عمر المقبل
New member
- إنضم
- 06/07/2003
- المشاركات
- 805
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
54 وقفة مع الجزء الثاني عشر
1.كثر الأمر بالاستغفار في هذه السورة، فقد تكرر الأمر به أربع مرات على ألسنة رسله، وأول هذه الأوامر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، مع ذكر ثمرة الاستغفار: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] وفي قصة هود: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52] وفي قصة نبي الله صالح: { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 61]، وفي قصة شعيب: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90] فاللهم أعنا على استغفارك باللسان والقلب.
2.في هذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] إشارة إلى أنه لا توجد مخلوقات أخرى تعيش في الكواكب الأخرى، ووجه ذلك: أن الآية سيقت مساق الثناء على الله تعالى برزقه، وعلمه، جل جلاله.
3.معيار قبول العمل عند الله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] ولم يقل: أكثر عملاً.
4.هذا هو الموضع الوحيد الذي قيل فيه: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 11] وهو وثيق الصلة بموضوع سورة هود، والذي يتضح من خلال قراءة الكلمات المرفقات.
5.في نظري أن مقصد سورة هود، ومحورها الأكبر يدور على هذه الآية: { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [هود: 12].
6.آية أبكت جمعاً من السلف الصالح: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [هود: 15، 16].
7.هذه الجملة: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } [هود: 27] يرددها اليوم بعض المنافقين بصورة مختلفة، للطعن في المنهج والشريعة.
8.ليس من وظيفة الداعية تحديد مواعيد العقوبات ونحوها، وإنما عليهم البلاغ، وإيضاح الحجة: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود: 32، 33].
9.ليس من شأن الدعاة أن يسخروا بأحد، لكن هذه الآية خرجت مخرج المقابلة لذات الفعل، لا من حيث الابتداء: { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38].
10.ما أحوجنا إلى بقاء الروابط الاجتماعية مع أقاربنا من النسب، وإن اختلفوا معنا في الطريق؛ لعل هذا التواصل ينفع في وصول كلمة حق يوماً من الدهر، تأمل مقولة نوح لابنه – وهو في مقام الهلاك -: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42] ولم يقل: يا فاجر! يا كافر!.
11.ما أعظم عواطف الوالدين! {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45].
12.مهما بلغت العواطف عند الوالدين، ومنهم الأنبياء، لكنّ أمر الله في نفوسهم فوق هذا كلّه، تأمل في عتاب الله لنوح، ثم جواب نوح: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 46، 47].
13.ذكر تفاصيل قصص الأمم السابقة أحد براهين نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ } [هود: 49].
14.وصية للدعاة، وتأمل مجيئها تعقيباً على قصة نوح – الذي عاش 950 سنة -: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
15.هذه هي آية نبي الله هود التي تحدى بها قومه: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 55] وهو وحيد، وهم جماعة أقوياء الأبدان، ومع ذلك ما استطاعوا أن يصنعوا شيئاً، وكان من أعظم ما قوّى به قوله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
16.من الأدلة على أن تكذيب نبي واحدٍ هو تكذيب لجميع الرسل: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ } [هود: 59] مع أننا لا نعلم أنه أرسل لهم غير هود عليه السلام.
17.من نعمة الله على الداعية أن تكون له عشيرة تنصره وتؤويه ولو كانوا على غير دينه – من باب العصبية القبلية – تأمل : {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [هود: 91] ومن هذا الباب ما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب.
18.هذه نهاية السير خلف الطغاة: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98].
19.وهذه عاقبة عبادة المعبودات من دون الله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101].
20.سنة إلهية: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
21.لا ينتفع بالقصص القرآني إلا من خاف عذاب الآخرة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود: 103].
22.دخل في هذه الآية: الملائكة والرسل فضلاً عمن دونهم: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105].
23.قاعدة قرآنية: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112].
24.مرّ بي أن الحسن البصري قال: الدين بين لاءين: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } [هود: 112، 113] فلا غلو ولا شطط.
25.قاعدة قرآنية: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
26.سلوة للباذلين للذين لا يلتفت إليهم أحدٌ أو لا يشكرهم أحد: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115].
