د. أبو عائشة
New member
3. التقابل والتماثل :
أ- التقابل :
كان للتقابل في القرآن الكريم دور كبير وحضور بارز في تكثيف الصور وإظهارها من خلال مقابلها وكما يقال ( وبضدها تتميز الأشياء ) ، فحين نأخذ التقابل الموجود في سورة الضحى مثلاً نجده يأتي لافتاً إلى صورة مادية مدركة وواقع مشهود توطئة ً بيانية لصورة أخرى معنوية مماثلة غير مشهودة ولا مدّركة ، فالقرآن الكريم في قَسَمِهِ بالصبح إذا أسفر وإذا تنفس والنهار إذا تجلى والليل إذا عسعس وإذا يغشى وإذا أدبر ، يجلو معاني من الهدى والحق أو الضلال والباطل بماديات من النور والظلمة ، وهذا هو البيان للمعنوي بالحسي كما تقول بنت الشاطئ (( 1 )) ، وقد تنبه الرازي قديماً إلى مثل هذا حين قال متحدثاً عن قوله تعالى : ( والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى )( الضحى : 1 - 3 ) : كأنه تعالى يقول : انظر إلى جوار الليل مع النهار لا يسلم أحدهما عن الآخر بل الليل تارةً يَغلب وتارةً يُغلب ، فكيف تسلم عن الخلق ، فمرةً تزداد ساعات الليل ومرةً تزداد ساعات النهار ، ومرةً بالعكس . فلا تكون الزيادة ولا النقصان لقلى بل لحكمة وكذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح ، فمرةً إنزال ومرةً حبس فلا كان الإنزال عن هوى ولا كان الحبس عن قلى (( 2 )) وكذلك تنبه ابن القيم إلى مثل هذا حين قال ( فتأمل مطابقة هذا القسم وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل للمقسم عليه وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسة ) (( 3 )) ، وذهب محمد عبده إلى قريب هذا إذ ذهب إلى أن في القسم إشارة إلى أنَ ما كان من سطوع الوحي على قلبه أوّل مرة بمنزلة الضحى تقوى به الحياة وتنمو الناميات وما عرض بعد ذلك فهو بمنزلة الليل إذا سكن لتستريح فيه القوى ولتستعد فيه النفوس لما يستقبلها من العمل (( 4 )) ، فهناك إذن تقابل بين صورٍ حسية كل منها يقابل صوراً معنوية ، فالتقابل في سورة الضحى صورة مادية وواقع حسي يشهد به الناس في كل يومٍ تألق الضوء في ضحوة النهار ، ثم فتور الليل إذا سجا وسكن دون أن يختل نظام الكون أو يكون في توارد الحالين عليه ما يبعث على إنكارٍ بل دون أن يخطر على بال أحدٍ أن السماء قد تخلت عن الأرض أو أسلمتها إلى الظلمة والوحشة بعد تألق الضوء في ضحى النهار ، فأيّ عجبٍ في أن يجيء بعد أنس الوحي وتجلي نوره على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مدّة سكونٍ يفتر فيها الوحي على نحو ما نشهد من الليل الساجي يوافي بعد الضحى المتألق (( 5 )) . هذه العلاقات في التقابل هي ما وضحه أحد الباحثين لما ذهب إلى أن الدلالات الناتجة من التقابل تمر بمرحلتين متصلتين : الأولى هي الدلالة الناتجة من أطراف التقابلات والتخالفات والتماثلات ، وهي دلالة محصورة في مفرداتها ، ويمكننا كما يقول أن نطلق عليها الدلالة الاستدعائية ، أما المرحلة الثانية فهي الدلالة الناتجة عن علاقة وحداتها بالسياق الكلي الذي وقعت فيه ، ويمكننا أن نسمي هذه المرحلة بالدلالة السياقية ، ومن خلال هاتين المرحلتين نستطيع أن نخرج بدلالات حقيقية لها في النص المدروس ، فالوحدات التعبيرية إذن هي الأساس الذي يمكننا أن ننطلق منه لتحديد الدلالات الاستدعائية ومن ثم نتجه إلى السياق للكشف عن شبكة العلاقات التي يفرضها السياق بالتواصل مع الوحدات التعبيرية لينتج بالتالي الدلالات السياقية (( 6 )) ، قال