محمد الجبالي
New member
آية شغلتني شغلا :
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]
لقد طُفْتُ في العديد من كتب التفسير القديمة والحديثة فوجدت أنها لا تكاد تخرج عن اتجاهين اثنين في تأويل هذه الآية ، ولعل تفسير الشعراوي أجمع التفاسير في بيان مرامي هذه الآية ، ولسيد قطب صاحب الظلال وقفات بارعة حولها.
وسأنقل إليكم بعض ما ورد في الشعراوي ، ثم تعليق سيد قطب على الآية ، ثم أعرض إضافة جديدة رأيتها لم أجدها لدى أحد من المفسرين ، ثم أرفق فيديو تفسير الآية للشعراوي رحمه الله
قال الشعراوي:
هل من المعقول أن يستيئس الرسل؟
نقول: فَلنفهم أولاً معنى «استيأس» ؛ وهناك فرق بين «يأس» و «استيأس» ، ف «يأس» تعني قطع الأمل من شيء. و «استيأس» تعني: أنه يُلِحّ على قَطع الأمل.
أي: أن الأمل لم ينقطع بعد. ومَنْ قطع الأمل هو مَنْ ليس له منفذ إلى الرجاء، ولا ينقطع أمل إنسان إلا إنْ كان مؤمناً بأسبابه المعزولة عن مُسبِّبه الأعلى.
لكن إذا كان الله قد أعطى له الأسباب، ثم انتهت الأسباب، ولم تَصِلْ به إلى نتيجة،
فالمؤمن بالله هو مَنْ يقول:
أنا لا تُهمّني الأسباب؛ لأن معي المُسبِّب.
ولذلك يقول الحق سبحانه: { ... وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون}[يوسف: 87]
ولذلك نجد أن أعلى نسبة انتحار إنما تُوجَد بين الملاحدة الكافرين؛ لأنهم لا يملكون رصيداً إيمانياً، يجعلهم يؤمنون أن لهم رباً فوق كل الأسباب؛ وقادر على أن يَخْرِق النواميس.
أما المؤمن فهو يأوي إلى رُكْن شديد، هو قدرة الحق سبحانه مُسبِّب كل الأسباب، والقادر على أن يَخْرِق الأسباب.
ولماذا يستيئس الرسل؟
لأن حرصهم على تعجُّل النصر دفع البعض منهم أن يسأل مثلما سأل المؤمنون: {متى نَصْرُ الله ... }
ثم يعلق الشعراوي على الآية في نهاية نفسيره لها قائلا:
وهكذا يأتي النصر بعد الزلزلة الشديدة؛ فيكون وَقْعه كوقع الماء على ذي الغُلَّة الصَّادي، ولنا أن نتخيل شَوْق العطشان لكوب الماء.
وأيضاً فإن إبطاء النصر يعطي غروراً للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور، وحين يأتي النصر تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول، وأيضاً يتضاعف غَمُّ الكافرين به.
ومجيء النصر للمؤمنين يقتضي وقوع هزيمة للكافرين؛ لأن تلك هي مشيئة الله الذي يقع بَأْسه وعذابه على الكافرين به.
ويقول سيد قطب رحمه الله معلقا على هذه الآية :
تلك سنة الله في الدعوات. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس. يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون. ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمراً ماحقاً لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.
ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً. فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً. أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً. فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء. والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة، لذلك يشفقون أن يدَّعوها، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون الذين لا يتخلون عن دعوة الله، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة! إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل إما أن تربح ربحاً معيناً محدداً في هذه الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية- والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان- يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات! .. ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضاً. وأنه من ثم لا تنضم إليها- في أول الأمر- الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا. وأن عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جدا. ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق، بعد جهاد يطول أو يقصر. وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً.
وأضيف - وأسأل الله السداد -:
لم يلتفت أحد من المفسرين قديما وحديثا إلى [الألف والسين والتاء ] أول الفعل [استيأس].
إن [الألف والسين والتاء] في أول الفعل سواء كان [ماضيا أو مضارعا أو أمرا ] معلوم أنها طلبية ، فحين تقول [استغفر محمد ربه ] فالمعنى أن محمدا يطلب المغفرة من ربه
والعجب هنا في دخول [ الألف والسين والتاء ] على الفعل [ استيأس ] ، فلا أحد يطلب اليأس ، خاصة إذا كان الأمر الذي يسعى لتحقيقه مرغوبا محبوبا يسعى إليه سعيا لتحقيقه فكيف يطلب اليأس منه ؟!