27.النهي عن الفساد في الأرض من مهام خواص الصالحين: { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ } [هود: 116].
28.الترف بوابة واسعة على الظلم والفساد: { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود: 116].
29.قاعدة قرآنية، وسنة إلهية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [هود: 117] ولم يقل: صالحون.
30.ما بال بعض الناس يريد مصادمة هذه السنة: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] حين يريد أن يكون الناس على وتيرة واحدة؟! فالعقل هو توظيف هذه السنة الإلهية في الدعوة إلى الله تعالى، وفي فقه التعايش مع المخالفين، والمرجع في ذلك: هو التفسير العملي التطبيقي من نبينا صلى الله عليه وسلم.
31.من مقاصد القصص القرآني: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] فيا كلّ محتار! أو قَلِقٍ! إذا حصل عندك تردد، فارجع إلى قصصهم، وتأملها، وأنت تستشفي بها من داء التردد والشك والحيرة، وأبشر.
32.هذه الآية: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] يفهم منها بعض الناس أن قصة يوسف صلى الله عليه وسلم أحسن قصة في القرآن، وفي هذا نظر، فقصة موسى – وهو أفضل منه – أحسن منها، وإنما المراد – والله أعلم – أن أحسن سياق لهذه القصة (قصة يوسف) هو ما تراه في هذه القصة التي قصّها الله عليك.
33.في استماع يعقوب لرؤيا ابنه يوسف دلالات، منها: أن العلاقة بين يعقوب وابنه كانت مبنية على المحبة والثقة، وإلا لما تجرأ يوسف على عرض رؤياه على أبيه، ومن الدلالات: الاهتمام برؤى الأطفال، وعدم الإهمال.
34.ما دام الشيطان حيّاً فلن يستنكف من إيقاع النزاع بين بني آدم، ولو كانوا آباء رجل واحد: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5].
35.من الجيد أن يسمع الطفل من والده شيئاً من النعم الدينية والاجتماعية؛ ليتربى على الشكر: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } [يوسف: 6].
36.{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9] هكذا الشيطان، يغري ابن آدم بالمعصية، ويوسّع له أبواب الرجاء والتوبة لاحقاً.
37.اللعب واللهو شيء فطر عليه الأطفال، لا فرق بين أبناء الأنبياء وغيرهم: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [يوسف: 12].
38.هذا أول مواضع الابتلاء التي ذكرت في هذه السورة في حقّ يعقوب صلى الله عليه وسلم، وتأمل في لغته وهو يخاطب أبناءه – مع عظيم الفجيعة في حقه -:{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] وفي هذا درس للآباء المعددين في طريقة الخطاب عند وقوع أمثال هذه المشاكل، إذْ الخطأ في لغة الخطاب، قد تزيد في الشقاق، وتوسيع دائرة الفرق بين الأب وبقية أبنائه.
39.من المواضع المدهشة في هذه السورة، أن تتحدث الآيات عن بشائر التمكين ويوسف بيع كما يباع العبيد، تأمل: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 21].
40.في التعقيب على قصة بيع يوسف صلى الله عليه وسلم كما يباع العبيد بقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [يوسف: 21] ما يبعث الطمأنينة في النفس حين يقع القضاء، وينفذ القدر، وإذا ضممت إلى هذه الآية تلك القاعدة القرآنية المحكمة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] تبين لك أن خيرة الله لعبده المؤمن خير من خيرته لنفسه.
41.وصف يوسف في هذه السورة بالإحسان في عدة مواضع:
أولها: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22].
والثاني: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36].
والثالث: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56].
والرابع: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78].
والخامس – وقد عبر عنه يوسف بضمير الغيبة خشية تزكية نفسه -: {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
وهي رسالة للدعاة الذين يريدون نفعاً وتأثيراً، أن يسعوا للإحسان إلى عباد الله تعالى، فذلك من أعظم دواعي قبول ما يدعو إليه الداعية.
42. الإخلاص، سبب من أسباب النجاة من وحل الفواحش: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف: 24] وقد هدى الله أحد الشباب من مستنقع الفواحش بسبب تدبره لهذه الآية، إذ قال ت ما مختصره ـ: لو كنتُ مخلصاً لنجاني الله تعالى من الفواحش كما نجّى يوسف عليه السلام.
