(6 نظرات في المعرب ) اللغة الأم لغة الاشتقاق / مهداة لابن الشجري

إنضم
15/04/2003
المشاركات
1,698
مستوى التفاعل
5
النقاط
38
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]
كنت قد كتبت حلقات تحت عنوان ( نظرات في المعرب ) ، وهذه الحلقة ـ التي أهديها للأديب الفاضل ابن الشجري تقديرًا لطرائفه الأدبية التي أتحفنا بها في هذا الملتقى ـ أرى أن فيها بيانًا لفكرة الحلقات السابقة ، ولقد حرصت فيها على إيضاح الفكرة قد المستطاع ، وإني لأشكر مشرفنا الفاضل عبد الرحمن الشهري الذي قرأ هذه المقالة قبل نشرها ، وأبدى بعض الملحوظات ، واقترح عليِّ أن اكتب بعض المراجع التي تفيد في هذه الفكرة ، ولعلي أخصص مقالة مستقلة أتكلم فيها عن بعض الكتب التي عُنيت بهذا الموضوع ليتكامل طرح هذه الفكرة مع مراجعها ، والله أسأل أن يعيننا ، وأن يبارك لنا في شهر رمضان المبارك قيامه وصيامه ودعاءه إنه ولي ذلك والقادر عليه .
[align=center]اللغة الأم لغة اشتقاق[/align]
لا يخفى على الباحث في أصل اللغات الخلاف بين العلماء هل هي بتوقيف أو هي بالمواضعة والاجتهاد ؟ ولقد ذهب كل فريق من العلماء إلى رأيٍّ أيَّده بدلائل نقلية أو عقلية .والذي يظهر لي أن أصلها بتوقيف من الله ، ثم إنها يدخلها المواضعة بين البشر .
أما التوقيف فدليله أن آدم أبا البشر كان في السماء يخاطب ربَّه ، ويخاطب ملائكته ، ويخاطب زوجه بكلام قد ألهمه الله إياه ، كما يشير إليه قوله تعالى : ( وعلَّم آدم الأسماء كلها ) ، إذ لا يمكن أن يكون ذلك إلا بأن يعبِّر عن هذه الأسماء بكلام يُفهم عنه ، وهذا الكلام المركَّب من حروف إنما أُلهمه في أول الأمر .
وفي السنة النبوية ما يشير إلى هذا أيضًا ، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له ربه : يرحمك ربك . يا آدم ، اذهب إلى أولئك الملائكة ـ إلى ملأ منهم جلوس ـ فسلِّم عليهم ، فقال : السلام عليكم فقالوا : وعليكم السلام ورحمة الله ، ثم رجع إلى ربه فقال : هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم ) رواه الترمذي وابن حبان وغيرهما بسند صحيح .
فهذا يدل على الإلهام لأول الكلام ، إذ لا يعقل وجود حيين متقابلين بدون أن تكون بينهما لغة للتفاهم فيما بينهم ؛ أيًّا كانت هذه اللغة التي يتفاهمون بها .
وإذا كان أصل اللغة إلهامًا فلا يعني هذا أن البشر لا يوَلِّدون كلامًا ، ويفتعلون مصطلحات ، بل الأمر كذلك من التوليد في اللغة التي يتكلمون بها .
واللغة فيها ما يُولَد وفيها ما يموت وفيها ما يُبعث بعد موته أو تناسيه ، ولكل من هذه أسبابه التي يتسبب عنها .
فاختلاف البيئة ـ مثلاً ـ سبب في نشوء بعض الأسماء ، فليس ما يُستخدم في بادية نجد كالذي يستخدم في حاضرتها ، ولا الذي يستخدم في بادية نجد وحاضرتها كالذي يستخدم في جنوب الجزيرة أو شمالها أو شرقها أوغربها ، فالبيئة لها أثر في إحداث الأسماء وتوليد بعض المعاني ، وصرف بعض الدلالات إلى معنى خاص بها عند القوم يخالفهم فيها غيرهم ، وهذا أمر ظاهر بالموازنة بين كلام القبائل ودلالاته .
واندثار بعض الآلات التي كانت تُستخدم سبب في موت بعض الأسماء ، وهذا ما تشهده اليوم من موت أسماء كانت تُستعمل ، فتُركت بسبب ترك الناس لتلك الآلات التي كانوا يستخدمونها . وقد تموت في منطقة وتبقى في منطقة ، بل قد تموت في الجزيرة العربية وتبقى في شمالها . وكل هذا وغيره مما يحدث للغة إنما يقوم على التتبع والاستقراء للألفاظ التي يستخدمها الناس في كلامهم . أما اللغة الأم فكيف يمكن لها البقاء والاستمرار ؟
وجواب هذا السؤال أن (لاشتقاق) هو أكبر عنصر في بقاء اللغة الأم التي تحدث بها أبونا آدم لما خلقه الله سبحانه ، ثم نزل بها إلى الأرض لما نزل ، وتكلم بها هو وبنوه من بعده .
واللغة العربية التي نزل بها القرآن وهي حاضرة بين يدي عرب الجزيرة تشهد أنها متولدة عن هذه اللغة الأم ( لغة الاشتقاق ) فالأحرف الثماني والعشرين الأصلية ، وما عداها من الحروف الفرعية تشهد بثراء اللغة العربية من جهتين :
ـ عدد الحروف الذي يتولد عنه عدد من المعاني لا تكاد تُحصر ، ففي العربية أحرف لا تكاد توجد في لغة من لغات العالم ؛ كالحاء ، الذال ، الصاد ، الضاد ، الطاء ، الظاء ، وانظر كم من الكلمات التي تتولد في دخول هذه الأحرف في تركيب الكلمة .
ـ نماذج متكاثرة ومتناثرة من الصوتيات التي كان يؤديها العرب ؛ كإشمام الكسرة الضمةَ في مثل ( قِيل ، غِيض ) ، والإمالة في مثل ( والضحى ) ... الخ من الأمور الصوتية التي يطول الحديث عنها .
ولا يبعد أن تكون هذه الصوتيات تولدة شيئًا فشيئًا حتى صارت إلى ما آلت إليه ، واندثر منها ما اندثر بفعل عوامل عديدة .
ولأسوق لك مثالاً يتبين لك به ذلك :
لو أخذت مادة ( ح ر م ) ، وقلَّبتها على الاشتقاق الأكبر ، لظهر لك منها ستُّ مواد : ( حرم ، حمر ، مرح ،محر ، رحم ، رمح ) وكل هذه المواد مستخدم في لغة العرب ، فلو رجعت إلى أي معجم من معاجم العرب الكبرى ؛ كلسان العرب لابن منظور ، لوجدت لكل مادة من هذه المواد اشتقاقًا أصغر ، فلو أخذت ( حرم ) لوجدت من الاشتقاق الأصغر لهذه المادة الشيء الكثير : ( حرَّم ، أحرم ، يحرم ، يحرِّم ، إحرام ، حرام ، حُرمة ، حرمات .... ) .
وهنا تنبيهات :
الأول : أن الباحثين اختلفوا هل أصل الكلمات ثنائي أو ثلاثي ، والخلاف لا يؤثر على الفكرة التي طرحتها لك ؛ لأن الأصل الثلاثي كثير جدًّا ، مما يجعل القول بأنه أصل في كثير من ألفاظ اللغة صحيح بلا ريب ، ووجود بعض الكلمات يكون أصلها ثنائي لا يعني ان كل ألفاظ اللغة كذلك .
الثاني : أن بعض المواد أسعد من غيرها في كثرة الاشتقاق الأصغر ، فلو نظرت إلى ما اشتقه العرب من ( حرم ) لوجدته أكثر من اشتقاقاتهم لمادة ( محر ) .
الثالث : أن تقليب الكلمة على الاشتقاق الأكبر يُظهر أن بعض المواد لم تستخدمه العرب ، وعدم استخدامها لا يلزم منه عدم وجوده في لغات سابقة لها ، ولها علاقة بها .
الرابع : أن بعض المواد تُستخدم في منطقة أكثر من استخدامها في منطقة أخرى . وكل هذه الأمور تظهر بالاستقراء والموازنة .
والمقصود أنَّ البحث التاريخي في اللغات يثبت ثراء العربية بأحرفها ، فهل هي امتداد لتلك ( اللغة الاشتقاقية الأم ) ؟
لننظر المصادر التي يمكن الاعتماد عليها في إثبات ذلك :
ـ القرآن الكريم .
ـ السنة النبوية .
ـ تاريخ العرب وأشعارها .
ـ تفسير السلف ومن جاء بعدهم من العلماء .
ـ أسفار بني إسرائيل .
ـ اللُّقى من أحافير وورق بردى وكتابات على جبال أو صخور أو غيرها .
ـ الدراسات اللغوية المعاصرة الموازنة بين اللغات القديمة ، مع ما يشوب بعضها من جهل أو تحريف في بعض الأحيان ، وقد يكون تحريفًا مقصودًا يُظهِر خبث طوية صاحبه .
والحق أن هذه الدراسات ـ على ما فيها ـ كانت من مفاتيح إثبات تلك اللغة الاشتقاقية من حيث لا يدري بعض من كتب في الموازنة بين تلك اللغات القديمة ، وسيظهر جانب منه في بعض ما سأذكره في هذا الموضوع من معلومات.
ولست أريد في ذكر هذه المصادر أن أبيِّن مدى الاعتماد عليها ، وكيف عددناها مصدرًا ، وإنما مرادي التنبيه عليها هنا فحسب ، مع ملاحظة أن كثيرًا من دارسي اللغات القديمة لا يعتمدون على القرآن والسنة وأخبار العرب ( ومنها آثار السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم ) ، بل لا يرجعون إليها البتة ؛ لأن كثيرًا من دارسي هذه اللغات ينطلقون من منطلقات توراتية صهيونية ، يريدون بذلك إثبات صحة ما في أسفار بني إسرائيل ، والانتصار للصهيونية العالمية فحسب ، وليس البحث العلمي الجاد المحايد هو هدفهم الرئيس، وهذا ظاهر من طريقة بحوثهم التي يغلفونها بغلاف البحث العلمي ، وفيها من المغالطات في البدهيات فضلا عن غيرها ما فيها .
وليس العجب من هؤلاء أن يكتبوا ، فهم بين معتقد لهذه الأفكار مدافعٍ عنها ، وبين مدفوع له حسابه ، فاشتروه ليقوم بهذا الدور ، لكن العجب ممن يملكون حضارة ضاربة بأوتادها في عمق التاريخ كيف ينطلي عليهم مثل هذه الترهات التي تُلبَّس بلباس البحث العلمي ؟!
وإن الأمر في هذا لذو شجون ، ولا أريد أن أستطرد فيه لكيلا أخرج عن صلب الموضوع الذي أريد أن أوقِّفك عليه .

