د. أبو عائشة
New member
[align=center]أبحاث في الجملة القرآنية من حيث المبنى [/align]
1.التتميم :[align=justify] يكثر في التعبير القرآني مجيء لفظةٍ تحتاج إلى ما يتمم دلالتها أو يستبعد جانباً من هذه الدلالة غير مراد لئلا يتوهمه متوهم ، فيؤتى لذلك بلفظةٍ متمِّمة تؤدي هذا الغرض ، وهو أسلوب بلاغي يُعرف بالتتميم ((1)) ، وهو استخدام أسلوبي يقتضي بناءً خاصاً للجملة ، يتشكل هذا الأسلوب في شكلين رئيسين ِ :
الأول منها : تتميم المبالغة : وهو تتميم يؤدي إلى زيادةٍ دلالية عن طريق اللفظة المختارة للتتميم والتي تؤدي إلى التنويع لغايةٍ تعبيرية خاصة ، قال تعالى : ( يطوف عليهم ولدانٌ مخلدون بأكوابٍ وأباريق )( الواقعة : 18 ) ، والأكواب : أوانٍ بلا عري ولا خراطيم ، والأباريق : ذوات الخراطيم (( 2 )) . فإذا كان التعبير القرآني قد نوّع في آنية الشراب ، فكيف بالشراب نفسه ثم كيف بغير الشراب من الملاذ والنعم . وكل هذا مما يناسب سياق النعيم ، وقال تعالى : ( أنه أغنى وأقنى (( النجم : 48 ) أي : ( أعطى ما فيه الغنى وما فيه القنية : أي المال المدخر وقيل أقنى : أرضى )((3)) ، تقول بنت الشاطئ : ( ودلالة الاقتناء واضحة في المادة بصريح لفظها ولا يكون إلا لما يُعزُّ ويُصان ويدّخر لقيمته ونفعه المادي أو المعنوي ويجوز استعماله في مطلق الإدخار ... )((4)) ، فعقب بعد الغنى بذكر الزيادة عليه وهو أنه أغناه حتى بدأ يدخر من المال مالاً وهذا أقصى الغنى ، ومن هذا قوله تعالى: ( وجعلنا سراجاً وهاجاً )( النبأ: 13 ) فالسراج : الزاهر ويعبر به عن كل مضيئ والوهج حصول الضوء والحر من النار ((5)) .
الثاني : تتميم النقص ، وفي هذا الأسلوب تُختار المفردة لإزالة معنى معين من المفردة السابقة ، معنى لا يراد أن يتصوره القارئ ، فالتتميم هنا إنما يجاء به لينقِصَ من دلالة اللفظ السابق أو إزالة معنى منه قد يفهمه المتلقي لوترك على إطلاقه ، قال تعالى : ( كأنّهم خشب مسندة ) ( المنافقون : 4 ) وإنّما جئ بلفظة
( مسنـدة ) لنفي ما قد يتصور من أن الخشب قد يستخـــدم في منفعـة من المنافــــع ؛ (لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الأنتفاع ،وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع )((6)) على أنّ هذا يمكن أن يحمل معه تميما للمبالغة ، فلفظة (مسندة ) دلّت ( أنّهم لخواء قلوبهم وضعف أعصابهم لا يستطيعون أن يتحاملوا على أنفسهم ليستندوا ،وإنّما أعينوا على الاستناد إعانة )((7)) . وهذا الأسلوب كثيرا ما يستخدم في أسماء الله تعالى وصفاته ، قال تعالى : ( سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ) (الحديد : 1) ، وكثيرا ورد تعبير (العزيز الحكيم ) في التعبير القرآني ((8)) ، والتتميم بالحكيم على العزيز لبيان ( أنّ عزّته تعالى مقرونة بالحكمة ،فعزّته لا تقتضي ظلما وجورا وسوء فعل كما قد يكون من أعزاء المخلوقين ، فأنّ العزيز منهم قد تأخذه العزة بالآثم فيظلم ويجور ويسئ التصرف ، وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعزّ الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فأنّهما يعتريهما الذلّ )((9)) ، ومثل هذا في قوله تعالى : ( الملك القدوس ) ( الحشر : 23 ، الجمعة : 1 ) فالقدوس هو ( المطهر المنزه عن جميع النقائص...)((10)) ، أو (البليغ في النزاهة عمّا يستقبح )((11)) ، وإنّما جيء بهذه اللفظة بعد ( الملك ) لأنّ النزاهة مطلب معها ولأنّ الملوك غالبا ما يتجردون منها ، وتأتي منهم أفعال الظلم والجور ، لذلك قال تعالى : (... إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون ) ( النمل : 34 ) ، وقد لا ينقص المتمّم الدلالة بل يعاكس المتمّم في الوصف مما يحقق تصويرا كاملا لأحوال المصور ، فتختار لأجل ذلك لفظة تشكل معاكسا دلاليا للأولى كقوله تعالى : (الوسواس الخنّاس ) ( الناس : 4 ) فوسوس ( تكلم بكلام خفي ...)((12)) ، واستمر في وسوسته كما يفيد ذلك الفعل المضارع الموضوع للاستمرار((13)) ، في حين إنّ الخنّاس : الشيطان إذا (خنس أي قصر وكفّ )((14)) وبهذا وصف بحاليه لكي لا تتصور حالته الأولى دائما لأنّه مع المؤمنين في حال غيرها مع غيرهم ((15)) .[/align]
----------------------------------------------
(1) ينظر : الفوائد المشوقة 90 ، وبديع القرآن 46 .
