مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]
كنت قد كتبت حلقات تحت عنوان ( نظرات في المعرب ) ، وهذه الحلقة ـ التي أهديها للأديب الفاضل ابن الشجري تقديرًا لطرائفه الأدبية التي أتحفنا بها في هذا الملتقى ـ أرى أن فيها بيانًا لفكرة الحلقات السابقة ، ولقد حرصت فيها على إيضاح الفكرة قد المستطاع ، وإني لأشكر مشرفنا الفاضل عبد الرحمن الشهري الذي قرأ هذه المقالة قبل نشرها ، وأبدى بعض الملحوظات ، واقترح عليِّ أن اكتب بعض المراجع التي تفيد في هذه الفكرة ، ولعلي أخصص مقالة مستقلة أتكلم فيها عن بعض الكتب التي عُنيت بهذا الموضوع ليتكامل طرح هذه الفكرة مع مراجعها ، والله أسأل أن يعيننا ، وأن يبارك لنا في شهر رمضان المبارك قيامه وصيامه ودعاءه إنه ولي ذلك والقادر عليه .
[align=center]اللغة الأم لغة اشتقاق[/align]
لا يخفى على الباحث في أصل اللغات الخلاف بين العلماء هل هي بتوقيف أو هي بالمواضعة والاجتهاد ؟ ولقد ذهب كل فريق من العلماء إلى رأيٍّ أيَّده بدلائل نقلية أو عقلية .والذي يظهر لي أن أصلها بتوقيف من الله ، ثم إنها يدخلها المواضعة بين البشر .
أما التوقيف فدليله أن آدم أبا البشر كان في السماء يخاطب ربَّه ، ويخاطب ملائكته ، ويخاطب زوجه بكلام قد ألهمه الله إياه ، كما يشير إليه قوله تعالى : ( وعلَّم آدم الأسماء كلها ) ، إذ لا يمكن أن يكون ذلك إلا بأن يعبِّر عن هذه الأسماء بكلام يُفهم عنه ، وهذا الكلام المركَّب من حروف إنما أُلهمه في أول الأمر .
وفي السنة النبوية ما يشير إلى هذا أيضًا ، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له ربه : يرحمك ربك . يا آدم ، اذهب إلى أولئك الملائكة ـ إلى ملأ منهم جلوس ـ فسلِّم عليهم ، فقال : السلام عليكم فقالوا : وعليكم السلام ورحمة الله ، ثم رجع إلى ربه فقال : هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم ) رواه الترمذي وابن حبان وغيرهما بسند صحيح .
فهذا يدل على الإلهام لأول الكلام ، إذ لا يعقل وجود حيين متقابلين بدون أن تكون بينهما لغة للتفاهم فيما بينهم ؛ أيًّا كانت هذه اللغة التي يتفاهمون بها .
وإذا كان أصل اللغة إلهامًا فلا يعني هذا أن البشر لا يوَلِّدون كلامًا ، ويفتعلون مصطلحات ، بل الأمر كذلك من التوليد في اللغة التي يتكلمون بها .
واللغة فيها ما يُولَد وفيها ما يموت وفيها ما يُبعث بعد موته أو تناسيه ، ولكل من هذه أسبابه التي يتسبب عنها .
فاختلاف البيئة ـ مثلاً ـ سبب في نشوء بعض الأسماء ، فليس ما يُستخدم في بادية نجد كالذي يستخدم في حاضرتها ، ولا الذي يستخدم في بادية نجد وحاضرتها كالذي يستخدم في جنوب الجزيرة أو شمالها أو شرقها أوغربها ، فالبيئة لها أثر في إحداث الأسماء وتوليد بعض المعاني ، وصرف بعض الدلالات إلى معنى خاص بها عند القوم يخالفهم فيها غيرهم ، وهذا أمر ظاهر بالموازنة بين كلام القبائل ودلالاته .
واندثار بعض الآلات التي كانت تُستخدم سبب في موت بعض الأسماء ، وهذا ما تشهده اليوم من موت أسماء كانت تُستعمل ، فتُركت بسبب ترك الناس لتلك الآلات التي كانوا يستخدمونها . وقد تموت في منطقة وتبقى في منطقة ، بل قد تموت في الجزيرة العربية وتبقى في شمالها . وكل هذا وغيره مما يحدث للغة إنما يقوم على التتبع والاستقراء للألفاظ التي يستخدمها الناس في كلامهم . أما اللغة الأم فكيف يمكن لها البقاء والاستمرار ؟
وجواب هذا السؤال أن (لاشتقاق) هو أكبر عنصر في بقاء اللغة الأم التي تحدث بها أبونا آدم لما خلقه الله سبحانه ، ثم نزل بها إلى الأرض لما نزل ، وتكلم بها هو وبنوه من بعده .
واللغة العربية التي نزل بها القرآن وهي حاضرة بين يدي عرب الجزيرة تشهد أنها متولدة عن هذه اللغة الأم ( لغة الاشتقاق ) فالأحرف الثماني والعشرين الأصلية ، وما عداها من الحروف الفرعية تشهد بثراء اللغة العربية من جهتين :
ـ عدد الحروف الذي يتولد عنه عدد من المعاني لا تكاد تُحصر ، ففي العربية أحرف لا تكاد توجد في لغة من لغات العالم ؛ كالحاء ، الذال ، الصاد ، الضاد ، الطاء ، الظاء ، وانظر كم من الكلمات التي تتولد في دخول هذه الأحرف في تركيب الكلمة .
ـ نماذج متكاثرة ومتناثرة من الصوتيات التي كان يؤديها العرب ؛ كإشمام الكسرة الضمةَ في مثل ( قِيل ، غِيض ) ، والإمالة في مثل ( والضحى ) ... الخ من الأمور الصوتية التي يطول الحديث عنها .
ولا يبعد أن تكون هذه الصوتيات تولدة شيئًا فشيئًا حتى صارت إلى ما آلت إليه ، واندثر منها ما اندثر بفعل عوامل عديدة .
ولأسوق لك مثالاً يتبين لك به ذلك :
لو أخذت مادة ( ح ر م ) ، وقلَّبتها على الاشتقاق الأكبر ، لظهر لك منها ستُّ مواد : ( حرم ، حمر ، مرح ،محر ، رحم ، رمح ) وكل هذه المواد مستخدم في لغة العرب ، فلو رجعت إلى أي معجم من معاجم العرب الكبرى ؛ كلسان العرب لابن منظور ، لوجدت لكل مادة من هذه المواد اشتقاقًا أصغر ، فلو أخذت ( حرم ) لوجدت من الاشتقاق الأصغر لهذه المادة الشيء الكثير : ( حرَّم ، أحرم ، يحرم ، يحرِّم ، إحرام ، حرام ، حُرمة ، حرمات .... ) .
وهنا تنبيهات :
الأول : أن الباحثين اختلفوا هل أصل الكلمات ثنائي أو ثلاثي ، والخلاف لا يؤثر على الفكرة التي طرحتها لك ؛ لأن الأصل الثلاثي كثير جدًّا ، مما يجعل القول بأنه أصل في كثير من ألفاظ اللغة صحيح بلا ريب ، ووجود بعض الكلمات يكون أصلها ثنائي لا يعني ان كل ألفاظ اللغة كذلك .
الثاني : أن بعض المواد أسعد من غيرها في كثرة الاشتقاق الأصغر ، فلو نظرت إلى ما اشتقه العرب من ( حرم ) لوجدته أكثر من اشتقاقاتهم لمادة ( محر ) .
الثالث : أن تقليب الكلمة على الاشتقاق الأكبر يُظهر أن بعض المواد لم تستخدمه العرب ، وعدم استخدامها لا يلزم منه عدم وجوده في لغات سابقة لها ، ولها علاقة بها .
الرابع : أن بعض المواد تُستخدم في منطقة أكثر من استخدامها في منطقة أخرى . وكل هذه الأمور تظهر بالاستقراء والموازنة .
والمقصود أنَّ البحث التاريخي في اللغات يثبت ثراء العربية بأحرفها ، فهل هي امتداد لتلك ( اللغة الاشتقاقية الأم ) ؟
لننظر المصادر التي يمكن الاعتماد عليها في إثبات ذلك :
ـ القرآن الكريم .
ـ السنة النبوية .
ـ تاريخ العرب وأشعارها .
ـ تفسير السلف ومن جاء بعدهم من العلماء .
ـ أسفار بني إسرائيل .
ـ اللُّقى من أحافير وورق بردى وكتابات على جبال أو صخور أو غيرها .
ـ الدراسات اللغوية المعاصرة الموازنة بين اللغات القديمة ، مع ما يشوب بعضها من جهل أو تحريف في بعض الأحيان ، وقد يكون تحريفًا مقصودًا يُظهِر خبث طوية صاحبه .
والحق أن هذه الدراسات ـ على ما فيها ـ كانت من مفاتيح إثبات تلك اللغة الاشتقاقية من حيث لا يدري بعض من كتب في الموازنة بين تلك اللغات القديمة ، وسيظهر جانب منه في بعض ما سأذكره في هذا الموضوع من معلومات.
ولست أريد في ذكر هذه المصادر أن أبيِّن مدى الاعتماد عليها ، وكيف عددناها مصدرًا ، وإنما مرادي التنبيه عليها هنا فحسب ، مع ملاحظة أن كثيرًا من دارسي اللغات القديمة لا يعتمدون على القرآن والسنة وأخبار العرب ( ومنها آثار السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم ) ، بل لا يرجعون إليها البتة ؛ لأن كثيرًا من دارسي هذه اللغات ينطلقون من منطلقات توراتية صهيونية ، يريدون بذلك إثبات صحة ما في أسفار بني إسرائيل ، والانتصار للصهيونية العالمية فحسب ، وليس البحث العلمي الجاد المحايد هو هدفهم الرئيس، وهذا ظاهر من طريقة بحوثهم التي يغلفونها بغلاف البحث العلمي ، وفيها من المغالطات في البدهيات فضلا عن غيرها ما فيها .