* كيف سارت اللغة ؟
لو نظرت إلى اللغة العربية التي نزل بها القرآن ـ والحديث في تفاريع ذلك يطول ـ لخرجت بفائدة مهمة ، وهي ان القرآن ثبَّت اللغة المتداولة آنذاك ، فوقفت اللغة العربية على أكمل صورها التي وصلت إليها ، وتنادى العلماء لجمعها وحفظها ، فكانت علوم العربية الأساسية من لغة ونحو وصرف ، وصارت هذه اللغة معيارية يقاس عليها ، ويوزن بها لمعرفة الصحيح من الضعيف من الباطل ، وصار في مصطلحات العلماء اللغة الكثيرة ، واللغة القليلة ، واللغة الشاذة ... الخ .
ومع ثراء ما جمعه اهل اللغة إلا أنهم لم يستطيعوا جمع كل كلام العرب ، بل ندَّ عنهم منه شيء بشهادة جمع من العلماء المعتنين بهذا الشأن ؛ كأبي عمرو بن العلاء ، والكسائي ، أبي عبيد القاسم بن سلام ، وغيرهم .
ولغة العرب إبَّان نزول القرآن لغة يقاس عليها ما قبلها وما بعدها من كلام العرب ، فهي من أكبر الأدلة على أصول كثيرٍ من لغات المنطقة التي نُسبت إلى أقوام أو بلدان ؛ كالكنعانيين أو الفينيقيين أو البابليين ، أو الآشوريين أو الأكاديين أو الآراميين أو التدمريين أو النبطيين ... الخ من الألقاب التي اطلقت على أقوام عاشوا في شمال جزيرة العرب : عراقها وشامها ، بل يتعدى إلى مصر وساحل البحر الأبيض المتوسط إلى بلاد المغرب كما هي جغرافية العرب اليوم .
وقد قام جمع من الباحثين بهذا العمل ، فبيَّنوا أصول لغات بعض هذه الأقوام بالقياس على عربية التنزيل ، فبرزت أبحاثٌ فائقة في الجدَّة والعلمية الموضوعية ، وإن كان الإغراق في مثل هذه البحوث لا يخلو من تكلف إلا أن ثبوت أصل المسألة كافٍ في التدليل عليها .
ونحن اليوم نرى كلام عامة العرب في جميع أقطارهم ، فيظهر للدارس ارتباط كثير من العامي بأصوله الفصحى ، وإن اختلف من حيث أداؤه أو تصريفه وخلوه من الإعراب ، وذلك أمر واضح عند من يقرأ في البحوث التي تُعنى بردِّ العامِّي إلى الأصيل من كلام العرب .
والمقصود أن لغة العرب التي حُفِظت لنا اليوم دليل واضح على ارتباطها بأم اللغات ، وارتباط غيرها بها ، على أنها مرحلة من مراحل تطور اللغة الأم وتفرعها في محيط الاشتقاق .
والحق : إن دراسة تلك الروابط يعوزها كثيرٌ من فقه اللغات التي تحدثت بها تلك الشعوب قديمًا ، ولقد كُتِب في ذلك كتابات كثيرة ، لكن شاب كثيرًا منها ما ذكرت لك سابقًا ، ومن أكبر ذلك الشَّوب أنهم اخترعوا مصطلح ( السامية ) ليطلقوه على شعوب منطقتنا العربية ، وعلى لغاتها ، فجعلوا السامية أصلا تتفرع منه لغات شمالية وجنوبية ، وجعلوا منها : العربية والعبرية والحبشية والأكادية والبابلية والآشورية والكنعانية ... الخ . وهذا التقسيم غير صحيح البتة ، وقد نقده باحثون ، وأظهروا زيفه وبطلان ، وإن اغتر به آخرون أو رأى غيرهم أن لا أهمية تُذكر في هذا المصطلح ، فساروا عليه (1) .
* نظرة تحليلية لبعض المفردات الواردة في القرآن لأقوام عريقين في القِدم :
إذا جعلت اللغة المعيارية التي ارتضاها العلماء للقياس عليها ، وكذا ما حُكي من لغات عربية استهجنوها ؛ إذا جعلنا هذه اللغات ( اللهجات ) أصلاً نستفيد منه في تبيُّنِ مسار هذه اللغة وقِدمها (2) ، فإننا سنجد ذلك واضحًا ساطعًا في أسماء نُقلت إلينا كان يتكلم بها أقوام يفصل بينهم وبين لغة العرب القرون الطويلة .
1 ـ نوح وقومه :
يقول الله تعالى : ( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )
تأمَّل أسماء هذه الأصنام ، ألا تظهر لك عربيتها واضحة بينة ؟
أفي عروبة هذه الأسماء شكُّ ؟ أكان قوم نوح سيسمون أصنامهم ـ التي هي أسماء رجال صالحين كانوا قبلهم ـ بغير لغتهم ؟
ألا يدلك هذا على أنَّ قوم نوح كانوا يتكلمون العربية ؟
لكن هذه العربية التي تكلموا بها لا يلزم أن تتفق مع اللغة المعيارية التي بين يديك اليوم ، إذ قد تختلف في طريقة التصريف والإعراب وغيرها ، لكن أصول الكلمات واحدٌ لا يتغير ، أنها لغة الاشتقاق .
2 ـ عاد قوم هود
يقول تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) وقوم عاد لا خلاف في عروبتهم ، ولفظ ( عاد ، وهود ) واضح العروبة ، وأصلهما من العَودِ والهَود .
3 ـ ثمود قوم صالح
قال تعالى : (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ ) ، وقوم ثمود لا خلاف في عروبتهم ، واسم نبيهم واضح العروبة ، وهو من مادة ( صلح ) ، وكذا اسم القبيلة من مادة ( ثمد ) والثمد : الماء القليل .
4 ـ مدين قوم شعيب
ولا خلاف في عروبتهم ، ولا زال اسم مدين شاهدًا إلى اليوم ، مما يدل على عروبته ، واسم ( شعيب ) واضح العروبة ، وهو من مادة شعب .
وهذه الشعوب وأنبياؤها كانوا في جزيرة العرب ـ على خلاف في موطن نوح وقومه ـ وما ذكرته لك ـ مع قِلَّتِه ـ شاهد على اتصال لغة العرب المعيارية بهذه اللغات التي كانت قبلها ، وأنها لا زالت تحتفظ بالاشتقاق من هذه اللغات القديمة ، وانت على خُبر بما كان بين نوح وآدم من الزمن،وهو عشرة قرون ، فانظرإلى أي زمن ارتقت لغة العرب من جهة الزمان،بل إنها لترقى إلى أكثر من هذا كما أشرت في مقالي (آدم في السماء).
هل في هذه النظرية هدم لباب العجمة الذي يعتمده النحويون واللغويون؟
فإن قلت : ألا ترى أن قولك هذا فيه إبطالٌ لباب العجمة الذي يذكره النحويون واللغويون ، وأنك تركت ما ذكره بعض العلماء من حكاية العجمة لبعض هذه الأسماء؟
فالجواب : إني لا ألغي ذلك البتة ؛ لأن قياس العجمة إنما هو بالنسبة للغة العربية إبان نزول القرآن ، وهي اللغة المعيارية التي ارتضاها اللغويون وقاسوا عليها ، فما كان خارجًا عن مقاييسها عدُّوه أعجميًا على التفصيل المعروف عندهم .
وإذا تأملت ما خرج عن هذه اللغة ، وحُكِم بعجمته ، فإنه لا يعدو الأمور الآتية :
1 ـ أن تكون أصوله عربية قد ماتت ، فلم تُستخدم في لغة العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ( اللغة المعيارية ) .
2 ـ أن تكون أصول الكلمة عربية ، لكنها تحوَّرت ثمَّ رجعت إلى اللغة المعيارية بما وصلت إليه من تحوير ، فصارت عجمتها من هذا الباب .
3 ـ أن تكون الكلمة قد وُلِدت في غير العربية ، فتكون عجمتها ظاهرة بلا ريب .
وما أحكيه هنا هو في النوعين الأولين ، فالقول بعجمة الألفاظ لا ينفي الأصل العربي لها ، ولعلي أحكي لك مثالاً يدلك على رحلة الكلمة من العربية إلى التعجيم إلى رجوعها إلى العرب معجمة .
اسم ( إسحاق ) هو بمعنى ( يضحك ) أو قد يكون أحد مشتقاته ( كالضاحك ، وإن كان على المبالغة فهو الضحاك ) لكن ما علاقة اسمه بمدلول الضحك ؟
1 ـ أصل الاسم ( يضحك ) على زِنة الفعل ، وأنت تعلم أن زنة الفعل مستعمل في أسماء عربية في اللغة المعيارية ، مثل ( يزيد ) .
2 ـ السين منقلبة عن الصاد المنقلبة عن الضاد ( يسحق ــــ يصحق ــــ يضحق )
3 ـ القاف منقلبة عن الكاف ( يضحق ــــ يضحك ) .
4 ـ الألف زائدة ( يسحاق ) .
5 ـ قلبت الياء إلى همزة ( إسحاق ) .
