أنا أرفض رفضا قاطعا أن نتطلّّع لأهل القرآن كما لو كانوا ملائكة, فهم بشر مهما علا شأنهم ورفُعتْ مكانتهم. فيهم الخيّر والأخْيَر, وفيهم السيّئ والأسوأ, ولا يصحّ الحكم عليهم جميعا بحكم واحد من حيث الصلاح أو الفساد, بل إن الحكم العادل الأليق بهم ـ من وجهة نظري ـ هو أن يقال أنهم بشر؛ يصيبون ويخطئون, يتواضعون ويتعالون, ينصفون ويظلمون, يحسنون ويسيئون إلا من رحم الله.
ولي تجربة مؤلمة ـ بعض الشيء ـ حدثتْ معي في صغري مع أهل القرآن جعلتني أُحِيكُ رأيا صارما فيهم, تبلْوَر هذا الرأي داخلي من واقع عشته وتجرعتُ غصصه الواحدة تلو الأخرى. وبغض النظر عن نظرتي القاصرة وقتها والتي حتَّمَتْ عليّ رؤية الواقع من زواية ضيقة الأفق؛ إلا أنه كان واقعا آلمني وأزعجني ردها من الزمن, ربما اليوم أنظر إليه بنظرة أكثر نضجا وأقل اتهاما ولذاعة من ذي قبل؛ لكنه يبقى واقعا لي الحق في سرده من الزاوية الطفولية القاصرة التي كنتُ أرى بها الأشياء وقتها. وأرجو أن يُستخلص من سردي هذا بعض الفوائد والعبر:
فمنذ صغري ورغم أني نشأتُ في أسرة ملتزمة من أهل القرآن؛ إلا أن الملتزمين ـ هم أنفسهم ـ قد جعلوني أكره الالتزام وأهله جملة وتفصيلا, فلا أحب مجالستهم ولا الاجتماع بهم؛ سواء في مدارس التحفيظ أو المجالس الخاصة أو العامة, وبالطبع كان هناك أسباب ومبررات جعلتني على هذه الصورة وسأسرد بعضا منها:
حين كنتُ في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي أُجبرتُ على التسجيل في مدرسةٍ لتحفيظ القرآن في المساء, ونظرا لأني كنتُ أحفظ نصف القرآن مع مَدرستي الصباحية (وهي أيضا مدرسة لتحفيظ القرآن وأظنها تشبه مدارس الأزهر تقريبا) لم أُلحق بحلقات الصغيرات, وإنما أُلحقتُ بالحافظات, وكانتْ أعمارهن فوق العشرين إلى الخمسين تقريبا, وكنتُ أصغر طالبة بينهن, وكانت المعلمة شديدة في أسلوبها, لاتفوِّت لي خطأ ولا هفوتا, ولم تفرق في معاملتها بيني وبين البقية رغم فارق العمر, فكانتْ تصحح لي التجويد بصرامة, وكنتُ أشعر أنني فأرُ تجاربٍ قد سقط في معملها؛ فحين أقرأ تطلب من الجميع المشاركة في تصحيح أخطائي, وكأني لا تكفيني معلمة واحدة! فإذا أخطأتُ تقلّد خطأي بطريقة مضحكة ومبالغ بها فتنفجر الضحكات من حولي, ويتندّر البعض منهن حتى بردود أفعالي, ثم يتداولن النقاش في وجهات نظرهن حولي؛ وأنا بينهن كمجرم يرتجف خلف القضبان في قاعة المحكمة؛ وقد تشتتْ عيناه في رعب بين محامي الاتهام ومحامي الدفاع, ولأن نظرتي للأمور كانت من منظور ضيق ومحدود وقتها, فقد كرهتُ التحفيظ من شخص تلك المعلمة وكرهتُ الملتزمات من فعلهن وفعلها. ثم تمرّدتُ على الجميع وتركتُ الحلقة ولم أعد إليها أبدا. وكانت تلك هي الشرارة الأولى في حياتي.
