آثار الربا الاجتماعية ... ( 2 ) وقفة مع الآثار النفسية والجماعية ...

إنضم
24/04/2003
المشاركات
1,398
مستوى التفاعل
6
النقاط
38
الإقامة
المدينة المنورة
الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد ..
فهذه الحلقة الثانية من هذا الموضوع وقد سبق في الجزء الأول الحديث عن أدلة تحريم الربا في موضوع :
[align=center]آثار الربا الاجتماعية ... ( 1 ) وقفة مع النصوص ... [/align]
وسوف يكون الحديث هنا عن آثار الربا الاجتماعية ، وهي آثار كثيرة يتبين بها حكمة تحريم هذه المعاملة الجاهلية .. وقد ذكرت باختصار شديد هذه الآثار ولعل الإخوة الأفاضل يزيدون ما لديهم أو يتوسعون في بعض هذه الآثار :
إن الربا عمل يتنافى مع الشرع الإسلامي ، إنه يقوم على الاستغلال ، والمرابي لا يجعل الله في حسابه ولا يراعي المبادئ والغايات والأخلاق، وإنما الغاية عنده هي تحصيل المال بأي طريق وأية وسيلة، ويؤدي هذا إلى إنشاء نظام يسحق البشرية ويشقيها أفراداً وجماعات، دولاً وشعوباً، لمصلحة شرذمة قليلة من المرابين لا يرعون عهداً ولا ذمة لأحد من الناس([1]).
وللربا في المجتمعات التي تتعامل به آثارٌ وخيمة على الفرد وحده وعلى المجتمع بأسره ويمكن أن نبحث في آثار الربا الاجتماعية من ناحيتين:-

الناحية الأخلاقية والنفسية، والناحية الجماعية وهي كما يلي:-

أولاً : آثار الربا من الناحية الأخلاقية والنفسية:

أنزل الله دينه ليقيم العباد على منهج العبودية الحقة التي تعرج بهم إلى مدارج الكمال، وتسموا بهم إلى المراتب العليا، وبذلك يتخلصون من العبودية([2])، لِيقَصروا أنفسهم على عبادة رب الخلائق، ويتخلصوا بذلك من الدخن والفساد الذي يخالط النفوس في تطلعاتها ومنطلقاتها، إنّ الإسلام يريد أن يطهر العباد في نفوسهم الخافية المستورة، وفي أعمالهم المنظورة، وتشريعات الإسلام تعمل في هذين المجالين، وهذا الذي نشير إلى أنّ الإسلام يريده بنا هو الذي سمّاه القرآن التزكية والتطهير: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " [ التوبة : 103 ] .
وقد أقسم الرب تبارك وتعالى في سورة الشمس أقساماً سبعة على أنّ المفلح من زكَّا نفسه، والخائب من دسَّاها:- " قد أفلح من زكاها، وقد من دساها " [ الشمس : 9 –10 ] .
والربا واحد من الأعمال التي تعمق في الإنسان الانحراف عن المنهج السوي، ذلك أنّ المرابي يستعبده المال، ويعشي ناظريه بريقُه، فهو يسعى للحصول عليه بكل سبيل، وفي سبيل تحقيق المرابي لهدفه يدوس القيم، ويتجاوز الحدود، ويتعدى على الحرمات([3]).

والربا ينبت في النفس الإنسانية صفات ذميمة ويصرف عنه ما يحصل للمؤمنين المتقين من السعادة، وفيما يلي استعراض لأهم هذه الآثار الملاحظة على من يتعامل بالربا:-

1.الربا ينبت في النفس الإنسانية الجشع كما ينبت الحرص والبخل:-

وهما مرضان ما اعتورا نفساً إلا أفسدا صاحبها([4]) فبالنظر إلى العمل بالربا نجد أنه يبدأ من رغبة في جمع المال منطبعاً بالأثرة والبخل وضيق الصدر والعبودية للمال والتكالب عليها… وهذا على العكس مما يأمر به الشرع الاسلامي القائم على الزكاة والصدقات وعلى الكرم والسخاء والإيثار … وغير ذلك من الصفات الشريفة([5]).

