آداب الكلام والمحادثة

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
10
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن وتقبل​
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فمن آيات الله ونعمه على بني آدم : اختلاف الألسن ، قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ } [ الروم : 22 ] ؛ والمعنى اختلاف اللغات ، إذ اللغة هي الكلام الذي يخرج به اللسان .
كما امتن عز وجل على عباده بنعمة البيان ، فقال : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ الرحمن : 3 ، 4 ] .
إن نعمة اللسان والنطق والبيان نعمة عظيمة ، لا يقدرها حق قدرها إلا من فقدها ، أو عاش بين الناس أبكمًا .
واللسان لا يفتر عن الكلام إلا إذا ألجمه صاحبه ؛ وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا ارْتَقَى الصَّفَا أَخَذَ بِلِسَانِهِ ، فَقَالَ : يَا لِسَانُ ، قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " أَكْثَرُ خَطَايَا ابنِ آدَمَ فِي لِسَانِهِ "[SUP] ( [1] )[/SUP] .
وكان يقول : وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ ، مَا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجُ إِلَى طُولِ سِجْنٍ مِنْ لِسَانٍ[SUP] ( [2] ) [/SUP].
تَحَفَّط من لسانك ليس شيء ... أحق بطول سجن من لسانِ​
وأكثر الناس لا ينقطع لهم كلام ، ولا تهدأ لألسنتهم حركة ؛ فإذا ذهبت تحصي ما قالوا ، وجدت جُله اللغو الضائع ، أو الهذر الضار ، وما لهذا ركب الله الألسنة في الأفواه ، ولا بهذا تقدر الموهبة المستفادة ؛ { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 114 ][SUP] ( [3] )[/SUP] .
وقد عُني الإسلام بموضوع الكلام وأسلوبه ، وقسمه إلى طيب وخبيث ، وضرب لكل قسم مثالا ليدل على قيمة كل منهما ، فقال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } [ إبراهيم : 24 – 26 ] .
والإسلام يعتبر الكلمة أمانة ، وأن الإنسان مسئول عنها ؛ فقد قال الله تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] .
لأجل ذلك جعل الإسلام للحديث آدابًا ، وأوجب على المسلم الالتزام بها ، وحذَّر من التهاون فيها .
وفي هذه الرسالة ( آداب الكلام والمحادثة ) أحاول أن أجلِّي هذه الآداب بإيجاز من خلال المحاور الآتية :
نعمة الكلام والبيان .
أصناف الناس مع نعمة البيان .
المرء بأصغريه .
البلاء موكل بالمنطق .
الأعضاء تكفر اللسان .
ما النجاة .
أقسام الكلام .
آداب الكلام والمحادثة .
خاتمة .
والله الكريم أسأل التوفيق والسداد والقبول ، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ، لا ربَّ غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .

[1] - رواه ابن أبي شيبة ( 26499 ) ، والطبراني في الكبير : 9 / 149 ( 8744 - 8747 ) ، وأبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 1 / 134 .

[2] - رواه الطبراني في الكبير : 10 / 197 ( 10446 ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 4933 ) ، وقال المنذري في ( الترغيب والترهيب ) : رواه الطبراني ورواته رواة الصحيح ، وأبو الشيخ في ( الثواب ) والبيهقي بإسناد حسن .ا.هـ . وصححه الألباني في ( صحيح الترغيب ) رقم ( 2872 ) .

[3] - انظر ( خلق المسلم ) لمحمد الغزالي ، ص 70 – دار نهضة مصر .
 
نعمة البيان
لو تفكَّر الإنسان في نعمة الكلام ، وتأمل في هذا اللسان الذي هو آلة النطق والبيان ، وترجمان القلب ، ووسيلة التعبير عما فيه ؛ وكيف جعله الله تعالى عضوًا لحميًا ، لتسهل حركته ، فلا يكلُّ من كثرة الكلام ؛ وكيف امتن الله تعالى على عباده بنعمة البيان ، فقال سيحانه : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [ [ الرحمن : 3 ، 4 ] ؛ فالاعتبار بنعمة الإِبانة عن المراد والامتنان بها ، بعد الامتنان بنعمة الإِيجاد ؛ أي : علَّمَ جنس الإِنسان أن يُبين عما في نفسه ، ليفيده غيره ويستفيد هو ؛ وفيه الإِشارة إلى أن نعمة البيان أجل النعم على الإنسان[SUP] ( [1] ) [/SUP].
قال سيد قطب – رحمه الله : إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين ، ويتفاهم ، ويتجاوب مع الآخرين ؛ فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة ، وضخامة هذه الخارقة ، فيردنا القرآن إليها ، ويوقظنا لتدبرها ، في مواضع شتى .
فما الإنسان ؟ ما أصله ؟ كيف يبدأ ؟ وكيف يُعلم البيان ؟
إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم ؛ خلية ساذجة صغيرة ، ضيئلة ، مهينة ، تُرى بالمجهر ، ولا تكاد تَبين ، وهي لا تُبين ؛ ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تكون الجنين . الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة : عظمية ، وغضروفية ، وعضلية ، وعصبية ، وجلدية ؛ ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ، ووظائفها المدهشة : السمع .. البصر .. الذوق .. الشم .. اللمس .. ثم الخارقة الكبرى ، والسر الأعظم : الإدراك والبيان ، والشعور والإلهام ؛ كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة ، التي لا تكاد تَبين ، والتي لا تُبين ! كيف ؟ ومن أين ؟ من الرحمن ، وبصنع الرحمن .
فلننظر كيف يكون البيان ؟
] وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ [ [ النحل : 78 ] ، إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب : اللسان ، والشفتان ، والفك ، والأسنان ، والحنجرة ، والقصبة الهوائية ، والشعب ، والرئتان ؛ إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية ، وهي حلقة في سلسلة البيان ؛ وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة ، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب ، ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه ، ولا ندري شيئًا عن ماهيته وحقيقته ؛ بل لا نكاد ندري شيئًا عن عمله وطريقته !
كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد ؟ إنها عملية معقدة ، كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة ؛ مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن .
إنها تبدأ شعورًا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ ، لأداء غرض معين ؛ هذا الشعور ينتقل - لا ندري كيف - من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية : المخ ؛ ويقال : إن المخ يصدر أمـره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب ؛ واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرَّفه معناه . وهنا تطرد الرئة قدرًا من الهواء المختزن فيها ، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية ، إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة ، التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتيه صنعها الإنسان ، ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام ! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتًا تشكله حسبما يريد العقل : عاليًا أو خافتًا ، سريعًا أو بطيئًا ، خشنًا أو ناعمًا ، ضخمًا أو رفيعًا .. إلى آخر أشكال الصوت وصفاته ؛ ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان ، يمر بها هذا الصوت ، فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة ؛ وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين ، يتم فيه الضغط المعين ، ليصوِّت الحرف بجرس معين .
وذلك كله لفظ واحد ، ووراءه العبارة ، والموضوع ، والفكرة ، والمشاعر السابقة واللاحقة ؛ وكل منها عالم عجيب غريب ، ينشأ في هذا الكيان الإنساني العجيب الغريب ، بصنعة الرحمن ، وفضل الرحمن[SUP] ( [2] ) [/SUP].
فالبيان من نعم الله الكبرى ، التي توجب الشكر العظيم على العبد الفقير لربه المتعال الكبير .

[1] - انظر ( التحرير والتنوير ) لابن عاشور عند الآية ( 3 ، 4 ) من سورة الرحمن .

[2] - انظر ( في ظلال القرآن ) لسيد قطب عند الآية ( 3 ، 4 ) من سورة الرحمن .
 
القلم أحد اللسانين
لما كان القلم يُبِينُ عما في القلب ، كان أحدَ اللسانين ، وقد كان يقال : اللسان ترجمان الفؤاد ؛ وقديمًا قال الشاعر :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
لذلك يجب على الكاتب ما يجب على المتكلم : فليقل خيرًا أو ليسكت ؛ وقد قيل : إن للفكر عورات ، كما أن للجسم عورات ، وكما يجب ستر عورات الجسم ، فيجب ستر عورات الفكر .
فالكلمة أمانة ، خرجت من اللسان ، أو كتبت بالبنان ، فليتخير العاقل كلمته ، وليحفظ أمانته .
 
أصناف الناس مع نعمة البيان
يتفاوت الناس في نعمة الكلام والبيان ، فمنهم المقل ، ومنهم الثرثار ، ومنهم الوسط بينهما ؛ فهم بين مفْرِطٍ ومفرِّط ، ومعتدل .
فالأول : هو المفْرِط ، وهو المكثر في الكلام ؛ وصاحبه هو الذي يطلق لسانه أو قلمه في ما لا فائدة فيه ، وما لا يعنيه ؛ وهذا في الغالب يعرض نفسه لكثير من آفات اللسان ؛ كالرياء ، والغيبة ، والنميمة ، والكذب ، والبهتان ، وقول الباطل ، والسب والشتم ، والمدح المذموم ... وغيرها من آفات اللسان والقلم ؛ وقد ذكر الغزالي في ( إحياء علوم الدين ) للسان عشرين آفة [SUP]( [1] ) [/SUP].
والثاني : هو المفرِّطُ ، وهو الذي يغلب عليه الصمت وقلة الكلام ، حتى يوقعه ذلك - أحيانًا - في السكوت عن قول الحق ، أو السكوت على باطل ، أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان ، وقد يصل به التقصير في أداء نعمة الكلام إلى أن يفوِّت على نفسه كثيرًا من العبادات اللسانية ؛ كالذكر ، والدعاء ، وتلاوة القرآن .
وكلا طرفي الأمور ذميم .
والثالث : الوسط العدل : وهو الذي يقوم بأداء شكر نعمة اللسان والبيان ؛ فيتكلم ويكتب حين يكون ذلك طاعة لله عز وجل ، وأمرًا بالمعروف ، ونهيًا عن المنكر ؛ ويُسخِّر هذه النعمة في اللهج بذكر الله تعالى ، وشكره وعبادته ، وإحقاق الحق ، وإبطال الباطل .
ويسكت حين يكون السكوت محبوبًا لله عز وجل ؛ وذلك حينما يكون الكلام معصيًة لله تعالى ؛ كالظلم ، والرياء ، والغيبة ، والنميمة ، وقول الباطل .. وغير ذلك من آفات اللسان .
ويسكت - أيضًا - عندما يكون الكلام لا فائدة منه ، فهو لغو ، واللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته ؛ وذلك من صفات المؤمنين المفلحين ، قال الله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } [ المؤمنون : 1 - 3 ] .
قال ابن القيم - رحمه الله - : وفي اللسان آفتان عظيمتان ، إن خلص العبد من إحداهما لم يخلص من الأخرى : آفة الكلام ، وآفة السكوت ؛ وقد يكون كل منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها ؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس ، عاص لله ، مراء مداهن ، إذا لم يخف على نفسه .
والمتكلم بالباطل شيطان ناطق ، عاص لله ؛ وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته ، فهم بين هذين النوعين .
وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كَفُّوا ألسنتهم عن الباطل ، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة ؛ فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة ، فضلاً أن تضره في آخرته ، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها ، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به[SUP] ( [2] )[/SUP] .
عن يعلى بن عبيد قال : دخلنا على محمد بن سوقة فقال : ألا أحدثكم بحديث لعله ينفعكم ، فإنه قد نفعني ؟ ثم قال : قال لنا عطاء بن رباح : يا ابن أخي ، إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام ، وكانوا يعدُّون فضوله ما عدا كتاب الله عز وجل أن تقرأه ، وتأمر بمعروف ، أو تنهى عن منكر ، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها ؛ أتنكرون : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 10 ، 11 ] ، { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 17 ، 18 ] ؟ أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدرَ نهاره ، أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ، ولا دنياه[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وعن ميمون بن مهران قال : جاء رجل إلى سلمان فقال : أوصني ؛ قال : لا تَكلَّمْ ؛ قال : لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم ؛ قال : فإن تكلمت ، فتكلم بحق أو اسكتْ ؛ قال : زدني ، قال : لا تغضب ؛ قال : إنه ليغشاني ما لا أملكه ؛ قال : فإن غضبت ، فأمسك عليك لسانك ويدك ؛ قال زدني ، قال : لا تلابس الناس ؛ قال : لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يلابسهم ؛ قال : فإن لابستهم ، فاصدق الحديث ، وأد الأمانة[SUP] ( [4][/SUP] ) .
[1] - انظر ( إحياء علوم الدين ) : 3 / 108 ، ثم فصل الحديث فيها بعد ذلك .