ثم استمر كرهي يزداد للملتزمين والملتزمات عامة ومعلمات التحفيظ خاصة حتى بلغتُ المرحلة المتوسطة. وفيها بُليتُ بنماذج تكرِّه في الدين من حيث تريد أن ترغِّب فيه. فقد كانت الشدة منهجهن في الأمر بالمعروف وفي النهي عن المنكر, وحاولتُ عبثا أن أجادل أو أرفض هذا الأسلوب الفظ إلا أن النقاش كان مبدأ مرفوضا.
وفي تلك المرحلة ورغم أنني كنتُ محجّبة حجابا كاملا؛ وأعتز بالحجاب بل وأناقش وأنافح دفاعا عنه؛ إلا أن إصراري مثلا على ترك الإسدال ولبس النقاب الذي بالكاد يُظهر رموشي أو لبس الجوارب الشفافة أو عدم مداومتي على لبس القفازات, يجعلني مصنفة في أعين هؤلاء, من العصاة الضالين أصحاب الكبائر!
فيحزّ في نفسي ازدرائهن لي بهذا الشكل, فأهرب من سياط نظراتهن الحارقة تلك لأدخل بسببهن ـ رغما عني ـ في زمرة الكارهات للالتزام وأهله رغم حبي واعتزازي بالدين.
وفي المدرسة كانتْ تُعرف المعلمة الملتزمة من هيأتها, فهي لا تهتم باللباس ولا بالزينة, والطالبة الملتزمة كذلك لا تهتم بشعرها ولا حقيبتها ولا تهتم بإكسسواراتها, بل نراها متجهّمة أغلب الأحيان, ولا تحضر الفسحة معنا ولا تخالطنا, ولا تضحك وتكركر مثلنا لأن المسلم لا ينبغي له أن يضحك, وكان عليه السلام يبتسم فقط....الخ, وكثيرا ما كانت تُلقي الواحدة منهن وهي في طريقها مارة بجوار مجالسنا العادية قنبلة موقوتة في شكل نصيحة قصيرة مقتضبة تبتغي بها وجه الله لكنها تفسد بها أكثر مما تصلح لسوء تقديرها للزمان والمكان, وهي قوله تعالى (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا) فنبتلع ضحكاتنا الصاخبة البريئة؛ وتجحظ أعيننا فزعا, ثم يمسك بعضنا بعضا لنهدِّأ الثائرات منّا حتى لا نسّبها وفي فورة الغضب قد نتطاول على الدين بسببها. وكم كنتُ أمقتُ هذه المظاهر التي تزيدني كرها وبغضا للالتزام.
وحين كنتُ أناقش وأجادل معلمات الدين في بعض الفتاوى التي لا تدخل عقلي مثل: فتوى تحريم لبس البنطال ولو على بلوزة طويلة تصل إلى الركبة, فكنتُ أقول للمعلمة أرأيتِ إن لبستُ البنطال مع بلوزة طويلة تغطي الركبة هل يجوز لي ذلك؟ فتجيب: لا؛ البنطال حرام للنساء. فأقول: فما الحكم لو أنني ارتديتُ هذه البلوزة الطويلة التي تغطي الركبة وحدها دون البنطال, هل يجوز؟ فتجيب: نعم, وحين تفطن لحيلتي وخبث سؤالي أُعنّف وأُتّهم بأني أتحايل على فتاوى العلماء!.
هذه نماذج كانتْ موجودة بيننا تجعلك تكره الالتزام, رغم أن الدين لا يصح أن يُحكم عليه بأفعال المنتسبين إليه وعقولهم وإنما هو أرقى من ذلك كله, لكن عقلي الصغير حينها لا يستوعب أن ثمّة فرق بين الالتزام وبين الملتزمين.