ولو أنِست بقوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ) واعتبرته في هذه التسمية لما بعُد عنك الوصول إلى هذا المعنى ، وإذا أضفت إلى ذلك ما تنبَّه إليه أصحاب ( قاموس الكتاب المقدس ص : 66 ) ، قالوا : (( إسحاق ، ومعناه بالعبرية ( يضحك ) ، وهو ابن إبراهيم وسارة ... )) . وكذا أضاف هذا المعنى أصحاب ( التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ص : 46 ) عند الحديث عن البشارة ( تكوين : 17 ) . وفي قولهم هذا إشارة إلى عربية هذا الاسم من حيث لا يعلمون .
وهذه الرحلة التي تَمُرُّ بها الكلمة ليست غريبة على من يقرأ في موضوع اللغات ، ويتبين له ما يقع للكلمة من رحلة من لغة العرب حتى تعود إليها معجَّمة ، ولا زلت أضرب بمثلين معاصرين مشهورين من الأسماء :
الأول : كرزاي ، أصله : ( قرضاي ) ، فحصل للقاف قلب إلى الكاف ، وللضاد قلب إلى الزاي ، وبعضهم يقلبها إلى الدال ، وتجد هذا الاسم العربي الصريح في صحفنا بأحد الأسماء الثلاثة ( قرضاي ، كرزاي ، قرداي ) والاسم ( قرضاي ) هاجر إلى الغرب ، ثمَّ رجع إلينا معجَّمًا بأحد لفظين ( كرزاي ) أو ( قرداي ) ، وأصلهما ـ كما ترى ـ عربي صريح .
الثاني : مهاتير ، أصله : ( مُحاضِر ) ، وتراهم يجعلون الضمة فتحة ، لجهلهم بأصل الاسم ، والحاء قد قُلبت إلى (هاء) ، والضاد قد قلبت إلى (تاء) ، وزيدت كسرة الضاد لما قُلبت إلى (تاء) فصارت (ياءً) ، كما ترى .
وتحليل الأسماء المتحوِّرة يحتاج إلى مبادئ ليتفق معي فيها القارئ ، ويقبل ما أذكره له ، لكني هنا ذكرت لك النتيجة فقط ، وإلا فالأمر يرجع إلى (علم الصوتيات ) ، وذلك علم قَلَّ من يكتب فيه من المتخصصين مع أهميته البالغة في فهم قضايا مرتبطة بأصول اللغة .
* نظرة تحليلية لبعض الأسماء التي تسمَّى بها أقوام سابقون للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم :
1 ـ إسماعيل ، أصله ( يسمع إيل ) ، فهو من مادة ( سمع ) ، وإيل لفظ يُطلق على الله ، فهو كقولك : يسمع الله ، وهذا التركيب لا زال يستعمل إلى وقتنا الحاضر ، فأنت تسمع أسماء مثل ( جاد الله ، جاد الحق ) وغيرها من المصادر التي تضاف إليه ، مثل ( حبيب الرحمن ، ولي الله ) ، وذلك أمر غير غريب .
وهذا الاسم قد أُخِذَ من الحَدَثِ الذي وقع لأم إسماعيل ، حيث ورد في ( سفر التكوين : 16 ) : (( وأضاف ملاك الرب : هوذا أنت حامل ، وستلدين ابنا تدعينه إسماعيل ؛ لأن الرب قد سمع صوت شقائك ) ، وقد ورد في كتاب ( التفسير التطبيقي للكتاب المقدس / ص : 44) عبارة ( ومعناه : الله يسمع ) بين قوسين ؛ تفسيرًا لاسم إسماعيل ، وهذا تأصيل لعروبة هذا الاسم من حيث لا يشعرون .
2 ـ يعقوب : أصله من مادة ( عقب ) ، وهو الذي يعقب ، فهو العاقب ، وقد وردت الإشارة بذلك في قوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) ألا تلاحظ كيف سُمِّي من الحدث الذي قام فيه ، وهو كونه يخلف أباه ( أي : يعقبه ) ، فقد بُشِّرت ( سارة ) ببشارتين : الولد وولد الولد .
3 ـ سليمان : أصله من مادة ( سلم ) ، وكانوا ينطقونه بالشين ، وهذا أحد التبديلات التي تقع في بعض اللغات العروبية القديمة ، وقد ورد في ( دائرة المعارف الكتابية 4 : 419 ) ما نصه : (( سليمان : هو الملك الثالث لإسرائيل ، واسم سليمان مشتق من ( شالوم ) العبرية ، ومعناها ( سلام أو مسالم ) ... )) .
وقد نبَّهوا في مادة ( سلام ـ سلامه ) ( 4 : 409 ) إلى أنَّ كلمة ( شالوم ) تعني : سلام ، وهي تُستخدم في التحية المألوفة بين الأصدقاء ، والسؤال عن صحتهم ، كما تستخدم عند الوداع .
ولعلك على ذُكْرٍ بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( خلق الله عز وجل آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يجيبونك فإنها تَحِيَّتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله قال فزادوه ورحمة الله قال فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن )) . رواه مسلم 4 : 2183 .
وليس السين وحدها التي تنقلب إلى شين ، بل في لغتهم أحرف اخرى تنقلب ؛ كالحاء في الرحمن تكون ( الرخمن ) ، وغيرها مما يُعرف بموازنة لغاتهم بلغة العرب .
مسألة : إذا كان الأمر على هذه الصورة ، فلم لم ينتبه له المتقدمون ؟
أقول : بل لقد كان في كلامهم إشارات ، وكانت من باب العلم الظني ، ، ولم يكن عندهم ثمت أبحاث في تأصيل الموضوع أكثر من القول باشتراك اللغات في اللفظ ، ولم يكن يدور في خلدهم أن هذا الاشتراك يقود إلى أصل واحدٍ ، وأن العربية هي بقايا هذا الأصل ، ومن أقرب مذاهبهم إلى ما ذكرت لك ما ذهب إليه الطبري في الباب الذي عقده في مقدمة تفسيره ، وعنوانه : ( القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم ) ، وخلاصة رأيه في ذلك : أن من نسب من السلف بعض الألفاظ إلى غير لغة العرب ، فليس مراده أنها ليست من لغة العرب ، بل هي ألفاظ نطقت بها العرب ، ووافقها في نطقها غيرهم . ( جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، ط : دار هجر : 1 : 13 ) .
لكن البحث الموازن بين اللغات اليوم أظهر حقيقة ارتباط اللغات القديمة في موطن الوطن العربي الذي نراه اليوم باللغة العربية التي نزل بها القرآن ، لكن بعض هؤلاء الباحثين من المستشرقين والتوراتيين يُخفون هذه الحقيقة ، فهم لا يريدون أن يذكروا للعرب أيَّ مَحمَدَة ، فكيف يصفونهم بأنهم يملكون خصائص اللغة الأم ؟.
ولو فتَّشت في مثل كتاب ( قاموس الكتاب المقدس ) لوجدت بعض الكلمات التي يرجعونها إلى العربية ، وفيها ما هو واضح التقارب معها ، ، وهي لا تختلف إلا في طريقة النطق فحسب وإليك هذا المثال :
1 ـ ( ص : 192 ) : (( بنيامين : اسم عبري ، معناه ( ابن اليد اليمين ، أو ابن اليُمن ) ، وهو ابن يعقوب من امرأته راحيل ، وكان أصغر إخوته )) .
ولعل هذا الاسم لا يحتاج إلى كبير تحليل ، كما أن طريقة نطقة قريبة جدًّا من طريقة اللغة المعيارية ( لغة العرب وقت نزول القرآن ) .
2 ـ ( قاموس الكتاب المقدس /ص : 201 ) : (( بيت جامول : اسم عبري معناه ( بين الجمل ) مدينة في موآب )) .
3 ـ (قاموس الكتاب المقدس /ص : 203 ) : (( بيت صيدا : اسم آرامي معناه ( بيت الصيد ) ... )) .
4 ـ (قاموس الكتاب المقدس /ص : 204 ) : (( بيت عنيا : اسم آرامي معناه ( بيت البؤس ، البائس ) ... )) . عنيا = العني = العناء .
5 ـ (قاموس الكتاب المقدس /ص : 207 ) : (( البيريون : اسم عبري معناه : ( أهل الآبار ) ، وهو اسم عائلة )) .
6 ـ ( قاموس الكتاب المقدس ص : 226 ) : (( تُوما : اسم آرامي معناه ( توأم ) ... )) .
ولأقف مع هذه الفقرة ، فأشرح ما فيها :
الآرامية كما ذكروا ( ص : 43 ) : (( إحدى اللغات السامية الشمالية )) ، وقد أشاروا إلى أن الكتاب المقدس كُتِب باللغة الآرامية ، وفي ( ص : 44 ) ذكروا ما نصه : (( وقد تكلم السيد المسيح اللغة الارامية ، ووردت بعض أقواله في العهد الجديد في هذه اللغة ، مثلاً : مرقس 5 : 41 ( طليثا قومي ) ، مرقس 7 : 34 ( أفثا ) ، مرقس : 15 : 43 ( الوي الوي لم شبقتني ) )) .
وموضوع استخدام الآرامية يمكن الاطلاع عليه في كتب فقه اللغة وتاريخها ، لكن تلاحظ ثبوت استخدامها في كتابهم ، وعلى لسان المسيح عليه السلام ، فما هي اللغة الآرامية ؟