تعالى : ( هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيءٍ قدير .. )( الحديد : 3 ) فهنا نوعٌ من المقابلة يرد في القرآن ، ظاهرعلاقة بناه التضاد غير أن هذا التضاد ليس علاقة تبرز بها صفة أحد المتقابلين ، وإنما ظاهر التضاد هنا يشكل كمالاً في الصفة ، فكأنه هنا من باب ( جمع النقيضين ) فهذه صفات تكمل إحداهما الأخرى ، فـ ( الظاهر خلاف الباطن ، فالله ظاهر باطن ، هو باطن لأنه غير مشاهد كما تشاهد الأشياء المخلوقة عزّ عن ذلك وعلا ، وهو ظاهر بالدلائل الدالة عليه وأفعاله المؤدية إلى العلم به ومعرفته فهو ظاهر مدرك بالعقول والدلائل ، وباطن غير مشاهد كسائر الأشياء المشاهدة في الدنيا عزَ وجلّ عن ذلك) (( 7 )) ، وفي تقابل هذه الأسماء الأربعة تكامل من حيث علاقاتها الضدية فيما بينها ، إذ إن مدارها ( على الإحاطة ، وهي تنقسم إلى قسمين زمانية ومكانية ، فأحاطت أوليتهِ بالقبل وأحاطت آخريته بالبعد وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكلِ ظاهرٍ وباطن فما من ظاهرٍ إلا والله فوقه وما من باطنٍ إلا والله دونه فالأول قِدمُهُ والآخر بقاؤه ودوامه ، والظاهر علوه وعظمته والباطن قربه ودنوه .... ) (( 8 )) ، ولأجل إرادة هذه المعاني على التقابل في ذاتٍ واحدةٍ عُطِفَتْ ، لأن الظاهر في الصفات ألا يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها ، وأن الصفة تجري مجرى الموصوف ، لذلك قلما تعطف صفات الله تعالى بعضها على بعض كما يقول ابن الزملكاني وذكر: أما الآية في سورة الحديد فلأن الأسماء فيها متضادة المعاني في أصل موضوعها ، فعُطفت لرفع التوهم عمن يستبعد ذلك في ذاتٍ واحدة لأن الشيء الواحد لا يكون ظاهراً وباطناً من وجهٍ واحدٍ ، فكان العطف هنا أحسن ، فإذا قُصدَ التناقض في الأحوال قيل ( هذا قائمٌ قاعدٌ ) بغير واو بخلاف ما تقدم لأن تلك الصفات في حكم الصفة الواحدة لانتفاء المضادة بينها (( 9 )) ، وأغلب سورة الحديد بُني على المقابلة كما في قوله تعالى : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها )( الحديد : 4 ) وعلى الشكل الآتي :
دخول ـــــــــــــــ يعلمُ ما يلج ---- تماثل ---- وما ينزل ـــــــ نزول
دخول ــــــــــــــــ في ---- تضاد --- من ـــــــــــــــــــــ نزول
دخول ـــــــــــ الأرض ---- تضاد ---- السماء ـــــ نزول
خروج ـــــــــــ وما يخرج ---- تماثل ---- وما يعرج ــــــــ صعود
خروج ـــــــــــ منها ---- تضاد ---- فيها ـــــــــــ صعود
ومن ذلك قوله تعالى في السورة نفسها : ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ) ( الحديد : 6 ) وفي هذا تصوير في غاية الدقة ؛ إذ لا يصح أي تعبير غير التقابل في رسم هذه الصورة إذ إن النهار والليل موجودان على الأرض دائماً في الوقت نفسه ، وغروب الشمس على جزءٍ منها لا يعني غير شروقها على جزءٍ آخر ، فدخول الليل في النهار يقابله قطعاً دخول النهار في الليل في الجزء المقابل ولولا هذه المقابلة لانعدمت هذه الدقة في الوصف ، يؤكد هذا قوله تعالى : ( وكم من قريةٍ أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون )( الأعراف : 4 ) ، وقوله تعالى : ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون )(الأعراف 97 – 98) ذلك أن العذاب حين يأتي على الناس جميعاً يكون بعضهم في جزء من الأرض والبعض في الجزء الآخر ؛ فيكون بعضهم في نهارٍ وبعضهم في ليلٍ .