2.الشَّره والكسل غير المريح:-

وإنَّ هذه الآفة([6]) تظهر آثارها جلية واضحة في الشره الذي يخيم على نفوس المرابين، ويجعلهم يستغلون كل قوى غيرهم وإنتاجه في كسب يعود عليهم، فإنَّ من السَّهل على مَنْ عنده عشرة آلاف مثلاً أن يعرضها بفائدة خمسة في المائة أو ستة في المائة فيجيء إليه وهو جالس في عقر داره خمسمائة كل عام، من غير جهد ولا عمل ومن غير أن يتعرض لخسارة ، إلا أن تجتاح المقترض جائحة تأكل الأخضر واليابس ولا تبقي ولا تذر… وفي غالب الأحيان قد احتاط الدائن لماله فينقض عند نكبة المدين على ما عساه يكون قد بقي من ماله…
وإنّ ذلك الكسل الذي يكون فيه الدائن ليس هو الكسل المريح، بل هو الكسل الذي يصحبه الوسواس الدائم والاضطراب المستمر لأنه قد أودع ثروته بين أيدي الناس يراقبهم، ويتتبعهم، لا ليشركهم في خسارتهم ومغارمهم كما يشركهم في كسبهم ومغانهم، بل يترقبهم ليحافظ على ماله وفائدته التي تتضاعف عاماً بعد عام.. ([7])

3. الإسراف وعدم الادخار:-

إن تسهيل القرض بفائدة شجع الكثيرين على الإسراف وعدم الادخار، فإنه إذا كان يشجع على الادخار الآثم عند بعض الناس، فهو يشجع على عدم الادخار عند الآخرين، لأنه إذا كان المسرف يرى مَنْ يقرضه بالفائدة في أي وقت فإنه لا يرعوي، ولا يحسب حساب المستقبل بحيث يدخر في حاضره ما يحتاج إليه في قابله، وإن اضطرته حاجته يجد المصرف الذي يقرضه بفائدة الضامن الذي يضمنه([8]).

4. الاضطراب النفسي المستمر:-

إن التعامل بالربا يوجد اضطراباً نفسياً مستمراً بالنسبة لآكل الربا وموكله على السواء، وإنه فوق ما يحدثه من اضطراب في النظام الاقتصادي يوجد قلقاً نفسياً مستمراً للمتعاملين، وهو بالنسبة لآكله ينبعث من جشعٍ أساسه الكسب من جهود غيره، وبالنسبة للآخر المستغل ينبعث من جشعٍ في كسبٍ ليس في مقدوره.

والجشع من طبيعته أن يحدث اضطراباً مستمراً في قلب الجاشع، وأحاسيسه ومشاعره، ولذلك قرر بعض الأطباء أنّ كثرة الأمراض التي تصيب القلب – فيكون من مظاهرها ضغط الدم المستمر أو الذبحة الصدرية أو الجلطة الدموية أو النزيف بالمخ أو الموت المفاجئ – سببها ذلك الاضطراب الاقتصادي الذي ولَّد جشعاً لا تتوافر أسبابه الممكنة… ولو اسْتُبدل بذلك النظام الاقتصادي – الذي يجعل المقرض آكلاً دائماً، والمقترض مأكولاً غارماً في أكثر الأحوال أو كثير منها – نظامٌ اقتصادي أساسه التعاون بين المقرض والمقترض في المغنم والمغرم لكان أجلب للاطمئنان وأعدل وأقوم وأهدى سبيلاً([9]).

5. تخبط المرابي:-

قال تعالى:- " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" [ البقرة : 275 ].

وهذه الآية وإن كانت ـ كما يقول كثير من المفسرين ـ تتحدث عن حال المرابي عندما يقوم من قبره وأن حاله يكون كالذي يتخبطه الشيطان من المس، إلا أن النظرة المتأملة تهدينا إلى أن الحال التي يبعث عليها المرابي مناسبة للحالة التي كان عليها في الدنيا، فالجزاء من جنس العمل، فلما كان المرابي في دنياه يتخبط خبط عشواء، ويتصرف تصرفات خرقاء، كان حاله في الآخرة على الخط نفسه، قال الحرالي:-

(في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة، ففي إعلامه إيذان بأن آكله يُسلب عقله، ويكون بقاؤه في الدنيا بخُرْقٍ لا بعقل، يُقبل في محل الإدبار، ويدبر في محل الإقبال) ([10]).

وقد عقب البقاعي على مقال الحرالي بقوله:-

(وهو مؤيد بالمشاهدة فإنا لم نر ولم نسمع بآكل ربا ينطق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة، بل هم أدنى الناس وأدنسهم) ([11]).([12]).

