أبحاث في الجملة القرآنية من حيث المبنى

إنضم
08/08/2004
المشاركات
48
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
العراق - الأنبار
[align=center]أبحاث في الجملة القرآنية من حيث المبنى [/align]
1.التتميم :[align=justify] يكثر في التعبير القرآني مجيء لفظةٍ تحتاج إلى ما يتمم دلالتها أو يستبعد جانباً من هذه الدلالة غير مراد لئلا يتوهمه متوهم ، فيؤتى لذلك بلفظةٍ متمِّمة تؤدي هذا الغرض ، وهو أسلوب بلاغي يُعرف بالتتميم ((1)) ، وهو استخدام أسلوبي يقتضي بناءً خاصاً للجملة ، يتشكل هذا الأسلوب في شكلين رئيسين ِ :
الأول منها : تتميم المبالغة : وهو تتميم يؤدي إلى زيادةٍ دلالية عن طريق اللفظة المختارة للتتميم والتي تؤدي إلى التنويع لغايةٍ تعبيرية خاصة ، قال تعالى : ( يطوف عليهم ولدانٌ مخلدون بأكوابٍ وأباريق )( الواقعة : 18 ) ، والأكواب : أوانٍ بلا عري ولا خراطيم ، والأباريق : ذوات الخراطيم (( 2 )) . فإذا كان التعبير القرآني قد نوّع في آنية الشراب ، فكيف بالشراب نفسه ثم كيف بغير الشراب من الملاذ والنعم . وكل هذا مما يناسب سياق النعيم ، وقال تعالى : ( أنه أغنى وأقنى (( النجم : 48 ) أي : ( أعطى ما فيه الغنى وما فيه القنية : أي المال المدخر وقيل أقنى : أرضى )((3)) ، تقول بنت الشاطئ : ( ودلالة الاقتناء واضحة في المادة بصريح لفظها ولا يكون إلا لما يُعزُّ ويُصان ويدّخر لقيمته ونفعه المادي أو المعنوي ويجوز استعماله في مطلق الإدخار ... )((4)) ، فعقب بعد الغنى بذكر الزيادة عليه وهو أنه أغناه حتى بدأ يدخر من المال مالاً وهذا أقصى الغنى ، ومن هذا قوله تعالى: ( وجعلنا سراجاً وهاجاً )( النبأ: 13 ) فالسراج : الزاهر ويعبر به عن كل مضيئ والوهج حصول الضوء والحر من النار ((5)) .
الثاني : تتميم النقص ، وفي هذا الأسلوب تُختار المفردة لإزالة معنى معين من المفردة السابقة ، معنى لا يراد أن يتصوره القارئ ، فالتتميم هنا إنما يجاء به لينقِصَ من دلالة اللفظ السابق أو إزالة معنى منه قد يفهمه المتلقي لوترك على إطلاقه ، قال تعالى : ( كأنّهم خشب مسندة ) ( المنافقون : 4 ) وإنّما جئ بلفظة
( مسنـدة ) لنفي ما قد يتصور من أن الخشب قد يستخـــدم في منفعـة من المنافــــع ؛ (لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الأنتفاع ،وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع )((6)) على أنّ هذا يمكن أن يحمل معه تميما للمبالغة ، فلفظة (مسندة ) دلّت ( أنّهم لخواء قلوبهم وضعف أعصابهم لا يستطيعون أن يتحاملوا على أنفسهم ليستندوا ،وإنّما أعينوا على الاستناد إعانة )((7)) . وهذا الأسلوب كثيرا ما يستخدم في أسماء الله تعالى وصفاته ، قال تعالى : ( سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ) (الحديد : 1) ، وكثيرا ورد تعبير (العزيز الحكيم ) في التعبير القرآني ((8)) ، والتتميم بالحكيم على العزيز لبيان ( أنّ عزّته تعالى مقرونة بالحكمة ،فعزّته لا تقتضي ظلما وجورا وسوء فعل كما قد يكون من أعزاء المخلوقين ، فأنّ العزيز منهم قد تأخذه العزة بالآثم فيظلم ويجور ويسئ التصرف ، وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعزّ الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فأنّهما يعتريهما الذلّ )((9)) ، ومثل هذا في قوله تعالى : ( الملك القدوس ) ( الحشر : 23 ، الجمعة : 1 ) فالقدوس هو ( المطهر المنزه عن جميع النقائص...)((10)) ، أو (البليغ في النزاهة عمّا يستقبح )((11)) ، وإنّما جيء بهذه اللفظة بعد ( الملك ) لأنّ النزاهة مطلب معها ولأنّ الملوك غالبا ما يتجردون منها ، وتأتي منهم أفعال الظلم والجور ، لذلك قال تعالى : (... إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون ) ( النمل : 34 ) ، وقد لا ينقص المتمّم الدلالة بل يعاكس المتمّم في الوصف مما يحقق تصويرا كاملا لأحوال المصور ، فتختار لأجل ذلك لفظة تشكل معاكسا دلاليا للأولى كقوله تعالى : (الوسواس الخنّاس ) ( الناس : 4 ) فوسوس ( تكلم بكلام خفي ...)((12)) ، واستمر في وسوسته كما يفيد ذلك الفعل المضارع الموضوع للاستمرار((13)) ، في حين إنّ الخنّاس : الشيطان إذا (خنس أي قصر وكفّ )((14)) وبهذا وصف بحاليه لكي لا تتصور حالته الأولى دائما لأنّه مع المؤمنين في حال غيرها مع غيرهم ((15)) .[/align]