وليس العجب من هؤلاء أن يكتبوا ، فهم بين معتقد لهذه الأفكار مدافعٍ عنها ، وبين مدفوع له حسابه ، فاشتروه ليقوم بهذا الدور ، لكن العجب ممن يملكون حضارة ضاربة بأوتادها في عمق التاريخ كيف ينطلي عليهم مثل هذه الترهات التي تُلبَّس بلباس البحث العلمي ؟!
وإن الأمر في هذا لذو شجون ، ولا أريد أن أستطرد فيه لكيلا أخرج عن صلب الموضوع الذي أريد أن أوقِّفك عليه .
* كيف سارت اللغة ؟
لو نظرت إلى اللغة العربية التي نزل بها القرآن ـ والحديث في تفاريع ذلك يطول ـ لخرجت بفائدة مهمة ، وهي ان القرآن ثبَّت اللغة المتداولة آنذاك ، فوقفت اللغة العربية على أكمل صورها التي وصلت إليها ، وتنادى العلماء لجمعها وحفظها ، فكانت علوم العربية الأساسية من لغة ونحو وصرف ، وصارت هذه اللغة معيارية يقاس عليها ، ويوزن بها لمعرفة الصحيح من الضعيف من الباطل ، وصار في مصطلحات العلماء اللغة الكثيرة ، واللغة القليلة ، واللغة الشاذة ... الخ .
ومع ثراء ما جمعه اهل اللغة إلا أنهم لم يستطيعوا جمع كل كلام العرب ، بل ندَّ عنهم منه شيء بشهادة جمع من العلماء المعتنين بهذا الشأن ؛ كأبي عمرو بن العلاء ، والكسائي ، أبي عبيد القاسم بن سلام ، وغيرهم .
ولغة العرب إبَّان نزول القرآن لغة يقاس عليها ما قبلها وما بعدها من كلام العرب ، فهي من أكبر الأدلة على أصول كثيرٍ من لغات المنطقة التي نُسبت إلى أقوام أو بلدان ؛ كالكنعانيين أو الفينيقيين أو البابليين ، أو الآشوريين أو الأكاديين أو الآراميين أو التدمريين أو النبطيين ... الخ من الألقاب التي اطلقت على أقوام عاشوا في شمال جزيرة العرب : عراقها وشامها ، بل يتعدى إلى مصر وساحل البحر الأبيض المتوسط إلى بلاد المغرب كما هي جغرافية العرب اليوم .
وقد قام جمع من الباحثين بهذا العمل ، فبيَّنوا أصول لغات بعض هذه الأقوام بالقياس على عربية التنزيل ، فبرزت أبحاثٌ فائقة في الجدَّة والعلمية الموضوعية ، وإن كان الإغراق في مثل هذه البحوث لا يخلو من تكلف إلا أن ثبوت أصل المسألة كافٍ في التدليل عليها .
ونحن اليوم نرى كلام عامة العرب في جميع أقطارهم ، فيظهر للدارس ارتباط كثير من العامي بأصوله الفصحى ، وإن اختلف من حيث أداؤه أو تصريفه وخلوه من الإعراب ، وذلك أمر واضح عند من يقرأ في البحوث التي تُعنى بردِّ العامِّي إلى الأصيل من كلام العرب .
والمقصود أن لغة العرب التي حُفِظت لنا اليوم دليل واضح على ارتباطها بأم اللغات ، وارتباط غيرها بها ، على أنها مرحلة من مراحل تطور اللغة الأم وتفرعها في محيط الاشتقاق .
والحق : إن دراسة تلك الروابط يعوزها كثيرٌ من فقه اللغات التي تحدثت بها تلك الشعوب قديمًا ، ولقد كُتِب في ذلك كتابات كثيرة ، لكن شاب كثيرًا منها ما ذكرت لك سابقًا ، ومن أكبر ذلك الشَّوب أنهم اخترعوا مصطلح ( السامية ) ليطلقوه على شعوب منطقتنا العربية ، وعلى لغاتها ، فجعلوا السامية أصلا تتفرع منه لغات شمالية وجنوبية ، وجعلوا منها : العربية والعبرية والحبشية والأكادية والبابلية والآشورية والكنعانية ... الخ . وهذا التقسيم غير صحيح البتة ، وقد نقده باحثون ، وأظهروا زيفه وبطلان ، وإن اغتر به آخرون أو رأى غيرهم أن لا أهمية تُذكر في هذا المصطلح ، فساروا عليه (1) .
* نظرة تحليلية لبعض المفردات الواردة في القرآن لأقوام عريقين في القِدم :
إذا جعلت اللغة المعيارية التي ارتضاها العلماء للقياس عليها ، وكذا ما حُكي من لغات عربية استهجنوها ؛ إذا جعلنا هذه اللغات ( اللهجات ) أصلاً نستفيد منه في تبيُّنِ مسار هذه اللغة وقِدمها (2) ، فإننا سنجد ذلك واضحًا ساطعًا في أسماء نُقلت إلينا كان يتكلم بها أقوام يفصل بينهم وبين لغة العرب القرون الطويلة .
1 ـ نوح وقومه :
يقول الله تعالى : ( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )
تأمَّل أسماء هذه الأصنام ، ألا تظهر لك عربيتها واضحة بينة ؟
أفي عروبة هذه الأسماء شكُّ ؟ أكان قوم نوح سيسمون أصنامهم ـ التي هي أسماء رجال صالحين كانوا قبلهم ـ بغير لغتهم ؟
ألا يدلك هذا على أنَّ قوم نوح كانوا يتكلمون العربية ؟
لكن هذه العربية التي تكلموا بها لا يلزم أن تتفق مع اللغة المعيارية التي بين يديك اليوم ، إذ قد تختلف في طريقة التصريف والإعراب وغيرها ، لكن أصول الكلمات واحدٌ لا يتغير ، أنها لغة الاشتقاق .
2 ـ عاد قوم هود
يقول تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) وقوم عاد لا خلاف في عروبتهم ، ولفظ ( عاد ، وهود ) واضح العروبة ، وأصلهما من العَودِ والهَود .
3 ـ ثمود قوم صالح
قال تعالى : (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ ) ، وقوم ثمود لا خلاف في عروبتهم ، واسم نبيهم واضح العروبة ، وهو من مادة ( صلح ) ، وكذا اسم القبيلة من مادة ( ثمد ) والثمد : الماء القليل .
4 ـ مدين قوم شعيب
ولا خلاف في عروبتهم ، ولا زال اسم مدين شاهدًا إلى اليوم ، مما يدل على عروبته ، واسم ( شعيب ) واضح العروبة ، وهو من مادة شعب .
وهذه الشعوب وأنبياؤها كانوا في جزيرة العرب ـ على خلاف في موطن نوح وقومه ـ وما ذكرته لك ـ مع قِلَّتِه ـ شاهد على اتصال لغة العرب المعيارية بهذه اللغات التي كانت قبلها ، وأنها لا زالت تحتفظ بالاشتقاق من هذه اللغات القديمة ، وانت على خُبر بما كان بين نوح وآدم من الزمن،وهو عشرة قرون ، فانظرإلى أي زمن ارتقت لغة العرب من جهة الزمان،بل إنها لترقى إلى أكثر من هذا كما أشرت في مقالي (آدم في السماء).
هل في هذه النظرية هدم لباب العجمة الذي يعتمده النحويون واللغويون؟
فإن قلت : ألا ترى أن قولك هذا فيه إبطالٌ لباب العجمة الذي يذكره النحويون واللغويون ، وأنك تركت ما ذكره بعض العلماء من حكاية العجمة لبعض هذه الأسماء؟
فالجواب : إني لا ألغي ذلك البتة ؛ لأن قياس العجمة إنما هو بالنسبة للغة العربية إبان نزول القرآن ، وهي اللغة المعيارية التي ارتضاها اللغويون وقاسوا عليها ، فما كان خارجًا عن مقاييسها عدُّوه أعجميًا على التفصيل المعروف عندهم .
وإذا تأملت ما خرج عن هذه اللغة ، وحُكِم بعجمته ، فإنه لا يعدو الأمور الآتية :
1 ـ أن تكون أصوله عربية قد ماتت ، فلم تُستخدم في لغة العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ( اللغة المعيارية ) .
2 ـ أن تكون أصول الكلمة عربية ، لكنها تحوَّرت ثمَّ رجعت إلى اللغة المعيارية بما وصلت إليه من تحوير ، فصارت عجمتها من هذا الباب .
3 ـ أن تكون الكلمة قد وُلِدت في غير العربية ، فتكون عجمتها ظاهرة بلا ريب .
وما أحكيه هنا هو في النوعين الأولين ، فالقول بعجمة الألفاظ لا ينفي الأصل العربي لها ، ولعلي أحكي لك مثالاً يدلك على رحلة الكلمة من العربية إلى التعجيم إلى رجوعها إلى العرب معجمة .
اسم ( إسحاق ) هو بمعنى ( يضحك ) أو قد يكون أحد مشتقاته ( كالضاحك ، وإن كان على المبالغة فهو الضحاك ) لكن ما علاقة اسمه بمدلول الضحك ؟
1 ـ أصل الاسم ( يضحك ) على زِنة الفعل ، وأنت تعلم أن زنة الفعل مستعمل في أسماء عربية في اللغة المعيارية ، مثل ( يزيد ) .
2 ـ السين منقلبة عن الصاد المنقلبة عن الضاد ( يسحق ــــ يصحق ــــ يضحق )
3 ـ القاف منقلبة عن الكاف ( يضحق ــــ يضحك ) .
4 ـ الألف زائدة ( يسحاق ) .
5 ـ قلبت الياء إلى همزة ( إسحاق ) .