6. الجبن والكسل:-

فالمرابي جبان يكره الإقدام، ولذلك يقول المرابون والذين ينظرون لهم: إنّ الانتظار هو صنعة المرابي فهو يعطي ماله لمن يستثمره، ثم يجلس ينتظر إنتاجه لينال حظّاً معلوماً بدل انتظاره، وهو كسول متبلد لا يقوم بعمل منتج نافع، بل تراه يريد من الآخرين أن يعملوا ثم هو يحصل على ثمرة جهودهم([13]).

7. قسوة القلب:-

إنَّ قلوب المرابين في بعض الأحيان تكون أقسى من الحجارة :- " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإنّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله "[ البقرة : 74 ] .

لقد وصف الله آكل الربا بأنه كفار أثيم في قوله:- " يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم" [ البقرة : 276 ].
وكفار وأثيم صيغتان من صيغ المبالغة تدلان على أن المرابي بلغ الغاية في الكفر([14]) والإثم، وذلك أن المرابي كما يقول ابن كثير- رحمه الله-:-
(لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل) ([15]).([16]).

وإنّ اهتمامات المرابي وتطلعاته وغاياته تدور حول أمر واحد هو مصالحه الذاتية، فلا تراه يحزن لدموع الثكالى، ولا لأنات الحزانى، ولا لأوجاع اليتامى، يرى البؤساء والفقراء، فلا يعرف من حالهم إلا أنهم صيد يجب أن تُمتص البقية الباقية من دمائهم.
ألم يصل الحال بالمرابين قساة القلوب إلى أن يستعبدوا في بعض أدوار التاريخ أولئك المعسرين الذين لم يستطيعوا أن يفوا بديونهم وما ترتب عليها من ربا خبيث؟.

8. أن أكل الربا والتغذي به من جملة موانع إجابة الدعاء:-

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
" إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:- "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً" [ المؤمنون : 51 ] وقال تعالى:- " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " [ البقرة : 172 ] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب ، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك" رواه مسلم وأحمد والترمذي والدارمي([17]).

فيؤخذ من هذا الحديث أن التوسع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة…. وقد يكون ارتكاب المحرمات مانع من الإجابة أيضاً وكذلك ترك الواجبات، وعن عمر- رضي الله عنه- قال:- (بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح)، وقال مالك بن دينار : (أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجاً فأوحى الله تعالى إلى نبيه أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة وترفعون إليّ أكُفًّا قد سفكتم بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا مني إلا بعداً).
وقال بعض السلف: (لا تستبطئ الإجابة، وقد سددت طرقها بالمعاصي) ([18]).

ولا شك إن من أعظم المحرمات ومن أكبر الكبائر أكل الربا والتعامل به فيكون داخلاً في معنى هذا الحديث، لأن من ملء بيته من الربا وكان مطعمه ربا وملبسه ربا ومشربه الربا وغذي بالربا فقد عرض نفسه لهذه العقوبة من الله تعالى وهي عدم إجابة الدعوة.

ثانياً: آثار الربا على المجتمع بأسره:

إنه لا يكاد يختلف اثنان في أنَّ المجتمع الذي يتعامل أفراده فيما بينهم بالأثرة، ولا يساعد فيه أحد غيره إلا أن يرجو منه فائدة راجعة على نفسه، ويكون فيه عوزُ أحد ما وضيقُه وفقرُه فرصةً يغتنمها غيره للتمول والاستثمار، فتكون مصلحة الطبقات الغنية الموسرة فيه مناقضة لمصلحة الطبقات المعدمة، لا يمكن أن يقوم ويظل قائماً مثل هذا المجتمع على قواعد محكمة أبداً، ولا بد أن تبقى أجزائه مائلة إلى التفكك والتشتت في كل حين من الأحيان.
ثم إذا عاونت على هذه الوضعية الأسباب الأخرى أيضاً، لا تلبث هذه الأجزاء تتحارب وتتشابك فيما بينها.
وبالعكس من ذلك، إن المجتمع الذي يقوم بناؤه على التعاون والتناصح والتكافل ويتعامل أعضاؤه فيما بينهم بالكرم والسخاء، ولا يكاد يحس فيه أحد أن أحداً من إخوانه في حاجة إلى مساعدته، إلا سارع إلى الأخذ بيده، وعامل فيه الأغنياء إخوانهم الفقراء بالإعانة متطوعين أو بالتعاون العادل على الأقل، لا بد أن تنشأ وتنمو صعداً عواطف التحاب والتناصر والتناصح في قلوب أفراد مثل هذا المجتمع وتبقى أجزاؤه متكافلة متساندة فيما بينها ولا تتطرق إليه عوامل التنازع والتصادم الداخلي أبداً، وأن يكون أسرع كذلك إلى الرُّقي والكمال والازدهار من المجتمع الأول([19]).