----------------------------------------------
(1) ينظر : الفوائد المشوقة 90 ، وبديع القرآن 46 .
(2) ينظر : الكشاف 4 / 459 – 460 ، ومعاني القرآن 3 / 123 ، والإعجاز البياني 444 – 445 .
(3) المفردات 625 .
(4) الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق 467 – 468 .
(5) ينظر : المفردات 336 و 840 .
(6) تفسير الرازي 30 / 16 .
(7) التشبيهات القرآنية 161 .
(8) الحشر 1 ، الممتحنة 5 ، الصف 1 ، الجمعة 1،3 ، التغابن 18 .
(9) القواعد المُثلى 8 .
(10) معجم الألفاظ 2 / 376 .
(11) الكشاف 4 / 509 .
(12) معجم الألفاظ 2 / 851 .
(13) ينظر : تفهيم الأمة تفسير جزء عمّ 306 .
(14) تفسير غريب القرآن 543 ، وينظر : معاني القرآن 3 / 302 .
(15) ينظر : في ظلال القرآن 8 / 714 .

[align=center]د. عامر مهدي
أستاذ البلاغة والنقد في جامعة الأنبار[/align]
 
الجملة القرآنية من حيث المبنى (2)

الجملة القرآنية من حيث المبنى (2)

[align=center]الجملة القرآنية من حيث المبنى (2)[/align]
2. مغايرة المصدر لمادة فعله :
من أساليب العرب الإتيان بفعل ثم لا يأتون بمصدره بل يأتون بمصدر فعلٍ آخر يلاقيه في الاشتقاق ، وبذلك يجرونه على غير فعله لمّا كان في معناه ((1 )) من ذلك قوله تعالى : ( وتبتل إليه تبتيلا ) ( المزمل : 8 ) فهذا على فعل ليس من لفظ الفعل الظاهر ... فحُمِلَ المصدر على فعل دلّ أول الكلام عليه ((2)) ، ذلك أنّ المصدر من ( تبتل ) هو ( التبتل ) لأنّ مصدر ( تفعّل ) يكون على ( التفعل ) ، وامّا ( التبتيل ) فهو مصدر ( بتّل ) لا ( تبتل ) لأنّ ( التفعيل ) مصدر ( فعّل ) ((3)) ، فكان القياس اللغوي يقتضي أن يكون التعبير ( وتبتل إليه تبتلا ) لكن الأسلوب القرآني عدل عن ( تبتلا ) إلى ( تبتيلا ) بسبب من رعاية الفاصلة كما قيل ((4)) ، إلاّ أنّ الدكتور فاضل السامرائي نبّه إلى السبب الدلالي لهذا العدول مستفيدا من ملاحظة الإمام أبن القيم الذي جعل السرّ في هذا العدول أن في هذا العدول إيذانا بالتدرّج والتكلّف والتعمّل والتكثّر والمبالغة ، فأتى بالفعل الدال على أحدهما وبالمصدر الدال على الآخر،فكأنّه قيل : بتّل نفسك إلى الله تبتيلا ، وتبتل إليه تبتلا ، ففهم المعنيان من الفعل ومصدره (( 5 )) لأنّ ( تبتل ) على وزن ( تفعّل ) ، وهذا الوزن يفيد التدرج والتكلّف مثل تدرّج وتحسّس وتجسّس وتبصّر وتمشّى .... ، ففي هذه الأفعال من التدرج والإعادة ما ليس في ( بصر ) و( مشى ) مثلا ،أمّا ( فعّل ) فيفيد التكثير والمبالغة ، وذلك نحو (كسر ) و(كسّر ) فإنّ في الأخيرة المضعفة من المبالغة والتكثير ما ليس في ( كسر ) الثلاثي ، فقولك (كسّرت القلم ) يفيد أنّك جعلته كسراً بخلاف (كسرت القلم ) فهو يفيد أنّك كسرته مرّة واحدة ... فالله سبحانه جاء بالفعل لمعنى التدرج ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر هو التكثير ، وجمع المعنين في عبارة واحدة موجزة ، ولو جاء بمصدر الفعل (تبتل ) فقال (وتبتل إليه تبتلا ) لم يفد غير التدرج ، وكذلك لو قال (وبتّل نفسك إليه تبتيلا ) لم يفد غير التكثير ، ولإرادة المعنين جئ بالفعل من صيغة والمصدر من صيغة أخرى وجمعهما ، فهو بدلا من أن يقول (وتبتل إليه تبتلا وبتبل نفسك أليه تبتيلا ) ، جاء بالفعل لمعنى ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر ، ووضعهما وضعا فنّيا فكسب المعنين في آن واحد (( 6 )) ، ومن كلام ابن القيـم والدكتور فاضل نستطيع أن نفهم عدم العدول في قوله تعالى : ( وذللت قطوفها تذليلا ) (الإنسان : 14) فقد جاء بالمصدر هنا من مادة فعله الدال على التكثير والمبالغة لعدم وجود داع لجلب مصدر يدل بفعله على معنى التدرج والتكلف لأنّ السياق جاء بمعنى التنعيم والإكرام لأهل الجنّة ، والذي يناسبه ما يدل على المبالغة لا ما يدل على التدرج ، وهذا بابٌ شريف من أبواب التوسع في المعنى ، كثير في القرآن وهو من حسن الاختصار والإيجاز كما يقول ابن القيم (( 7 )) ، وهذا مدار البلاغة العربية وقال تعالى : ( والله انبتكم من الأرض نباتاً )( نوح : 67 ) . فـ ( نباتا ) مصدر غير ( أنبتكم ) د ُُلَّ بهذا المصدر على معنى الطواعية والإذعان لأن فعله يدلُّ على المطاوعة فكأن المعنى ( أنبتكم فنبتم نباتا ) وهو رأي ابن يعيش (( 8 )) ، أي كما أنبت الله الشجر (( 9 )) ، أو نُصبَ بأنبتكم لتضمنه معنى ( نبتم ) ( فهو مصدر محمول على المعنى لأن معنى ( أنبتكم ) جعلكم تنبتون نباتا ، قاله الخليل والزجاج وقيل أي أنبت لكم من الأرض النبات فـ ( نباتاً ) على هذا نصبٌ على المصدر الصريح والأول أظهر ) (( 10 )) ، واستعير الإنبات للإنشاء ليكون أدلَّ على الحدوث (( 11 )) ، وقيل ( قوله نباتاً حال لا مصدر ونبه بذلك على أن الإنسان هو وجه نبات من حيث أن بدأه ونشأهُ من التراب وأنه ينمو نموه وإن كان له وصفٌ زائد على النبات ) (( 12 )) .

[align=center]د.عامر مهدي صالح
أستاذ البلاغة والنقد في كلية التربية
جامعةالأنبار[/align]



(1) ينظر : الكتاب 2 / 244 ، وشرح المفصل 1 / 111 .
(2) ينظر : الخصائص 2 / 309 .
(3) ينظر : التعبير القرآني 34 ، والتفسير القيم 501 .
(4) ينظر : البيضاوي والشهاب ، ينظر : حاشية الشهاب 8 / 266 ، وإبراهيم السامرائي من بديع لغة التنزيل 300 .
(5) ينظر : التفسير القيم 501 – 502 .
(6) ينظر : التعبير القرآني 34 – 35 وبهذا نُدرك بُعد ما قيل من أن هذا كان مراعاة لحق الفواصل ، ينظر : تفسير القرطبي 19 / 44 .
(7) ينظر : التفسير القيم 502 .
(8) ينظر : شرح المفصل 1 / 112 .
(9) ينظر : العين 8 / 130 .
(10) تفسير القرطبي 18 / 305 .
(11) ينظر : الكشاف 4 / 163 ، غرائب القرآن 29 / 52 .
(12) المفردات 731 .
 
جزاكم الله خيراً أبا عائشة على هذه اللطائف القرآنية الدقيقة ، ونتمنى المواصلة في إفادتنا بأمثالها ونظائرها ، مع علمنا بما أنتم فيه في العراق من العناء . فرج الله كربتكم ، ونصركم على عدونا وعدوكم .
 
عودة
أعلى