ولو أنِست بقوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ) واعتبرته في هذه التسمية لما بعُد عنك الوصول إلى هذا المعنى ، وإذا أضفت إلى ذلك ما تنبَّه إليه أصحاب ( قاموس الكتاب المقدس ص : 66 ) ، قالوا : (( إسحاق ، ومعناه بالعبرية ( يضحك ) ، وهو ابن إبراهيم وسارة ... )) . وكذا أضاف هذا المعنى أصحاب ( التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ص : 46 ) عند الحديث عن البشارة ( تكوين : 17 ) . وفي قولهم هذا إشارة إلى عربية هذا الاسم من حيث لا يعلمون .
وهذه الرحلة التي تَمُرُّ بها الكلمة ليست غريبة على من يقرأ في موضوع اللغات ، ويتبين له ما يقع للكلمة من رحلة من لغة العرب حتى تعود إليها معجَّمة ، ولا زلت أضرب بمثلين معاصرين مشهورين من الأسماء :
الأول : كرزاي ، أصله : ( قرضاي ) ، فحصل للقاف قلب إلى الكاف ، وللضاد قلب إلى الزاي ، وبعضهم يقلبها إلى الدال ، وتجد هذا الاسم العربي الصريح في صحفنا بأحد الأسماء الثلاثة ( قرضاي ، كرزاي ، قرداي ) والاسم ( قرضاي ) هاجر إلى الغرب ، ثمَّ رجع إلينا معجَّمًا بأحد لفظين ( كرزاي ) أو ( قرداي ) ، وأصلهما ـ كما ترى ـ عربي صريح .
الثاني : مهاتير ، أصله : ( مُحاضِر ) ، وتراهم يجعلون الضمة فتحة ، لجهلهم بأصل الاسم ، والحاء قد قُلبت إلى (هاء) ، والضاد قد قلبت إلى (تاء) ، وزيدت كسرة الضاد لما قُلبت إلى (تاء) فصارت (ياءً) ، كما ترى .
وتحليل الأسماء المتحوِّرة يحتاج إلى مبادئ ليتفق معي فيها القارئ ، ويقبل ما أذكره له ، لكني هنا ذكرت لك النتيجة فقط ، وإلا فالأمر يرجع إلى (علم الصوتيات ) ، وذلك علم قَلَّ من يكتب فيه من المتخصصين مع أهميته البالغة في فهم قضايا مرتبطة بأصول اللغة .
* نظرة تحليلية لبعض الأسماء التي تسمَّى بها أقوام سابقون للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم :
1 ـ إسماعيل ، أصله ( يسمع إيل ) ، فهو من مادة ( سمع ) ، وإيل لفظ يُطلق على الله ، فهو كقولك : يسمع الله ، وهذا التركيب لا زال يستعمل إلى وقتنا الحاضر ، فأنت تسمع أسماء مثل ( جاد الله ، جاد الحق ) وغيرها من المصادر التي تضاف إليه ، مثل ( حبيب الرحمن ، ولي الله ) ، وذلك أمر غير غريب .
وهذا الاسم قد أُخِذَ من الحَدَثِ الذي وقع لأم إسماعيل ، حيث ورد في ( سفر التكوين : 16 ) : (( وأضاف ملاك الرب : هوذا أنت حامل ، وستلدين ابنا تدعينه إسماعيل ؛ لأن الرب قد سمع صوت شقائك ) ، وقد ورد في كتاب ( التفسير التطبيقي للكتاب المقدس / ص : 44) عبارة ( ومعناه : الله يسمع ) بين قوسين ؛ تفسيرًا لاسم إسماعيل ، وهذا تأصيل لعروبة هذا الاسم من حيث لا يشعرون .
2 ـ يعقوب : أصله من مادة ( عقب ) ، وهو الذي يعقب ، فهو العاقب ، وقد وردت الإشارة بذلك في قوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) ألا تلاحظ كيف سُمِّي من الحدث الذي قام فيه ، وهو كونه يخلف أباه ( أي : يعقبه ) ، فقد بُشِّرت ( سارة ) ببشارتين : الولد وولد الولد .
3 ـ سليمان : أصله من مادة ( سلم ) ، وكانوا ينطقونه بالشين ، وهذا أحد التبديلات التي تقع في بعض اللغات العروبية القديمة ، وقد ورد في ( دائرة المعارف الكتابية 4 : 419 ) ما نصه : (( سليمان : هو الملك الثالث لإسرائيل ، واسم سليمان مشتق من ( شالوم ) العبرية ، ومعناها ( سلام أو مسالم ) ... )) .
وقد نبَّهوا في مادة ( سلام ـ سلامه ) ( 4 : 409 ) إلى أنَّ كلمة ( شالوم ) تعني : سلام ، وهي تُستخدم في التحية المألوفة بين الأصدقاء ، والسؤال عن صحتهم ، كما تستخدم عند الوداع .
ولعلك على ذُكْرٍ بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( خلق الله عز وجل آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يجيبونك فإنها تَحِيَّتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله قال فزادوه ورحمة الله قال فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن )) . رواه مسلم 4 : 2183 .
وليس السين وحدها التي تنقلب إلى شين ، بل في لغتهم أحرف اخرى تنقلب ؛ كالحاء في الرحمن تكون ( الرخمن ) ، وغيرها مما يُعرف بموازنة لغاتهم بلغة العرب .
مسألة : إذا كان الأمر على هذه الصورة ، فلم لم ينتبه له المتقدمون ؟
أقول : بل لقد كان في كلامهم إشارات ، وكانت من باب العلم الظني ، ، ولم يكن عندهم ثمت أبحاث في تأصيل الموضوع أكثر من القول باشتراك اللغات في اللفظ ، ولم يكن يدور في خلدهم أن هذا الاشتراك يقود إلى أصل واحدٍ ، وأن العربية هي بقايا هذا الأصل ، ومن أقرب مذاهبهم إلى ما ذكرت لك ما ذهب إليه الطبري في الباب الذي عقده في مقدمة تفسيره ، وعنوانه : ( القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم ) ، وخلاصة رأيه في ذلك : أن من نسب من السلف بعض الألفاظ إلى غير لغة العرب ، فليس مراده أنها ليست من لغة العرب ، بل هي ألفاظ نطقت بها العرب ، ووافقها في نطقها غيرهم . ( جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، ط : دار هجر : 1 : 13 ) .
لكن البحث الموازن بين اللغات اليوم أظهر حقيقة ارتباط اللغات القديمة في موطن الوطن العربي الذي نراه اليوم باللغة العربية التي نزل بها القرآن ، لكن بعض هؤلاء الباحثين من المستشرقين والتوراتيين يُخفون هذه الحقيقة ، فهم لا يريدون أن يذكروا للعرب أيَّ مَحمَدَة ، فكيف يصفونهم بأنهم يملكون خصائص اللغة الأم ؟.
ولو فتَّشت في مثل كتاب ( قاموس الكتاب المقدس ) لوجدت بعض الكلمات التي يرجعونها إلى العربية ، وفيها ما هو واضح التقارب معها ، ، وهي لا تختلف إلا في طريقة النطق فحسب وإليك هذا المثال :
1 ـ ( ص : 192 ) : (( بنيامين : اسم عبري ، معناه ( ابن اليد اليمين ، أو ابن اليُمن ) ، وهو ابن يعقوب من امرأته راحيل ، وكان أصغر إخوته )) .
ولعل هذا الاسم لا يحتاج إلى كبير تحليل ، كما أن طريقة نطقة قريبة جدًّا من طريقة اللغة المعيارية ( لغة العرب وقت نزول القرآن ) .
2 ـ ( قاموس الكتاب المقدس /ص : 201 ) : (( بيت جامول : اسم عبري معناه ( بين الجمل ) مدينة في موآب )) .
3 ـ (قاموس الكتاب المقدس /ص : 203 ) : (( بيت صيدا : اسم آرامي معناه ( بيت الصيد ) ... )) .
4 ـ (قاموس الكتاب المقدس /ص : 204 ) : (( بيت عنيا : اسم آرامي معناه ( بيت البؤس ، البائس ) ... )) . عنيا = العني = العناء .
5 ـ (قاموس الكتاب المقدس /ص : 207 ) : (( البيريون : اسم عبري معناه : ( أهل الآبار ) ، وهو اسم عائلة )) .
6 ـ ( قاموس الكتاب المقدس ص : 226 ) : (( تُوما : اسم آرامي معناه ( توأم ) ... )) .
ولأقف مع هذه الفقرة ، فأشرح ما فيها :
الآرامية كما ذكروا ( ص : 43 ) : (( إحدى اللغات السامية الشمالية )) ، وقد أشاروا إلى أن الكتاب المقدس كُتِب باللغة الآرامية ، وفي ( ص : 44 ) ذكروا ما نصه : (( وقد تكلم السيد المسيح اللغة الارامية ، ووردت بعض أقواله في العهد الجديد في هذه اللغة ، مثلاً : مرقس 5 : 41 ( طليثا قومي ) ، مرقس 7 : 34 ( أفثا ) ، مرقس : 15 : 43 ( الوي الوي لم شبقتني ) )) .
وموضوع استخدام الآرامية يمكن الاطلاع عليه في كتب فقه اللغة وتاريخها ، لكن تلاحظ ثبوت استخدامها في كتابهم ، وعلى لسان المسيح عليه السلام ، فما هي اللغة الآرامية ؟
ألا تلاحظ ذلك التقارب الشديد بين ألفاظ الآرامية وما تعرفه من لغتك العربية الشريفة ؟
إن اللغة الآرامية تمثِّل لهجة من لهجات هذه اللغة الاشتقاقية التي ذكرتها لك سابقًا ، ولم تخرج عنها ، وإنما وقع اختلاف في طريقة صيغة الكلمة .