ألا تلاحظ ذلك التقارب الشديد بين ألفاظ الآرامية وما تعرفه من لغتك العربية الشريفة ؟
إن اللغة الآرامية تمثِّل لهجة من لهجات هذه اللغة الاشتقاقية التي ذكرتها لك سابقًا ، ولم تخرج عنها ، وإنما وقع اختلاف في طريقة صيغة الكلمة .
ولننظر إلى لفظ ( تُوما ) كيف صار ( توأم ) ، إن الألف التي في آخر ( توما ) إنما هي ( أل ) التعريف فيما تعرفه من لغتك اليوم ، ولو تتبعت منطقة الشام بفروعها الأربع ( سوريا ، والأردن وفلسطين ولبنان ) لوجدت كثيرًا من المواطن تنتهي بهذه الألف ( حيفا ، يافا ، صيدا ... ) ، ولأذكر لك تفسيرًا من تفسيرات السلف أشار إلى هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : ( بأكواب وأباريق ) ، قال الضحاك : (( الأكواب : جرار ليست لها عرى ، وهي بالنبطية كوبا )) ، والنبطية لغة من اللغات العربية الشمالية ، وهي مرتبطة بالآرامية ، وقد نبَّه أصحاب ( قاموس الكتاب المقدس ص : 44 ) إلى ذلك ، وسموها : الآرامية النبطية .
ولفظ ( كوبا ) الآرامي = الكوب ، وهو لفظ عربي ، وهذا يعني أن اللغة الآرامية والنبطية مرتبطة باللغة الاشتقاقية التي بقيت في لغة العرب التي نزل بها القرآن .
يقول الدكتور محمد بهجت قبيسي في كتابه ( ملامح فقه اللهجات العروبيات / ص : 344 ) ـ ضمن فقرة (( أهم ملامح اللهجة العربية الآرامية ) : (( عَرَفت اللاحقة الألف كأداة تعريف ؛ مثل ( حرستا) بمعنى ( الحارسة ) ، وقاديشا ، بمعنى القادوس : التقديس ) ) .
ولعلك إن استغربت وضع ( أل ) التعريف الذي جاء ألفًا لاحقة للاسم ، فإنك لا تستغرب أن بعض العرب يجعل ( ام ) بدل ( ال ) ، وفي هذه اللهجة جاء الحديث المشهور ( ليس أم بر أم صيام في أم سفر ) ، وأصله في الصحيح بلفظ ( ليس من البر الصيام في السفر ) (3) ، وهذه اللهجة لا زالت يُتحدَّث بها في بعض قبائل جنوب الجزيرة العربية ، فإذا كان هناك أكثر من صيغة لأل التعريف ، فلا تستبعد أن تكون تلك من الصيغ التاريخية لهذه اللغة ، لكنها ماتت ، فلا تُستعمل ، وبقيت آثارها شاهدة عليها .
وإذا كانت هذه الآرامية لغة المسيح ، وقد قال : ( الوي الوي لم شبقتني ) ، وهي بعربيتنا اليوم ( إلهي إلهي لم سبقتني ) ، وفي ( إنجيل متى 27 ): (( إيلي إيلي لم شبقتني (( أي : إلهي إلهي لماذا تركتني )) )) التفسير التطبيقي للكتاب المقدس : 1968 ، وينظر تحليل عميق قوي لهذه العبارة في كتاب ( العلم الأعجمي في القرآن ) ، للأستاذ رؤوف أبو سعدة ( 2 : 283 ـ 285 ) .
أقول : إذا كانت هذه لغته ، وهي لغة عربية قديمة قبل لغة القرآن ، أفلا يجوز أن تقول : إن اللغة التي تحدث بها عيسى عليه السلام منحدرة من تلك اللغة الاشتقاقية ، وهي مرحلة من مراحل تلك اللغة التي وصلت إلى ما وصلت إليه من لغة القرآن .
يذكر الدكتور محمد بهجت قبيسي ( ص : 344 ) أن كلمات اللغة الآرامية ومفرداتها بجذورها حافظت عليها العربية العدنانية نحو ( 2 ، 86 % ) من كلماتها .
ولنرجع إلى قوله تعالى : ( ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) ، لقد قالها عيسى أمامهم ، وسمعوا هذا الاسم ، وعرفوا معناه ؛ لأنه من لغتهم ، والذي يدل على معرفتهم بمعناه دقَّة ترجمة المترجم من الآرامية إلى اليونانية ، حيث ترجمها إلى ( برقليطس= periqlytes) ، وبعضهم يحذف لاحقة التذكير اليونانية ، فيقول: ( برقليط ) أو ( فرقليط ) ، أو (الفارقليط ) كلها بمعنى واحد ، لكنك ـــ مع الأسف ـــ لا تجد هذه الكلمة في الطبعات العربية ، وإنما تجد في بعضها ( المُعَزِّي ) ، وفي بعضها ( المعين ) ، وقد جاء في ( التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ص : 2226) : (( وعندما يأتي المعين الذي سأرسله لكم من عند الأب ، روح الحق الذي ينبثق من الأب ، فهو يشهد لي ، وتشهدون لي أنتم أيضًا ؛ لأنكم معي منذ البداية )) .
يقول البروفسور عبد الأحد داود في كتابه النفيس ( محمد صلى الله عليه وسلم كما في كتاب اليهود والنصارى/ ص : 197 ، 198 ) : (( إن كلمة ( برقليطوس ) تعني من الناحية اللغوية البحته : ( الأمجد والأشهر والمستحق للمديح ) ...والاسم مركب من مقطعين :
الأول : peri ، الثاني : kleitos، ويكتب ( periqlytos) أو ( perqleitos) مما يعني تمامًا اسم أحمد باللغة العربية ؛ أي : أكثر ثناءً وحمدًا ، ولنا أن نتساءل ما هي الكلمة الأصلية التي استخدمها المسيح بلغته العبرية أو الآرامية ... ومن المدهش أن الوحي قد ميز بين صيغة أفعل التفضيل من غيرها ؛ أي ( أحمد ) من ( محمد ) ، ومن المدهش أيضًا أن هذا الاسم الفريد لم يُعط لأحد من قبل إذ حُجِز بصورة معجزة لخاتم الأنبياء والرسل وأجدرهم بالحمد والثناء ، ذلك أن اسم ( برقليطوس ) لم يُطلق على أي يوناني قط ، كما أن اسم أحمد لم يُطلق على أي عربي قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم )) .
وأقف هنا لئلا يطول الموضوع ، فيملَّ ، ويخرج عن المقصود ، وأعود فأختصرة الفكرة التي وصلت إليها فأقول :
إنَّ اللغة الأم التي تكلم بها آدم عليه السلام في السماء ، ونزل بها إلى الأرض لغة تتميز بما يأتي :
1 ـ الاشتقاق ( بنوعيه ) الذي جعلها تتولد وتتنامى كما يتوالد الناس ، ويقع فيها ولادة وموت وبعث ، وما يستعمل في قوم قد يستعمل بمعنى آخر في آخرين ، وما يموت عند قوم يبقى معروفًا عند آخرين .
2 ـ هذه اللغة تمتلك ثمانية وعشرين حرفًا أصليًّا ، وهي التي بقيت في لغة العرب ، ونزل بها القرآن ، وأما أخوات اللغة العربية المعيارية من اللغات العربية القديمة ، فإنها كلما ابتعدت عن موطنها الأصلي ( جزيرة العرب ) بدأت تفقد شيئًا من خصائصها ، وكلما ابتعد قوم وانعزلوا على مرِّ السنين ابتعد لحنهم عن اللغة الاشتقاقية الأم ، فتولدت عندهم لغات جديدة بعيدة عن اللغة الأم إلا من بقايا كلمات هنا وهناك .
3 ـ صارت منطقة العراق والشام ومصر منطقة صراع حضاري ، فيأتيها من كان هاجر بعيدًا فابتعدت لغته عن اللغة الاشتقاقية الأم ، ويأتي أصحاب هذه اللغة الاشتقاقية ، ويقع صراع والغالب يحكم بلغته ، وكانت الغلبة في كثير من الأحيان للعرب الخارجين من جزيرتهم العربية ، وقد ذكر المؤرخون لهم خمس هجرات عربية كبرى ، آخرها ما قام به الصحابة رضي الله عنهم من فتح بلاد فارس والروم .
4 ـ في منطقة الصراع هذه بقيت ملامح اللغة الأم ، وصار الأمر في لغة هذه المناطق على مرِّ العصور تعمد إلى القلب والإبدال بين بعض الحروف ، والتبديل الصوتي لبعض الحروف ، وصيغة الكلمة ، وبقاء حروف المد او حذفها ، وإشباع الحركات فيتولد منها أحرف مد ... الخ من القضايا اللغوية التي تُعرف من القراءة في كتب فقه اللغات القديمة .
.......................................
(1) ينظر عن السامية في هذا الملتقى :
-http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=3741] نعم .. مصطلح السامية فرضية خرافية .[/url]
- http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=3736]فرضيّةُ (الشعوب الساميّة، واللغات الساميّة) فرضيّةٌ خرافيةٌ لا أصل لها .[/url]