[2] - انظر ( الجواب الكافي ) ص 112 – الكتب العلمية .

[3] - رواه ابن أبي شيبة ( 35469 ) ، وأبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 3 / 314 ، 315 ، ورواه أيضًا بنحوه : 5 / 2 ، ورواه البيهقي في شعب الإيمان ( 5080 ) .

[4] - رواه ابن أبي الدنيا في ( الصمت ) رقم 610 .
 
ثغر اللسان
في آخر حديث معاذ رضي الله عنه الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ " قُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ، وَقَالَ : " كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ : " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ : عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ والمعنى : إلا ما تحصد ألسنتهم من الكلام ؛ قال ابن رجب - رحمه الله : والمراد بحصائد الألسنة : جزاء الكلام المحرم وعقوباته ، فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع ، فمن زرع خيرًا من قول أو عمل حصد الكرامة ، ومن زرع شرًّا من قول أو عمل حصد غدًا الندامة .ا.هـ .
ويصور ابن القيم - رحمه الله - وصية الشيطان لذريته في القيام على ثغر اللسان ، فيقول - أي الشيطان : قوموا على ثغر اللسان ؛ فإنه الثغر الأعظم ؛ فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه ، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه : من ذكر الله تعالى واستغفاره ، وتلاوة كتابه ، ونصيحة عباده ، والتكلم بالعلم النافع ، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان ، لا تبالون بأيهما ظفرتم ؛ أحدهما : التكلم بالباطل ؛ فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ، ومن أكبر جندكم وأعوانكم .
والثاني : السكوت عن الحق ؛ فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس ، كما أن الأول أخ ناطق ، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم ؛ أما سمعتم قول الناصح : المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، والساكت عن الحق شيطان أخرس ؟!
فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل ، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق ، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق .
واعلموا يا بَنِيَّ أن ثغر اللسان هو الذي أُهلِكُ منه بني آدم ، وأكُبَُّّهم منه على مناخرهم في النار ، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر[SUP] ( [2] ) [/SUP].


[1] - رواه أحمد : 5 / 231 ، والترمذي ( 2616 ) وصححه ؛ والنسائي في الكبرى ( 11394 ) ، وابن ماجة ( 3973 ) ، والحاكم : 2 / 412 ، 413 وصححه على شرطيهما ، ووافقه الذهبي .

[2] - انظر ( الجواب الكافي ) ص 69 – الكتب العلمية .
 
المرء بأصغريه
من أَمثال العرب : ( المرْء بِأَصْغَرَيْهِ ) ، وأَصْغَراه : قلْبُه ، ولسانه ؛ ومعناه أَن المَرْءَ يعلو الأُمور ويَضْبِطها بِجَنانه ولسانه ؛ أي : المرء معتبر بهما ، إن نطقَ نطق ببيان ، وإن قاتل قاتلَ بجنان .
قال الميداني في ( مجمع الأمثال ) : قيل لهما : الأصغران ، لِصغر حجمهما ؛ قال : والجالب للباء القيام ، كأنه قيل : المرء يَقُوم معانيه بهما ، أو يكمل المرء بهما [SUP]( [1] ) [/SUP]. وأُنشد لزهير :
وَكَائِنٍ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ ... زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَكَلُّمِ
لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِِصْفٌ فُؤَادُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ
وكان يقال : المرء مخبوءٌ تحت لسانه .
وزِنِ الكلام إذا نطقتَ فإنما ... يُبدي الرجالَ من الستورِ المنطقُ
قَالَ الْحَسَنُ - رحمه الله : لِسَانُ الْعَاقِلِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ ، فَإِذَا أَرَادَ الْكَلامَ ؛ تَفَكَّرَ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ قَالَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ ، وَقَلْبُ الْجَاهِلِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ ، فَإِنْ هَمَّ بِالْكَلامِ ؛ تَكَلَّمَ لَهُ وَعَلَيْهِ [SUP]( [2] ) [/SUP].
وفي ( جمهرة خطب العرب ) : لما اسْتُخْلِفَ عمرُ بن عبد العزيز رضي الله عنه ، قَدِمَ عليه وُفُودُ أهلِ كلِّ بلد ؛ فتقدَّم إليه وَفْدُ أهلِ الحجاز ، فأشْرَأب منهم غلامٌ للكلام ، فقال عمر: يا غلام ، ليتكلمْ مَنْ هو أَسَن منك ! فقال الغلام : يا أمير المؤمنين ، إنَّما المرءُ بأَصغريه : قلبهِ ولسانِهِ ، فإذا مَنَح اللَّهُ العبدَ لسانًا لافظًا ، وقلبًا حافظًا ، فقد استجاد له الحلية ، ولو كان التقدم بالسن لكان في هذه الأمة من هو أحق بمجلسك منك ؛ فقال عمر : صدقت ، تكلّم ؛ فهذا السحْرُ الحلال ! فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن وفد التهنئة ، لا وَفْد الْمَرْزِئة ؛ قدمنا إليك من بلدنا ، نحمد الله الذي منَّ بك علينا ، لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة ، لأنا قد أمنَّا في أيامك ما خِفنا ، وأدركنا ما طلبنا ؛ فقال : عظنا يا غلام ، وأوجز ؛ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، إن أناسًا غرهم حلم الله عنهم ، وطول أملهم ، وحسن ثناء الناس عليهم ؛ فلا يغرنك حلم الله عنك ، وطول أملك ، وحسن ثناء الناس عليك ، فتزل قدمك ؛ فنظر عمر في سن الغلام ، فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة ، فأنشأ عمر يقول :
تعلمْ فليس المرءُ يُخلقُ عالِمًا ... وليس أخو علمٍ كمن هو جاهلُ
وإنَّ كبير القوم لا علمَ عنده ... صغيرٌ إذا ألتفَّتْ عليه المحافلُ [SUP]( [3] )[/SUP]


[1] - انظر ( مجمع الأمثال ) : 2 / 294 ، 295 ( 3982 ) .

[2] - المجالسة وجواهر العلم ( 1502 ، 3049 ، 3114 ) ، ورواه البيهقي في شعب الإيمان ( 4694 ) بلفظ : كان الحسن يقول : لسان العاقل من وراء قلبه ، فإذا عرض له قول نظر ؛ فإن كان له قال ، و إن كان عليه أمسك ؛ ولسان الأحمق أمام قلبه ، فإذا عرض له القول قال عليه أو له .

[3] - جمهرة خطب العرب : 2 / 419 ؛ وهو في ( مروج الذهب للمسعودي : 3 / 197 ) ؛ وروى نحوه ابن عبد البر في ( التمهيد : 23 / 204 ) عن العتبي قال : قال سفيان بن عيينة : قدم وفد من العراق على عمر بن عبد العزيز ، فنظر عمر إلى شاب منهم يريد الكلام ، ويهش إليه ، فقال عمر : كبروا ، كبروا ؛ ( يقول : قدموا الكبار ) ؛ قال الفتى : يا أمير المؤمنين ، إن الأمر ليس بالسن ، ولو كان الأمر كذلك لكان في المسلمين من هو أسن منك ؛ قال : صدقت ، فتكلم رحمك الله ؛ قال : إنا وفد شكر ... وذكر الخبر .
 
إن البلاء موكل بالمنطق
البلاء موكل بالمنطق ؛ عبارة لها تحقيق في واقع الناس ، ومنْ يبحث في ذلك يرى عجبًا ؛ وقد وردت كحديث جاء عن عدة من الصحابة ، لكن طرقه كلها معلولة لا تصح ، ولا تتقوى .
وفي ( مجمع الأمثال ) : قال المفضل : يقال : إن أول من قال ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيما ذكره ابن عباس قال : حدثني علي ابن أبي طالب رضي الله عنه : لما أُمِرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يَعْرِضَ نفسَه على قبائل العرب ، خرج وأنا معه وأبو بكر ، فَدُفِعْنَا إلى مجلسٍ من مجالس العرب ، فتقدم أبو بكر وكان نَسَّابة ، فسَلَّم ، فردُّوا عليه السلام ؛ فقال : ممن القوم ؟ قالوا : من ربيعة ، فقال : أمِنْ هامتها أم من لَهَازمها ؟ قالوا : من هامتها العظمى ؛ قال : فأيُّ هامتها العظمى أنتم ؟ قالوا : ذُهْلٌ الأكبر ؛ قال : أفمنكم عَوْف الذي يقال له لاَ حُرَّ بِوَادِي عَوْف ؟ قالوا : لا ؛ قال : أفمنكم بِسْطَام ذُو اللَّواء ومنتهى الأحياء ؟ قالوا : لا ؛ قال : أفمنكم جَسَّاس بن مُرَّةَ حامي الذِّمار ومانِعُ الجار ؟ قالوا : لا ؛ قال : أفمنكم الحَوْفَزَان قاتل الملوك وسالبها أنفَسها ؟ قالوا : لا ؛ قال : أفمنكم المزدَلف صاحب العِمَامة الفَرْدة ؟ قالوا : لا ؛ قال : أفأنتم أخوال الملوك من كِنْدَة ؟ قالوا : لا ؛ قال : فلستم ذُهْلا الأكبر ، أنتم ذهل الأصغر .
فقام إليه غلام ، قد بَقَلَ وَجْههُ ، يقال له : دغفل ، فقال :
إنَّ عَلَى سِائِلِناَ أنْ نَسْأَلَه ... وَالْعِبْءُ لاَ تَعْرِفُهُ أوْ تَحْمِلَهُ
يا هذا ، إنك قد سألتنا فلم نكتمك شيئًا ، فمَنِ الرجل أنت ؟ قال : رجل من قريش ، قال : بخٍ بخ أهل الشرف والرياسة ، فمن أي قرش أنت ؟ قال : من تَيْم بن مُرَّة ؛ قال : أمْكَنْتَ واللَّه الرامي من صفاء الثغرة ؛ أفمنكم قُصَيُّ بن كلاب ، الذي جَمَعَ القبائل من فِهْر ، وكان يُدْعَى مُجَمِّعًا ؟ قال : لا ؛ قال : أفمنكم هاشم ، الذي هَشَم الثريدَ لقومه ، ورجالُ مكة مُسْنتُونَ عِجَاف ؟ قال : لا ، قال : أفمنكم شَيْبَةُ الحمدِ ، مُطْعم طير السماء ، الذي كأن في وجهه قمرًا يضيء ليل الظلام الداجي ؟ قال : لا ، قال : أفمن المُفِيضينَ بالناس أنت ؟ قال : لا ، قال : أفمن أهل النَّدْوَة أنت ؟ قال : لا ؛ قال : أفمن أهل الرِّفادة أنت ؟ قال : لا ؛ قال : أفمن أهل الحِجَابة أنت ؟ قال : لا ؛ قال : أفمن أهل السِّقَاية أنت ؟ قال : لا .
قال ( أي علي ) : واجتذبَ أبو بكر زِمام ناقته ، فرجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؛ فقال دغفل : صادَفَ دَرأ السيل دَرْأً يصدعُهُ ؛ أما واللَّه لو ثبتَّ لأخبرتك أنك من زَمَعَات قريش ، أو ما أنا بدغفل .
قال : فتبسَّم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ؛ قال علي : قلت لأبي بكر : لقد وقَعْتَ من الأعرابي على باقِعَةٍ ! قال : أجَلْ ، إن لكل طامةٍ طامة ، وإن البلاء مُوَكَّلٌ بالمنطق [SUP]( [1] ) [/SUP].
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن إبراهيم ( النخعي ) قال : قال عبد الله ( ابن مسعود ) : البلاء موكل بالقول[SUP] ( [2] ) [/SUP]. وقد أحسن من قال :
لا تنطقنْ بمقالةٍ في مجلسٍ ... تخشى عواقبَها وكن ذا مَصْدقِ
واحفظْ لسانكَ أن تقولَ فتبتلى ... إِن البلاءَ موكلٌ بالمنطقِى
ومن البلاء الحاصل بالقول : قول الشيخ البائس الذي عاده النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ففي صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ ، قَالَ : وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ : " لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " ؛ فَقَالَ لَهُ : " لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " ، قَالَ : قُلْتَ طَهُورٌ ! كَلَّا ، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ - أَوْ تَثُورُ ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " فَنَعَمْ إِذًا "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
ولَمَّا نزل الحسين وأصحابه بكربلاء ، سأل عن اسمها ؛ فقيل : كربلاء ؛ فقال : كربٌ ، وبلاء ؛ فجرى ما جرى .
وفي ( تذكرة الحفاظ ) عن سليمان بن يسار قال : كنت أقسم نفسي بين ابن عباس وابن عمر ، فكنت أكثر ما اسمع ابن عمر يقول : لا أدري ؛ وابن عباس لا يرد أحدًا ، فسمعت ابن عباس يقول : عجبًا لابن عمر وردِّه الناس ، ألا ينظر في ما يشك ، فإن كانت مضت به سنة قال بها ، وإلا قال برأيه ! قال : فسمعت ابن عباس وسئل عن مسألة فارتج فيها ؛ فقال : البلاء موكل بالقول[SUP] ( [4] ) [/SUP].
ومن ذلك ما قاله المؤمل الشاعر في امرأة من الحيرة كان علقها ، قال :
شفَّ المُؤمِّلَ يومَ الحيرةِ النَّظرُ ... ليتَ المؤمِّلَ لم يُخلقْ لهُ بصرُ
فيقال : إنه رأى رجلاً في المنام قد أدخل إصبعيه في عينيه ، فأخرجهما ، وقال : هذا ما تمنيت ، فأصبح أعمى [SUP]([/SUP] [5] [SUP])[/SUP] ؛ ومن ذلك قول مجنون بني عامر ( مجنون ليلى ) :
فلو كنتُ أعمى أخبطُ الأرضَ بالعصا ... أصمَّ فنادتْني أجبتُ المنادِيا
فعمي وصُمَّ[SUP] ( [6] ) [/SUP]. وعليه أنشدوا :
لا تمزحن بما كرهت فربما ... ضرب المزاح عليك بالتحقيق
وقال آخر :
لا تَنْطِقَنَّ بِمَا كَرهْتَ فَرُبَّمَا ... نَطَقَ اللِّسَانُ بِحَادِثٍ فَيَكُوَن
قال ابن الدورقي : اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد ، فحضرت صلاة ، فقدموا الكسائي يصلي ، فارتج عليه قراءة : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فقال اليزيدي : قراءة : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ترتج على قارئ الكوفة ؟! قال : فحضرت صلاة ، فقدموا اليزيدي ، فأرتج عليه في ( الحمد ) فلما سلم قال :
احفظْ لسانكَ أن تقولَ فتبتلى ... إِن البلاءَ موكلٌ بالمنطقِ[SUP] ( [7] )[/SUP]
وفي ( محاسن التأويل ) للقاسمي عند قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } قال الناصر : ولقد صدَّقت هذه القصة المثل السائر ، وهو قولهم : ( البلاء موكل بالمنطق ) ، فإن يعقوب عليه السلام قال أولاً في حق يوسف : { وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْب } [ يوسف : 13 ] ، فابتلي من ناحية هذا القول ؛ وقال ها هنا ثانيًا : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } أي : تغلبوا عليه ؛ فابتلي - أيضًا - بذلك ، وأحيط بهم وغلبوا عليه [SUP]( [8] ) [/SUP].
وفي ( الزهد ) لهناد عن إبراهيم ( النخعي ) قال : إني لأرى الشيء مما يعاب ، ما يمنعني من غيبته إلا مخافة أن أبتلى به ؛ ورواه وكيع في ( الزهد ) بلفظ : إني لأرى الشر أكرهه ، فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى به[SUP] ( [9][/SUP] ) .