ولننظر إلى لفظ ( تُوما ) كيف صار ( توأم ) ، إن الألف التي في آخر ( توما ) إنما هي ( أل ) التعريف فيما تعرفه من لغتك اليوم ، ولو تتبعت منطقة الشام بفروعها الأربع ( سوريا ، والأردن وفلسطين ولبنان ) لوجدت كثيرًا من المواطن تنتهي بهذه الألف ( حيفا ، يافا ، صيدا ... ) ، ولأذكر لك تفسيرًا من تفسيرات السلف أشار إلى هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : ( بأكواب وأباريق ) ، قال الضحاك : (( الأكواب : جرار ليست لها عرى ، وهي بالنبطية كوبا )) ، والنبطية لغة من اللغات العربية الشمالية ، وهي مرتبطة بالآرامية ، وقد نبَّه أصحاب ( قاموس الكتاب المقدس ص : 44 ) إلى ذلك ، وسموها : الآرامية النبطية .
ولفظ ( كوبا ) الآرامي = الكوب ، وهو لفظ عربي ، وهذا يعني أن اللغة الآرامية والنبطية مرتبطة باللغة الاشتقاقية التي بقيت في لغة العرب التي نزل بها القرآن .
يقول الدكتور محمد بهجت قبيسي في كتابه ( ملامح فقه اللهجات العروبيات / ص : 344 ) ـ ضمن فقرة (( أهم ملامح اللهجة العربية الآرامية ) : (( عَرَفت اللاحقة الألف كأداة تعريف ؛ مثل ( حرستا) بمعنى ( الحارسة ) ، وقاديشا ، بمعنى القادوس : التقديس ) ) .
ولعلك إن استغربت وضع ( أل ) التعريف الذي جاء ألفًا لاحقة للاسم ، فإنك لا تستغرب أن بعض العرب يجعل ( ام ) بدل ( ال ) ، وفي هذه اللهجة جاء الحديث المشهور ( ليس أم بر أم صيام في أم سفر ) ، وأصله في الصحيح بلفظ ( ليس من البر الصيام في السفر ) (3) ، وهذه اللهجة لا زالت يُتحدَّث بها في بعض قبائل جنوب الجزيرة العربية ، فإذا كان هناك أكثر من صيغة لأل التعريف ، فلا تستبعد أن تكون تلك من الصيغ التاريخية لهذه اللغة ، لكنها ماتت ، فلا تُستعمل ، وبقيت آثارها شاهدة عليها .
وإذا كانت هذه الآرامية لغة المسيح ، وقد قال : ( الوي الوي لم شبقتني ) ، وهي بعربيتنا اليوم ( إلهي إلهي لم سبقتني ) ، وفي ( إنجيل متى 27 ): (( إيلي إيلي لم شبقتني (( أي : إلهي إلهي لماذا تركتني )) )) التفسير التطبيقي للكتاب المقدس : 1968 ، وينظر تحليل عميق قوي لهذه العبارة في كتاب ( العلم الأعجمي في القرآن ) ، للأستاذ رؤوف أبو سعدة ( 2 : 283 ـ 285 ) .
أقول : إذا كانت هذه لغته ، وهي لغة عربية قديمة قبل لغة القرآن ، أفلا يجوز أن تقول : إن اللغة التي تحدث بها عيسى عليه السلام منحدرة من تلك اللغة الاشتقاقية ، وهي مرحلة من مراحل تلك اللغة التي وصلت إلى ما وصلت إليه من لغة القرآن .
يذكر الدكتور محمد بهجت قبيسي ( ص : 344 ) أن كلمات اللغة الآرامية ومفرداتها بجذورها حافظت عليها العربية العدنانية نحو ( 2 ، 86 % ) من كلماتها .
ولنرجع إلى قوله تعالى : ( ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) ، لقد قالها عيسى أمامهم ، وسمعوا هذا الاسم ، وعرفوا معناه ؛ لأنه من لغتهم ، والذي يدل على معرفتهم بمعناه دقَّة ترجمة المترجم من الآرامية إلى اليونانية ، حيث ترجمها إلى ( برقليطس= periqlytes) ، وبعضهم يحذف لاحقة التذكير اليونانية ، فيقول: ( برقليط ) أو ( فرقليط ) ، أو (الفارقليط ) كلها بمعنى واحد ، لكنك ـــ مع الأسف ـــ لا تجد هذه الكلمة في الطبعات العربية ، وإنما تجد في بعضها ( المُعَزِّي ) ، وفي بعضها ( المعين ) ، وقد جاء في ( التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ص : 2226) : (( وعندما يأتي المعين الذي سأرسله لكم من عند الأب ، روح الحق الذي ينبثق من الأب ، فهو يشهد لي ، وتشهدون لي أنتم أيضًا ؛ لأنكم معي منذ البداية )) .
يقول البروفسور عبد الأحد داود في كتابه النفيس ( محمد صلى الله عليه وسلم كما في كتاب اليهود والنصارى/ ص : 197 ، 198 ) : (( إن كلمة ( برقليطوس ) تعني من الناحية اللغوية البحته : ( الأمجد والأشهر والمستحق للمديح ) ...والاسم مركب من مقطعين :
الأول : peri ، الثاني : kleitos، ويكتب ( periqlytos) أو ( perqleitos) مما يعني تمامًا اسم أحمد باللغة العربية ؛ أي : أكثر ثناءً وحمدًا ، ولنا أن نتساءل ما هي الكلمة الأصلية التي استخدمها المسيح بلغته العبرية أو الآرامية ... ومن المدهش أن الوحي قد ميز بين صيغة أفعل التفضيل من غيرها ؛ أي ( أحمد ) من ( محمد ) ، ومن المدهش أيضًا أن هذا الاسم الفريد لم يُعط لأحد من قبل إذ حُجِز بصورة معجزة لخاتم الأنبياء والرسل وأجدرهم بالحمد والثناء ، ذلك أن اسم ( برقليطوس ) لم يُطلق على أي يوناني قط ، كما أن اسم أحمد لم يُطلق على أي عربي قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم )) .
وأقف هنا لئلا يطول الموضوع ، فيملَّ ، ويخرج عن المقصود ، وأعود فأختصرة الفكرة التي وصلت إليها فأقول :
إنَّ اللغة الأم التي تكلم بها آدم عليه السلام في السماء ، ونزل بها إلى الأرض لغة تتميز بما يأتي :
1 ـ الاشتقاق ( بنوعيه ) الذي جعلها تتولد وتتنامى كما يتوالد الناس ، ويقع فيها ولادة وموت وبعث ، وما يستعمل في قوم قد يستعمل بمعنى آخر في آخرين ، وما يموت عند قوم يبقى معروفًا عند آخرين .
2 ـ هذه اللغة تمتلك ثمانية وعشرين حرفًا أصليًّا ، وهي التي بقيت في لغة العرب ، ونزل بها القرآن ، وأما أخوات اللغة العربية المعيارية من اللغات العربية القديمة ، فإنها كلما ابتعدت عن موطنها الأصلي ( جزيرة العرب ) بدأت تفقد شيئًا من خصائصها ، وكلما ابتعد قوم وانعزلوا على مرِّ السنين ابتعد لحنهم عن اللغة الاشتقاقية الأم ، فتولدت عندهم لغات جديدة بعيدة عن اللغة الأم إلا من بقايا كلمات هنا وهناك .
3 ـ صارت منطقة العراق والشام ومصر منطقة صراع حضاري ، فيأتيها من كان هاجر بعيدًا فابتعدت لغته عن اللغة الاشتقاقية الأم ، ويأتي أصحاب هذه اللغة الاشتقاقية ، ويقع صراع والغالب يحكم بلغته ، وكانت الغلبة في كثير من الأحيان للعرب الخارجين من جزيرتهم العربية ، وقد ذكر المؤرخون لهم خمس هجرات عربية كبرى ، آخرها ما قام به الصحابة رضي الله عنهم من فتح بلاد فارس والروم .
4 ـ في منطقة الصراع هذه بقيت ملامح اللغة الأم ، وصار الأمر في لغة هذه المناطق على مرِّ العصور تعمد إلى القلب والإبدال بين بعض الحروف ، والتبديل الصوتي لبعض الحروف ، وصيغة الكلمة ، وبقاء حروف المد او حذفها ، وإشباع الحركات فيتولد منها أحرف مد ... الخ من القضايا اللغوية التي تُعرف من القراءة في كتب فقه اللغات القديمة .
.......................................
(1) ينظر عن السامية في هذا الملتقى :
-http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=3741] نعم .. مصطلح السامية فرضية خرافية .[/url]
- http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=3736]فرضيّةُ (الشعوب الساميّة، واللغات الساميّة) فرضيّةٌ خرافيةٌ لا أصل لها .[/url]
(2) ينظر تحليل بعض الأسماء في مقالات (المعرب ) السابقة :
- نظرات في المعرَّب ( الطور ) (1)
- نظرات في المعرب ( موسى عليه السلام في مدين ) (2)
- (نظرات في المعرَّب ) عربية في بيت فرعون (3).
- (نظرات في المُعرَّب) آدم في السماء (4)
- (نظرات في المعرب) العبرانيون وإبراهيم العبراني (5)
(3) قال الكتاني في نظم المتناثر : ( وفي رواية لأحمد من حديث كعب بن عاصم المتقدم ( ليس من أم بر أم صيام في أم سفر ) وهذه لغة لبعض أهل اليمن يجعلون لام التعريف ميما ، فيحتمل أنه عليه السلام خاطب بها هذا الأشعري ؛ لأنها لغته ، ويحتمل أن يكون الأشعري نطق بها على ما أَلِف من لغته ، فحُمِلَت عنه على ما نطق به . قال ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي : وهذا الثاني أوجه عندي ، والله أعلم ) .
تنبيه : قرأ أخي الفاضل عبد الرحمن الشهري هذا المقال قبل طرحه ، وأضاف هذه الفائدة ، فقال : (بخصوص لغة عيسى عليه السلام لو أشرت في الحاشية - لمن أراد التوسع - إلى ما كتبه الدكتور عبدالعزيز شهبر في بحثه (لغة المسيح عيسى بن مريم ورسالته» ضمن كتاب (لغات الرسال وأصول الرسالات» من ص 105-155 ، ولعله يتحفنا بشيء من مضمون هذه الصفحات ، فالكتاب ليس عندي .