وأرى أن لدخول حروف الطلب [الألف والسين والتاء] على الفعل [استيأس ] له دلالة خاصة ، وكما وَضَّحَ الشعراوي إن كانت [ يأس ] تعنى انقطاع الأمل فإن [ استيأس ] لا تعنى انقطاع الأمل ، وإنما تدل على أن الأمل قائم.
وإني أرى أنها تعني الاجتهاد في الدعوة من قبل الأنبياء والرسل إشفاقا على أقوامهم من نزول عقاب الله بهم بسبب إصرارهم وعنادهم ، فكان إصرار أقوام النبي يقابله اجتهاد وزيادة في الدعوة منه لهم ، و[الألف والسين والتاء] تدل على الطلب ، ولا أحد يطلب اليأس من هدف يريد تحقيقه ، إذن المقصود هنا بذل طاقاتهم وأقصى ما لديهم من جهد في دعوة أقوامهم .
وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن الأنبياء بشر فوقع في نفوسهم بعض خواطر اليأس من نصر الله، وهذا مما قد يعرض له البشر في بعض أوقات الشدة ، وهذا مردود غير مقبول لأن الأنبياء يعلمون أنهم بين أمرين لا ثالث لهما ، إما هداية أقوامهم ونصر من الله مبين ، أو نزول عذاب الله بهم ، فإنهم صلوات الله عليهم يثقون في وعد الله لهم بالنصر ، انظر إلى ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة مستضعف ، وأصحابه قلة معذبة ، اسمع إليه يرد على خباب: " عَنْ خَبَّابٍ قَالَ:
شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ متوسِّدٌ بٌردةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ـ فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا؟!
فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَن قَبْلَكُمْ يُؤخذ الرَّجُلُ فيُحفر لَهُ فِي الْأَرْضِ فيُجعل فِيهَا فيُؤتى بِالْمِنْشَارِ فيُوضع عَلَى رَأْسِهِ فيُجعل بِنِصْفَيْنِ ويُمشط بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ فِيمَا دُونَ عَظْمِهِ وَلَحْمِهِ فَمَا يَصرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ على غنمه ولكنكم تستعجلون)"
فإنهم صلوات الله عليهم يعلمون أنهم إن لم يهتد أقوامهم فسوف يقع بهم عذاب الله ، فكانوا يشفقون عليهم إشفاقا بسبب عنادهم وإصرارهم على غيهم ، وراجعوا سير الأنبياء ستجدون ما يؤكد ذلك ، ولعل أوضح الأمثلة نوح عليه السلام الذي ظل في قومه يدعوهم {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} ، ولم ييأس منهم إلا بعد أن أخبره الله {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}.
وعلى هذا فإن الفعل [ استيأس ] يدل على اجتهاد الأنبياء صلوات الله عليهم في دعوة أقوامهم ، وليس ما ذهب إليه البعض من أنه يعنى اليأس من نصر الله ، وعلى هذا فإن الفعل [ ظنوا ] في قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} يعنى اليقين ، أي أيقنوا ، أما الضمير في الفعل [كُذِبُوا] فإنه يعود على أقوام الأنبياء . فحين علم الأنبياء وأيقنوا أن أقوامهم قد أصروا إصرارا ، واستكبروا ، جاء الأمر من الله أن عذاب الله واقع بهم ، لكن الذي لا شك فيه أن الأنبياء لم يتوقفوا عن دعوتهم أقوامهم حتى علموا أن عذاب الله نازل بهم. والله أعلم
وهذا رابط تفسير الآية للشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله :
‫ط§ظ„ط´ظٹط® ط§ظ„ط´ط¹ط±ط§ظˆظ‰ _ط±ط³ط§ظ„ظ‡ ظ‡ط§ظ…ط© ظ„ظ…ط¤ظٹط¯ظ‰ ط§ظ„ط´ط±ط¹ظٹط© ظپظ‰ ظ…طµط± ظˆظƒظ„ ط§ظ„ط¹ط§ظ„ظ… ط§ظ„طط±â€¬â€ژ - YouTube
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]
لقد طُفْتُ في العديد من كتب التفسير القديمة والحديثة فوجدت أنها لا تكاد تخرج عن اتجاهين اثنين في تأويل هذه الآية ، ولعل تفسير الشعراوي أجمع التفاسير في بيان مرامي هذه الآية ، ولسيد قطب صاحب الظلال وقفات بارعة حولها.