ولعل من أهم الميزات اللغوية في المقابلة أن البنيتين المتقابلتين غالباً ما تستخدم النمط البنائي ذاته لحمل القارئ على التنبه لها كما في المقابلة الآتية من سورة الحديد نفسها( 7 – 11 ) :
آمنوا بالله فالذين آمنوا ... وما لكم لا تؤمنون ....
وأنفقوا .... وأنفقوا ...... وما لكم ألا تنفقوا ......
وقد يؤتى في التقابل بمغايرة أسلوبية لإحداث نوعٍ من المفارقة تُنبه إلى اختلاف بين المشهدين المصورين كما في المقابلة الآتية في سورة الحديد 10 :
لا يستوي منكم ـــــــــــــــــــــ تماثل ـــــــــــــــــــــ أولئك أعظم درجة
من أنفق ـــــــــــــــــــــ تماثل ـــــــــــــــــــــ من الذين أنفقوا
من قبل الفتح ـــــــــــــــــــــ تضاد ـــــــــــــــــــــ من بَعدُ
وقاتل.. ـــــــــــــــــــــ تماثل ـــــــــــــــــــــ وقاتلوا
(( إفراد )) ........................................... (( جمع ))
فيُلاحظ أن الحديث عمن أنفق بعد الفتح وقاتل تحوَّل إلى الإخبار عن الجماعة في حين كان الحديث عنهم قبل الفتح بصيغة الإفراد في الوقت الذي كانت الأفضلية والخيرية لمن فعل ذلك قبل الفتح والسبب في ذلك - والله أعلم - أن الحاجة إلى مثل هؤلاء كانت شديدة قبل الفتح لأن الاختبار كان أكبر ولأن المسلمين كانوا قلةً ، فناسب ذلك أن يؤتى بالإفراد في الإخبار عنهم وعكسه فيما بعد حين قويَ الإسلام ودخله الناس أفواجاً ، بل لعل هذه المغايرة الأسلوبية كانت إشارةً إلى ذلك .
والمقابلة قد تصبح موجهاً إلى الدلالات الهامشية للفظة على وجه الاستدعاء كما في قوله تعالى : ( ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزّل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ، إعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها ، قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ) ( الحديد : 16 - 17 ) فالتقابل هنا على الشكل الآتي :
تخشع قلوبهم ـــــــــــــــــــــ يحيي الأرض ــــــــــــــــــــ الإيمان = الحياة
فقست قلوبهم ـــــــــــــــــــــ موتها ـــــــــــــــــــــ الكفر = الموت
إن المقابلة هنا تمثل موجهاً لاستدعاء دلالات المفردة الهامشية ، ويعين المطلب السياقي الذي وضعت له هذه المفردة ، والنظر إلى المفردة من غير فهمٍ لعلاقتها التقابلية سيبتر المعنى الدقيق لها والذي اكتسبته من التقابل ، ويضعها وعلى السواء مع أي مفردةٍ أخرى مرادفة لها ، فقد فسِّرت ( تخشع ) بـ ( تذلّ وتلين ) (( 10 )) ، وكيف يمكن أن يقابل الذل معنى الحياة ليكون مشيراً إلى الإيمان على وجه الاستدعاء من التقابل ، فهذه المعاني التي ذكرها القرطبي لا تصلح أن تكون بديلاً لهذه اللفظة لأنها ببساطة غير صالحة لأن تأخذ موضعها التقابلي الذي جعل من ( تخشع ) متضمنة لمعنى الحياة المعاكسة للموت والله أعلم .
[align=center]د.عامر مهدي صالح
استاذ البلاغة والنقد في جامعة الأنبار[/align]
(1) ينظر : التفسير البياني 1 / 25 – 26 .
(2) ينظر : تفسير الرازي 30 / 420 .
(3) التبيان في أقسام القرآن 72 .
(4) ينظر : الأعمال الكاملة لمحمد عبده 5 / 95 .
(5) ينظر : التفسير البياني 1 / 26 .
(6) ينظر : التقابل والتماثل في القرآن الكريم 286 .
(7) اشتقاق أسماء الله الحسنى 232 .
(8) مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية 40 ، وينظر : شرح العقيدة الواسطية 29 .
(9) ينظر : التبيان في علم البيان 129 – 130 .