كنت قد كتبت حلقات تحت عنوان ( نظرات في المعرب ) ، وهذه الحلقة ـ التي أهديها للأديب الفاضل ابن الشجري تقديرًا لطرائفه الأدبية التي أتحفنا بها في هذا الملتقى ـ أرى أن فيها بيانًا لفكرة الحلقات السابقة ، ولقد حرصت فيها على إيضاح الفكرة قد المستطاع ، وإني لأشكر مشرفنا الفاضل عبد الرحمن الشهري الذي قرأ هذه المقالة قبل نشرها ، وأبدى بعض الملحوظات ، واقترح عليِّ أن اكتب بعض المراجع التي تفيد في هذه الفكرة ، ولعلي أخصص مقالة مستقلة أتكلم فيها عن بعض الكتب التي عُنيت بهذا الموضوع ليتكامل طرح هذه الفكرة مع مراجعها ، والله أسأل أن يعيننا ، وأن يبارك لنا في شهر رمضان المبارك قيامه وصيامه ودعاءه إنه ولي ذلك والقادر عليه .
[align=center]اللغة الأم لغة اشتقاق[/align]
لا يخفى على الباحث في أصل اللغات الخلاف بين العلماء هل هي بتوقيف أو هي بالمواضعة والاجتهاد ؟ ولقد ذهب كل فريق من العلماء إلى رأيٍّ أيَّده بدلائل نقلية أو عقلية .والذي يظهر لي أن أصلها بتوقيف من الله ، ثم إنها يدخلها المواضعة بين البشر .
أما التوقيف فدليله أن آدم أبا البشر كان في السماء يخاطب ربَّه ، ويخاطب ملائكته ، ويخاطب زوجه بكلام قد ألهمه الله إياه ، كما يشير إليه قوله تعالى : ( وعلَّم آدم الأسماء كلها ) ، إذ لا يمكن أن يكون ذلك إلا بأن يعبِّر عن هذه الأسماء بكلام يُفهم عنه ، وهذا الكلام المركَّب من حروف إنما أُلهمه في أول الأمر .
وفي السنة النبوية ما يشير إلى هذا أيضًا ، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له ربه : يرحمك ربك . يا آدم ، اذهب إلى أولئك الملائكة ـ إلى ملأ منهم جلوس ـ فسلِّم عليهم ، فقال : السلام عليكم فقالوا : وعليكم السلام ورحمة الله ، ثم رجع إلى ربه فقال : هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم ) رواه الترمذي وابن حبان وغيرهما بسند صحيح .
فهذا يدل على الإلهام لأول الكلام ، إذ لا يعقل وجود حيين متقابلين بدون أن تكون بينهما لغة للتفاهم فيما بينهم ؛ أيًّا كانت هذه اللغة التي يتفاهمون بها .
وإذا كان أصل اللغة إلهامًا فلا يعني هذا أن البشر لا يوَلِّدون كلامًا ، ويفتعلون مصطلحات ، بل الأمر كذلك من التوليد في اللغة التي يتكلمون بها .
واللغة فيها ما يُولَد وفيها ما يموت وفيها ما يُبعث بعد موته أو تناسيه ، ولكل من هذه أسبابه التي يتسبب عنها .
فاختلاف البيئة ـ مثلاً ـ سبب في نشوء بعض الأسماء ، فليس ما يُستخدم في بادية نجد كالذي يستخدم في حاضرتها ، ولا الذي يستخدم في بادية نجد وحاضرتها كالذي يستخدم في جنوب الجزيرة أو شمالها أو شرقها أوغربها ، فالبيئة لها أثر في إحداث الأسماء وتوليد بعض المعاني ، وصرف بعض الدلالات إلى معنى خاص بها عند القوم يخالفهم فيها غيرهم ، وهذا أمر ظاهر بالموازنة بين كلام القبائل ودلالاته .
واندثار بعض الآلات التي كانت تُستخدم سبب في موت بعض الأسماء ، وهذا ما تشهده اليوم من موت أسماء كانت تُستعمل ، فتُركت بسبب ترك الناس لتلك الآلات التي كانوا يستخدمونها . وقد تموت في منطقة وتبقى في منطقة ، بل قد تموت في الجزيرة العربية وتبقى في شمالها . وكل هذا وغيره مما يحدث للغة إنما يقوم على التتبع والاستقراء للألفاظ التي يستخدمها الناس في كلامهم . أما اللغة الأم فكيف يمكن لها البقاء والاستمرار ؟
وجواب هذا السؤال أن (لاشتقاق) هو أكبر عنصر في بقاء اللغة الأم التي تحدث بها أبونا آدم لما خلقه الله سبحانه ، ثم نزل بها إلى الأرض لما نزل ، وتكلم بها هو وبنوه من بعده .
واللغة العربية التي نزل بها القرآن وهي حاضرة بين يدي عرب الجزيرة تشهد أنها متولدة عن هذه اللغة الأم ( لغة الاشتقاق ) فالأحرف الثماني والعشرين الأصلية ، وما عداها من الحروف الفرعية تشهد بثراء اللغة العربية من جهتين :
ـ عدد الحروف الذي يتولد عنه عدد من المعاني لا تكاد تُحصر ، ففي العربية أحرف لا تكاد توجد في لغة من لغات العالم ؛ كالحاء ، الذال ، الصاد ، الضاد ، الطاء ، الظاء ، وانظر كم من الكلمات التي تتولد في دخول هذه الأحرف في تركيب الكلمة .
ـ نماذج متكاثرة ومتناثرة من الصوتيات التي كان يؤديها العرب ؛ كإشمام الكسرة الضمةَ في مثل ( قِيل ، غِيض ) ، والإمالة في مثل ( والضحى ) ... الخ من الأمور الصوتية التي يطول الحديث عنها .
ولا يبعد أن تكون هذه الصوتيات تولدة شيئًا فشيئًا حتى صارت إلى ما آلت إليه ، واندثر منها ما اندثر بفعل عوامل عديدة .
ولأسوق لك مثالاً يتبين لك به ذلك :
لو أخذت مادة ( ح ر م ) ، وقلَّبتها على الاشتقاق الأكبر ، لظهر لك منها ستُّ مواد : ( حرم ، حمر ، مرح ،محر ، رحم ، رمح ) وكل هذه المواد مستخدم في لغة العرب ، فلو رجعت إلى أي معجم من معاجم العرب الكبرى ؛ كلسان العرب لابن منظور ، لوجدت لكل مادة من هذه المواد اشتقاقًا أصغر ، فلو أخذت ( حرم ) لوجدت من الاشتقاق الأصغر لهذه المادة الشيء الكثير : ( حرَّم ، أحرم ، يحرم ، يحرِّم ، إحرام ، حرام ، حُرمة ، حرمات .... ) .
وهنا تنبيهات :
الأول : أن الباحثين اختلفوا هل أصل الكلمات ثنائي أو ثلاثي ، والخلاف لا يؤثر على الفكرة التي طرحتها لك ؛ لأن الأصل الثلاثي كثير جدًّا ، مما يجعل القول بأنه أصل في كثير من ألفاظ اللغة صحيح بلا ريب ، ووجود بعض الكلمات يكون أصلها ثنائي لا يعني ان كل ألفاظ اللغة كذلك .
الثاني : أن بعض المواد أسعد من غيرها في كثرة الاشتقاق الأصغر ، فلو نظرت إلى ما اشتقه العرب من ( حرم ) لوجدته أكثر من اشتقاقاتهم لمادة ( محر ) .
الثالث : أن تقليب الكلمة على الاشتقاق الأكبر يُظهر أن بعض المواد لم تستخدمه العرب ، وعدم استخدامها لا يلزم منه عدم وجوده في لغات سابقة لها ، ولها علاقة بها .
الرابع : أن بعض المواد تُستخدم في منطقة أكثر من استخدامها في منطقة أخرى . وكل هذه الأمور تظهر بالاستقراء والموازنة .
والمقصود أنَّ البحث التاريخي في اللغات يثبت ثراء العربية بأحرفها ، فهل هي امتداد لتلك ( اللغة الاشتقاقية الأم ) ؟
لننظر المصادر التي يمكن الاعتماد عليها في إثبات ذلك :
ـ القرآن الكريم .
ـ السنة النبوية .
ـ تاريخ العرب وأشعارها .
ـ تفسير السلف ومن جاء بعدهم من العلماء .
ـ أسفار بني إسرائيل .
ـ اللُّقى من أحافير وورق بردى وكتابات على جبال أو صخور أو غيرها .
ـ الدراسات اللغوية المعاصرة الموازنة بين اللغات القديمة ، مع ما يشوب بعضها من جهل أو تحريف في بعض الأحيان ، وقد يكون تحريفًا مقصودًا يُظهِر خبث طوية صاحبه .
والحق أن هذه الدراسات ـ على ما فيها ـ كانت من مفاتيح إثبات تلك اللغة الاشتقاقية من حيث لا يدري بعض من كتب في الموازنة بين تلك اللغات القديمة ، وسيظهر جانب منه في بعض ما سأذكره في هذا الموضوع من معلومات.
ولست أريد في ذكر هذه المصادر أن أبيِّن مدى الاعتماد عليها ، وكيف عددناها مصدرًا ، وإنما مرادي التنبيه عليها هنا فحسب ، مع ملاحظة أن كثيرًا من دارسي اللغات القديمة لا يعتمدون على القرآن والسنة وأخبار العرب ( ومنها آثار السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم ) ، بل لا يرجعون إليها البتة ؛ لأن كثيرًا من دارسي هذه اللغات ينطلقون من منطلقات توراتية صهيونية ، يريدون بذلك إثبات صحة ما في أسفار بني إسرائيل ، والانتصار للصهيونية العالمية فحسب ، وليس البحث العلمي الجاد المحايد هو هدفهم الرئيس، وهذا ظاهر من طريقة بحوثهم التي يغلفونها بغلاف البحث العلمي ، وفيها من المغالطات في البدهيات فضلا عن غيرها ما فيها .