وسأنقل إليكم بعض ما ورد في الشعراوي ، ثم تعليق سيد قطب على الآية ، ثم أعرض إضافة جديدة رأيتها لم أجدها لدى أحد من المفسرين ، ثم أرفق فيديو تفسير الآية للشعراوي رحمه الله
قال الشعراوي:
هل من المعقول أن يستيئس الرسل؟
نقول: فَلنفهم أولاً معنى «استيأس» ؛ وهناك فرق بين «يأس» و «استيأس» ، ف «يأس» تعني قطع الأمل من شيء. و «استيأس» تعني: أنه يُلِحّ على قَطع الأمل.
أي: أن الأمل لم ينقطع بعد. ومَنْ قطع الأمل هو مَنْ ليس له منفذ إلى الرجاء، ولا ينقطع أمل إنسان إلا إنْ كان مؤمناً بأسبابه المعزولة عن مُسبِّبه الأعلى.
لكن إذا كان الله قد أعطى له الأسباب، ثم انتهت الأسباب، ولم تَصِلْ به إلى نتيجة،
فالمؤمن بالله هو مَنْ يقول:
أنا لا تُهمّني الأسباب؛ لأن معي المُسبِّب.
ولذلك يقول الحق سبحانه: { ... وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون}[يوسف: 87]
ولذلك نجد أن أعلى نسبة انتحار إنما تُوجَد بين الملاحدة الكافرين؛ لأنهم لا يملكون رصيداً إيمانياً، يجعلهم يؤمنون أن لهم رباً فوق كل الأسباب؛ وقادر على أن يَخْرِق النواميس.
أما المؤمن فهو يأوي إلى رُكْن شديد، هو قدرة الحق سبحانه مُسبِّب كل الأسباب، والقادر على أن يَخْرِق الأسباب.
ولماذا يستيئس الرسل؟
لأن حرصهم على تعجُّل النصر دفع البعض منهم أن يسأل مثلما سأل المؤمنون: {متى نَصْرُ الله ... }
ثم يعلق الشعراوي على الآية في نهاية نفسيره لها قائلا:
وهكذا يأتي النصر بعد الزلزلة الشديدة؛ فيكون وَقْعه كوقع الماء على ذي الغُلَّة الصَّادي، ولنا أن نتخيل شَوْق العطشان لكوب الماء.
وأيضاً فإن إبطاء النصر يعطي غروراً للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور، وحين يأتي النصر تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول، وأيضاً يتضاعف غَمُّ الكافرين به.
ومجيء النصر للمؤمنين يقتضي وقوع هزيمة للكافرين؛ لأن تلك هي مشيئة الله الذي يقع بَأْسه وعذابه على الكافرين به.
ويقول سيد قطب رحمه الله معلقا على هذه الآية :
تلك سنة الله في الدعوات. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس. يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون. ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمراً ماحقاً لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.
ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً. فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً. أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً. فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء. والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة، لذلك يشفقون أن يدَّعوها، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون الذين لا يتخلون عن دعوة الله، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة! إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل إما أن تربح ربحاً معيناً محدداً في هذه الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية- والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان- يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات! .. ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضاً. وأنه من ثم لا تنضم إليها- في أول الأمر- الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا. وأن عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جدا. ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق، بعد جهاد يطول أو يقصر. وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً.
وأضيف - وأسأل الله السداد -:
لم يلتفت أحد من المفسرين قديما وحديثا إلى [الألف والسين والتاء ] أول الفعل [استيأس].
إن [الألف والسين والتاء] في أول الفعل سواء كان [ماضيا أو مضارعا أو أمرا ] معلوم أنها طلبية ، فحين تقول [استغفر محمد ربه ] فالمعنى أن محمدا يطلب المغفرة من ربه
والعجب هنا في دخول [ الألف والسين والتاء ] على الفعل [ استيأس ] ، فلا أحد يطلب اليأس ، خاصة إذا كان الأمر الذي يسعى لتحقيقه مرغوبا محبوبا يسعى إليه سعيا لتحقيقه فكيف يطلب اليأس منه ؟!