[1] - انظر ( مجمع الأمثال ) للميداني : 1 / 17 ، 18 ( 35 ) ؛ وقد روى القصة البيهقي في ( دلائل النبوة ) : 2 / 422 – 424 ، وابن حبان في ( السيرة ) ص 93 ، وابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) : 17 / 292 – 294 ، مع تغير في بعض الألفاظ لا يؤثر .

[2] - مصنف ابن أبي شيبة ( 25547 ) ، وهو في الزهد لهناد ( 1193 ) ؛ قال الألباني في ( السلسلة الضعيفة : 7 / 395 ) : ورجاله ثقات ، لكنه منقطع بين إبراهيم وابن مسعود ، إلا أنه قد قال إبراهيم : ( إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله ؛ فهو الذي سمعت ؛ وإذا قلت : قال عبد الله ؛ فهو عن غير واحد ) ؛ وعلى هذا فالإسناد صحيح .

[3] - البخاري ( 3420 ، 5332 ، 5338 ، 7032 ) .

[4] - انظر ( تذكرة الحفاظ ) للذهبي : 1 / 38 ، 39 .

[5] - المؤمل بن أميل المحاربي الكوفي ، والقصة في (فوات الوفيات ) : 4 / 176 ؛ والأغاني : 22 / 247 .

[6] - أورده الحموي في ( معجم الأدباء ) في ترجمة إسحاق بن مرار ؛ وانظر ( التيسير شرح الجامع الصغير ) : 1 / 885 .

[7] - انظر (معرفة القراء الكبار ) للذهبي : 1/ 124 .

[8] - انظر ( محاسن التأويل ) للقاسمي عند الآية ( 66 ) من سورة يوسف .

[9] - انظر ( الزهد ) هناد رقم ( 1192 ) ، و( الزهد ) لوكيع ( 307 ) .
 
الأعضاء تكفر اللسان
روى أحمد والترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه رَفَعَهُ ، قَالَ : " إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ ، فَتَقُولُ : اتَّقِ اللَّهَ فِينَا ، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ ؛ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا ، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
قال ابن القيم – رحمه الله : قوله صلى الله عليه وسلم : " تُكَفِّرُ اللِّسَانَ " قيل: معناه تخضع له , وإنما خضعت للسان لأنه بريد القلب وترجمانه ، والواسطة بينه وبين الأعضاء ؛ وقولها : " فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ " , أي : نجاتنا بك ، وهلاكنا بك , ولهذا قالت : " فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا ، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا "[SUP] ( [2] ) [/SUP].ا.هـ .
فالأعضاء كلها تطلب من اللسان الاستقامة ، طلب من يخضع لغيره ليفيض عليه بالمطلوب بواسطة الخضوع لديه ؛ فنطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخذلان ؛ فلله درُّه من عضو ، ما أصغره وأعظم نفعه وضرِّه .
وسِرُّ ذلك - كما يقول ابن القيم رحمه الله - أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين ، بل إما راجحة وإما مرجوحة ؛ لأن للسان شأنًا ليس لسائر الجوارح ، وإذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ؛ وأكثر ما يكب الناس على مناخرهم في النار : حصائد ألسنتهم ؛ وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يرضى الله ورسوله ، أو لا ؛ فإن كان كذلك فهو الراجح ، وإن لم يكن كذلك فهو المرجوح ، وهذا بخلاف سائر الجوارح ، فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوى الطرفين ، لما له في ذلك من الراحة والمنفعة ، فأبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له ، ولا مضرة عليه فيه في الآخرة ؛ وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به فلا يكون إلا مضرة ؛ فتأمله [SUP]( [3] ) [/SUP].ا.هـ .


[1] - رواه أحمد : 3 / 95 ، والترمذي ( 2407 ) وحسنه الألباني .

[2] - انظر ( الفوائد ) ص 57 – الكتب العلمية .

[3] - انظر ( مدارج السالكين ) : 1/ 115 ، 116 - باختصار .
 
ما النجاة ؟
اعلم أن خطر اللسان عظيم ، ولا نجاة من خطره إلا بالسكوت عن آفاته ؛ روى أحمد والترمذي عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : " أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وفي صحيح البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وروى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يَلِجُ النَّاسُ بِهِ النَّارَ ، فَقَالَ : " الْأَجْوَفَانِ : الْفَمُ ، وَالْفَرْجُ " ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يَلِجُ بِهِ الْجَنَّةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " حُسْنُ الْخُلُقِ "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
ولما قال معاذ رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم : وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم : " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ : عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ "[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا ، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ "[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وفي مسند أحمد عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ؛ وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ "[SUP] ( [6] ) [/SUP].
وفي موطأ مالك عَنْ أَسْلَمَ مولى عمر أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ – رضي الله عنهما - وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَهْ ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَََََ[SUP] ( [7] ) [/SUP]. و( مَهْ ) ، أي : اكفف عما تفعله .
ورواه أبو يعلى والبيهقي في ( شعب الإيمان ) ، والضياء في ( المختارة ) من طريق أخرى عن عَنْ أَسْلَمَ أن عمر بن الخطاب اطلع على أبي بكر و هو يمد لسانه قال : ما تصنع يا خليفة رسول الله ؟ قال : إن هذا الذي أوردني الموارد ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليسَ شيءٌ منَ الجسدِ إلا وهُوَ يَشكُو ذَِرَبَ اللسانِ ، عَلَى حِدَّتِهِ "[SUP] ( [8] ) [/SUP]؛ وِذَرَب اللسان ( بفتح الذال المعجمة والراء جميعًا ) : هو حِدَّته وشرُّه وفحشه .
وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عَنْ عَلْقَمَةَ اللَّيْثِيُّ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ عز وجل مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ ، يَكْتُبُ اللهُ عز وجل لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ عز وجل مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ ، يَكْتُبُ اللهُ عز وجل بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ : كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ[SUP] ( [9] )[/SUP] .
والأحاديث في بيان خطورة اللسان كثيرة ، والكلمة إذا خرجت لا ترجع ، وهي لك أو عليك ؛ وقد أحسن من قال :
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس يموتُ المرء من عثرة الرِّجلِ
فعثرتُهُ من فِيهِ ترمي برأسه ... وعثرتُهُ بالرِّجل تبرا على مَهَلِ
وقال رجل لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أوصني ؛ قال : عليك بالصمت إلا في حق ؛ فإنك به تغلب الشيطان[SUP] ( [10] ) [/SUP].
قال ابن القيم – رحمه الله : وأما اللفظات فحفظها بأن لا يخرج لفظه ضائعة ، بل لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه ، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر : هل فيها ربح أو فائدة ، أم لا ؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها ، وإن كان فيها ربح نظر هل تفوته بها كلمة هي أربح منها ، فلا يضيعها بهذه ؛ وإذا أردت أن تستدل على ما في القلوب فاستدل عليه بحركة اللسان ؛ فإنه يطلعك على ما في القلب ، شاء صاحبه أم أبى ؛ قال يحيى بن معاذ : القلوب كالقدور تغلي بما فيها ، وألسنتها مغارفها ، فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه : حلو وحامض ، وعذب وأجاج .. وغير ذلك ، ويُبِينُ لك طعم قلبه اغتراف لسانه [SUP] ( [11] ) [/SUP]؛ أي : كما تطعم بلسانك فتذوق ما في قلبه من لسانه ، كما تذوق ما في القدر بلسانك ؛ وفى حديث أنس المرفوع : " لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ " ، وسئل النبي عن أكثر ما يدخل النار ، فقال : " الْفَمُ ، وَالْفَرْجُ " ؛ وقد سأل معاذ النبي عن العمل يدخله الجنة ويباعده من النار فأخبره برأسه وعموده وذروة سنامه ، ثم قال : " أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ " قُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ، وَقَالَ : " كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ : " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ : عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ " .
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه ، حتى يُرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة ، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله ، لا يلقى لها بالا ، يزل بالكلمة الواحدة بين المشرق والمغرب ، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ، ولا يبالى ما يقول ؛ وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ " أَنَّ رَجُلاً قَالَ : وَاللَّهِ ، لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَىَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ "[SUP] ( [12] ) [/SUP]؛ فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله ؛ وفى حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحو ذلك ، ثم قال أبو هريرة : تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته [SUP]( [13] ) [/SUP]؛ وفى صحيح البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ؛ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ "[SUP] ( [14] ) [/SUP]. وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا ، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ "[SUP] ( [15] ) [/SUP]- ثم ذكر أحاديث مما تقدم وغيرها - ثم قال : وقد كان بعض السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله : يوم حار ، ويوم بارد ؛ ولقد رُؤي بعض الأكابر من أهل العلم في النوم بعد موته ، فسئل عن حاله ، فقال : أنا موقوف على كلمة قلتها ، قلت : ما أحوج الناس إلى غيث ! فقيل لي : وما يدريك ؟ أنا أعلم بمصلحة عبادي ؛ وقال بعض الصحابة لخادمه يومًا : هات لي السفرة نعبث بها ؛ ثم قال : استغفر الله ، ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمها ، إلا هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام [SUP]([/SUP] [16] [SUP])[/SUP] ، أو كما قال .
وأيسر حركات الجوارح حركة اللسان ، وهى أضرها على العبد ، واختلف السلف والخلف هل يكتب جميع ما يلفظ به ، أو الخير والشر فقط ؟ على قولين ؛ أظهرهما الأول وقال بعض السلف : كل كلام بن آدم عليه لا له ، إلا ما كان من ذكر الله وما والاه ؛ وكان الصديق t يمسك بلسانه ويقول : هذا أوردني الموارد ؛ والكلام أسيرك ، فإذا خرج من فيك صرت أسيره ؛ والله عند لسان كل قائل ؛ و{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ][SUP] ( [17] ) [/SUP].
فحفظ اللسان من أعظم أسباب النجاة ، فلينتبه العاقل لكلماته قبل أن تخرج من فيه ، والله المستعان .