وليس العجب من هؤلاء أن يكتبوا ، فهم بين معتقد لهذه الأفكار مدافعٍ عنها ، وبين مدفوع له حسابه ، فاشتروه ليقوم بهذا الدور ، لكن العجب ممن يملكون حضارة ضاربة بأوتادها في عمق التاريخ كيف ينطلي عليهم مثل هذه الترهات التي تُلبَّس بلباس البحث العلمي ؟!
وإن الأمر في هذا لذو شجون ، ولا أريد أن أستطرد فيه لكيلا أخرج عن صلب الموضوع الذي أريد أن أوقِّفك عليه .
* كيف سارت اللغة ؟
لو نظرت إلى اللغة العربية التي نزل بها القرآن ـ والحديث في تفاريع ذلك يطول ـ لخرجت بفائدة مهمة ، وهي ان القرآن ثبَّت اللغة المتداولة آنذاك ، فوقفت اللغة العربية على أكمل صورها التي وصلت إليها ، وتنادى العلماء لجمعها وحفظها ، فكانت علوم العربية الأساسية من لغة ونحو وصرف ، وصارت هذه اللغة معيارية يقاس عليها ، ويوزن بها لمعرفة الصحيح من الضعيف من الباطل ، وصار في مصطلحات العلماء اللغة الكثيرة ، واللغة القليلة ، واللغة الشاذة ... الخ .
ومع ثراء ما جمعه اهل اللغة إلا أنهم لم يستطيعوا جمع كل كلام العرب ، بل ندَّ عنهم منه شيء بشهادة جمع من العلماء المعتنين بهذا الشأن ؛ كأبي عمرو بن العلاء ، والكسائي ، أبي عبيد القاسم بن سلام ، وغيرهم .
ولغة العرب إبَّان نزول القرآن لغة يقاس عليها ما قبلها وما بعدها من كلام العرب ، فهي من أكبر الأدلة على أصول كثيرٍ من لغات المنطقة التي نُسبت إلى أقوام أو بلدان ؛ كالكنعانيين أو الفينيقيين أو البابليين ، أو الآشوريين أو الأكاديين أو الآراميين أو التدمريين أو النبطيين ... الخ من الألقاب التي اطلقت على أقوام عاشوا في شمال جزيرة العرب : عراقها وشامها ، بل يتعدى إلى مصر وساحل البحر الأبيض المتوسط إلى بلاد المغرب كما هي جغرافية العرب اليوم .
وقد قام جمع من الباحثين بهذا العمل ، فبيَّنوا أصول لغات بعض هذه الأقوام بالقياس على عربية التنزيل ، فبرزت أبحاثٌ فائقة في الجدَّة والعلمية الموضوعية ، وإن كان الإغراق في مثل هذه البحوث لا يخلو من تكلف إلا أن ثبوت أصل المسألة كافٍ في التدليل عليها .
ونحن اليوم نرى كلام عامة العرب في جميع أقطارهم ، فيظهر للدارس ارتباط كثير من العامي بأصوله الفصحى ، وإن اختلف من حيث أداؤه أو تصريفه وخلوه من الإعراب ، وذلك أمر واضح عند من يقرأ في البحوث التي تُعنى بردِّ العامِّي إلى الأصيل من كلام العرب .
والمقصود أن لغة العرب التي حُفِظت لنا اليوم دليل واضح على ارتباطها بأم اللغات ، وارتباط غيرها بها ، على أنها مرحلة من مراحل تطور اللغة الأم وتفرعها في محيط الاشتقاق .
والحق : إن دراسة تلك الروابط يعوزها كثيرٌ من فقه اللغات التي تحدثت بها تلك الشعوب قديمًا ، ولقد كُتِب في ذلك كتابات كثيرة ، لكن شاب كثيرًا منها ما ذكرت لك سابقًا ، ومن أكبر ذلك الشَّوب أنهم اخترعوا مصطلح ( السامية ) ليطلقوه على شعوب منطقتنا العربية ، وعلى لغاتها ، فجعلوا السامية أصلا تتفرع منه لغات شمالية وجنوبية ، وجعلوا منها : العربية والعبرية والحبشية والأكادية والبابلية والآشورية والكنعانية ... الخ . وهذا التقسيم غير صحيح البتة ، وقد نقده باحثون ، وأظهروا زيفه وبطلان ، وإن اغتر به آخرون أو رأى غيرهم أن لا أهمية تُذكر في هذا المصطلح ، فساروا عليه (1) .
* نظرة تحليلية لبعض المفردات الواردة في القرآن لأقوام عريقين في القِدم :
إذا جعلت اللغة المعيارية التي ارتضاها العلماء للقياس عليها ، وكذا ما حُكي من لغات عربية استهجنوها ؛ إذا جعلنا هذه اللغات ( اللهجات ) أصلاً نستفيد منه في تبيُّنِ مسار هذه اللغة وقِدمها (2) ، فإننا سنجد ذلك واضحًا ساطعًا في أسماء نُقلت إلينا كان يتكلم بها أقوام يفصل بينهم وبين لغة العرب القرون الطويلة .
1 ـ نوح وقومه :
يقول الله تعالى : ( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )
تأمَّل أسماء هذه الأصنام ، ألا تظهر لك عربيتها واضحة بينة ؟
أفي عروبة هذه الأسماء شكُّ ؟ أكان قوم نوح سيسمون أصنامهم ـ التي هي أسماء رجال صالحين كانوا قبلهم ـ بغير لغتهم ؟
ألا يدلك هذا على أنَّ قوم نوح كانوا يتكلمون العربية ؟
لكن هذه العربية التي تكلموا بها لا يلزم أن تتفق مع اللغة المعيارية التي بين يديك اليوم ، إذ قد تختلف في طريقة التصريف والإعراب وغيرها ، لكن أصول الكلمات واحدٌ لا يتغير ، أنها لغة الاشتقاق .
2 ـ عاد قوم هود
يقول تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) وقوم عاد لا خلاف في عروبتهم ، ولفظ ( عاد ، وهود ) واضح العروبة ، وأصلهما من العَودِ والهَود .
3 ـ ثمود قوم صالح
قال تعالى : (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ ) ، وقوم ثمود لا خلاف في عروبتهم ، واسم نبيهم واضح العروبة ، وهو من مادة ( صلح ) ، وكذا اسم القبيلة من مادة ( ثمد ) والثمد : الماء القليل .
4 ـ مدين قوم شعيب
ولا خلاف في عروبتهم ، ولا زال اسم مدين شاهدًا إلى اليوم ، مما يدل على عروبته ، واسم ( شعيب ) واضح العروبة ، وهو من مادة شعب .
وهذه الشعوب وأنبياؤها كانوا في جزيرة العرب ـ على خلاف في موطن نوح وقومه ـ وما ذكرته لك ـ مع قِلَّتِه ـ شاهد على اتصال لغة العرب المعيارية بهذه اللغات التي كانت قبلها ، وأنها لا زالت تحتفظ بالاشتقاق من هذه اللغات القديمة ، وانت على خُبر بما كان بين نوح وآدم من الزمن،وهو عشرة قرون ، فانظرإلى أي زمن ارتقت لغة العرب من جهة الزمان،بل إنها لترقى إلى أكثر من هذا كما أشرت في مقالي (آدم في السماء).
هل في هذه النظرية هدم لباب العجمة الذي يعتمده النحويون واللغويون؟
فإن قلت : ألا ترى أن قولك هذا فيه إبطالٌ لباب العجمة الذي يذكره النحويون واللغويون ، وأنك تركت ما ذكره بعض العلماء من حكاية العجمة لبعض هذه الأسماء؟
فالجواب : إني لا ألغي ذلك البتة ؛ لأن قياس العجمة إنما هو بالنسبة للغة العربية إبان نزول القرآن ، وهي اللغة المعيارية التي ارتضاها اللغويون وقاسوا عليها ، فما كان خارجًا عن مقاييسها عدُّوه أعجميًا على التفصيل المعروف عندهم .
وإذا تأملت ما خرج عن هذه اللغة ، وحُكِم بعجمته ، فإنه لا يعدو الأمور الآتية :
1 ـ أن تكون أصوله عربية قد ماتت ، فلم تُستخدم في لغة العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ( اللغة المعيارية ) .
2 ـ أن تكون أصول الكلمة عربية ، لكنها تحوَّرت ثمَّ رجعت إلى اللغة المعيارية بما وصلت إليه من تحوير ، فصارت عجمتها من هذا الباب .
3 ـ أن تكون الكلمة قد وُلِدت في غير العربية ، فتكون عجمتها ظاهرة بلا ريب .
وما أحكيه هنا هو في النوعين الأولين ، فالقول بعجمة الألفاظ لا ينفي الأصل العربي لها ، ولعلي أحكي لك مثالاً يدلك على رحلة الكلمة من العربية إلى التعجيم إلى رجوعها إلى العرب معجمة .
اسم ( إسحاق ) هو بمعنى ( يضحك ) أو قد يكون أحد مشتقاته ( كالضاحك ، وإن كان على المبالغة فهو الضحاك ) لكن ما علاقة اسمه بمدلول الضحك ؟
1 ـ أصل الاسم ( يضحك ) على زِنة الفعل ، وأنت تعلم أن زنة الفعل مستعمل في أسماء عربية في اللغة المعيارية ، مثل ( يزيد ) .
2 ـ السين منقلبة عن الصاد المنقلبة عن الضاد ( يسحق ــــ يصحق ــــ يضحق )
3 ـ القاف منقلبة عن الكاف ( يضحق ــــ يضحك ) .
4 ـ الألف زائدة ( يسحاق ) .
5 ـ قلبت الياء إلى همزة ( إسحاق ) .