ثم كان من أسباب ذلك الكره الطفولي أنني أحبّ الصراحة بطبعي وأكره الازدواجية, فكنتُ أغضب حين أرى معلمتي وهي تتحدث بحماسٍ عن الظلم وأسبابه وعواقبه, ثم تطلب منّا أن نكتب لها صورا أو قصصا على الظلم؛ لأجد وجهها بعد ذلك قد امتقع وتلوّن عدة ألوان وهي تقرأ ورقتي, ثم ترفضها وتطلب غيرها, لا لشيء سوى أنني كتبتُ بالصدق الذي تعلمتُه منها عن ظلم أمريكا وبغيها واستعبادها للبشر؛ وأنها سيدة الظلم على مستوى العالم؛ وأنني لا أستطيع أن أنطق بكلمة الظلم دون أن تقفز أمريكا إلى خيالي!.
ولأني صغيرة لم أكن أفهم أن للصدق حدود! وأن الذي يتجاوز هذا الحد سيذهب في رحلة ( وراء الشمس) وقد يعجبه المكان فلا يعود أبدا! . كل ذلك قد ساهم في تشويه صورة الالتزام وأهله في عيني, وكنتُ أرى مجالسهم مجالس نصح متشددة أغلبها عن الموت وعذاب القبر, وفيها الكثير من الاستنقاص من غير الملتزمين, فكنتُ عنادا فيهم أزيد من غيي ولا أبالي, حتى طال كرهي صديقات والدتي الملتزمات, فكنتُ لا أخرج في مجالسهن ولا أذهب مع أمي لزيارتهن, فإن حدث وقابلتهن أستفزهن بأي طريقة, إما بلبسي أو باندماجي في رواية أدبية أمسك بها بين أناملي أو بتعمّدي التمايل أمامهن طربا وأنا أتمتم بعض الكلمات ليظنّوا أني أغني فيجنّ جنونهن.
حتى تداركتني رحمة الله واستجاب الله دعاء والديّ فأقبلتُ على الدين من طريق غير ذلك الطريق, وقد حدث ذلك حين منّ الله علينا فجاءتنا في المرحلة الثانوية نماذج رائعة من المعلمات الصالحات التي لم نعهد رؤية أمثالهن من قبل, كن ينتهجن نهجا صحيحا في الدعوة, ينصحن باللين لا بالعنف, يشاركن الجميع في الضحك والاهتمامات الأخرى, ينظرن لمن وقعتْ في معصية نظرة رحمة لا ازدراء, يُجِبن السائلة حتى تصل إلى القناعة, وفي نفس الوقت كنّ يرتدين أجمل الثياب ويتزينّ بأجمل الزينة.
حينها فقط أقبلتُ على الالتزام بنفسية جديدة, فنفضتُ صور الماضي من الذاكرة, وأقبلتُ على الدين بنضج أكبر فرأيتُه على حقيقته رائعا صافيا نقيا بعيدا عن تشويهات البشر المقصودة واللامقصودة. فأقبلتُ على دروس الدعاة الشيّقة الخفيفة, وصرتُ أحضر مجالس بعض الملتزمات بنفسية غير التي كنتُ عليها.
ومنذ ذلك الحين عاهدتُ الله أن أكون داعية إلى الإسلام باللطف واللين, وأن أكون سببا في تحبيب الناس في الالتزام, وأن أحترم العقول فأدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة حتى لو كنتُ أخاطب صغيرا.
وقد أقرّ الله عيني بعد انتهاجي لهذا النهج المرن في الحوار والنقاش في الدعوة إلى الله باعتناق بعض الأخوات الغير مسلمات للإسلام على يدي رغم أنني وقتها لم أتجاوز السادسة والعشرين من عمري, وإني لأرجو الله أن يرزقني الإخلاص وأن ينفع بي. وأن يجزي جميع معلماتي منذ صغري وإلى يومي هذا خير الجزاء. وأن يجعلنا جميعا هداة مهتدين صالحين مصلحين. كما أرجو من الله أن ينفع بحديثي هذا.