[1] - أحمد : 5 / 259 ، والترمذي ( 2406 ) وحسنه .

[2] - البخاري ( 6109 ، 6422 ) .

[3] - أحمد : 2 / 392 ، 442 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 289 ) ، والتِّرمِذي ( 2004 ) وصححه ، وابن ماجة ( 4246 ) ، وابن حبان ( 476 ) ، والحاكم ( 7919 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .

[4] - رواه أحمد : 5 / 231 ، والترمذي ( 2616 ) وصححه ، وتقدم تخريجه .

[5] - البخاري ( 6112 ) ، ومسلم ( 2988 ) .

[6] - رواه أحمد : 3 / 198 ، ورواه ابن أبي الدنيا في ( الصمت ) رقم 9 ، وحسنه الألباني في الصحيحة ( 2841 ) .

[7] - الموطأ : 2 / 988 ( 1788 ) .

[8] - أبو يعلى ( 5 ) ، والبيهقي في الشعب ( 4947 ) ، والضياء في المختارة ( 3 ) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب ( 2873 ) .

[9] - أحمد : 3 / 469 ، والترمذي ( 2319 ) وصححه ، والنسائي في الكبرى كما في التحفة : 2 / 103 ( 2028 ) ، وابن ماجة ( 3969 ) ؛ ورواه ابن حبان ( 287 ) ، والحاكم : 1 / 45 ، 46 ، وصححه ووافقه الذهبي .

[10] - رواه ابن أبي الدنيا في الصمت ( 91 ) .

[11] - رواه أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 10 / 62 .

[12] - مسلم ( 2621 ) .

[13] - أخرجه أحمد : 2 / 323 ، 362 ، وأبو داود ( 4901 ) ، وصححه الألباني .

[14] - البخاري ( 6113 ) ، تنبيه : قال ابن القيم ها هنا : وفي الصحيحين ، وأورد الحديث بلفظ البخاري ، ثم قال وعند مسلم : "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها ، يهوي بها في النار أبعد مما بين المغرب والمشرق " وهو في الصحيحين .

[15] - البخاري ( 6112 ) ، ومسلم ( 2988 ) .

[16] - القائل هو شداد بن أوس t ، رواه أحمد : 4 / 123 ، والحاكم ( 1872 ) ، وصححه على شرط مسلم ، بنحو ما ذكره .

[17] - انظر الجواب الكافي ، ص : 110 – 112 ، باختصار وتصرف .
 
أقسام الكلام
لما كان الكلام يعود على المتكلم بالنفع أو بالضرر ، أو يجمع نفعًا وضررًا ، أو ليس فيه نفع ولا ضرر ، كان أربعة أقسام ؛ قال الغزالي - رحمه الله : الكلام أربعة أقسام ؛ قسم هو ضرر محض ، وقسم هو نفع محض ، وقسم فيه ضرر ومنفعة ، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة .
أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه ، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر .
وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر ، فهو فضول ، والاشتغال به تضييع زمان ، وهو عين الخسران ؛ فلا يبقى إلا القسم الرابع ، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام ، وبقي ربع ؛ وهذا الربع فيه خطر ، إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع ، والغيبة ، وتزكية النفس ، وفضول الكلام ، امتزاجًا يَخْفَى دركه ، فيكون الإنسان به مخاطرًا ، ومن عرف دقائق آفات اللسان ، علم قطعًا أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم هو فصل الخطاب ، حيث قال : " مَنْ صَمَتَ نَجَا "[SUP] ( [1][/SUP] ) .

[1] - انظر إحياء علوم الدين : 3 / 111 ، 112 ؛ والحديث رواه أحمد : 2 / 159 ، 177 ، والترمذي ( 2501 ) ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 536 ) .
 
آداب الكلام والمحادثة
الحديث مع الآخرين في الإسلام له أصوله وآدابه ، فقد اعتنى الإسلام بأدب الكلام والمحادثة ، فأمر بحفظ اللسان ، ولزوم الصمت إلا لحاجة ، كما أمر بلين الكلام وطيبه ، واختيار أحسنه ، ومخاطبة كل أحد بما يفهم ، وترك فضول الكلام .. إلى غير ذلك مما سنذكره - إن شاء الله تعالى - من آداب .
إن الإسلام يريد أن يتميز المسلم بعقيدته وعبادته وأخلاقه وآدابه وسمته ؛ وإذا عدَّ الإنسان كلامه ، يوشك أن يعرف ماذا يسوِّد به صحائف أعماله ؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه : أُنْذِرُكُمْ فُضُولَ الْكَلامِ ، بِحَسْبِ أَحَدِكُمْ أَنْ يَبْلُغَ حَاجَتَهُ [SUP]( [1] ) [/SUP]؛ وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين : صموت واع ، وناطق عالم [SUP]( [2] ) [/SUP]. وقال عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما : الكلام بمنزلة العطاس ، قليله دواء ، وكثيره داء [SUP]( [3] ) [/SUP].
ولكي لا يقع المسلم في مزالق اللسان وعثراته ؛ فعليه أن يرتب كلامه وفق ما يلي :
1 - أن يكون الكلام لداع يدعو إليه ؛ إما في جلب نفع ، أو دفع ضر .
2 - أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به .
3 - أن يأتي به في موضعه ، ويتوخى به إصابة الحق .
4 - أن يقتصر منه على قدر الحاجة .
واعلم - علمني الله وإياك الخير - أن آداب الكلام والمحادثة كثيرة ، وأنا أذكر لك في هذه الرسالة عيونها وأصولها - إن شاء الله تعالى تعالى .

[1] - رواه الطبراني في الكبير : 9 / 92 ( 8507 ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 4998 ) .

[2] - رواه ابن المبارك في الزهد ( 1397 ) .

[3] - ذكره البغوي في ( شرح السنة ) : 14 / 320 .
 
1 - الإخلاص ؛ وهو أدب يشمل كل أعمال المسلم وأقواله ؛ ومعناه ها هنا ألا يتكلم إلا إذا كانت الكلمة يراد بها وجه الله ؛ لأنه قد يتكلم إظهارًا لعلمه أو فصاحته وبيانه ، أو استئثارًا بالمجلس ، أو ترفعًا عن الخلق ، أو إيذاءً للآخرين ، أو حبًّا للظهور ؛ وهذه كلها آفات لبواعث الكلام ، فينبغي أن يكون الباعث لله تعالى ؛ لذلك فعلى العاقل أن يترك الكلام إذا كان في تركه إرضاءً لله تعالى ، فلا ينبغي أن يكون الكلام شهوة .
كما لا يجوز له أن يسكت عن تعليم جاهل ، أو تنبيه غافل ، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر .
وتأمل هذا المثال الذي رواه البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ وَنَسْوَاتُهَا ( وَنَوْسَاتُهَا ) تَنْطُفُ ، قُلْتُ : قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا تَرَيْنَ ، فَلَمْ يُجْعَلْ لِي مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ! فَقَالَتْ : الْحَقْ ، فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ ، وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِي احْتِبَاسِكَ عَنْهُمْ فُرْقَةٌ ؛ فَلَمْ تَدَعْهُ حَتَّى ذَهَبَ ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ ، قَالَ : مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلْيُطْلِعْ لَنَا قَرْنَهُ ، فَلَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ ! قَالَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ : فَهَلَّا أَجَبْتَهُ ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَحَلَلْتُ حُبْوَتِي ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ : أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ ، مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ ؛ فَخَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَمْعِ ، وَتَسْفِكُ الدَّمَ ، وَيُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذَلِكَ ؛ فَذَكَرْتُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْجِنَانِ ؛ قَالَ حَبِيبٌ : حُفِظْتَ ، وَعُصِمْتَ[SUP] ( [1] ) [/SUP]. فانظر كيف فكر ابن عمر - رضي الله عنهما - وعرف أن المصلحة في أن يترك الكلام ، فتركه لله تعالى .


[1] - البخاري ( 3882 ) ؛ ( نسواتها ، نوساتها ) ذوائبها ؛ ( تنطف ) تقطر ماء ؛ ( أمر الناس ) أراد ما وقع بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - من القتال ، واحتكامهم فيما اختلفوا فيه ، فراسلوا من بقي من الصحابة في الحرمين وغيرهما ، وتواعدوا على الاجتماع في الأمر ، فشاور ابن عمر - رضي الله عنهما - أخته في التوجه إليهم وعدمه ، فأشارت عليه باللحوق بهم ، خشية أن ينشأ من غيبته اختلاف ، فتستمر الفتنة ؛ وقرنه : رأسه ؛ وحبوتي : الحبوة الثوب الذي يجمع الرجل به ظهره وساقيه ؛ وقوله : ( من قاتلك ... ) يريد عليًّا رضي الله عنه ، فإنه قاتل معاوية وأباه أبا سفيان - رضي الله عنهما - يوم أحد والخندق ، وكانا كافرين ، وهو يومئذ مسلم .
 
2 - السلام قبل الكلام ؛ هذا من أدب المحادثة ؛ فقد رَوَى الطبراني في ( الأوسط ) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ بَدَأَ بِالسّؤَالِ قَبْلَ السّلَامِ ، فَلَا تُجِيبُوهُ " ، ورواه أَبُو أَحْمَدَ ابن عدي في ( الكامل ) بلفظ : " السّلَامُ قَبْلَ السّؤَالِ ، فَمَنْ بَدَأَكُمْ بِالسّؤَالِ قَبْلَ السّلَامِ ، فَلَا تُجِيبُوهُ " ؛ ولفظ أبي نعيم في ( الحلية ) وابن السني في ( عمل اليوم و الليلة ) : " مَنْ بَدَأَ الكَلامَ قَبْلَ السّلَامِ ، فَلَا تُجِيبُوهُ " [SUP]( [/SUP][1][SUP] ) [/SUP].
قال العلماء : السنة أن يبدأ بالسلام قبل الكلام والسؤال ؛ لأن في الابتداء بالسلام إشعارًا بالسلامة ؛ وتفاؤلا بها وإيناسًا لمن يخاطبه ، وتبركًا بالابتداء بذكر الله ؛ ولأنه تحية يُبدأ به ، فيفوت بالافتتاح بالكلام ، كتحية المسجد فإنها قبل الجلوس وتفوت به . قال المناوي - رحمه الله : لما تقرر أن السلام مأمن للعباد فيما بينهم ، فمن أهمله وبدأ بالكلام ، فقد ترك الحق والحرمة ؛ فحقيق أن لا يجاب ، وجدير بأن يهان ولا يهاب .ا.هـ [SUP]( [/SUP][2][SUP] ) [/SUP].