ولو أنِست بقوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ) واعتبرته في هذه التسمية لما بعُد عنك الوصول إلى هذا المعنى ، وإذا أضفت إلى ذلك ما تنبَّه إليه أصحاب ( قاموس الكتاب المقدس ص : 66 ) ، قالوا : (( إسحاق ، ومعناه بالعبرية ( يضحك ) ، وهو ابن إبراهيم وسارة ... )) . وكذا أضاف هذا المعنى أصحاب ( التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ص : 46 ) عند الحديث عن البشارة ( تكوين : 17 ) . وفي قولهم هذا إشارة إلى عربية هذا الاسم من حيث لا يعلمون .
وهذه الرحلة التي تَمُرُّ بها الكلمة ليست غريبة على من يقرأ في موضوع اللغات ، ويتبين له ما يقع للكلمة من رحلة من لغة العرب حتى تعود إليها معجَّمة ، ولا زلت أضرب بمثلين معاصرين مشهورين من الأسماء :
الأول : كرزاي ، أصله : ( قرضاي ) ، فحصل للقاف قلب إلى الكاف ، وللضاد قلب إلى الزاي ، وبعضهم يقلبها إلى الدال ، وتجد هذا الاسم العربي الصريح في صحفنا بأحد الأسماء الثلاثة ( قرضاي ، كرزاي ، قرداي ) والاسم ( قرضاي ) هاجر إلى الغرب ، ثمَّ رجع إلينا معجَّمًا بأحد لفظين ( كرزاي ) أو ( قرداي ) ، وأصلهما ـ كما ترى ـ عربي صريح .
الثاني : مهاتير ، أصله : ( مُحاضِر ) ، وتراهم يجعلون الضمة فتحة ، لجهلهم بأصل الاسم ، والحاء قد قُلبت إلى (هاء) ، والضاد قد قلبت إلى (تاء) ، وزيدت كسرة الضاد لما قُلبت إلى (تاء) فصارت (ياءً) ، كما ترى .
وتحليل الأسماء المتحوِّرة يحتاج إلى مبادئ ليتفق معي فيها القارئ ، ويقبل ما أذكره له ، لكني هنا ذكرت لك النتيجة فقط ، وإلا فالأمر يرجع إلى (علم الصوتيات ) ، وذلك علم قَلَّ من يكتب فيه من المتخصصين مع أهميته البالغة في فهم قضايا مرتبطة بأصول اللغة .
* نظرة تحليلية لبعض الأسماء التي تسمَّى بها أقوام سابقون للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم :
1 ـ إسماعيل ، أصله ( يسمع إيل ) ، فهو من مادة ( سمع ) ، وإيل لفظ يُطلق على الله ، فهو كقولك : يسمع الله ، وهذا التركيب لا زال يستعمل إلى وقتنا الحاضر ، فأنت تسمع أسماء مثل ( جاد الله ، جاد الحق ) وغيرها من المصادر التي تضاف إليه ، مثل ( حبيب الرحمن ، ولي الله ) ، وذلك أمر غير غريب .
وهذا الاسم قد أُخِذَ من الحَدَثِ الذي وقع لأم إسماعيل ، حيث ورد في ( سفر التكوين : 16 ) : (( وأضاف ملاك الرب : هوذا أنت حامل ، وستلدين ابنا تدعينه إسماعيل ؛ لأن الرب قد سمع صوت شقائك ) ، وقد ورد في كتاب ( التفسير التطبيقي للكتاب المقدس / ص : 44) عبارة ( ومعناه : الله يسمع ) بين قوسين ؛ تفسيرًا لاسم إسماعيل ، وهذا تأصيل لعروبة هذا الاسم من حيث لا يشعرون .
2 ـ يعقوب : أصله من مادة ( عقب ) ، وهو الذي يعقب ، فهو العاقب ، وقد وردت الإشارة بذلك في قوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) ألا تلاحظ كيف سُمِّي من الحدث الذي قام فيه ، وهو كونه يخلف أباه ( أي : يعقبه ) ، فقد بُشِّرت ( سارة ) ببشارتين : الولد وولد الولد .
3 ـ سليمان : أصله من مادة ( سلم ) ، وكانوا ينطقونه بالشين ، وهذا أحد التبديلات التي تقع في بعض اللغات العروبية القديمة ، وقد ورد في ( دائرة المعارف الكتابية 4 : 419 ) ما نصه : (( سليمان : هو الملك الثالث لإسرائيل ، واسم سليمان مشتق من ( شالوم ) العبرية ، ومعناها ( سلام أو مسالم ) ... )) .
وقد نبَّهوا في مادة ( سلام ـ سلامه ) ( 4 : 409 ) إلى أنَّ كلمة ( شالوم ) تعني : سلام ، وهي تُستخدم في التحية المألوفة بين الأصدقاء ، والسؤال عن صحتهم ، كما تستخدم عند الوداع .
ولعلك على ذُكْرٍ بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( خلق الله عز وجل آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يجيبونك فإنها تَحِيَّتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله قال فزادوه ورحمة الله قال فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن )) . رواه مسلم 4 : 2183 .
وليس السين وحدها التي تنقلب إلى شين ، بل في لغتهم أحرف اخرى تنقلب ؛ كالحاء في الرحمن تكون ( الرخمن ) ، وغيرها مما يُعرف بموازنة لغاتهم بلغة العرب .
مسألة : إذا كان الأمر على هذه الصورة ، فلم لم ينتبه له المتقدمون ؟
أقول : بل لقد كان في كلامهم إشارات ، وكانت من باب العلم الظني ، ، ولم يكن عندهم ثمت أبحاث في تأصيل الموضوع أكثر من القول باشتراك اللغات في اللفظ ، ولم يكن يدور في خلدهم أن هذا الاشتراك يقود إلى أصل واحدٍ ، وأن العربية هي بقايا هذا الأصل ، ومن أقرب مذاهبهم إلى ما ذكرت لك ما ذهب إليه الطبري في الباب الذي عقده في مقدمة تفسيره ، وعنوانه : ( القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم ) ، وخلاصة رأيه في ذلك : أن من نسب من السلف بعض الألفاظ إلى غير لغة العرب ، فليس مراده أنها ليست من لغة العرب ، بل هي ألفاظ نطقت بها العرب ، ووافقها في نطقها غيرهم . ( جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، ط : دار هجر : 1 : 13 ) .
لكن البحث الموازن بين اللغات اليوم أظهر حقيقة ارتباط اللغات القديمة في موطن الوطن العربي الذي نراه اليوم باللغة العربية التي نزل بها القرآن ، لكن بعض هؤلاء الباحثين من المستشرقين والتوراتيين يُخفون هذه الحقيقة ، فهم لا يريدون أن يذكروا للعرب أيَّ مَحمَدَة ، فكيف يصفونهم بأنهم يملكون خصائص اللغة الأم ؟.
ولو فتَّشت في مثل كتاب ( قاموس الكتاب المقدس ) لوجدت بعض الكلمات التي يرجعونها إلى العربية ، وفيها ما هو واضح التقارب معها ، ، وهي لا تختلف إلا في طريقة النطق فحسب وإليك هذا المثال :
1 ـ ( ص : 192 ) : (( بنيامين : اسم عبري ، معناه ( ابن اليد اليمين ، أو ابن اليُمن ) ، وهو ابن يعقوب من امرأته راحيل ، وكان أصغر إخوته )) .
ولعل هذا الاسم لا يحتاج إلى كبير تحليل ، كما أن طريقة نطقة قريبة جدًّا من طريقة اللغة المعيارية ( لغة العرب وقت نزول القرآن ) .
2 ـ ( قاموس الكتاب المقدس /ص : 201 ) : (( بيت جامول : اسم عبري معناه ( بين الجمل ) مدينة في موآب )) .
3 ـ (قاموس الكتاب المقدس /ص : 203 ) : (( بيت صيدا : اسم آرامي معناه ( بيت الصيد ) ... )) .
4 ـ (قاموس الكتاب المقدس /ص : 204 ) : (( بيت عنيا : اسم آرامي معناه ( بيت البؤس ، البائس ) ... )) . عنيا = العني = العناء .
5 ـ (قاموس الكتاب المقدس /ص : 207 ) : (( البيريون : اسم عبري معناه : ( أهل الآبار ) ، وهو اسم عائلة )) .
6 ـ ( قاموس الكتاب المقدس ص : 226 ) : (( تُوما : اسم آرامي معناه ( توأم ) ... )) .
ولأقف مع هذه الفقرة ، فأشرح ما فيها :
الآرامية كما ذكروا ( ص : 43 ) : (( إحدى اللغات السامية الشمالية )) ، وقد أشاروا إلى أن الكتاب المقدس كُتِب باللغة الآرامية ، وفي ( ص : 44 ) ذكروا ما نصه : (( وقد تكلم السيد المسيح اللغة الارامية ، ووردت بعض أقواله في العهد الجديد في هذه اللغة ، مثلاً : مرقس 5 : 41 ( طليثا قومي ) ، مرقس 7 : 34 ( أفثا ) ، مرقس : 15 : 43 ( الوي الوي لم شبقتني ) )) .
وموضوع استخدام الآرامية يمكن الاطلاع عليه في كتب فقه اللغة وتاريخها ، لكن تلاحظ ثبوت استخدامها في كتابهم ، وعلى لسان المسيح عليه السلام ، فما هي اللغة الآرامية ؟
ألا تلاحظ ذلك التقارب الشديد بين ألفاظ الآرامية وما تعرفه من لغتك العربية الشريفة ؟
إن اللغة الآرامية تمثِّل لهجة من لهجات هذه اللغة الاشتقاقية التي ذكرتها لك سابقًا ، ولم تخرج عنها ، وإنما وقع اختلاف في طريقة صيغة الكلمة .
