرة- الحس،وأما التعقل فهي العملية التي تُدير النظر في هذه المعطيات كلها أو بعضها بحسب موضوع البحث ليتم التوصل إلى الحق.
فالله سبحانه : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}.فساق إلينا بالوحي من أبواب الحق والهداية والمعرفة ما نسأله سبحانه أن يوزعنا شكر نعمته.
والله سبحانه فطر الخلق على أبواب من الحق ركبها في نفوسهم عند خلقهم فهي مركوزة فيها تنتظر أن يهتدي الإنسان إليها أو يُهدى { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
والله سبحانه: { أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. ففي الآية الحس طريقة المرفة الثالث والأفئدة التي بها يعقل الإنسان كل ذلك.

(2) والإنسان إما أن يجهل الوحي أو خبر الصادق كطريق للمعرفة فيضل عن الحق وقد يكون لسبب يعذر فيه وقد لا ،وقد يكون مع طلب له لكن لا يهتدي وقد يكون بسبب إعراضه وتوليه.
وفي جميع ذلك فإن جهله الحق الذي أتى به خبر الصادق كالوحي يرجح أحياناً للنقص الذي في نفسه ،وهذا النقص نوعان :الأول نقص نوعه الضعف الذي في نفسه يؤدي إلى عجز عن بلوغ الخبر وحجته أو بسبب عجز عن فهمها،أو بسبب عجز وضعف عزم يؤدي للتقصير في الطلب والكسل عن استقصاء بينات الحق،وهذا الضعف والعجز هو من عموم ضعف الإنسان ونقصه فإن الإنسان خلق ضعيفاً. والثاني: النقص بسبب ما في الإنسان من آفات الكبر والحسد التي تؤدي به للإعراض عن سماع الحق فيقع هاهنا جهل بالحق أدى إليه الهوى.وقد يتمحض الهوى عن الجهل بأن يعلم طرق الحق ويطلبها ويستفرغ وسعه في طلبه لكنه لا يُخلص في طلب الحق وإنما يقدم عليه هوى نفسه إما بعلم وتضييع للحق تام فيكون من الهوى الخالص : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }.
ومثله من تبين له الحق ناصعاً بلون من ألوان الخبر فقد تُقبل قربان أخيه ولم يُتقبل منه ومع ذلك قاده الحسد إلى الهوى المضل عن الحق : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
وإما أن يخلط هذا الهوى بشيء من الحق فيكون حقاً مشوباً بالهوى وهو أكثر ما يقع في الناس.
فهذه ألوان من الجهل والهوى المضيعان للحق الثابت بالخبر قاد إليهما أخلاق نقص في بني آدم.

(3) وإما أن يجهل فطرته ويضل عنها ولذلك طرق عدة منها أن يهوده أهله أو يمجسوه أو ينصروه فيضل عن الحق،ويكون هذا الضلال عن الفطرة أحياناً بسبب عجزه وضعفه أيضاً كتسلط أهله عليه وهو ضعيف صغير.ومنها غفلته عن تلك الفطرة الأولى رغم تحرك دلائلها في نفسه وفي الكون حوله، ومنها أيضاً وهو من أجل ما يُعمي عن الفطرة وغيرها من طرائق المعرفة : فقد الخشية والتقى : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}،ويقول سبحانه: ((سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى)).وقد يُبصر فطرته ويقف على مقتضاها في نفسه وأنها تقتضي منه التسليم لهذا الحق فيتدخل هاهنا هواه ليضله : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.

(4) وإما أن يجهل الحق من طريق تقصير حواسه في تحصيله وخداعها لها ،وهذا من نقصه وعجزه أيضاً وخداع الحواس للإنسان حقيقة لا يرتاب فيه وهي من دلائل محدودية إدراكه وقصوره.وقد تصيب حواسه الحق ولكنه يكذب نفسه لشبهة أو شهوة فلا يتبع مقتضى ما جاءت به: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} ؛لذلك فإن أمثال هؤلاء ممن يبلغ بهم الهوى أن يكذبوا ما يشعرون يبتليهم الله عز وجل عقوبة : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}،فيكون مآلهم : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.