[1] - الطبراني في الأوسط ( 429 ) ؛ والكامل لابن عدي : 5 / 291 ، وحلية الأولياء لأبي نعيم : 8 / 199 ؛ وابن السني في عمل اليوم و الليلة ( 210 ) ، وحسنه الألباني في ( السلسلة الصحيحة : 2 / 477 (816 ) ، وصحيح الجامع ( 3699 ) .

[2] - فيض القدير : 6 / 94 .
 
3 - طيب الكلمة ولين الحديث ؛ فالكلمة الطيبة صدقة ؛ وقد بوَّب البخاري في ( كتاب الأدب ) من صحيحه ( بَاب طِيبِ الْكَلَامِ ؛ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : " الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ ثم روى عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه مرفوعًاَ : " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وكذلك لين الكلام ، فإنه من الأخلاق الراقية التي يرجى أثرها الطيب ، وقد أرسل الله تعالى رسولين عظيمين إلى فرعون ، وأمرهما أن يلينا له الكلام ، قال تعالى : { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي . اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 42 – 44 ] ؛ وروى الدينوري في ( المجالسة وجواهر العلم ) عن مُعَلَّى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ : بَيْنَمَا الرَّشِيدُ هَارُونُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ؛ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ بِكَلَامٍ فِيهِ غِلَظٌ ؛ فَاحْتَمِلْهُ لِي ؛ فَقَالَ : لَا ، وَلَا نِعْمَةُ عَيْنٍ ، وَلَا كَرَامَةٌ ؛ قَدْ بَعَثَ اللهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ إِلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا[SUP] ( [3] ) [/SUP]؛ فما كان أفقهه - رحمه الله .
روى عبد الرزاق ومن طريقه أحمد عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرْفَةً ، يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا ، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ ، وَأَلَانَ الْكَلَامَ ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ ، وَصَلَّى وَالنَّاسُ نِيَامٌ "[SUP] ( [4] )[/SUP] ؛ فالشاهد قوله صلى الله عليه وسلم : " وَأَلَانَ الْكَلَامَ " .


[1] - حديث أبي هريرة وصله أحمد : 2 / 374 ، 387 ، وابن خزيمة ( 1494 ) ، وابن حبان ( 472 ) .

[2] - البخاري ( 5677 ) .

[3] - المجالسة وجواهر العلم : 3 / 364 ( 993 ) ؛ وذكرها ابن كثير في ( البداية والنهاية ) : 10 / 217 .

[4] - رواه عبد الرزاق ( 20883 ) ومن طريقه أحمد : 5 / 343 وإسناده صحيح .
 
4 - الإقبال على المتحدث بالوجه ؛ فمن آداب المحادثة أن تستقبل من تحدثه بكليتك ، ولا تلتفت عنه يمنة ويسرة وهو يحدثك ؛ ففي ذلك بيان الاعتناء به ، وبالكلام معه ؛ وإذا كان الحديث في مجلس ؛ فمن الأدب أن يوزع نظره على الحضور ، لا يخص أحدًا بنظره ؛ لما رواه البخاري في ( الأدب المفرد ) عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ : كَانُوا يُحِبُّونَ إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ أَنْ لاَ يُقْبِلَ عَلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ ، وَلَكِنْ لِيَعُمَّهُمْ[SUP] ( [1] )[/SUP] .



[1] - الأدب المفرد ( 1304 ) .
 
6 - ألا يتكلم إلا بخير ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " ... وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا ، أَوْ لِيَصْمُتْ " ؛ ففي قول الخير المغنم ، وفي الصمت السلامة . وكان يقال : خير الكلام ما دلَّ على هدىً ، أو نهى عن ردى ؛ وتكلم قوم عند معاوية رض الله عنه والأحنف بن قيس ساكت ، فقال له : ما لك يا أبا بحر لا تتكلم ؟! فقال له : أخشى اللهَ إن كذبتُ ، وأخشاك إن صدقتُ .
 
5 - تحري الصدق ؛ فعلى المسلم أن يتحرى الصدق في حديثه ؛ فإذا حدَّث فلا يحدث إلا بحقٍّ ، وإذا أخبر فلا يخبر بغير الواقع ؛ وليتجنب الكذب في حديثه ، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [ التوبة :119 ] ؛ وفي صحيح مسلم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ؛ وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا "[SUP] ( [1] )[/SUP] .
ومعلوم أن كذب الحديث من علامات النفاق ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ "[SUP] ( [2] )[/SUP] .
فلا يجوز للمسلم أن يتعمد الكذب في حديثه جادًّا أو هازلًا ، فقد روى أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجة عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَن جَدِّه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ ، وَيْلٌ لَهُ ، وَيْلٌ لَهُ "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
ما أقبح الكذب المذموم قائله ... وأحسن الصدق عند الله والناس


[1] - مسلم ( 2607 ) .

[2] - البخاري ( 33 ، 2536 ، 2598 ، 5744 ) ، ومسلم ( 59 ) .

[3] - أحمد : 5 / 7 ، وأبو داود ( 4990 ) والترمذي ( 2315 ) وحسنه ، والنسائي في الكبرى ( 11655 ) وحسنه الألباني .
 
6 - ألا يتكلم إلا بخير ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " ... وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا ، أَوْ لِيَصْمُتْ "[SUP] ( [1] )[/SUP] ؛ ففي قول الخير المغنم ، وفي الصمت السلامة . وكان يقال : خير الكلام ما دلَّ على هدىً ، أو نهى عن ردى ؛ وتكلم قوم عند معاوية رضي الله عنه والأحنف بن قيس ساكت ، فقال له : ما لك يا أبا بحر لا تتكلم ؟! فقال له : أخشى اللهَ إن كذبتُ ، وأخشاك إن صدقتُ [SUP]( [2] ) [/SUP].
[1] - البخاري في مواضع منها ( 3153 ، 5787 ) ، ومسلم ( 47 ) .

[2] - ذكره الغزالي في ( إحياء علوم الدين ) : 3 / 111 .
 
7 – أن يتخير من الكلام أحسنه ؛ قال الله تعالى : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا } [ الإسراء : 53 ] ؛
ومن الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل : { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } [ البقرة : 83 ] .
روى ابن المبارك في ( الجهاد ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لولا ثلاث : لولا أن أسير في سبيل الله عز وجل ، أو يُغبر جبيني في السجود ، أو أقاعد قومًا ينتقون طيب الكلام كما يُنتقى طيب الثمر ، لأحببت أن أكون قد لحقت بالله عز وجل[SUP] ( [1] ) [/SUP].
روى ابن المبارك في ( الزهد ) ، وأبو نعيم في ( حلية الأولياء ) عن أبي الدرداء t قال : لولا ثلاث ما أحببت أن أعيش يومًا واحدًا : الظمأ لله بالهواجر ، والسجود في جوف الليل ، ومجالسة قوم ينتقون من خيار الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر[SUP] ( [2] ) [/SUP].
فعلى المسلم إن تكلم أن يتخير أحسن الكلمات ، وينتقي لحديثه الكلمة المناسبة ؛ وليعلم أن الشيطان يرابط على ثغر اللسان ليزل صاحبه بكلمات قد توقعه في ذلٍ طويل ، عافانا الله والمسلمين .
ومن حسن الكلام أن يتجنب المتكلم الكلمات النابية ، والألفاظ السوقية .
قال محمد الغزالي - رحمه الله : والكلام الطيب العف ، يجمل مع الأصدقاء والأعداء جميعًا ، وله ثماره الحلوة ؛ فأما مع الأصدقاء فهو يحفظ مودتهم ، ويستديم صداقتهم ، ويمنع كيد الشيطان أن يُوهى حبالهم ويفسد ذات بينهم ؛ إن الشيطان متربص بالبشر ، يريد أن يُوقع بينهم العداوة والبغضاء ، وأن يجعل من النزاع التافه ، عراكًا داميًا ولن يسد الطريق أمامه كالقول الجميل .
وأما حسن الكلام مع الأعداء فهو يطفئ خصومتهم ، ويكسر حدتهم ، أو هو على الأقل يقف تطور الشر ، واستطارة شرره ؛ { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] [SUP]( [3] ) [/SUP].



[1] - الجهاد لابن المبارك ( 222 ) .

[2] - الزهد لابن المبارك ( 277 ) ، وأبو نعيم في ( الحلية ) : 1 / 212 .

[3] - انظر ( خلق المسلم ) ص 74 .
 
8 - البعد عن اللغو وفضول الكلام ؛ وهو ما لا فائدة فيه ، وكل فضول مذموم إلا فضول العلم ؛ ففضول الكلام ، وفضول النظر ، وفضول النوم ، وفضول الطعام ، كل ذلك لا فائدة فيه ، فينبغي أن يتجنبه المسلم . قال ابن القيم - رحمه الله : والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء ؛ وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابًا من الشرِّ ، كلها مداخل للشيطان ، فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها ؛ وكم من حرب جرتها كلمة واحدة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : " وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ " ؛ وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر ، وهما أوسع مداخل الشيطان ، فإن جارحتيهما لا يملان ، ولا يسأمان ؛ بخلاف شهوة البطن ، فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه إرادة للطعام ، وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام ، فجنايتهما متسعة الأطراف ، كثيرة الشعب ، عظيمة الآفات ، وكان السلف يحذرون من فضول النظر ، كما يحذرون من فضول الكلام[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وسمع ابن المبارك رجلا يتكلم بما لا يعنيه ، فقال :
احفظ لسانك إن اللسان ... سريع إلى المرء في قتله
وإن اللسان بريد الفؤاد ... يدل الرجالَ على عقله[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وفي ( سير أعلام النبلاء ) في ترجمة المعافى بن عمران : قال مرَّة رجلٌ : ما أشدَّ البرد اليوم ! فالتفت إليه المعافى ، وقال : أستدفأت الآن ؟ لو سكتَّ لكان خيرًا لك .
قال الذهبي - رحمه الله - تعليقًا : قول مثل هذا جائز ، لكنهم كانوا يكرهون فضول الكلام[SUP] ( [3] ) [/SUP]؛ وقد أحسن من قال :
تَرَى الْمَرْءَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَقُولَ ... وَأَسْلَمُ لِلْمَرْءِ أَنْ لا يَقُولا
فَأَمْسِكْ عَلَيْكَ فُضُولَ الْكَلامِ ... فَإِنَّ لِكُلِّ كَلامٍ فُضُولا
وقد أثنى الله على عباده المؤمنين ، فقال : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } [ المؤمنون : 1 – 3 ] ؛ وقال : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص:55 ] .
ولو أن العالم أجمع ، أحصى ما يشغل فراغه من لغو في القول والعمل ، لرَاعه أن يجد أكثر القصص المنشورة ، والصحف المشهورة ، والخطب والإذاعات لغوًا مطردًا ، تعلق به الأعين ، وتميل إليه الآذان ، ولا ترجع بطائل ! وقد كره الإسلام اللغو ؛ لأنه يكره التفاهات وسفساف الأمور ؛ ثم هو مضيعة للعمر في غير ما خلق الإنسان له من جد وإنتاج .. واللاغي لضعف الصلة بين فكره ونطقه ، يرسل الكلام على عواهنه ؛ فربما قذف بكلمة سببت بواره ، ودمرت مستقبله ، وقد قيل : من كثر لغطه كثر غلطه[SUP] ( [4] )[/SUP] .


[1] - انظر ( بدائع الفوائد ) : 3 / 401 .

[2] - رواه البيهقي في شعب الإيمان ( 5076 ) .

[3] - انظر ( سير أعلام النبلاء ) : 9 / 84 .

[4] - انظر ( خلق المسلم ) لمحمد الغزالي ، ص 73 – دار نهضة مصر ، باختصار .
 