(10) تفسير القرطبي 17 / 248 .
أ- التقابل :
كان للتقابل في القرآن الكريم دور كبير وحضور بارز في تكثيف الصور وإظهارها من خلال مقابلها وكما يقال ( وبضدها تتميز الأشياء ) ، فحين نأخذ التقابل الموجود في سورة الضحى مثلاً نجده يأتي لافتاً إلى صورة مادية مدركة وواقع مشهود توطئة ً بيانية لصورة أخرى معنوية مماثلة غير مشهودة ولا مدّركة ، فالقرآن الكريم في قَسَمِهِ بالصبح إذا أسفر وإذا تنفس والنهار إذا تجلى والليل إذا عسعس وإذا يغشى وإذا أدبر ، يجلو معاني من الهدى والحق أو الضلال والباطل بماديات من النور والظلمة ، وهذا هو البيان للمعنوي بالحسي كما تقول بنت الشاطئ (( 1 )) ، وقد تنبه الرازي قديماً إلى مثل هذا حين قال متحدثاً عن قوله تعالى : ( والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى )( الضحى : 1 - 3 ) : كأنه تعالى يقول : انظر إلى جوار الليل مع النهار لا يسلم أحدهما عن الآخر بل الليل تارةً يَغلب وتارةً يُغلب ، فكيف تسلم عن الخلق ، فمرةً تزداد ساعات الليل ومرةً تزداد ساعات النهار ، ومرةً بالعكس . فلا تكون الزيادة ولا النقصان لقلى بل لحكمة وكذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح ، فمرةً إنزال ومرةً حبس فلا كان الإنزال عن هوى ولا كان الحبس عن قلى (( 2 )) وكذلك تنبه ابن القيم إلى مثل هذا حين قال ( فتأمل مطابقة هذا القسم وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل للمقسم عليه وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسة ) (( 3 )) ، وذهب محمد عبده إلى قريب هذا إذ ذهب إلى أن في القسم إشارة إلى أنَ ما كان من سطوع الوحي على قلبه أوّل مرة بمنزلة الضحى تقوى به الحياة وتنمو الناميات وما عرض بعد ذلك فهو بمنزلة الليل إذا سكن لتستريح فيه القوى ولتستعد فيه النفوس لما يستقبلها من العمل (( 4 )) ، فهناك إذن تقابل بين صورٍ حسية كل منها يقابل صوراً معنوية ، فالتقابل في سورة الضحى صورة مادية وواقع حسي يشهد به الناس في كل يومٍ تألق الضوء في ضحوة النهار ، ثم فتور الليل إذا سجا وسكن دون أن يختل نظام الكون أو يكون في توارد الحالين عليه ما يبعث على إنكارٍ بل دون أن يخطر على بال أحدٍ أن السماء قد تخلت عن الأرض أو أسلمتها إلى الظلمة والوحشة بعد تألق الضوء في ضحى النهار ، فأيّ عجبٍ في أن يجيء بعد أنس الوحي وتجلي نوره على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مدّة سكونٍ يفتر فيها الوحي على نحو ما نشهد من الليل الساجي يوافي بعد الضحى المتألق (( 5 )) . هذه العلاقات في التقابل هي ما وضحه أحد الباحثين لما ذهب إلى أن الدلالات الناتجة من التقابل تمر بمرحلتين متصلتين : الأولى هي الدلالة الناتجة من أطراف التقابلات والتخالفات والتماثلات ، وهي دلالة محصورة في مفرداتها ، ويمكننا كما يقول أن نطلق عليها الدلالة الاستدعائية ، أما المرحلة الثانية فهي الدلالة الناتجة عن علاقة وحداتها بالسياق الكلي الذي وقعت فيه ، ويمكننا أن نسمي هذه المرحلة بالدلالة السياقية ، ومن خلال هاتين المرحلتين نستطيع أن نخرج بدلالات حقيقية لها في النص المدروس ، فالوحدات التعبيرية إذن هي الأساس الذي يمكننا أن ننطلق منه لتحديد الدلالات الاستدعائية ومن ثم نتجه إلى السياق للكشف عن شبكة العلاقات التي يفرضها السياق بالتواصل مع الوحدات التعبيرية لينتج بالتالي الدلالات السياقية (( 6 )) ، قال تعالى : ( هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيءٍ قدير .. )( الحديد : 3 ) فهنا نوعٌ من المقابلة يرد في القرآن ، ظاهرعلاقة بناه التضاد غير أن هذا التضاد ليس علاقة تبرز بها صفة أحد المتقابلين ، وإنما ظاهر التضاد هنا يشكل كمالاً في الصفة ، فكأنه هنا من باب ( جمع النقيضين ) فهذه صفات تكمل إحداهما الأخرى ، فـ ( الظاهر خلاف الباطن ، فالله ظاهر باطن ، هو باطن لأنه غير مشاهد كما تشاهد الأشياء المخلوقة عزّ عن ذلك وعلا ، وهو ظاهر بالدلائل الدالة عليه وأفعاله المؤدية إلى العلم به ومعرفته فهو ظاهر مدرك بالعقول والدلائل ، وباطن غير مشاهد كسائر الأشياء المشاهدة في الدنيا عزَ وجلّ عن ذلك) (( 7 )) ، وفي تقابل هذه الأسماء الأربعة تكامل من حيث علاقاتها الضدية فيما بينها ، إذ إن مدارها ( على الإحاطة ، وهي تنقسم إلى قسمين زمانية ومكانية ، فأحاطت أوليتهِ بالقبل وأحاطت آخريته بالبعد وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكلِ ظاهرٍ وباطن فما من ظاهرٍ إلا والله فوقه وما من باطنٍ إلا والله دونه فالأول قِدمُهُ والآخر بقاؤه ودوامه ، والظاهر علوه وعظمته والباطن قربه ودنوه .... ) (( 8 )) ، ولأجل إرادة هذه المعاني على التقابل في ذاتٍ واحدةٍ عُطِفَتْ ، لأن الظاهر في الصفات ألا يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها ، وأن الصفة تجري مجرى الموصوف ، لذلك قلما تعطف صفات الله تعالى بعضها على بعض كما يقول ابن الزملكاني وذكر: أما الآية في سورة الحديد فلأن الأسماء فيها متضادة المعاني في أصل موضوعها ، فعُطفت لرفع التوهم عمن يستبعد ذلك في ذاتٍ واحدة لأن الشيء الواحد لا يكون ظاهراً وباطناً من وجهٍ واحدٍ ، فكان العطف هنا أحسن ، فإذا قُصدَ التناقض في الأحوال قيل ( هذا قائمٌ قاعدٌ ) بغير واو بخلاف ما تقدم لأن تلك الصفات في حكم الصفة الواحدة لانتفاء المضادة بينها (( 9 )) ، وأغلب سورة الحديد بُني على المقابلة كما في قوله تعالى : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها )( الحديد : 4 ) وعلى الشكل الآتي :
دخول ـــــــــــــــ يعلمُ ما يلج ---- تماثل ---- وما ينزل ـــــــ نزول
دخول ــــــــــــــــ في ---- تضاد --- من ـــــــــــــــــــــ نزول
دخول ـــــــــــ الأرض ---- تضاد ---- السماء ـــــ نزول
خروج ـــــــــــ وما يخرج ---- تماثل ---- وما يعرج ــــــــ صعود
خروج ـــــــــــ منها ---- تضاد ---- فيها ـــــــــــ صعود
ومن ذلك قوله تعالى في السورة نفسها : ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ) ( الحديد : 6 ) وفي هذا تصوير في غاية الدقة ؛ إذ لا يصح أي تعبير غير التقابل في رسم هذه الصورة إذ إن النهار والليل موجودان على الأرض دائماً في الوقت نفسه ، وغروب الشمس على جزءٍ منها لا يعني غير شروقها على جزءٍ آخر ، فدخول الليل في النهار يقابله قطعاً دخول النهار في الليل في الجزء المقابل ولولا هذه المقابلة لانعدمت هذه الدقة في الوصف ، يؤكد هذا قوله تعالى : ( وكم من قريةٍ أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون )( الأعراف : 4 ) ، وقوله تعالى : ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون )(الأعراف 97 – 98) ذلك أن العذاب حين يأتي على الناس جميعاً يكون بعضهم في جزء من الأرض والبعض في الجزء الآخر ؛ فيكون بعضهم في نهارٍ وبعضهم في ليلٍ .