(2) ينظر تحليل بعض الأسماء في مقالات (المعرب ) السابقة :
- نظرات في المعرَّب ( الطور ) (1)
- نظرات في المعرب ( موسى عليه السلام في مدين ) (2)
- (نظرات في المعرَّب ) عربية في بيت فرعون (3).
- (نظرات في المُعرَّب) آدم في السماء (4)
- (نظرات في المعرب) العبرانيون وإبراهيم العبراني (5)

(3) قال الكتاني في نظم المتناثر : ( وفي رواية لأحمد من حديث كعب بن عاصم المتقدم ( ليس من أم بر أم صيام في أم سفر ) وهذه لغة لبعض أهل اليمن يجعلون لام التعريف ميما ، فيحتمل أنه عليه السلام خاطب بها هذا الأشعري ؛ لأنها لغته ، ويحتمل أن يكون الأشعري نطق بها على ما أَلِف من لغته ، فحُمِلَت عنه على ما نطق به . قال ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي : وهذا الثاني أوجه عندي ، والله أعلم ) .

تنبيه : قرأ أخي الفاضل عبد الرحمن الشهري هذا المقال قبل طرحه ، وأضاف هذه الفائدة ، فقال : (بخصوص لغة عيسى عليه السلام لو أشرت في الحاشية - لمن أراد التوسع - إلى ما كتبه الدكتور عبدالعزيز شهبر في بحثه (لغة المسيح عيسى بن مريم ورسالته» ضمن كتاب (لغات الرسال وأصول الرسالات» من ص 105-155 ، ولعله يتحفنا بشيء من مضمون هذه الصفحات ، فالكتاب ليس عندي .
 
مقال بديع لكاتب متميز ، بارك الله فيكم أبا عبد الملك

والدكتور مساعد صاحب لفتات لغوية جميلة ، نسأله منها المزيد .
 
هذا نقل من كتاب لغات الرسل الذي أشار إاليه الدكتور مساعد :

==========================

الفصل الأول
معالم حول البلاغ الأصلي وتوثيقه
اللغة الشائعة في فلسطين زمن المسيح ، عليه الصلاة والسلام

إن تلقي الخطاب من الله سبحانه وتعالى هو أمر يجري في مرتبة تسمو على المجرى العادي للأمور، والله سبحانه وتعالى يخاطب رسله عن طريق الوحي، ومنهم من كلَّمه الله دون وساطة مَلَكٍ، ولكن من وراء حجاب. وإذا سلَّمنا بأن الخطاب السماوي ينزل لهداية الناس، فيلزم عملاً أن يصلهم ذلك الخطاب على لسان الرسل بلغة يفهمونها(1).

ولما كان عيسى، عليه السلام، رسولاً مرسلاً من قبل الله، كان من اللازم أن يبلغ الناس الرسالة، وأن يكون بيانه بلغة هؤلاء الناس.

فما عساها تكون لغة عيسى، عليه السلام ؟ هل تحدث المسيح عيسى ابن مريم بالآرامية ؟ هل كان يتقن الإغريقية ؟ هل كان ملماً باللاتينــية ؟

لقد ردد كثير من الباحثين المسيحيين هذه التساؤلات، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين الذي شهد تطوراً ملموساً في علم الآثار التوراتيـة.

وكان الغرض من إثارة تلك الأسئلة تحديد مدى تأثير عيسى، عليه السلام، في الساكنة الفلسطينية، والبحث في نسبة الأناجيل المدونة إليه. إذ كيف يمكن أن نتصور الإنجيل بصيغته الإغريقية إذا كان عـــيسى، عليه السلام، ألقى بشارته بالآرامية ؟ وكيف نتصور إغريقية الإنجيل ونحن نعلم أن المسيح، عليه السلام، ما جاء لينقض الناموس، بل ليتممه، أي إنه بعث في سياق أنبياء بني إسرائيل، وفي سياق "العهد القديم" ! وكيف نتصور كل ذلك حين نقرأ في كتب التاريخ أن فلسطين كانت في زمان عيسى، عليه السلام، خاضعة للحكم الروماني، مع ما يقتضيه ذلك الخضوع لزمن طويل من أن تصير اللغة اللاتينية هي لغة الغالبية من الناس.

يجمع الباحثون على أن فلسطين زمن بعثة عيسى، عليه السلام، كانت بمثابة لوحة فسيفسائية، كَوَّن سكانــها خليطاً من كل أمة ولسان، وكانوا يتكلمون بدرجات متفاوتة، العبرانية، والآرامية بلهجاتهـــــــا، والإغريقية واللاتينية. ولكن الاختلاف يقوم بين هؤلاء الباحثين حين يسعون إلى تلمس الحدود الجغرافية لكل واحدة من تلك اللغات، وحين يريدون حصر الخصائص المميزة لتلك اللغات وتحديد نسبة تأثر بعضها ببعض.

إن فـرضـية بـلاغ عـيسى، علـيه الـسلام، بالإغريقية دافع عنها فوسيوس Vossius هنريش باولوس Heinrich Paulus وهوغ Hug في القرن التاسع عشر، وقد عرض آراء هؤلاء دييز ماتشو Diez Macho في بحثه عن اللغة التي تحدث بها عيسى المسيح. ولقد عزز موقف هؤلاء ما ثبت من خضوع فلسطين في تلك الآونة للتأثير الهليني.

ولكن الجدال انبعث حين أعلن أرجيل W. argyle أن عيسى، عليه السلام، كان يتحدث الإغريقية، وأن مستمعيه لم يكونوا يفهمون إلا الآرامية(2).

وإذا كان بعض الباحثين أمثالRussel J.K & R. Drapper قد تقبلوا هذا الزعم، فإن آخرين أمثال Mel Wilson عارضوه بشدة(3)، ولكنهم متفقون جميعاً على قوة تأثير الهلينية في فلسطين زمن بعثة المسيح، عليه السلام. ومرد هذا الاتفاق أن عدداً كبيراً من المكتوبات والنقوش التي عثر عليها هناك كتبــــت بالإغريقية، كما أن نتفاً من وثائق البحر الميت كتبت بتلك اللغة. ويدخل ضمن هذا التأثير الهليني ما يمكن ملاحظته من تأثيرات إغريقية في الأدب الربي، ومن شيوع ترجمات إغريقية للتوارة في القرن الثاني الميلادي.

وأبرزت دراسـات ليـبرمان . وسـونتز . وميليك . . وغودناف . وغوندراي وسفنستر J. وسبيربير مظاهر متنوعة من التأثير الإغريقي في فلسطين في تلك المرحلة، وساعدت على تحديد مدى انتشار اللغة والثقافة الهلينية في فلسطين.

وينبغي الإشارة هنا إلى أن اليهودية قاومت الهلينية في بعض المناطق، وأن الحواضر كانت أكثر هلينية من البوادي، ثم تغير الأمر بعد القومة اليهودية الثانية (135 ميلادية) حين تعاظم تيار الهلينية والرومانية(4).

أما اللاتينية، فقد ذكرنا أنها كانت لغة الغالب المحتل، وكانت لغة الإدارة هي الرومانية(5) التي تركت بصماتها في بعض المكتوبات وإهداءات المباني والمحلات العمومية، وبعض البرديات التي تم العثور عليها في البحر الميـت. وبرز تأثير اللاتينيــة في اللغة العبرانية في مواضع ذات دلالة هامة.

أما الآرامية، فلا أحد يشـك في انتشارهـا في الجهة السورية ـ الفلسطينية، ابتداء من النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد، واستمر انتشارها في المنطقة كـ Lingua Franca في القرن السابع الميلادي.

لقد استبدل سكان فلسطين آنذاك العبرانية بالآرامية في الفترة من 721 إلى 500 قبل الميـــلاد، كما شاع بين الدارسين أن عيسى، عليه السلام، كان يعرف الآرامية، وأن تلاميذه ومعاصريه كانوا يتحدثونها ويكتبونها، وأن المسيحيــة انتشرت في فلسطين وسوريا وكل منطقة ميزوبوتاميا اعتماداً على هذه اللغة السامية.

ويرى A. Meyer أن لغة عيســى كانت الآرامية، وأن جانباً كبيراً من الكتابات كتبت في الأصل بهذه اللغة، ثم ترجمت بعد ذلك(6).

ونجد من بين الباحثين من يؤكد شيوع اللغة الآرامية بين الطبقات الشعبية زمن عيسى، وأن هذه اللغة هي التي تحدث بها المسيح وغيره من الرسل(7). ويؤكد باحثون آخرون على أن الآرامية حلت محل العبرانية منـذ بداية المرحلة الهلينية(8).

ويرى آخرون أن الآرامية انقسمت إلى لهجات متعددة انحصرت في آرامية وسيطة وآرامية متأخرة. ويدرج G.Y Kutsher ضمن لهجات الآرامية الوسيطة بعض المكتوبات التي عثر عليها في منطقة القدس، وبعض وثائق البحر الميت، أما الآرامية المتأخرة فقد انقسمت إلى الآرامية السامرية والآرامية الفلسطينية المسيحية.

وتكتسي آرامية الجليل مكـــانة خاصة بين لهجات الآرامية المتأخرة، فبها كتبت الأقسام الآرامية من التلمود الفلسطيني، وإليها ترجمت التوراة، وبها كتبت بعض كتب المدراس. وعلى العمـــوم فالآراميــة الفلسطينية وفقاً لهذا الاتجاه هي أقرب اللغات التي يعتقد أن تكون بشارة المسيح عيسى ابن مريم قد كتبت بها ابتداء. وقد كانت تلك اللغة شائعة شيوعاً واسعاً يفوق انتشار الإغريقية.