والآثار التي تظهر في المجتمع الذي يتعامل بالربا آثار كثيرة نذكر بعضها فيما يلي:-

1. فقدان التآلف وحصول الكراهية والحقد والبغض بين أفراد ذلك المجتمع:-

لا يمكن أن تقوم المجتمعات الإنسانية ما لم يترابط الناس فيما بينهم بروابط الود والمحبة القائمة على التعاون والتراحم التكافل، ومنبعُ الود والمحبة والتكافل والتعاون والتراحم الأخوةُ بين أفراد الأمة الواحدة . والأفراد في الجماعة، أو القطاع من الأمة الذين لا تؤرقهم آلام إخوانهم وأوجاعهم ومصائبهم كالعضو الأشل، الذي عدم فيه الإحساس وانقطعت روابطه بباقي الجسد.
كيف ينعم مجتمع إذا انبث في جنباته أكلة الربا الذين يقيمون المصائد والحبائل لاستلاب المال بطريق الربا وغيره من الطرق!! وكيف يتآلف مجتمع يسود فيه النظام الربوي الذي يسحق القويُّ فيه الضعيف!! كيف نتوقع أن يحب الذين نُهبت أموالهم، وسُلبت خيراتهم ناهبيهم وسالبيهم!! إنّ الذي يسود في مثل هذه المجتمعات هو الكراهية والحقد والبغضاء، فترى القلوب قد امتلأت بالضغينة، والألسنة قد ارتفعت بالدعاء على هؤلاء الذين سلبوهم أموالهم([20]).

فالربا إذاً ينمي الضغائن والأحقاد بين الناس لعدم اقتناع المقترض بما أُخذ منه مهما كانت حاجته، ورغبته فيه([21]) فينشأ الحقد والغضب في قلبه ضد صاحب المال، حيث يشاهده يأخذ منه ما كسبه بعرق جبينه ظلما وباطلاً بدل أن يواسيه أو يقرضه قرضاً حسناً في ظروفه الحرجة… وهذا ليس كلاماً نظرياً فحسب، بل يشهد على ذلك التاريخ ويصدقه الواقع([22]).
وكثيراً ما يتعدى الأمر ذلك – الحقد والبغض- عندما يقوم المقترض بثورات تعصف بالمرابين وأموالهم وديارهم، وتجرف في طريقها الأخضر واليابس([23]).

2. اختلال توزيع الثورة المؤدي إلى خلل يصيب المجتمع:-

إذا أصبح المال دولة بين الأغنياء، شقي أغنياء ذلك المجتمع وفقراؤه، والربا يركز المال في أيدي فئة قليلة من أفراد المجتمع الواحد، ويحرم منه الجموع الكثيرة، وهذا خلل في توزيع المال، وهو الذي يجعل اليهود يصرون على التعامل بالربا، ونشرِه بين العباد، كما يحرصون على تعليم أبنائهم هذه المهنة، كي يسيطروا على المال ويحوزوه إلى خزائنهم.

وهذا الخلل الذي يُحدثه الربا في المجتمعات الإنسانية - وهو خلل توزيع الثروة - داءٌ يعجز علاجه الأطباء، وقد اعترف رجال الاقتصاد في العالم الغربي بعجزهم عن علاج هذا الخلل الذي أصاب العالم الغربي، يقول أحدهم:- (إنني وقد قاربت سنَّ التقاعد، أريد أن أوصي الجيل الأصغر مني سنّاً في هذه القضية: لقد أصبحنا الآن بعد هذه الجهود الطويلة في بلبلة مستمرة، فكلنا يشقى بسبب توزيع الثروة، وتوزيع الدخل، سواء منها ما كان جزئياً، مثل قضية الفائدة والربا، أم ما كان مثل تفاوت الطبقات، تعبنا في هذا ولم نصل إلى شيء).
وهذا تصريح منه بالنتيجة الحتمية التي يصير إليها كل معرض عن هدي السماء: (لقد أصبحنا في بلبلة مستمرة)…(كلنا يشقى بسبب توزيع الثروة)…وتعبنا ولم نصل إلى شيء)….