9 - ترك المراء ؛ ومن آداب الحديث ترك الجدال الذي لا يراد به الوصول إلى الحق ، فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجة عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ إذ المراء أبعد شيء عن البحث النزيه والاستدلال الموفق ؛ وفي الحديث : " أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ "[SUP] ( [2] )[/SUP] ومن أمثالهم : دع المِراء لقلَّة خيره ؛ ولذا قيل : المماراة تفسد الصداقة القديمة ، وتحل العقدة الوثيقة ، وتكسب الإحنة والبغضاء . قال الشاعر :
إيَّاكَ إيَّاك المِرَاءَ فإنَّه ... إلى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وللِشَّر جِالبُ
قال محمد الغزالي - رحمه الله : ومن الضمانات التي اتخذها الإسلام لصيانة الكلام عن النزق والهوى : تحريمه الجدل ، وسدُّه لأبوابه ، حقًّا كان أو باطلا ؛ ذلك أن هناك أحوالا تستبد بالنفس ، وتغرى بالمغالبة ، وتجعل المرء يناوش غيره بالحديث ، ويصيد الشبهات التي تدعم جانبه ، والعبارات التي تروُّج حجته ، فيكون حب الانتصار عنده أهم من إظهار الحق ، وتبرز طبائع العناد والأثرة في صور منكرة ، لا يبقى معها مكان لتبيُّن أو طمأنينة ؛ والإسلام ينفر من هذه الأحوال ، ويعدُّها خطرًا على الدين والفضيلة .
وهناك أناس أوتوا بسطة في ألسنتهم ، تغريهم بالاشتباك مع العالم والجاهل ، وتجعل الكلام لديهم شهوة غالبة ، فهم لا يملونه أبدًا ؛ وهذا الصنف إذا سلط ذلاقته على شئون الناس أساء ، وإذا سلطها على حقائق الدين شوَّه جمالها وأضاع هيبتها ؛ وقد سخط الإسلام أشد السخط على هذا الفريق الثرثار المتقعِّر . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ "[SUP] ( [3] ) [/SUP]؛ والألد الخصم : المعوج عن الحق ، المولع بالخصومة ، والماهر بها ؛ والألد في اللغة : الأعوج .
هذا الصنف لا يقف ببسطة لسانه عند حدٍّ ، إنه يريد الكلام فحسب ، يريد أن يباهى به ويستطيل ، إن الألفاظ تأتي في المرتبة الأولى ، والمعاني في المرتبة الثانية ، أما الغرض النبيل ، فربما كان له موضوع أخير ، وربما عزَّ له موضع ، وسط هذا الصخب . ولقد حدث أن واحدًا من أولئك الأغرار وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، عَلَيْهِ شَارَةٌ حَسَنَةٌ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَتَكَلَّمُ بِكَلامٍ ، إِلا كَلَّفَتْهُ نَفْسُهُ يَأْتِي بِكَلامٍ يَعْلُو كَلامَ النَّبِيِّ e ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ هَذَا وَأَضْرَابَهُ ( أمثاله ) ، يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ لِلنَّاسِ لَيَّ الْبَقَرَةِ لِسَانَهَا بِالْمَرْعَى ، كَذَلِكَ يَلْوِي اللَّهُ أَلْسِنَتَهُمْ وَوُجُوهَهُمْ فِي النَّارِ "[SUP] ( [4] ) [/SUP].
والجدال في الدين ، والجدال في السياسة ، والجدال في العلوم والآداب ، عندما يتصدى له هذا النفر من الأدعياء البلغاء ، يفسد به الدين ، وتفسد السياسة والعلوم والآداب ، ولعل السبب في الانهيار العمراني ، والتحزب الفقهي ، والانقسام الطائفي ، وغير ذلك مما أصاب الأمة الإسلامية ، هو هذا الجدل الملعون في حقائق الدين ، وشئون الحياة[SUP] ( [5] ) [/SUP].
والمناقشة الهادئة من أمتع أنواع الحديث طالما تحلى الطرفان بالأدب الإسلامي ، وكان غاية كل منهما الوصول إلى الحق .


[1] - أحمد : 5 / 252 ، 256 ، والترمذي ( 3253 ) وقال : حسن صحيح ، وابن ماجة ( 48 ) .

[2] - رواه أبو داود ( 4800 ) ، الطبراني في الأوسط ( 4693 ) عن أبي أمامة ، وحسنه الألباني في الصحيحة ( 273 ) وصحيح الجامع الصغير ( 1464 ) ؛ وروى نحوه الترمذي ( 1993 ) عن أنس وحسنه .

[3] - متفق عليه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : البخاري ( 2325 ، 4251 ، 6765 ) ، ومسلم ( 2668 ) .

[4] - أخرجه الطبراني في الكبير : 22/70 ( 170 ) عن واثلة t ، قال المنذرى في ( الترغيب : 4 / 72 ) ، والهيثمى في ( المجمع : 10 / 261 ) : رواه الطبراني بأسانيد ، ورجال أحدها رجال الصحيح .ا.هـ . وصححه الألباني في صحيح الترغيب ( 3207 ) .

[5] - انظر ( خلق المسلم ) لمحمد الغزالي ، ص 77 ، 78 - دار نهضة مصر ، باختصار وإضافة .
 
10 - البعد عن الثرثرة ، والتشدق في الكلام ؛ من آداب المحادثة أن يكون المتكلم بعيدًا عن الثرثرة والتشدق وتكلف الفصاحة ، ففي ( الأدب المفرد ) للبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " شِرَارُ أُمَّتِي : الثَّرْثَارُونَ ، الْمُتَشَدِّقُونَ ، الْمُتَفَيهِقُونَ ؛ وخِيَارُ أُمَّتِي : أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا " ، ورواه أحمد بلفظ : " أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ ؟ " فَقَالَ : " هُمْ الثَّرْثَارُونَ ، الْمُتَشَدِّقُونَ ؛ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ ؟ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا " [SUP]( [1] ) [/SUP]؛ وروى أحمد والطبراني وابن حبان عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ ، وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ : مَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ : مَسَاوِيكُمْ أَخْلَاقًا ، الثَّرْثَارُونَ ، الْمُتَفَيْهِقُونَ ، الْمُتَشَدِّقُونَُُُُ " [SUP]( [2] ) [/SUP]؛ ورواه الترمذي عَنْ جَابِرٍ t مرفوعًا بلفظ : " إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا ؛ وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الثَّرْثَارُونَ ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ " ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ ؛ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ ؟ قَالَ : " الْمُتَكَبِّرُونَ "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
الثرثارون : جمع ثرثار ، وهو كثير الكلام في تخليط وترديد ؛ والمتشدقون : جمع متشدق ، وهو المتوسع في الكلام بغير احتياط ، وقيل : المستهزئ بالناس ، يلوى شدقه بهم وعليهم ، والأشداق : جوانب الفم ؛ والمتفيهقون : جمع متفيهق ، وهو المتوسع في الكلام المتنطع ؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الْمُتَكَبِّرُونَ " .
روى أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ تعالى يُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ ، الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ تَخَلُّلَ الْبَاقِرَةِ بِلِسَانِهَا " [SUP]( [4] ) [/SUP]؛ أي : الذي يتشدق بالكلام ، ويفخم به لسانه ، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفًّا ، وفيه تنبيه على النهي عن التكلف والتنطع وتكلف الفصاحة .
قال محمد الغزالي - رحمه الله : إن للثرثرة ضجيجًا يذهب معه الرشد ، وأكثر الذين يتصدرون المجالس ، ويتحدَّر منهم الكلام متتابعًا ، يجزم مستمعهم بأنهم لا يستمدون حديثهم من وعى يقظ ، أو فكر عميق ؛ وربما ظن أن هناك انفصالا بين العقل وهذا الكلام المسترسل ! والمرء حين يريد أن يستجمع أفكاره ، ويراجع أعماله ، يجنح إلى الصمت ؛ بل إنه حين يريد أن يبصر نفسه ، ويرتب ذهنه ، يفر من البيئة الصاخبة إلى ريف صامت ، أو ضاحية هادئة ، فلا جرم أن الإسلام يوصى بالصمت ، ويعدُّه وسيلة ناجحة من وسائل التربية المهذبة ... أجل إن اللسان حبل مرخى في يد الشيطان يصرف صاحبه كيف شاء ، فإذا لم يملك الإنسان أمره ، كان فمه مدخلا للنفايات التي تلوث قلبه ، وتضاعف فوقه حجب الغفلة[SUP] ( [5] ) [/SUP]. وكثيرًا ما يكون الحديث طريفًا في موضوعه ومقبولاً ، ولكن الإطالة وكثرة الثرثرة فيه تضعفه .
فعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظًا للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ "[SUP] ( [6] ) [/SUP]؛ ورواه أحمد عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ قِلَّةَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ "[SUP] ( [7] ) [/SUP]؛ فَمِنْ حُسْنِ إسلام المرء أَنْ يَتْرُكَ مَا لَا يَعْنِيهِ فَلا يَشْتَغِلُ بِهِ ، فإنه إذا اشتغل به َرُبَّمَا شَغَلَهُ عَمَّا يَعْنِيهِ ، أَوْ أَدَّاهُ إِلَى مَا يَلْزَمُهُ اجْتِنَابُهُ ؛ وقد قيل للقمان : ما بلغ بك ما نرى ؟ - يريدون الفضل - فقال : صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني [SUP]( [8] ) [/SUP]؛ وقال الحسن - رحمه الله : من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه [SUP]( [9] ) [/SUP].


[1] - الأدب المفرد ( 1308 ) وصححه الألباني ، وأحمد : 2 / 369 .

[2] - أحمد : 4 / 193 ، 194 ، والطبراني في الكبير : 22/221 ( 588 ) ، وابن حبان ( 482 ، 5557 ) .

[3] - الترمذي ( 2018 ) ، وحسنه ؛ وصححه الألباني .

[4] - أحمد : 2 / 165 ، 187 ، وأبو داود ( 5005 ) ، والترمذي ( 2853 ) وحسنه ، وصححه الألباني .

[5] - انظر ( خلق المسلم ) ص 72 ، باختصار .

[6] - رواه الترمذي ( 2317 ) ، وابن ماجة ( 3976 ) ، وصححه ابن حبان ( 229 ) .

[7] - أحمد : 1 / 201 .

[8] - رواه مالك في الموطأ بلاغًا : 2 / 990 ( 1793 ) .

[9] - ذكره ابن عبد البر في التمهيد : 9 / 200 .
 
11 - ألا يستأثر بالكلام وحده ، وينبغي أن يغلِّب جانب الصمت ، وأن يعطي غيره الفرصة لينال حظه من الكلام ؛ قال محمد الغزالي - رحمه الله : ومن الحياء في الكلام أن يقتصد المسلم في تحدثه بالمجالس ، فإن بعض الناس لا يستحيون من امتلاك ناصية الحديث في المحافل الجامعة ، فيملئون الأفئدة بالضجر من طول ما يتحدثون ، وقد كره الإسلام هذا الصنف ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ ، الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ " [SUP]( [1] ) [/SUP]؛ وسرُّ هذا البغض أن أخبار هؤلاء لا تخلو من التزيد ، وأحوالهم لا تخلص من الرياء ، واستئثارهم بالمجالس متنفس لعلل خلقية ، كان الحياء علاجها الشافي لو أنهم استمسكوا به ؛ ولذلك جاء في بعض الآثار أن العي أفضل من هذا الإفصاح ، وهو عي اللسان لا عي القلب[SUP] ( [2] ) [/SUP].



[1] - تقدم تخريجه ، وهذا لفظ الترمذي .

[2] - انظر ( خلق المسلم ) ص 151 .
 