(2) ينظر : الكشاف 4 / 459 – 460 ، ومعاني القرآن 3 / 123 ، والإعجاز البياني 444 – 445 .
(3) المفردات 625 .
(4) الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق 467 – 468 .
(5) ينظر : المفردات 336 و 840 .
(6) تفسير الرازي 30 / 16 .
(7) التشبيهات القرآنية 161 .
(8) الحشر 1 ، الممتحنة 5 ، الصف 1 ، الجمعة 1،3 ، التغابن 18 .
(9) القواعد المُثلى 8 .
(10) معجم الألفاظ 2 / 376 .
(11) الكشاف 4 / 509 .
(12) معجم الألفاظ 2 / 851 .
(13) ينظر : تفهيم الأمة تفسير جزء عمّ 306 .
(14) تفسير غريب القرآن 543 ، وينظر : معاني القرآن 3 / 302 .
(15) ينظر : في ظلال القرآن 8 / 714 .
[align=center]د. عامر مهدي
أستاذ البلاغة والنقد في جامعة الأنبار[/align]
1.التتميم :[align=justify] يكثر في التعبير القرآني مجيء لفظةٍ تحتاج إلى ما يتمم دلالتها أو يستبعد جانباً من هذه الدلالة غير مراد لئلا يتوهمه متوهم ، فيؤتى لذلك بلفظةٍ متمِّمة تؤدي هذا الغرض ، وهو أسلوب بلاغي يُعرف بالتتميم ((1)) ، وهو استخدام أسلوبي يقتضي بناءً خاصاً للجملة ، يتشكل هذا الأسلوب في شكلين رئيسين ِ :
الأول منها : تتميم المبالغة : وهو تتميم يؤدي إلى زيادةٍ دلالية عن طريق اللفظة المختارة للتتميم والتي تؤدي إلى التنويع لغايةٍ تعبيرية خاصة ، قال تعالى : ( يطوف عليهم ولدانٌ مخلدون بأكوابٍ وأباريق )( الواقعة : 18 ) ، والأكواب : أوانٍ بلا عري ولا خراطيم ، والأباريق : ذوات الخراطيم (( 2 )) . فإذا كان التعبير القرآني قد نوّع في آنية الشراب ، فكيف بالشراب نفسه ثم كيف بغير الشراب من الملاذ والنعم . وكل هذا مما يناسب سياق النعيم ، وقال تعالى : ( أنه أغنى وأقنى (( النجم : 48 ) أي : ( أعطى ما فيه الغنى وما فيه القنية : أي المال المدخر وقيل أقنى : أرضى )((3)) ، تقول بنت الشاطئ : ( ودلالة الاقتناء واضحة في المادة بصريح لفظها ولا يكون إلا لما يُعزُّ ويُصان ويدّخر لقيمته ونفعه المادي أو المعنوي ويجوز استعماله في مطلق الإدخار ... )((4)) ، فعقب بعد الغنى بذكر الزيادة عليه وهو أنه أغناه حتى بدأ يدخر من المال مالاً وهذا أقصى الغنى ، ومن هذا قوله تعالى: ( وجعلنا سراجاً وهاجاً )( النبأ: 13 ) فالسراج : الزاهر ويعبر به عن كل مضيئ والوهج حصول الضوء والحر من النار ((5)) .