(5) وإما أن يجهل الحق من طريق تقصيره في عملية الاجتهاد والتعقل في إدارة معطيات طرق المعرفة السابق ذكرها.ووقوع الخطأ في عملية التعقل هذه هي بينة قصور ما يسمونه العقل (والحق أنه ليس شيء يسمى عقل وإنما هي عملية وفعل يقوم به الإنسان فيصيب ويخطيء)
ويقع هذا الخطأ جهلاً في عملية التعقل لأسباب نقص في الإنسان كالعجلة مثلاً : { وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}،وكالكسل والإهمال وضعف العزم : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}.
لذلك فإن الحلم والأناة والصبر في عملية التعقل والتعامل مع معطيات المعرفة بعد استفراغ الوسع في تحصيل هذه المعطيات هو أعظم وسائل النجاة من أوهام الجنس والقبيلة تلك.
وأما وقوع الخطأ هوى في عملية التعقل فكثير جداً حيث يلون الإنسان المعطيات بأهوائه ويقرأها بعين مراده فلا تكاد تبلغ به الحق أبداً،بل يميل عنه،{ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}.
فهم لا يتبعون المعطيات المعرفية المؤدية لحق : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}.

لذلك قال سبحانه بعدها : { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.

لذلك فلو رجعنا لهذه العوامل المؤدية لحصول الزيغ عن الحق جهلاً وهوى سنجدها جميعاً عبارة عن أخلاق سيئة في البحث العلمي عن الحق وسنجد للوحي بياناً حسناً جداً في التنبيه عليها وسؤال الخلوص منها وقد قدمنا بعض أمثلة ذلك من القرآن وبقيت بعض أمثلة السنة ومنها :

أولاً: عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالجُبْنِ وَالهَرَمِ)).
فهذه أربعة يتعوذ منها صلى الله عليه وسلم
العجز: وما فيه من تضييع للحق وما يؤدي إليه من نقص في الاجتهاد.
والكسل: وما يقود إليه من فساد كالتقصير في جمع النصوص أو في اختبار الحواس طلباً للدعة.
والجبن: وما يؤدي إليه من ضلال عن الحق خوفَ الناس مثلاً.
والهرم: وما يصحبه من وهن ومشقة تعوق عمليات التعقل المختلفة.
ثانياً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ : (( إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ)).

وليس كالحلم والأناة معين للباحث عن الحق ومنقذ له من عيوبه الشخصية التي تؤدي لفساد بحثه.

ثالثاً:يقول صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)).
والرفق هو وضع كل شيء في حاق موضعه،وإعطاء كل ذي حق حقه،ومن أضاع هذا القدر فإنه يضل عن الحق فإنه كما قال صلى الله عليه وسلم: ((نْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ)).

رابعاً: يقول صلى الله عليه وسلم : ((الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).
وفيه ينبه النبي صلى الله عليه وسلم على حد الكبر بظاهرة إجرائية له وهي بطر الحق وجحده مع المعرفة البينة به،فهذا خلق سيء يُزيغ عن الحق يُحذر منه صلى الله عليه وسلم.


فحاصل ما تقدم :

أن من أعظم أسباب الزيغ عن الحق ما يكون في الإنسان من قصور ونقص في ذاته وأخلاقه يقود هذا القصور إلى وعماده الجهل والظلم بالهوى المضلان عن الحق.

وأختم بنقولات حسنة عن رجلين من أهل العلم تُحذر من هذين الطريقين وتبين كيف أن مبناهما على نقص الإنسان وما يكون فيه من أخلاق سيئة.

قال شيخ الإسلام: ((صلاحُ العبد في أن يعلمِ الحقَّ ويَعمَلَ به، فمن لم يَعلمِ الحقَّ فهو ضالٌّ عنه، ومَن عَلِمَه فخالفَه واتبَعَ هَواه فهو غاوٍ، ومَن علمه وعَمِل به كان من أولي الأيدي عملاً ومن أولي الأبصار علمًا. وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله سبحانه في كلِ صلاة أن نقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) فالمغضوب عليهم: الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه كاليهود، والضالّون: الذين يعملون أعمالَ القلوب والجوارح بلا علمٍ كالنصارى))[جامع 3/85].