12 - الإنصات للمتكلم وعدم مقاطعة حديثه ؛ هذا أدب راق ، يدل على الاعتناء بالمتكلم ، وإن كان المستمع يعلم ما يتكلم به ، أو أنه فهم ما يمكن أن يقوله المتكلم تاليًا ، فمن الأدب أن يستمع إليه حتى ينتهي من حديثه ؛ وفي ذلك من الفوائد : تنشيط الْمُحَدِّث ، وإدخال السرور عليه ، وسلامتك من العجب بنفسك ، وسلامتك من سوء الأدب ؛ فإن منازعة الْمُحدث في حديثه من سـوء الأدب ؛ وفي صفة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَلا يَقْطَعُ ( صلى الله عليه وسلم ) عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَجُورَ ، فَيَقْطَعُهُ بنهْيٍ ، أَوْ قِيَامٍ [SUP]( [1] ) [/SUP]؛ وقد استمع صلى الله عليه وسلم إلى عتبة بن ربيعة حتى انتهى من كلامه وفيه ما فيه ؛ ثم قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " فَرَغْتَ ؟ " ، قَالَ : نَعَمْ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . حم . تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } حَتَّى بَلَغَ : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } ، فَقَالَ عُتْبَةُ : حَسْبُكَ ، حَسْبُكَ ، مَا عِنْدَكَ غَيْرُ هَذَا ؟ قَالَ : " لاَ " ... الحديث [SUP]( [2] ) [/SUP].
قال معاذ بن سعد الأعور : كنتُ جالسًا عند عطاء بن أبي رباح فحدَّث بحديث ، فعرض رجل من القوم في حديثه ، فغضب ، وقال : ما هذه الأخلاق ؟ وما هذه الطبائع ؟ إني لأسمع الحديث من الرجلِ وأنا أعلمُ به ، فأُريه أني لا أُحسِنُ منه شيئًا[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وفي مسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا قُلْتَ لِلنَّاسِ : أَنْصِتُوا ، وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ ؛ فَقَدْ أَلْغَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " [SUP]( [4] ) [/SUP]. وألغيت ، أي : قلت اللغو ، وهو الباطل وسقط الكلام وما لا يعتد به ؛ قال الراغب في ( المفردات ) : اللغو من الكلام ما لا يعتد به ، و هو الذي يورد لا عن روية فكر ، فيجري مجرى اللغا ، وهو صوت العصافير ، ونحوها من الطيور ؛ و قد يسمى كل كلام قبيح لغوًا[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وفي الحديث التحذير من الإخلال بهذا الأدب الرفيع ، وهو أن لا يقطع على الناس كلامهم ، بل ينصت هو حتى ينتهي كلامهم ، فذلك أدعى إلى حصول الفائدة من الكلام المتبادل بين الطرفين ، لاسيما إذا كان في بحث علمي شرعي .

[1] - انظر طبقات بن سعد : 1 / 424 ، ورواه الطبراني في الكبير : 22 / 155 ( 414 ) ، والبيهقي في الشعب ( 1430 ) .

[2] - أحمد : 2 / 318 ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 170 ) .

[3] - رواه أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 3 / 311 .

[4] - رواه عبد بن حميد ( 1123) ، وأبو يعلى ( 1818 ) عن ابن أبي شيبة ، وهو في مصنفه ( 36560 ) ؛ ورواه الحاكم : 2 / 253 ، 254 ، وصححه ووافقه الذهبي ، كلهم من حديث جابر رضي الله عنه .

[5] - انظر المفردات ( مادة : ل غ و )
 
13 - رعاية أمانة الكلمة ؛ وأنها له أو عليه ؛ وقد مر بك أن المرء بأصغريه : قلبه ولسانه ، وأن البلاء موكل بالمنطق ؛ ولقد قال آدم وحواء كلمة استحقا بها التوبة من الله عز وجل ، حين سألهما الله تعالى عن أكلهما من الشجرة : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ؛ ولما سأل الله تعالى إبليس عن امتناعه عن السجود لآدم : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] ؛ فاستحق بها اللعنة والطرد من رحمة الله تعالى .
 
14 - تجنب الفحش واللعن والبذاءة ؛ وهذا أدب راق يربي به الإسلام أهله ، فَفِي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قالَ : لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا ، وَكَانَ يَقُولُ : " إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاقًا "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وروى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) والترمذي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ ، وَلَا بِلَعَّانٍ ، وَلَا الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ " [SUP]( [2] ) [/SUP].
وقوله صلى الله عليه وسلم : " بِطَعَّانٍ " أي : عيَّاب للناس ، أو يطعن في أنسابهم ؛ " وَلَا بِلَعَّانٍ " أي : يكثر اللعن ؛ " وَلَا الْفَاحِشِ " أي : فاعل الفحش أو قائله ، والمراد به الشتم القبيح ، أي : الذي يفحش ذكره ؛ " الْبَذِيءِ " هو الذي لا حياء له ؛ فالبذاء : الفحش في القول .
ولعل اختيار صيغة المبالغة في هذه الألفاظ لأن الكامل قلَّ أن يخلو عن المنقصة بالكلية .
فيجب على المسلم إذا تكلم ألا يسب شيئًا ، لا إنسان ولا غيره ، وألا يلعن شيئًا ؛ وفي سنن أبى داود عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا ، صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا ، ثُمَّ تَهِبْطُ إِلَى الأَرْضِ ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا ، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالاً ، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا ، رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلاً ، وَإِلاَّ رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا " [SUP]( [3] ) [/SUP].
وروى أبو داود والترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَجُلاً لَعَنَ الرِّيحَ ؛ وَفي رواية : إِنَّ رَجُلاً نَازَعَتْهُ الرِّيحُ رِدَاءَهُ ، عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَعَنَهَا ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " لاَ تَلْعَنْهَا ؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ، وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ ، رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ " [SUP]( [4] ) [/SUP].
فالمسلم الحق عفُّ اللسان ، إذا نطق فبحقٍّ ، وإذا سكت فبحق ، فهو إما غانم ، أو سالم .


[1] - البخاري ( 3559 ) , واللفظ له ، ومسلم ( 2321 ) .

[2] - أحمد : 1 / 404 ، وهذا لفظه ، والبخاري في الأدب ( 312 ، 323 ) ، والترمذي ( 1977 ) ، وصححه الألباني .

[3] - أبو داود ( 4905 ) ، وحسنه الألباني .

[4] - أبو داود ( 4908 ) ، والترمذي ( 1978 ) وحسنه ، وصححه الألباني .
 
15 - تقديم الأكبر والأعلم في الكلام ، وهذا من الآداب التي ينبغي رعايتها ، فللكبير حق ، وللعالم حق ، وتوقير الكبير والعالم من أصول الأدب في الشريعة ؛ وفي الصحيحين في حديث القسامة : عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ : انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ ، فَتَفَرَّقَا ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَمَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا ، فَدَفَنَهُ ؛ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ : " كَبِّرْ ، كَبِّرْ " ، وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ ، فَسَكَتَ ، فَتَكَلَّمَا .. الحديث [SUP]( [1] )[/SUP] ، أي : يتكلم الأكبر منكم في السن ؛ قال البغوي - رحمه الله : وقوله : " كَبِّرْ ، كَبِّرْ " فيه إرشاد إلى أن الأكبر أحق بالإكرام ، وبالبداية بالكلام[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وروى البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن جابر رضي الله عنه قال : قدم وفد جهينة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام غلام يتكلم ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَهْ ، فَأَيْنَ الْكِبَرُ ؟ "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وروى أحمد والحاكم عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ "[SUP] ( [4] ) [/SUP].


[1] - البخاري ( 3002 ) واللفظ له ، ومسلم ( 1669 ) .

[2] - انظر ( شرح السنة ) : 10 / 216 .

[3] - شعب الإيمان ( 10996 ) .

[4] - أحمد : 5 / 323 ، الحاكم ( 421 ) ، وحسنه المنذري في ( الترغيب : 1 / 64 ) ، والهيثمي في ( مجمع الزوائد: 1 / 153 ) .
 
16 – التخلق بأخلاق الإسلام ؛ فمن آداب المحادثة أن يبش في وجه من يحدثه ؛ ففي سنن أبى داود عن أَبِى جُرَىٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ رضي الله عنه أنه قَالَ لرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اعْهَدْ إِلَىَّ ؛ قَالَ : " لاَ تَسُبَّنَّ أَحَدًا " ، قَالَ : فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا ، وَلاَ عَبْدًا ، وَلاَ بَعِيرًا ، وَلاَ شَاةً ؛ قَالَ : " وَلاَ تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ ، إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ "[SUP] ( [1][/SUP] ) .

[1] - جزء من حديث رواه أبو داود ( 4084 ) وصححه الألباني ؛ ورواه أحمد : 5 / 64 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 562 ) ، والنسائي في الكبرى ( 9691 ) بنحوه .
 
17 – خفض الصوت إلا لحاجة ، فإن رفع صوته لحاجة فلا يكون رفعًا مستكرهًا ، قال الله تعالى في وصية لقمان لابنه : { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } [ لقمان : 19 ] ؛ فمن الأدب خفض الصوت عند محادثة الناس ؛ فلا شك أن رفع الصوت مزعج للسامع ، ومثير لأعصابه ، وهو ينبئ عن قلة الأدب ، إلا إذا دعت الحاجة إليه ؛ كالخطيب الذي يخطب الناس ؛ فإنه يريد أن يُسمع القريب والبعيد ؛ وكذلك إذا خاف ألا يسمع أحد تحذيرًا مهمًّا أو فائدة ؛ فإنه يرفع صوته ، ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قَالَ : تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلَاةَ ، صَلَاةَ الْعَصْرِ ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ " مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا [SUP]( [1] )[/SUP] ؛ ففي الحديث دلالة على أن رفع الصوت للحاجة يكون مطلوبًا في بعض الأحيان ؛ لكن المحادثة العادية مع الناس ينبغي أن تكون بصوت يسمعهم ، ولا يزعجهم ؛ فليكن صوتك هادئًا مسموعًا بوضوح ، دون ارتفاع أو صياح ؛ ويحسن ألاَّ يكون على وتيرة واحدة فيمل السامع .


[1] - البخاري ( 60 ) واللفظ له ، ومسلم ( 241 ) .
 
18 - الترسل والتؤدة في الكلام ؛ فمن آداب الكلام أن يترسل المتكلم فيه ترسلاً ، أي : يكون في أدائه على تؤدة وتمهل ليُفهم ويحفظ ، ففي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ [SUP]( [1] ) [/SUP]؛ والمراد : المبالغة في الترتيل والتأني حتى يُفهم الحديث .
وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أنها قَالَتْ لِعُرْوَةَ : أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو فُلَانٍ ؟ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي ، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e يُسْمِعُنِي ذَلِكَ ، وَكُنْتُ أُسَبِّحُ ، فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي ؛ وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ ؛ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ ؛ وفي صحيح مسلم أنها قَالَتْ : أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ .. فذكرت الحديث [SUP]( [2] ) [/SUP]؛ ورواه أبو يعلى بلفظ : فقالت عائشة : لَوْلَا أَنِّي كُنْتُ أُسَبِّحُ لَقُلْتُ لَهُ : مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ ؛ إِنَّمَا كَانَ حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصْلاً تَفْهَمُهُ القُلُوبُ[SUP] ( [3] ) [/SUP]؛ ومعنى ( أسبح ) : أصلي نافلة ، وهي السبحة ؛ قيل : المراد هنا صلاة الضحى ؛ ومعنى قولها : ( لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ ) أي : لأنكرت عليه ، وبينت له أن الترتيل والتؤدة والتمهل في الحديث أولى من السرد والإسراع ؛ ومعنى قولها : ( لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ ) أي : لم يكن يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض ؛ لئلا يلتبس على المستمع ؛ واعتُذِرَ عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْه بأنه كان واسع الرواية كثير المحفوظ ، فكان لا يتمكن من المهل عند إرادة التحديث ؛ كما قال بعض البلغاء : أريد أن أقتصر فتتزاحم القوافي على فِيِّ [SUP]( [4] )[/SUP] .
وفي سنن أبى داود عَنْ عَائِشَةَ - رضي اللَّهُ عنها - قَالَتْ : كَانَ كَلاَمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلاَمًا فَصْلاً ، يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ ؛ ورواه النسائي بلفظ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَسْرُدُ الْكَلامَ كَسَرْدِكُمْ هَذَا ؛ كَانَ كَلامُهُ فَصْلاً يُبَيِّنُهُ ، يَحْفَظُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وروى أبو داود عن جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ فِي كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْتِيلٌ أَوْ تَرْسِيلٌ [SUP]([/SUP] [6] [SUP])[/SUP] .
والترتيل والترسيل بمعنى ، وهو التأني والتمهل في تبيين الحروف والكلمات .
فينبغي على المتكلم أن يكون في كلامه ترتيل وتمهل ؛ ليتمكن السامع من سماعه وفهمه ؛ فلا يكون سريعًا يفوت سماع بعض الحديث ، ولا بطيئًا شديدًا ينفر السامع .