الثاني : تتميم النقص ، وفي هذا الأسلوب تُختار المفردة لإزالة معنى معين من المفردة السابقة ، معنى لا يراد أن يتصوره القارئ ، فالتتميم هنا إنما يجاء به لينقِصَ من دلالة اللفظ السابق أو إزالة معنى منه قد يفهمه المتلقي لوترك على إطلاقه ، قال تعالى : ( كأنّهم خشب مسندة ) ( المنافقون : 4 ) وإنّما جئ بلفظة
( مسنـدة ) لنفي ما قد يتصور من أن الخشب قد يستخـــدم في منفعـة من المنافــــع ؛ (لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الأنتفاع ،وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع )((6)) على أنّ هذا يمكن أن يحمل معه تميما للمبالغة ، فلفظة (مسندة ) دلّت ( أنّهم لخواء قلوبهم وضعف أعصابهم لا يستطيعون أن يتحاملوا على أنفسهم ليستندوا ،وإنّما أعينوا على الاستناد إعانة )((7)) . وهذا الأسلوب كثيرا ما يستخدم في أسماء الله تعالى وصفاته ، قال تعالى : ( سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ) (الحديد : 1) ، وكثيرا ورد تعبير (العزيز الحكيم ) في التعبير القرآني ((8)) ، والتتميم بالحكيم على العزيز لبيان ( أنّ عزّته تعالى مقرونة بالحكمة ،فعزّته لا تقتضي ظلما وجورا وسوء فعل كما قد يكون من أعزاء المخلوقين ، فأنّ العزيز منهم قد تأخذه العزة بالآثم فيظلم ويجور ويسئ التصرف ، وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعزّ الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فأنّهما يعتريهما الذلّ )((9)) ، ومثل هذا في قوله تعالى : ( الملك القدوس ) ( الحشر : 23 ، الجمعة : 1 ) فالقدوس هو ( المطهر المنزه عن جميع النقائص...)((10)) ، أو (البليغ في النزاهة عمّا يستقبح )((11)) ، وإنّما جيء بهذه اللفظة بعد ( الملك ) لأنّ النزاهة مطلب معها ولأنّ الملوك غالبا ما يتجردون منها ، وتأتي منهم أفعال الظلم والجور ، لذلك قال تعالى : (... إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون ) ( النمل : 34 ) ، وقد لا ينقص المتمّم الدلالة بل يعاكس المتمّم في الوصف مما يحقق تصويرا كاملا لأحوال المصور ، فتختار لأجل ذلك لفظة تشكل معاكسا دلاليا للأولى كقوله تعالى : (الوسواس الخنّاس ) ( الناس : 4 ) فوسوس ( تكلم بكلام خفي ...)((12)) ، واستمر في وسوسته كما يفيد ذلك الفعل المضارع الموضوع للاستمرار((13)) ، في حين إنّ الخنّاس : الشيطان إذا (خنس أي قصر وكفّ )((14)) وبهذا وصف بحاليه لكي لا تتصور حالته الأولى دائما لأنّه مع المؤمنين في حال غيرها مع غيرهم ((15)) .[/align]
----------------------------------------------
(1) ينظر : الفوائد المشوقة 90 ، وبديع القرآن 46 .
(2) ينظر : الكشاف 4 / 459 – 460 ، ومعاني القرآن 3 / 123 ، والإعجاز البياني 444 – 445 .
(3) المفردات 625 .
(4) الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق 467 – 468 .
(5) ينظر : المفردات 336 و 840 .
(6) تفسير الرازي 30 / 16 .
(7) التشبيهات القرآنية 161 .
(8) الحشر 1 ، الممتحنة 5 ، الصف 1 ، الجمعة 1،3 ، التغابن 18 .
(9) القواعد المُثلى 8 .
(10) معجم الألفاظ 2 / 376 .
(11) الكشاف 4 / 509 .
(12) معجم الألفاظ 2 / 851 .
(13) ينظر : تفهيم الأمة تفسير جزء عمّ 306 .
(14) تفسير غريب القرآن 543 ، وينظر : معاني القرآن 3 / 302 .
(15) ينظر : في ظلال القرآن 8 / 714 .
[align=center]د. عامر مهدي
أستاذ البلاغة والنقد في جامعة الأنبار[/align]