إنه الشقاء ، شقاء الحياة الدنيا، وشقاء الآخرة أشد وأبقى " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى"[ طه : 124 – 126 ] ([24]).
ومن ظواهر هذا الأثر تضخم المال بطريق غير مشروعة، لأنه تضخم على حساب سلب مال الفقير وضمه إلى كنوز الغني، وحسبك بهذا داءاً فتاكاً في المجتمعات وسبباً في الخصومات والعداوات…([25])

3. تدمير الربا للمجتمعات:-

إن الربا بما يحدثه في النفوس من أمراض، وبما يوجده في الاقتصاد من بلايا، وبما يصنعه من خلل يصيب المجتمعات الإنسانية بالدمار…
وقد لعب الربا دوراً هاماً في انهيار المجتمعات، وظهور الاقتصاديات القائمة على الرق نظراً لأن القرض قبل زمن كان مضموناً بشخص المقترض نفسه إلى جانب ضمانات أخرى كانت النتيجة نزع ملكية صغار المزارعين، وتحويل عدد منهم إلى رقيق، مما أدى في النهاية إلى تركيز الملكية العقارية في أيد قلائل، هذا ما فعله الربا في الماضي، وقد استطاع الكُتَّاب الذين لم يتعمقوا في باطن الأمور أن يدركوا آثاره في تلك المجتمعات، ولكن كثيراً من هؤلاء يظنون أن الفائدة الربوية اليوم لا تحدث في المجتمعات الإنسانية ما أحدثته في تلك المجتمعات، لقد حول المرابون في القديم البشرَ إلى عبيد يعملون في المزارع التي سرقوها من أولئك العبيد، ولا يزال المرابون إلى اليوم يسعون إلى السيطرة على ثمار جهود البشر وسرقة عَرَقِهم وأموالهم.
وقد يقال إن الحال اليوم قد تغير، والفائدة أصبحت محدودة، وهي لا ترهق الأفراد ولا المؤسسات ولا الحكومات، وهذا قصور في النظر وخطل من القول، فإن فوائد البنوك الربوية وبيوتات المال في أوائل القرن لم تكن تتعدى الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة أو الستة أو السبعة في المائة على أكثر تقدير، أما اليوم فإن الفائدة التي كانت تعلنها البنوك الربوية قد بلغت (18)أو(20) في المائة، وقد بلغ الربا في بعض المعاملات في إحدى الدول في أزمة من الأزمات (800) في المائة وكان حجم الأموال التي سببت الأزمة بلغ (27) ملياراً منها (9) مليارات تراكمت بسبب الربا والذين لا يأكلون الربا كانوا أبعد الناس عن التأثر بتلك الأزمة.
ومما يدل على أن هذا البلاء لا يزال آخذاً بأنفاس الناس، ولا يزال رابضاً على قلوبهم، أن ما يسمى بدول العالم الثالث اليوم مثقلة بديون لا تستطيع صادراتها كلها أن تفي بسداد خدمة الديون الربوية([26]).

4. عدم استخدام المواهب في نهضة البلاد واستغلال خيراتها:

فهو يربي الإنسان على عدم استخدام مواهبه التي أنعم الله بها عليه في العمل النافع والإنتاج المثمر، فيقعد عن العمل والسعي في الأرض وإذا وجد أن إيداعه لنقوده في بنك مثلاً يمكنه من الأكل من ربحها، فيفعل ذلك ويترك العمل ويصبح عضواً فاسداً في المجتمع حيث أفسد تعامله بالربا خلقه وشعوره تجاه أخيه فتفسد بذلك حياة الجماعة…([27])

5. التعامل بالربا يؤدي إلى خَلْق طبقة مترفة لا تعمل:-

حيث تعتمد هذا الطبقة على ما يعود لها من الأرباح الربوية، فتتعطل المكاسب والتجارات والحرف والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها، إذ من يحصل على درهمين بدرهم كيف يتجشم مشقة كسب أو تجارة([28]).

6. استغلال حاجة المحتاجين:-

فالربا يستغل حاجة المحتاجين ويلحق بهم الكثير من الأضرار دون اختيار منهم([29]) ، فالمجتمع الذي يتعامل بالربا مجتمع منحل، متفكك لا يتساعد أفراده فيما بينهم، ولا يساعد أحد غيره إلا إذا كان يرجو من ورائه شيئاً([30]).