ولننظر إلى لفظ ( تُوما ) كيف صار ( توأم ) ، إن الألف التي في آخر ( توما ) إنما هي ( أل ) التعريف فيما تعرفه من لغتك اليوم ، ولو تتبعت منطقة الشام بفروعها الأربع ( سوريا ، والأردن وفلسطين ولبنان ) لوجدت كثيرًا من المواطن تنتهي بهذه الألف ( حيفا ، يافا ، صيدا ... ) ، ولأذكر لك تفسيرًا من تفسيرات السلف أشار إلى هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : ( بأكواب وأباريق ) ، قال الضحاك : (( الأكواب : جرار ليست لها عرى ، وهي بالنبطية كوبا )) ، والنبطية لغة من اللغات العربية الشمالية ، وهي مرتبطة بالآرامية ، وقد نبَّه أصحاب ( قاموس الكتاب المقدس ص : 44 ) إلى ذلك ، وسموها : الآرامية النبطية .
ولفظ ( كوبا ) الآرامي = الكوب ، وهو لفظ عربي ، وهذا يعني أن اللغة الآرامية والنبطية مرتبطة باللغة الاشتقاقية التي بقيت في لغة العرب التي نزل بها القرآن .
يقول الدكتور محمد بهجت قبيسي في كتابه ( ملامح فقه اللهجات العروبيات / ص : 344 ) ـ ضمن فقرة (( أهم ملامح اللهجة العربية الآرامية ) : (( عَرَفت اللاحقة الألف كأداة تعريف ؛ مثل ( حرستا) بمعنى ( الحارسة ) ، وقاديشا ، بمعنى القادوس : التقديس ) ) .
ولعلك إن استغربت وضع ( أل ) التعريف الذي جاء ألفًا لاحقة للاسم ، فإنك لا تستغرب أن بعض العرب يجعل ( ام ) بدل ( ال ) ، وفي هذه اللهجة جاء الحديث المشهور ( ليس أم بر أم صيام في أم سفر ) ، وأصله في الصحيح بلفظ ( ليس من البر الصيام في السفر ) (3) ، وهذه اللهجة لا زالت يُتحدَّث بها في بعض قبائل جنوب الجزيرة العربية ، فإذا كان هناك أكثر من صيغة لأل التعريف ، فلا تستبعد أن تكون تلك من الصيغ التاريخية لهذه اللغة ، لكنها ماتت ، فلا تُستعمل ، وبقيت آثارها شاهدة عليها .
وإذا كانت هذه الآرامية لغة المسيح ، وقد قال : ( الوي الوي لم شبقتني ) ، وهي بعربيتنا اليوم ( إلهي إلهي لم سبقتني ) ، وفي ( إنجيل متى 27 ): (( إيلي إيلي لم شبقتني (( أي : إلهي إلهي لماذا تركتني )) )) التفسير التطبيقي للكتاب المقدس : 1968 ، وينظر تحليل عميق قوي لهذه العبارة في كتاب ( العلم الأعجمي في القرآن ) ، للأستاذ رؤوف أبو سعدة ( 2 : 283 ـ 285 ) .
أقول : إذا كانت هذه لغته ، وهي لغة عربية قديمة قبل لغة القرآن ، أفلا يجوز أن تقول : إن اللغة التي تحدث بها عيسى عليه السلام منحدرة من تلك اللغة الاشتقاقية ، وهي مرحلة من مراحل تلك اللغة التي وصلت إلى ما وصلت إليه من لغة القرآن .
يذكر الدكتور محمد بهجت قبيسي ( ص : 344 ) أن كلمات اللغة الآرامية ومفرداتها بجذورها حافظت عليها العربية العدنانية نحو ( 2 ، 86 % ) من كلماتها .
ولنرجع إلى قوله تعالى : ( ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) ، لقد قالها عيسى أمامهم ، وسمعوا هذا الاسم ، وعرفوا معناه ؛ لأنه من لغتهم ، والذي يدل على معرفتهم بمعناه دقَّة ترجمة المترجم من الآرامية إلى اليونانية ، حيث ترجمها إلى ( برقليطس= periqlytes) ، وبعضهم يحذف لاحقة التذكير اليونانية ، فيقول: ( برقليط ) أو ( فرقليط ) ، أو (الفارقليط ) كلها بمعنى واحد ، لكنك ـــ مع الأسف ـــ لا تجد هذه الكلمة في الطبعات العربية ، وإنما تجد في بعضها ( المُعَزِّي ) ، وفي بعضها ( المعين ) ، وقد جاء في ( التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ص : 2226) : (( وعندما يأتي المعين الذي سأرسله لكم من عند الأب ، روح الحق الذي ينبثق من الأب ، فهو يشهد لي ، وتشهدون لي أنتم أيضًا ؛ لأنكم معي منذ البداية )) .
يقول البروفسور عبد الأحد داود في كتابه النفيس ( محمد صلى الله عليه وسلم كما في كتاب اليهود والنصارى/ ص : 197 ، 198 ) : (( إن كلمة ( برقليطوس ) تعني من الناحية اللغوية البحته : ( الأمجد والأشهر والمستحق للمديح ) ...والاسم مركب من مقطعين :
الأول : peri ، الثاني : kleitos، ويكتب ( periqlytos) أو ( perqleitos) مما يعني تمامًا اسم أحمد باللغة العربية ؛ أي : أكثر ثناءً وحمدًا ، ولنا أن نتساءل ما هي الكلمة الأصلية التي استخدمها المسيح بلغته العبرية أو الآرامية ... ومن المدهش أن الوحي قد ميز بين صيغة أفعل التفضيل من غيرها ؛ أي ( أحمد ) من ( محمد ) ، ومن المدهش أيضًا أن هذا الاسم الفريد لم يُعط لأحد من قبل إذ حُجِز بصورة معجزة لخاتم الأنبياء والرسل وأجدرهم بالحمد والثناء ، ذلك أن اسم ( برقليطوس ) لم يُطلق على أي يوناني قط ، كما أن اسم أحمد لم يُطلق على أي عربي قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم )) .
وأقف هنا لئلا يطول الموضوع ، فيملَّ ، ويخرج عن المقصود ، وأعود فأختصرة الفكرة التي وصلت إليها فأقول :
إنَّ اللغة الأم التي تكلم بها آدم عليه السلام في السماء ، ونزل بها إلى الأرض لغة تتميز بما يأتي :
1 ـ الاشتقاق ( بنوعيه ) الذي جعلها تتولد وتتنامى كما يتوالد الناس ، ويقع فيها ولادة وموت وبعث ، وما يستعمل في قوم قد يستعمل بمعنى آخر في آخرين ، وما يموت عند قوم يبقى معروفًا عند آخرين .
2 ـ هذه اللغة تمتلك ثمانية وعشرين حرفًا أصليًّا ، وهي التي بقيت في لغة العرب ، ونزل بها القرآن ، وأما أخوات اللغة العربية المعيارية من اللغات العربية القديمة ، فإنها كلما ابتعدت عن موطنها الأصلي ( جزيرة العرب ) بدأت تفقد شيئًا من خصائصها ، وكلما ابتعد قوم وانعزلوا على مرِّ السنين ابتعد لحنهم عن اللغة الاشتقاقية الأم ، فتولدت عندهم لغات جديدة بعيدة عن اللغة الأم إلا من بقايا كلمات هنا وهناك .
3 ـ صارت منطقة العراق والشام ومصر منطقة صراع حضاري ، فيأتيها من كان هاجر بعيدًا فابتعدت لغته عن اللغة الاشتقاقية الأم ، ويأتي أصحاب هذه اللغة الاشتقاقية ، ويقع صراع والغالب يحكم بلغته ، وكانت الغلبة في كثير من الأحيان للعرب الخارجين من جزيرتهم العربية ، وقد ذكر المؤرخون لهم خمس هجرات عربية كبرى ، آخرها ما قام به الصحابة رضي الله عنهم من فتح بلاد فارس والروم .
4 ـ في منطقة الصراع هذه بقيت ملامح اللغة الأم ، وصار الأمر في لغة هذه المناطق على مرِّ العصور تعمد إلى القلب والإبدال بين بعض الحروف ، والتبديل الصوتي لبعض الحروف ، وصيغة الكلمة ، وبقاء حروف المد او حذفها ، وإشباع الحركات فيتولد منها أحرف مد ... الخ من القضايا اللغوية التي تُعرف من القراءة في كتب فقه اللغات القديمة .
.......................................
(1) ينظر عن السامية في هذا الملتقى :
-http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=3741] نعم .. مصطلح السامية فرضية خرافية .[/url]
- http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=3736]فرضيّةُ (الشعوب الساميّة، واللغات الساميّة) فرضيّةٌ خرافيةٌ لا أصل لها .[/url]
(2) ينظر تحليل بعض الأسماء في مقالات (المعرب ) السابقة :
- نظرات في المعرَّب ( الطور ) (1)
- نظرات في المعرب ( موسى عليه السلام في مدين ) (2)
- (نظرات في المعرَّب ) عربية في بيت فرعون (3).
- (نظرات في المُعرَّب) آدم في السماء (4)
- (نظرات في المعرب) العبرانيون وإبراهيم العبراني (5)
(3) قال الكتاني في نظم المتناثر : ( وفي رواية لأحمد من حديث كعب بن عاصم المتقدم ( ليس من أم بر أم صيام في أم سفر ) وهذه لغة لبعض أهل اليمن يجعلون لام التعريف ميما ، فيحتمل أنه عليه السلام خاطب بها هذا الأشعري ؛ لأنها لغته ، ويحتمل أن يكون الأشعري نطق بها على ما أَلِف من لغته ، فحُمِلَت عنه على ما نطق به . قال ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي : وهذا الثاني أوجه عندي ، والله أعلم ) .
تنبيه : قرأ أخي الفاضل عبد الرحمن الشهري هذا المقال قبل طرحه ، وأضاف هذه الفائدة ، فقال : (بخصوص لغة عيسى عليه السلام لو أشرت في الحاشية - لمن أراد التوسع - إلى ما كتبه الدكتور عبدالعزيز شهبر في بحثه (لغة المسيح عيسى بن مريم ورسالته» ضمن كتاب (لغات الرسال وأصول الرسالات» من ص 105-155 ، ولعله يتحفنا بشيء من مضمون هذه الصفحات ، فالكتاب ليس عندي .