[1] - البخاري ( 3374 ) .

[2] - البخاري ( 3375 ) واللفظ له ، ومسلم ( 2493 ) .

[3] - أبو يعلى ( 4393 ) .

[4] - انظر ( فتح الباري ) : 6 / 578 ، 579 .

[5] - أبو داود ( 4839 ) وحسنه الألباني ، ورواه النسائي في الكبرى ( 10245 ) .

[6] - أبو داود ( 4838 ) وصححه الألباني .
 
19 - إعادة الكلام المهم ليفهم ؛ من آداب الكلام : إعادة الكلام المهم الذي قد يصعب على بعض الجالسين فهمه لأول وهلة ، وهذا معنى ما رواه البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا ، حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ [SUP]( [1] )[/SUP] .
فالإعادة - إذاً - لغرض التفهيم ؛ والإعادة ثلاث مرات ؛ فإن زادت فقد تُمِلُّ ؛ وتكلم ابن السماك يومًا وجاريته تسمع كلامه ، فقال لها : كيف سمعت كلامي ؟ فقالت : هو حسن ، لولا أنك تردده ! فقال : أردده كي يفهمه من لم يفهمه ؛ فقالت : إلى أن يفهمه من لم يفهمه ، يَمَلُّه من فهمه[SUP] ( [2] ) [/SUP]. أي : إذا كررت كثيرًا حتى يفهم الذي لم يفهم ، يكون الذي فهم قد مَلَّ من الترديد ؛ فالمسألة وسط لا إفراط ولا تفريط .

[1] - البخاري ( 95 ) .

[2] - وفيات الأعيان : 4 / 302 ، في ترجمة ابن السماك .
 
20 - مخاطبة الناس على قدر عقولهم ؛ ومن آداب الكلام أن يكلم المسلم الناس بدرجة من الكلام تبلغها عقولهم ويفهمونها ؛ ولا يخاطبهم بما يصعب عليهم فهمه ؛ ولا بغريب الكلام الذي لا يعرفونه ؛ وينتقي من العلم الأشياء الواضحة السهلة التي تتقبل ، ويترك الأشياء التي قد ينفر منها الناس لغرابتها عندهم ، مع أنها قد تكون من الدين ؛ وفي كتاب العلم من صحيح البخاري : ( بَاب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا ) ثم روى عن عَلِيٍّ رضي الله عنه : حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟[SUP] ([/SUP] [1] [SUP])[/SUP] ؛ لأنه إذا حدث الناس بما يشتبه عليهم ولا يعرفونه ، ربما كذَّبوا بما جاء عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم .
وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ ؛ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ[SUP] ( [2] ) [/SUP]؛ والمراد بالوعاء الذي نشره : ما فيه أحكام الدين ؛ وفي الوعاء الثاني أقوال ؛ منها أنه أخبار الفتن ، والأحاديث التي تبين أسماء أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ؛ وقيل غير ذلك ؛ وقوله : ( بَثَثْتُهُ ) : نشرته وأذعته ، ( قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ ) : مجرى الطعام ، وكنَّى بذلك عن القتل .
قال أبو قلابة : لا تحدث الحديث من لا يعرفه ؛ فإنَّ من لا يعرفه يضره ولا ينفعه[SUP] ( [3] ) [/SUP].

[1] - البخاري ( 127 ) .

[2] - البخاري ( 120 ) .

[3] - رواه ابن أبي شيبة ( 25529 ، 25628 ) ، وأبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 2 / 286 .
 
21 - الكلام مع كل أحد بما يليق بحاله ومقامه ؛ ومن الآداب الطيبة أن يراعي المسلم المقام والحال لمن يكلمه ؛ فليس الكلام في مناسبة سرور ، كالكلام في مناسبة حزن ؛ وليس الكلام مع الكبير كالكلام مع الصغير ، وليس الكلام مع العلماء كالكلام مع غيرهم .. وهكذا ، يرتب المسلم كلامه بحسب الحال والمقام ؛ وقد قيل : لكلِّ مقامٍ مقالٌ ، ولكلِّ حدَثٍ حديثٌ ؛ والمحادثة شيء والخطابة شيء آخر ، فلا يصلح أن يتحول الحديث إلى خطبة دون داعٍ .
فالكلام مع الزوجة والأولاد : بالتعليم للمصالح الدينية والدنيوية ، والتربية بالأخلاق والأدب ، وتوجيههم للأعمال التي تنفعهم ، مع المباسطة والمفاكهة ؛ فإنهم أحق الناس بالِبِرِّ ، ومن أعظم البرِّ حسن المعاشرة .
والكلام مع العلماء : بالتعلم والاستفادة ، مع التوقير والاحترام .
والكلام مع الإخوان والأقران : بالكلام الطيب ، ومطارحة الأحاديث الدينية والدنيوية ، والانبساط الباسط للقلوب ، المزيل للوحشة ، المزين للمجالس .
ومع المستفيدين من الطلبة ونحوهم : بالإفادة والمناقشة الهادئة .
ومع الصغار : بالقصص والمقالات اللائقة بهم ، بما يبسطهم ويؤنسهم ، ويكون فيه نفع لهم .
ومع الفقراء والمساكين بالتواضع ، وخفض الجناح ، وعدم الترفع والتكبر عليهم .
ومع من تعرف منه العداوة والبغضاء والحسد : بالمجاملة ، واللين وعدم الخشونة ، وإن أمكنك الوصول إلى أعلى الدرجات ، وهي قوله تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] ؛ فما أكمله من مقام لا يوفق له إلا ذو حظ عظيم .
فكم حصل بهذا من خيرات وبركات ، وكم حصل بضده من شر وفوات خير .
 
22 - لا يتناجى اثنان دون الثالث ؛ هذا من آداب المحادثة التي سنَّها الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ألا يتحدث اثنان سِرًّا في مجلس دون الثالث ، إذا لم يكن في المجلس إلا ثلاثة ؛ وأما إن كان القوم أربعة فما فوق فلا بأس بذلك ، لانتفاء العلة ؛ وسبب ذلك أن ذلك يحزنه ؛ فَفي الصحيحين عَنْ ابِنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً ، فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ ورواه مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا كَانَ ثَلاَثَةٌ ، فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ "[SUP] ([/SUP] [2] [SUP])[/SUP] ؛ وقوله : " حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ " ليزداد الحضور ، فتنتفي العلة .
والعلة في ذلك حتى لا يدخل الحزن والشك إلى قلب الثالث ، لما يراه من تسارِّ صاحبيه دونه ، والشيطان حريصٌ على إيغار الصدور ، وملئها بالشكوك والوساوس ، وقد قال الله تعالى : { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ المجادلة : 10 ] ؛ والشريعة جاءت بسدِّ كل الأبواب التي تفضي إلى الشر ، فمنعت ذلك رعايةً لشعور الثالث ؛ فقد يظن الثالث أنهما يُريدان به سوءً ، أو يدبران له أمرًا ؛ ولكن إذا أذن لهما صاحبهما ، فلا بأس .
وقد فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسألة حقَّ فهمها ، فروى مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : كُنْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بْنِ عُقْبَةَ ، الَّتِي بِالسُّوقِ ؛ فَجَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ ، وَلَيْسَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَحَدٌ غَيْرِي ، وَغَيْرُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ ، فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَجُلًا آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً ، فَقَالَ لِي وَلِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَاهُ : اسْتَأْخِرَا شَيْئًا ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ "[SUP] ([/SUP] [3] [SUP])[/SUP] .


[1] - البخاري ( 5932 ) ، ومسلم ( 2184 ) واللفظ له .

[2] - مسلم ( 2184 ) .

[3] - الموطأ : 2 / 988 ( 1789 ) ، ومن طريق مالك رواه ابن حبان ( 582 ) .
 
23 - الحذر من الإطراء ، وهو المبالغة في المدح ، فإنك إذا أطريت فقد خالفت السنة في المدح ؛ ففي الصحيحين من حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : " وَيْلَكَ ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ " مِرَارًا ، ثُمَّ قَالَ : " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ ، فَلْيَقُلْ : أَحْسِبُ فُلَانًا ، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا ؛ أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا ، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وقوله صلى الله عليه وسلم : " وَيْلَكَ " الويل : الحزن والهلاك ، ويستعمل بمعنى التفجع والتعجب ؛ " قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ " أي : تسببت بهلاكه ؛ لأنه ربما أخذه العجب بسبب مدحك له ، فيكون ذلك كقطع عنقه .
وفي صحيح مسلم عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ رَجُلاً جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ ، فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ - وَكَانَ رَجُلاً ضَخْمًا - فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ : مَا شَأْنُكَ ؟ فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ ، فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].


[1] - البخاري ( 2519 ، 5714 ، 5810 ) ، ومسلم ( 3000 ) .

[2] - مسلم ( 3002 ) .
 
24 - التكلم باللغة العربية ؛ فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون ؛ قاله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وقال : واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرًا قويًّا بيِّنًا ، ويؤثر - أيضًا - في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق .
وأيضًا فإن نفس اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب ؛ فإنَّ فَهْمَ الكتاب والسنة فرض ، ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [SUP]([/SUP] [1] [SUP])[/SUP] .
إن من آداب المحادثة أن تكون باللغة العربية للعرب المسلمين ، فهي لغتهم ولغة دينهم الذي به عزهم وفخرهم وكرامتهم في الدنيا والآخرة . قال ابن تيمية - رحمه الله : وأما اعتياد الخطاب بغير العربية ، التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن ، حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ، ولأهل الدار ، وللرجل مع صاحبه ، ولأهل السوق ، أو للأمراء ، أو لأهل الديوان ، أو لأهل الفقه ، فلا ريب أن هذا مكروه ؛ فإنه من التشبه بالأعاجم .
ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر ، ولغة أهلهما رومية ؛ وأرض العراق وخراسان ، ولغة أهلهما فارسية ؛ وأرض المغرب ، ولغة أهلها بربرية ؛ عودوا أهل هذه البلاد العربية ، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار ، مسلمهم وكافرهم ؛ وهكذا كانت خراسان قديمًا ، ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة ، واعتادوا الخطاب بالفارسية حتى غلبت عليهم ، وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم ، ولا ريب أن هذا مكروه .
وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية ، حتى يتلقنها الصغار في الدور والمكاتب ، فيظهر شعار الإسلام وأهله ، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف ؛ بخلاف من اعتاد لغة ، ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى ؛ فإنه يصعب عليه [SUP]([/SUP] [2] [SUP])[/SUP] .
وما رأيت أمة من الأمم يخلطون في كلامهم بين لغتهم ولغة غيرهم ، اعتزازًا بلغتهم ؛ ولكن في هذا الزمان قد طغى الغزو الثقافي على عقول بعض المسلمين ؛ حتى صار بعضهم يتحدثون بلغة غير عربية ، أو يخلطون بعض الألفاظ الأجنبية في محادثاتهم ، كبرًا وافتخارًا من بعضهم ، وتقليدًا من البعض الآخر .
وإن كان نُقِل عن طائفة من السلف أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من الأعجمية أحيانًا ؛ فذلك لكون المخاطب أعجميًا ، يحتاج إلى تقريب الإفهام .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - انظر ( اقتضاء الصراط المستقيم ) ، ص 207 .

[2] - انظر ( اقتضاء الصراط المستقيم ) ، ص 206 ، 207 .
 
خاتمة
هذا ما يسره الله الكريم المنان في كتابة هذه الرسالة ، وهو جهد مَنْ بضاعته مزجاة ، وعمل البشر محفوف بالنقص .
لكن قدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
ومع ذلك فإني أطمع في فضل الله تعالى وكرمه أن يتقبلها مني ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ، فهو سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
 
عودة
أعلى