ويرى آخرون أمثال H. Birkeland أن الفئات الشعبية في فلسطين كانت تتحدث زمن عيسى بالعبرانية، وعبرانيتها لم تكن بالضرورة عبرانية ربية، بل كانت لهجة شعبية تطورت انطلاقاً من العبرانية التوراتية. ولقي هذا الرأي انتقاداً شديداً من قبل كثير من الدارسين(9).

أما العبرانية الرِّبِّيَّةُ فقد انتشرت كلغة أدبية في القرنين الأول والثاني الميلاديين، وقد بدأ تطور هذه اللغة، في إطار بانوراما اللغات المتحدث بها في فلسطين، بعد النفي وفي بدايات العصر المسيحي.

والخلاصة أن اللغات الثلاث، العبرانية والآرامية والإغريقية، تحدثت بها شرائح واسعة من الساكنة الفلسطينية، واختلفت حدود انتشارها وتقاطعت فيما بينها، وقد انتشرت اللاتينية إلى جانب تلك اللغات الثلاث. أما لغة الإدارة في فلسطين فكانت الرومانية.

وقد رجعنا إلى كتب "العهد الجديد" باحثين عن لغة عيسى وتلاميذه، فكان ما يلي :

جاء في إنجيل يوحنا :

>أما مريم، فوقفت عند القبر تبكي، وانحنت إلى القبر وهي تبكي، فرأت ملاكين في ثياب بيضاء جالسين حيث كان جسد يسوع، أحدهما عند الرأس والآخر عند القدمين. فقال لها الملاكان، لماذا تبكين يا امرأة ؟ قالت لهما : إنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه. ولما قالت هذا التفتت إلى الوراء فرأت يسوع واقفاً، وما عرفت أنه يسوع، فقال لها يسوع : لماذا تبكين يا امرأة، ومن تطلبين ؟ فظنت أنه البستانــــي، فقالت له : يا سيد إن كنت أنت قد حملته، فقل لي أين وضعته وأنا آخذه. فقال لها يسوع : يا مريم. فعرفته وقالت له (بالعبرية) "ربوني" أي يا معلم...<(10).

ونقرأ في إنجيل مرقس، في قصة عيسى، عليه السلام، مع ابنة يايروس رئيس المجمع :

> فأخذ بيدها وقال لها : طليثا قومي، أي يا صبية أقول لك قومي، فقامت في الحال وأخذت تمشي<(11).

ونقرأ في إنجيل يوحنا :

>وعلق بيلاطس على الصليب لوحة كُتِبَ فيها : "يسوع الناصري ملك اليهود". فقرأ هذا العنوان كثير من اليهــود، وكان مكــتوباً بالعبرية واللاتينية واليونانية، فقال رؤساء كهنة اليهود لبيلاطس : لا تكتب ملك اليهود، بــل اكتب : إن ذاك قال : أنا ملك اليهود. فأجاب بيلاطس : ما كتبته قد كتبته<(12).

وفي إنجيل لوقا :

>وكان فوق رأسه لوحة مكتوب فيها : "هذا ملك اليهود"<(13).

وفي إنجيل مرقس :

>وألبسوه أرجواناً، وضفروا إكليلاً من الشوك ووضعوه على رأسه...كتبوا في عنوان الحكم عليه : "ملك اليهود"<(14).

وفي إنجيل لوقا :

>وكان عنوان مكتوب فوقه بأحرف يونانية ورومانية وعبرانية : هذا هو ملك اليهود<(15).

ونقرأ في إنجيل متى :

>ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم، وقال : إيلي إيلي لما شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تركتني، فقوم من الواقفين هناك لما سمعوا قالوا : إنه ينادي إيليا<(16).

ونقرأ في أعمال الرسل، من الإصحاح الثاني :

>ولما حضر يوم الخميس كان الجميع معاً بنفس واحدة. وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كُلَّ البيت حيث كانوا جالسين. وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا. وكان يهود رجال أتقياء من كل أمة تحت السماء ساكنين في أورشليم. فلما صار هذا الصوت اجتمع الجمهور وتحيروا لأن كل واحد منهم كان يسمعهم يتكلمون بلغته. فبهت الجميع وتعجبوا قائلين بعضهم لبعض : أترى ليس جميع هؤلاء المتكلمين جليليين، فكيف نسمع نحن كل واحد منا لغته التي ولد فيها ! فرتيون وماديون وعيلاميون والساكنون ما بين النهرين واليهودية وكبدوكية وبنتس وآسيا وفريجية وبمفيلية ومصر ونواحي ليبية التي نحو القيروان والرومانيون المستوطنون، يهود ودخلاء كريتيون، وعرب نسمعهم يتكلمون بألسنتنا بعظائم الله. فتحير الجميع وارتابوا قائلين بعضهم لبعض : ما عسى أن يكون هذا !<(17).

ونقرأ كذلك في أعمال الرسل عن طلب بولس من قائد القلعة بأورشليم مخاطبة الشعب، وسؤال القائد له إن كان يعرف اليـونانية، وجواب بولس بأنه يهودي من طرسوس. وحديثه إلى الشعب بالعبرية، حسب النص العربي لأعمال الرسل، وبالآراميـة، حسب الترجمات الفرنسية والإنجليزية والإسبانية(18).

ونقرأ أن شاول كان يخاطب اليهود المتكلمين باللغة اليونانية ويجادلهم : >وكان يخاطب ويباحث اليونانيين فحاولوا أن يقتلوه<(19).

هذه جملة من نصوص العهد الجديد وردت فيها إشارات إلى لغات ساكنة فلسطين زمن البعثة، وبعدها. ونحن حين نقرأ سيرة عيسى في الأناجيل الأربعة، نجده يخاطب فئات مختلفة من الناس، فقد خاطب عامة الناس من مختلف المدائن والبوادي، وخاطب أعضاء المجلس الأعلى ومعلمي الشريعة والقائمين على تسيير الهيكل وإدارة الشؤون الدينيــة اليهودية. كما خاطب الحاكم الروماني لفلسطين، وكانت لغة هذا الحاكم اللاتينية، وهو الذي كتب، حسب إنجيل يوحنــا، عبارة "هذا ملك اليهـود" باللاتينية واليونانية والعبريـة على أعلى الصليب.

وقد خاطب أيضاً المرأة الكنعانية التي توسلت إليه أن يشفي ابنتها. وتوجه بالآرامية إلى ابنة رئيس المجمع قائلا : "طليثـا قــومي" أي يا صبية قومي، والطليثة الصبيـة الضعيفة(20).

كما خاطب الناس بالأمثال(21) مع ما يقتضيه هذا الفن من الحديث من دقة العبارة، وإلمام واسع باللغة لدى كل من المنشئ والمتلقي.

وحسب الرؤية الإنجيلية، توجه عيسى إلى ربه وهو على الصليب بالآراميـــــة : >إيلي إيلي لما شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تركتني<(22). كما خاطبته مريم المجدلية بالعبرانيـة.

هذه المعطيات جميعها تبين أن أغلب حديث عيسى كان باللغة الآرامية، وهي اللغــــة الشعبية التي كانت شائعة أكثر من غيرها. ثم يتلوه حديثه باللغة العبرانية، لغة العهد القديم، سيما وأنه هو القائل : "ما جئت لأنقض الناموس، بل لأكمله"(23). وقد جاءت الأناجيل الأربعة حافلة بإشاراته إلى كلام الأنبياء وبخاصة إشعياء وأرمياء.

كــما يبـدو أنه كان مثقفاً باللاتيـنية والإغـريقية، وذلك من الشـائع في عصره، وتدل علـى ذلـك قصة ترجمة عبارة "هذا مـلك اليهـــود" التي حرص بيلاطس على أن تكون بالعبرية (أو الآرامية، حسب بعض الترجمات).

أما قصة تعليم الروح القدس اللغات للرسل والتلاميذ ليكلموا الناس، كلاًّ بلغته الخاصة، فهي من قبيل الأسطورة. وإذا ما سلمنا جدلاً بصحتها، فسنفهم منها أن الناس، إذا كانوا حريصين على تدوين ما يسمعون من الرسل، فإن بشارة عيسـى (إنجيل عيسى الأصلي) تكون قد دُوِّنت في سبعة عشر لساناً.

حقاً لقد خضعت المنطقة التي شهدت بعثه المسيح عيسى، عليه السلام، لتأثير هلينيٍ واضحٍ، أرسى قواعده هيرودس. ولكن عيسى أرسل إلى قوم محددين، قال : "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة"(24).

وبالتالي فرسالته كانت بلسان قومه، وكذلك كان كلامه في المهد أيضاً بلغة قومه، لأن المقصود من ذلك الحدث إشهاد القوم معجزة، فلابد وأن يكون قد تكلم بلغة يفهمونها.

زمن البعثة

شاء الله تعالى أن يبعث عيسى، عليه السلام، رسولاً إلى بني إسرائيل، مبشراً ونذيراً، فقد كان بنو إسرائيل منقسمين آنذاك إلى طرائق قدداً، وأحدثوا في الشريعة وبدلوا كلام الله عن مواضعه، واستغل أحبارهم علوم الدين فاستثمروها لملء خزائنهم.