وأرى أن لدخول حروف الطلب [الألف والسين والتاء] على الفعل [استيأس ] له دلالة خاصة ، وكما وَضَّحَ الشعراوي إن كانت [ يأس ] تعنى انقطاع الأمل فإن [ استيأس ] لا تعنى انقطاع الأمل ، وإنما تدل على أن الأمل قائم.
وإني أرى أنها تعني الاجتهاد في الدعوة من قبل الأنبياء والرسل إشفاقا على أقوامهم من نزول عقاب الله بهم بسبب إصرارهم وعنادهم ، فكان إصرار أقوام النبي يقابله اجتهاد وزيادة في الدعوة منه لهم ، و[الألف والسين والتاء] تدل على الطلب ، ولا أحد يطلب اليأس من هدف يريد تحقيقه ، إذن المقصود هنا بذل طاقاتهم وأقصى ما لديهم من جهد في دعوة أقوامهم .
وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن الأنبياء بشر فوقع في نفوسهم بعض خواطر اليأس من نصر الله، وهذا مما قد يعرض له البشر في بعض أوقات الشدة ، وهذا مردود غير مقبول لأن الأنبياء يعلمون أنهم بين أمرين لا ثالث لهما ، إما هداية أقوامهم ونصر من الله مبين ، أو نزول عذاب الله بهم ، فإنهم صلوات الله عليهم يثقون في وعد الله لهم بالنصر ، انظر إلى ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة مستضعف ، وأصحابه قلة معذبة ، اسمع إليه يرد على خباب: " عَنْ خَبَّابٍ قَالَ:
شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ متوسِّدٌ بٌردةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ـ فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا؟!
فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَن قَبْلَكُمْ يُؤخذ الرَّجُلُ فيُحفر لَهُ فِي الْأَرْضِ فيُجعل فِيهَا فيُؤتى بِالْمِنْشَارِ فيُوضع عَلَى رَأْسِهِ فيُجعل بِنِصْفَيْنِ ويُمشط بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ فِيمَا دُونَ عَظْمِهِ وَلَحْمِهِ فَمَا يَصرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ على غنمه ولكنكم تستعجلون)"
فإنهم صلوات الله عليهم يعلمون أنهم إن لم يهتد أقوامهم فسوف يقع بهم عذاب الله ، فكانوا يشفقون عليهم إشفاقا بسبب عنادهم وإصرارهم على غيهم ، وراجعوا سير الأنبياء ستجدون ما يؤكد ذلك ، ولعل أوضح الأمثلة نوح عليه السلام الذي ظل في قومه يدعوهم {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} ، ولم ييأس منهم إلا بعد أن أخبره الله {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}.
وعلى هذا فإن الفعل [ استيأس ] يدل على اجتهاد الأنبياء صلوات الله عليهم في دعوة أقوامهم ، وليس ما ذهب إليه البعض من أنه يعنى اليأس من نصر الله ، وعلى هذا فإن الفعل [ ظنوا ] في قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} يعنى اليقين ، أي أيقنوا ، أما الضمير في الفعل [كُذِبُوا] فإنه يعود على أقوام الأنبياء . فحين علم الأنبياء وأيقنوا أن أقوامهم قد أصروا إصرارا ، واستكبروا ، جاء الأمر من الله أن عذاب الله واقع بهم ، لكن الذي لا شك فيه أن الأنبياء لم يتوقفوا عن دعوتهم أقوامهم حتى علموا أن عذاب الله نازل بهم. والله أعلم
وهذا رابط تفسير الآية للشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله :
‫ط§ظ„ط´ظٹط® ط§ظ„ط´ط¹ط±ط§ظˆظ‰ _ط±ط³ط§ظ„ظ‡ ظ‡ط§ظ…ط© ظ„ظ…ط¤ظٹط¯ظ‰ ط§ظ„ط´ط±ط¹ظٹط© ظپظ‰ ظ…طµط± ظˆظƒظ„ ط§ظ„ط¹ط§ظ„ظ… ط§ظ„طط±â€¬â€ژ - YouTube