وقال الشيخ: ((وَلِهَذَا تَجِدُ الْيَهُودَ يُصَمِّمُونَ وَيُصِرُّونَ عَلَى بَاطِلِهِمْ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْقَسْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَهْوَاءِ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَأَعْظَمُ ضَلَالًا مِنْهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي الْعَادَةِ وَالْأَخْلَاقِ أَقَلَّ مِنْهُمْ شَرًّا فَلَيْسُوا جَازِمِينَ بِغَالِبِ ضَلَالِهِمْ بَلْ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ تَجِدُ مَنْ تَرَكَ الْهَوَى مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَنَظَرَ نَوْعَ نَظَرٍ تَبَيَّنَ لَهُ الْإِسْلَامُ حَقًّا)).

وذكر المعلمي اليماني من وجوه عدم الرجوع للحق والإقرار به: ((الوجه الثاني: أن يكون قد صار في الباطل جاه وشهرة ومعيشة، فيشق عليه أن يعترف بأنه باطل فتذهب تلك الفوائد.
الوجه الثالث: الكبر، يكون الإنسان على جهالة أو باطل، فيجيء آخر فيبين له الحجة، فيرى أنه إن اعترف كان معنى ذلك اعترافه بأنه ناقص، وأن ذلك الرجل هو الذي هداه، ولهذا ترى من المنتسبين إلى العلم من لا يشق عليه الإعتراف بالخطأ إذا كان الحق تبين له ببحثه ونظره، ويشق عليه ذلك إذا كان غيره هو الذي بين له.
الوجه الرابع: الحسد وذلك إذا كان غيره هو الذي بين الحق فيرى أن اعترافه بذلك الحق يكون اعترافاً لذلك المبين بالفضل والعلم والإصابة، فيعظم ذلك في عيون الناس، ولعله يتبعه كثير منهم، وإنك لتجد من المنتسبين إلى العلم من يحرص على تخطئه غيره من العلماء ولو بالباطل، حسداً منه لهم، ومحاولة لحط منزلتهم عند الناس)).

ويقول المعلمي رحمه الله: ((فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى وقد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريراً يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذاك الخادش وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته، هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لولم يلح لي الخدش ولكن رجلاً آخر أعترض علي به؟ فكيف كان المعترض ممن أكرهه؟
هذا ولم يكلف العالم بأن لا يكون له هوى؟ فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالم أن يفتش نفسه عن هواها حتى يعرفه ثم يحترز منه ويمعن النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه)).


ويقول الدكتور عبد الكريم بكار : ((ولستُ أبالغ إذا قلتُ : إن كثيراً من الناس حين يحاول تصوير واقع ما = لا يستخدم عقله وأدوات المعروفة ووسائل الإثبات في محاولة إدراك حقيقة ما يجري؛وإنما يلتقط صوراً محددة من ذلك الواقع،وهي بالتحديد تلك الصور التي يمكنها أن تُغذي ظنونه وخيالاته وأحلامه ومعتقداته التي امتلكهامسبقاً حول ذلك الواقع.


وبذلك فإنه يصور لنا الواقع ليس على ما هوعليه،ولكن على ما يشتهي أن يكون عليه !

والحل : أنه لابد أن نعترف أولاً بقصور الأدوات التي تمكننا من فهم الواقع.
ولابد أن نعترف أيضاً بأن الواقع الذي نريد فهمه يتمتع بطبيعة زئبقية؛فهو يستعصي على التشكيل.
وحين نؤمن بهذا = نستطيع أن نسير في الاتجاه الصحيح لفهم الواقع،وذلك عبر استقصاء منهجي له ،واستقراء حليم لمفرداته،وتحديدالتعريفات،وتقسيم الواقع إلى أصغر وحدات ممكنة،والقيام بتحريات دقيقة،وتوفيرمعلومات موثقة،والبعد عن سمادير الوهم وخيالات الظن،والسعي لتحصيل كل ما من شأنه = زيادة قدرة حواسنا الضعيفة والمحدودة.

وبعد كل هذا نقول : إن التوصيف الذي سنصل إليه،والتحليل الذي سندلل عليه = ليس كاملاً ،بل هو قابل للجدال والنقاش،بل وقابل للحكم عليه بالخطأ والزلل أيضاً .

وإذا لم نفعل ذلك فإن تحليلنا لأي واقع لا يصورهذا الواقع بمقدار ما يصور جهلنا وغرورنا وقلة صبرنا على التعامل مع الأشياء الدقيقة والمباحث خطرة الشأن))

والحمد لله رب العالمين
 
عودة
أعلى