7. الربا يلغي معاني الفضيلة:-

فهو يلغي معاني الفضيلة، والتعاون على البر والتقوى([31]) ، فالمرابي الذي قد أعشى نظره بريقُ المال لا يعرف إلا مصالحه وهو يبغض كل ما يؤدي إلى انقطاع أرباحه الربوية، وبهذا تتربى عنده تلك الخصال الذميمة من الشَّره والبخل والكسل والجبن هي مضادة تماماً لمعاني الفضيلة من الكرم والشجاعة والتعاون وحب الخير لعموم المسلمين.

8. انقطاع المعروف بين الناس من القرض:-

لعل من الحكم في تحريم الربا أنه يؤدي إلى انقطاع المعروف والإحسان الذي في القرض، إذْ لو حَلَّ درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله([32]).

9. أنه وسيلة الاستعمار:-
يقول السيد سابق رحمه الله :- (وهو وسيلة الاستعمار، ولذلك قيل: الاستعمار يسير وراء تاجر أو قسيس، ونحن قد عرفنا الربا وآثاره في استعمار بلادنا) ([33]).

هذه بعض الآثار التي تظهر في ذلك المجتمع الذي يتعامل بالربا، وهذا بعض ما يلاقيه من استبدل أوامر الله تعالى ومنهجه السوي بغيره من المناهج الأرضية ولو التزم الناس بأوامر دينهم التي منها ترك الربا وتحريمه، لعاشوا حياة سعيدة بعيدة عن الشقاء والضرر، ولكن الله سبحانه جعل السعادة لأهل الإيمان، والشقاء لمن أعرض عن الله وعن ذكره، والله المستعان.
والله أعلم
[align=center]( تمت كتابته عام 1417هـ وهو بحاجة إلى زيادة تحرير )[/align]
14/10/1429هـ
--------------------
([1]) الربا وخطره وسبيل الخلاص منه : 29 .
([2]) أي عبودية البشر .
([3]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 101 – 102 .
([4]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 102 .
([5]) الربا وخطره وسبيل الخلاص منه : 29 – 30 . وانظر أيضاً الربا أضراره وآثاره : 52 .
([6]) أي آفة الربا وهي آفة اجتماعية واقتصادية .
([7]) تحريم الربا تنظيم اقتصادي : 14 – 15 .
([8]) السابق : 17 .
([9]) تحريم الربا تنظيم اقتصادي : 18 – 19 . والربا وأثره على المجتمع الإنساني : 104- 105 .
([10]) تفسير القاسمي : 3 / 701 .
([11]) السابق .
([12]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 107 –108 .
([13]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 102 – 103 . وقد تقدم أن هذا الكسل تصحبه آثار أخرى من الاضطراب وغيره مما يجعل المرابي ليس مرتاحاً في حياته .
([14]) سبق المراد بالكفر هنا .
([15]) تفسير ابن كثير : 1 / 312 .
([16]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 108 –109 .
([17]) مسلم بشرح النووي : 7 / 88 رقم ( 1015 ) والترمذي : 8 / 174 رقم ( 2992 ) وأحمد : 2 / 2328 . والدارمي : 2 / 210 رقم ( 2720 ) .
([18]) جامع العلوم والحكم : 1 / 275 – 277 . وفيه الآثار عن عمر ومالك بن دينار وبعض السلف .
([19]) الربا للمودودي : 50 –51 .
([20]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 108 – 109 .
([21]) الاقتصاد الإسلامي : 85 .
([22]) التدابير الواقية : 90 –91 .
([23]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 109 –110 .
([24]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 111 – 114 . بتصرف . والربا خطره وسبيل الخلاص منه : 30 .
([25]) تيسير العلام : 2 / 198 .
([26]) الربا وأثره على المجتمع الإنساني : 114 – 118 . بتصرف .
([27]) الربا خطره وسبيل الخلاص منه : 30 .
([28]) فقه وفتاوى البيوع : 154 . ومن محاسن الدين الإسلامي : 81 .
([29]) الاقتصاد الإسلامي : 85 .
([30]) الربا أضراره وآثاره : 52 .
([31]) الاقتصاد الإسلامي : 85 .
([32]) فقه وفتاوى البيوع : 154 . ومن محاسن الدين الإسلامي : 81 .
([33]) فقه السنة : 3 / 157 .
 
عودة
أعلى