ولعل من أهم الميزات اللغوية في المقابلة أن البنيتين المتقابلتين غالباً ما تستخدم النمط البنائي ذاته لحمل القارئ على التنبه لها كما في المقابلة الآتية من سورة الحديد نفسها( 7 – 11 ) :
آمنوا بالله فالذين آمنوا ... وما لكم لا تؤمنون ....
وأنفقوا .... وأنفقوا ...... وما لكم ألا تنفقوا ......
وقد يؤتى في التقابل بمغايرة أسلوبية لإحداث نوعٍ من المفارقة تُنبه إلى اختلاف بين المشهدين المصورين كما في المقابلة الآتية في سورة الحديد 10 :
لا يستوي منكم ـــــــــــــــــــــ تماثل ـــــــــــــــــــــ أولئك أعظم درجة
من أنفق ـــــــــــــــــــــ تماثل ـــــــــــــــــــــ من الذين أنفقوا
من قبل الفتح ـــــــــــــــــــــ تضاد ـــــــــــــــــــــ من بَعدُ
وقاتل.. ـــــــــــــــــــــ تماثل ـــــــــــــــــــــ وقاتلوا
(( إفراد )) ........................................... (( جمع ))
فيُلاحظ أن الحديث عمن أنفق بعد الفتح وقاتل تحوَّل إلى الإخبار عن الجماعة في حين كان الحديث عنهم قبل الفتح بصيغة الإفراد في الوقت الذي كانت الأفضلية والخيرية لمن فعل ذلك قبل الفتح والسبب في ذلك - والله أعلم - أن الحاجة إلى مثل هؤلاء كانت شديدة قبل الفتح لأن الاختبار كان أكبر ولأن المسلمين كانوا قلةً ، فناسب ذلك أن يؤتى بالإفراد في الإخبار عنهم وعكسه فيما بعد حين قويَ الإسلام ودخله الناس أفواجاً ، بل لعل هذه المغايرة الأسلوبية كانت إشارةً إلى ذلك .
والمقابلة قد تصبح موجهاً إلى الدلالات الهامشية للفظة على وجه الاستدعاء كما في قوله تعالى : ( ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزّل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ، إعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها ، قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ) ( الحديد : 16 - 17 ) فالتقابل هنا على الشكل الآتي :
تخشع قلوبهم ـــــــــــــــــــــ يحيي الأرض ــــــــــــــــــــ الإيمان = الحياة
فقست قلوبهم ـــــــــــــــــــــ موتها ـــــــــــــــــــــ الكفر = الموت
إن المقابلة هنا تمثل موجهاً لاستدعاء دلالات المفردة الهامشية ، ويعين المطلب السياقي الذي وضعت له هذه المفردة ، والنظر إلى المفردة من غير فهمٍ لعلاقتها التقابلية سيبتر المعنى الدقيق لها والذي اكتسبته من التقابل ، ويضعها وعلى السواء مع أي مفردةٍ أخرى مرادفة لها ، فقد فسِّرت ( تخشع ) بـ ( تذلّ وتلين ) (( 10 )) ، وكيف يمكن أن يقابل الذل معنى الحياة ليكون مشيراً إلى الإيمان على وجه الاستدعاء من التقابل ، فهذه المعاني التي ذكرها القرطبي لا تصلح أن تكون بديلاً لهذه اللفظة لأنها ببساطة غير صالحة لأن تأخذ موضعها التقابلي الذي جعل من ( تخشع ) متضمنة لمعنى الحياة المعاكسة للموت والله أعلم .
[align=center]د.عامر مهدي صالح
استاذ البلاغة والنقد في جامعة الأنبار[/align]
(1) ينظر : التفسير البياني 1 / 25 – 26 .
(2) ينظر : تفسير الرازي 30 / 420 .
(3) التبيان في أقسام القرآن 72 .
(4) ينظر : الأعمال الكاملة لمحمد عبده 5 / 95 .
(5) ينظر : التفسير البياني 1 / 26 .
(6) ينظر : التقابل والتماثل في القرآن الكريم 286 .
(7) اشتقاق أسماء الله الحسنى 232 .
(8) مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية 40 ، وينظر : شرح العقيدة الواسطية 29 .
(9) ينظر : التبيان في علم البيان 129 – 130 .
(10) تفسير القرطبي 17 / 248 .