كانت بعثته، عليه السلام، في أرض فلسطين المباركة التي كانت في ذلك الحين مسرحاً تجاذبته تأثيرات الإمبراطوريات العظيمة. وكان من نتائج ذلك أن فقدت فلسطين استقلالها السياسي، فخضعت للمصريين في المائة الثانية قبل الميلاد، ثم استسلمت للحكم الروماني، حينما وطئت سنابك خيل "بومبي الروماني" القدس سنة 63 قبل الميلاد.

وتحت مظلة الحكم الروماني قامت دويلة يهودية، خضعت إدارياً للحاكم الروماني المقيم في قيصرية على البحر الأبيض المتوسط، بينما بقي ملكها مسيِّراً للشؤون الدينية فيها(25)، حتى إنه لما طلب القيصر وضع تمثاله داخل الهيكل والنسر على بابه، قام ملك اليهود بتهدئة الشعب الذي هاله هذا التدخل الروماني في أمر الديانة(26).

وتصف المصادر شخص هيرودس الأكبر، ملك هذه المملكة اليهودية زمن ميلاد عيسى، عليه السلام، أنه كان شديد الولع بالثقافة الهلينية، وأنه كان رجلاً محارباً لا يقدر أحد على مبارزته، وقد كبر في عين الإمبراطور أغسطس فأخذ يمده بالأقاليم إقليماً إقليماً. وكان أن عَظُمَ شأن هيرودس، فبنى مملكته على نموذج روماني وثقافة يونانية ونمط عيش هليني. وقد جعل من الهيكل المؤسسة الدينية الكبرى في مملكته، وأحاط بمجلسه الكهنة ورجال الدين من اليهود. ولكن افتتانه بالنموذج الأجنبي وتفضيله إياه على ثقافة اليهود، التي لم يعد لها مكان إلا في البوادي وفي قلوب الضعفاء، أثار عليه الأحقاد فكثرت محاولات اغتياله وكثرت الدسائس في قصره.

وبعد وفاته تنازع أبناؤه فيما بينهم، فجمعهم الإمبراطور الروماني وقَسَّمَ عليهم المملكة حسب وصية أبيهم، فكان أن : أخذ "انتباس" الجبل حيث الناصرة وطبرية وأزدريلا، وأخذ كذلك الأرض الواقعة وراء ظهر الأردن. وأخذ "فيليب" إقليم بنتانيا. وكانت لأرخيلاوس منطقة اليهودية، حيث القدس وبيت لحم وغزة وقيصرية ويافا، كما كانت له منطقة إيدومية.

واشتد الصراع بين مجتمعات هذه الأقاليم الثلاثة الواقعة تحت حكم أبناء هيرودس، وتباينت درجة ولائها للدين اليهودي، كما تباينت درجات هلينيتها وخضوعها للحاكم الروماني. ويبدو أن إقليم أرخيلاوس كان أهم هذه الأقاليم بالنسبة للرومان، فظلوا يوجهون الأمور الإدارية فيه انطلاقاً من مدينة قيصرية. إن وجود الهيكل الذي أنفق الملك هيردوس على إنشائه وتزيينه الكنوز التي لا تحصى، جعل من هذا الإقليم مركزاً تجارياً تهوي إليه أموال بني إسرائيل من كل حدب وصوب، وهو أمر له دلالته بالنسبة لروما.

وظل الهيكل تحت إشراف مجلس أعلى مكون من واحد وسبعين عضواً يمثلون السلطة الدينية لليهود، ولكن سلطتهم لم تكن هي العليا، فالأحكام الصادرة عن المجلس كانت لا تنفذ إلا بالتصديق عليها من الإدارة الرومانية.

وتباينت سلطة الفرق اليهودية(27)، فكان الصدوقيون منهم ينكرون العمل بالتلمود، وينكرون البعث واليوم الآخر، ويعتقدون أن الجزاء والعقاب دنيويان.

قال متى في إنجيله :

>وفي ذلك اليوم جاء إلى يسوع بعض الصدوقيين، وهم الذين ينكرون القيامة< وبعد أن سألوه سؤالاً، قال لهم : >أنتم في ضلال لأنكم لا تعرفون الكتب ولا قدرة الله<(28).

ونقرأ في أعمال الرسل، أن الصدوقيين >لايؤمنون بقيامة الأموات ولا بوجود الملائكة والأرواح<(29).

ولم تكن هذه الفرقة تهتم بأمور الديانة أكثر من اهتمامها بمركزها المؤثر داخل المجتمع اليهودي.

أما الفريسيون أو المنشقون، فهم، حسب فلافيوس يوسيفوس : شيعة من اليهود رأوا أنهم أكثر تمسكاً بالشريعة من غيرهم من أبناء ملتهم، وأنهم أكثرقدرة على تفسير شريعتهم. آمنوا بالتلمود، واعتقدوا في عصمة الكهنة، وآمنوا بالبعث، ولم يِؤمنوا بتقديم القرابين إلى المعابد، ورفضوا الإيمان بالأنبياء المتأخرين، وكانت للمسيح عيسى ابن مريم معهم أكثر من جولة. نقرأ في إنجيل مرقس :

>وأقبل إليه بعض الفريسيين، وأخذوا يجادلونه طالبين آية من السماء ليجربوه، فتنهد من أعماق قلبه وقال : "ما لهذا الجيل يطلب آية ! الحق أقول لكم : لن يعطى هذا الجيل آية. ثم تركهم ورجع في القارب إلى الشاطىء المقابل"<(30).

وكانت فرقة الفريسيين من أكثر الفرق اليهودية احتكاكا بالشعب، فكانوا يُعَلِّمُونَهُ ويعظونه، ونالوا مكانة رفيعة في أوساط الطبقة المتوسطة اليهودية. وبعد تخريب الهيكل من قِبَلِ تيتوس سنة سبعين ميلادية، اضطلع الفريسيون بمهمة تعليم الشعب في المنافي وبقوا ينتظرون المسيح.

أما فرقة الحسيديين، فقد انحسر دورها في زمن بعثة عيسى، عليه السلام، وقد كانوا يُحَرِّمُونَ القرابين، ويحرصون على الطهارة، ويعملون بالزراعة، ويحرمون الرق.

أما فرقة الأسينيين التي اهتم بها المؤرخون القدماء، أمثال بلين وصولينو ويوسيفوس، فقد تمسكوا بالتوراة المكتوبة والتوراة الشفهية (التلمود) وحققوا نوعا من شيوعية الأملاك، ومالوا إلى حياة الزهد.

وإلى الصدوقيين والفريسيين توجه يوحنا المعمدان قائلاً :

>يا أولاد الأفاعي، من عَلَّمَكُمْ أن تهربوا من الغضب الآتي. أَثْمِرُوا ثمراً يبرهن على توبتكم، ولا تقولوا لأنفسكم إن أبانا هو إبراهيم. أقول لكم : إن الله قادر أن يجعل من هذه الحجارة أبناءً لإبراهيم، ها هي الفأس على أصول الشجر، فكل شجرة لا تعطي ثمراً جيداً تقطع وترمى في النار<(31).

ومن هنا نقول إن زمن بعثة رسول الله عيسى ابن مريم إلى قومه، بني إسرائيل، كان زمناً استدعى رسالة وبياناً وإرشاداً، فكان أن أنزل الله عليه الإنجيل، بعد أن أشهدهم من قبل معجزة ميلاده من غير أب.

لقد عاش المسيح عيسى، عليه السلام، في أرض فلسطين في زمن خضعت فيه هذه الأرض المباركة للحكم الروماني. ورغم التغيير الذي أحدثته بعثته، عليه السلام، في الخريطة الدينية للشرق الأوسط في ذلك العصر، فإن تفاصيل حياته قليلة الورود في المصادر المعاصرة له، باستثناء حدث ميلاده المعجز وفترة صدوعه بالرسالة. ولم تهتم المصادر المسيحية بمرحلة شبابه، اللهم تلك الإشارة الخاطفة إلى أنه كان يعمل نَجَّاراً في الناصرة(32).

وعلى كثرة ما أُلِّفَ حول عيسى، عليه السلام، فإن كثيراً من حلقات سيرته بقيت مفقودة. لقد انصرفت أغلب سير حياته إلى الاهتمام بالقضايا العقدية الكنسية، سواء بتأكيدها أو بنفيها، أكثر من الاهتمام بشخصه، عليه السلام(33).

وينبغي الإشارة هنا إلى أن جانباً مما أُلِّفَ قد شكك في كل شيء، حتى في بعثة المسيح نفسه، عليه السلام(34).

مصادر سيرة المسيح ، عليه الصلاة والسلام

وتنقسم المصادر التي تطرقت إلى حياة عيسى ابن مريم، عليه السلام، إلى قسمين اثنين :

القسم الأول : المصادر المسيحية :

وبصفة خاصة الأناجيل المتوافقة : متى، ولوقا، ومرقس. فقد عرضت هذه المصادر لحياة المسيح عيسى ابن مريم زمن البشارة، مع إشارة إلى ميلاده المعجز. وأغفلت إغفالاً يكاد يكون تاماً حياته في مصر، وعودته من أرض مصر بعد وفاة هيرودس، وحتى تبليغ الرسالة. وما عرض في هذه الأناجيل المتوافقة خضع للتطويع ليلائم اعتقادات الكنيسة الأولى والمجامع المتتالية التي خطت النهج العقدي للمسيحية، ومطت الروايات تبعاً لتطور اعتقاد المسيحيين في عيسى، عليه السلام.

القسم الثاني : المصادر غير المسيحية :

وهي تنقسم بدورها إلى قسمين :

أ) مصادر رومانية غير مسيحية : أشارت تلك المصادر إلى عيسى، عليه السلام، كشخصية من الشخصيات المؤثرة في عصرها، وكطرف في الأحداث التي عرفتها فلسطين تحت حكم الإمبراطور الروماني تيبيريوس وولاية بيلاطس. وعمدت هذه المصادر إلى التعريف به كلما تحدثت عن " المسيحية " أو عن تصرفات أتباعه، أتباع كريستوس Christus أو Chrestos. يقول بلين الأصغر (عاش حوالي 110م) في الرسالة العاشرة ما معناه :

كان المسيحيون يلتقون في أوقات محددة من كل يوم قبل الفجر، يرددون أناشيد للمسيح كما لو كانت موجهة إلى الله، ويذكرون أنفسهم بالموت...(35).

إن ما كتبه بلين الأصغر هو استشارة لتراخان Trajan عن الأسلوب الذي ينبغي أن تتم به معاملة المسيحيين أتباع المسيح.

أما المؤرخ الروماني تاسيتس Tacitus فقد أشار في حولياته إلى ملاحقات الإمبراطور نيرون للمسيحيين. وهو في نفس السياق يردد أن المسيحيين هم أتباع المسيح الذي تمت معاقبته بشدة من طرف الحاكم بيلاطس في طبرية(36).

وهذه المصادر لم تهتم بتفاصيل الديانة التي دعا إليها المسيح عيسى، عليه السلام، ولم تول كبيرعناية للإصلاحات التي رام إحداثها في الشريعة الموسوية، بل اهتمت بذكره كطارئ سياسي جديد، طرح معادلة جديدة في منطقة حيوية بالنسبة للإمبراطورية الرومانية. وحتى في حديثها عنه لم تضعه في مرتبة الثوار الذين دعوا إلى الخروج عن إمرة الإمبراطورية الرومانية والذين شَقُّوا عصا الطاعة ضد القيصر، من أمثال يوغرطة. لقد أكدت هذه المصادر الرومانية على تنامي عدد المسيحيين وانتشارهم في كل مدن الإمبراطورية، بشكل يوحي بأنهم فصيل جديد في المجتمع الروماني.

ويبدو أن أباطرة الرومان وحكام أقاليم إمبراطوريتهم اختلفت مواقفهم من شخص عيسى، عليه السلام، والرسالة التي جاء بها. لقد عكست الأناجيل المتوافقة موقف بيلاطس من عيسى، فقد بدا هذا الحاكم متردداً في إصدار حكم على هذا الشخص الذي ترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله. ويبدو موقفه المتردد كذلك من جهود زوجته التي حاولت أن تثنيه عن أن يصدر حكماً قاسياً على هذا الرجل المسالم، فما كان منه إلا أن ترك أمره للمجمع اليهودي، واستصدر الحكم من استفتاء شعبي نقلت الأناجيل أخباره، ذلك أن بيلاطس لم يكن قادراً على مواجهة تيار من وسمهم المسيح بخراف بيت إسرائيل الضالة. ولكن هذا الموقف شبه المحايد تجاه شخص المسيح عيسى ابن مريم قد تغير عندما أصبحت المسيحية تياراً يحتضن موقفاً سياسياً، فقد أذكى ذلك نار الملاحقات التي طالت الأفراد والمذاهب المسيحية(37).

غير أن ندرة ما كتبه الرومان عن المسيح في عصره يرجع إلى أن الحاكم الروماني، الذي كان يقيم في القيصرية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، كان يدير منطقتي اليهودية والسامرة، بينما كان تحرك عيسى، عليه السلام، في الفترة الأولى من الدعوة في منطقة الجليل. كما أن مرامي دعوته لم تتضح للرومان إلا عندما دخل القدس وواجه القائمين على الشريعة اليهودية من سدنة الهيكل. وحينما بدا احتمال أن تجذب دعوته ساكنة فلسطين في شكل معارضة سياسية ضد الرومان والحاكم اليهودي الموالي لهم، فعندئذ اهتم الرومان بأخباره.

ب) مصادر يهودية : قُدِّمَ المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، في المصادر اليهودية بصور مختلفة، فهو في قسم منها لقيط "ممزير" ابن زنا، وأن الخوارق التي تحققت على يديه ليست معجزات، بل هي مما تَعلَّمَهُ من السحر في أرض مصر، وأن إدانته كانت شعبية، وأن الإنجيل ليس إلا وثيقة كذب وخداع، وأن أمه مريم كانت مُصَفِّفَةَ ضفائر النساء، وأنه ليس المسيح الذي ينتظرونه، لأن المسيح المنتظر علامته معلومة لديهم، حيث ستطرح الأرض فطيراً وقمحاً حَبُّهُ بقدر كُلَى الثيران، وتخدمه كل الشعوب، وينقضي حكم الخارجين عن دين بني إسرائيل.

وفي التلمود البابلي ــ في باب السنهدرين 43 ــ نقرأ أن يشوع كان يزاول السحر وأنه انحرف بشعب إسرائيل. وفي كتاب الأضرار ــ سدر نزقين ــ الذي ضم القوانين الجنائية اليهودية، نقف على موقف اليهود من عيسى، فقد أمعن هذا السفر في الحط من شخصه، عليه السلام.

أما المؤرخ اليهودي ذو النزعة الهلينية والولاء الروماني "فلافيوس يوسيفوس" فقد تحدث عن عيسى ابن مريم في إشارات سريعة، بدا فيها تأثره بالموقف الروماني من عيسى، ولم يبد تأثراً بموقف اليهود، أهل دينه. ولعل ذلك ما دفع الدارسين إلى الاعتقاد بأن ما جاء في كتاب "الحروب اليهودية" هو من إنشاء كاتب مسيحي جاء من بعد يوسيفوس. ولكننا نرى في ذلك أمراً آخر، فيوسيفوس وإن كان يبدو مشايعاً للرومان، إلا أنه كان يحن إلى زمن ما قبل تعظيم الهيكل، فقد رجا أن يكون عيسى حقاً هو المسيح المخلص للشعب، يقول :

>وكان في هذا الوقت رجل صالح يدعى عيسى، وهو رجل صالح إذا حق أن نسميه كذلك، كان يأتي بأعمال عجيبة ويتلقى الحقيقة باغتباط، واجتمع حوله كثير من اليهود وكثير من الأمميين. لقد كان هو المسيح<(38).

وترسم الأناجيل مسيرة حياة المسيح عيسى ابن مريم، كما يلي :

1. ميلاد عيسى في بيت لحم.

2. رحيل يوسف النجار ومريم به إلى مصر، خوفاً من بطش هيرودوس.

3. الرجوع إلى فلسطين بعد وفاة هيرودوس، والاستقرار في الناصرة خوفاً من بطش أرخيلاوس.

4. انطلاق البعثة وظهور عيسى المعلم. وكان عمره ثلاثين سنة، حسب لوقا.

نقرأ في إنجيل متى :

>وكان يسوع في أنحاء الجليل يُعَلِّمُ في المجامع ويعلن إنجيل الملكوت، ويشفي الناس من كل مرض وداء<.

5. عيسى يتعمد على يد يوحنا المعمدان.

6. عيسى يدعو في الجليل وكفر ناحوم.

7. خبر عيسى ينتشر في كل بلاد فلسطين :

تبعته جموع كبيرة من الجليل والمدن العشر وأورشليم واليهودية وعبر الأردن.

8. عيسى يعلن موقفه من الشريعة : فقد جاء متمِّماً للناموس، جاء ليرشد خراف بيت إسرائيل الضالة.

9. عيسى يجمع حوارييه.

10. عيسى يأمر رسله أن يبشروا في كل المدن باقتراب ملكوت الرب.

11. الدعوة في الجليل ـ الناصرة ـ وكفرناحوم، ونابين ـ بيت صيدا ـ وفي المدن والقرى، وأريحا والقدس.

12. تفاصيل المعجزات وحوار الفرق اليهودية ورؤساء المجمع.

13. المحاكمة.

هذه محطات بارزة من حياة عيسى، عليه السلام، ودعوته. أما عن مواقفه من ظروف عصره، فقد كانت هي مواقف كل نبي. لقد كان عليه أن يبلغ الرسالة ضمن منهج مرسوم ومنضبط :

>وفي ذلك اليوم دنا بعض الفريسيين من يسوع وقالوا له : انصرف من هنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك، فقال لهم : اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب : ها أنا أطرد الشياطين وأشفي المرضى اليوم وغداً، وفي اليوم الثالث أتمم كل شيء، ولكني يجب أن أسير في طريقي اليوم وغداً وبعد غد، لأنه لا ينبغي أن يهلك نبي في خارج أورشليم. أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أبناءك مثلما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فما أردتم، وها هو بيتكم يترك لكم خراباً، لا تَرَوْنِي حتى يجىء يوم تهتفون فيه : تبارك الآتي باسم الرب<(39).

ونقرأ حين دخوله الهيكل :

>ودخل يسوع الهيكل وطرد جميع الذين يبيعون ويشترون فيه، فقلب مناضد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام، وقال لهم : مكتوب أن يدعى بيتي بيت الصلاة، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص<(40).

ونـقرأ قوله ـ في جـوابه للهيرودوسيين الذين سـألوه بإيعاز من الفـريسـيين : هل يحل دفع الجزية للقيصر أم لا :

>لماذا تجربونني يا مراؤون ؟ أروني نقد الجزية. فناولوه ديناراً.

فقال لهم : لمن هذه الصورة والكتابة ؟

قالوا : للقيصر.

فقال لهم : أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للَّهِ للَّهِ<(41).

--------------------------------

وهذا رابط الكتاب لمن اراده
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langues/langues.htm
 
عودة
أعلى