وهي رسالة لمن يشكو من فتنة البصر والفرج، بتصحيح مسار نيته، وقصده، وسيجد حسن الأثر.
43.من أدلة العمل بالقرائن: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26، 27].
44.حين تقرأ هذه الآية: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف: 31] وتقرأ الحديث الصحيح أن يوسف عليه الصلاة والسلام: "أوتي شطر الحسن" عرفت أنه أوتي من الجمال شيئاً لا يقدر على وصفه، فسبحان الخالق المصوّر.
45.الصالح يختار العذاب الدنيوي إذا خير بين العذاب الدنيوي أو يعضي الله تعالى! {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] ولكن لا يختار هذا الأمر إلا من صدقت سريرته مع الله، وإلا فقد يكون السجن فتنة أخرى له، فيا هذا: "تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
46.في قول يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [يوسف: 33] فائدتان: التوكل على الله في الهرب من المعصية، وأن الوقوع في المعصية جهلٌ، وهذا مطابق لما تقدم في سورة النساء: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } [النساء: 17].
47.إذا أعجبتك نفسك بما معك من العلم، فتذكر هذا الهدي القرآني الذي ذكره الله تعالى عن يوسف حين أراد تعبير الرؤيا: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37]، ثم انظر وضّح ذلك أتمّ البيان حين قال: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38].
48.إذا أذن الله بشيء هيّأ أسبابه، فلما أذن الله بخروج يوسف قدّر أن يرى الملك رؤياه التي ما زادت يوسف إلا عزاً ورفعة إلى رفعته: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ ... } [يوسف: 43].
49.وفي رؤيا الملك ومن قبله صاحبا يوسف في السجن، ما يدل على اعتبار رؤيا الفساد والسجون والكفر، وأنها قد تكون حقّاً: وعلى هذا بوّب البخاري في صحيحه فقال: "باب رؤيا أهل السجون والفساد والشرك".
50.كان عند الملك من العقل أنه لم يخض في تأويل الرؤيا؛ لأنه ليس من أهل هذا الشأن: { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]، وبعض الناس اليوم يتاسبق لذلك، والله أعلم بما في الصدور.
وفي مقابل ذلك، كان الملأ عجالى حين استعجلوا في الحكم على هذه الرؤيا العظيمة بأنها أضغاث أحلام، مع أنها كانت سبباً لإنقاذ بلادهم من كارثة اقتصادية.
51.{ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] وفي تسمية الله تعبير الرؤيا فتوى، دليلٌ على أنه لا يجوز الخوض في تعبيرها إلا بعلم، وقد ورد تسميتها في سورة يوسف (فتوى) في أكثر من موضع.
52.إن قيل: إن الرؤيا لم تتعرض إلا لـ(14) سنة فقط، فمن أين أتى يوسف بالسنة الـ(15) التي دلّ عليها قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [يوسف: 49]؟ والجواب: أن هذا أخذه من فحوى الرؤيا، فإنه إذا تمت سنوات الشدة السبع ـ وهي السبع الثانية ـ دلّ على رجوع سنوات الرخاء إلى حالتها الأولى.
53.حتى أعداؤك وخصومك سيتعرفون يوماً من الدهر بصدقك، المهم الثبات لحظة الامتحان: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51].
54.من خصائص النفس البشرية: { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، وفي ختم هذه الآية بقوله: { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [يوسف: 53] إشارة إلى سعة عفو الله ورحمته عما يقع من حديث النفس، وتسويل المعاصي.
والله أعلم وأحكم.
كلمات في علوم سورة هود
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، أما بعد:فهذه كلمات مختصرة في علوم سورة هود، وغني عن القول أن الحديث في هذه الأحرف إنما القصد منه المذاكرة وتقريب معاني السورة، فخرجت بهذه الصورة الميسرة، وإلا فالعنوان (علوم سورة هود) كبير جداً، ويستحق أن يفرد بمجلدٍ كبير ، فقد ظهر لي وأنا أحضر لهذه للكلمات من عدة كتب مع التأمل والمذاكرة أن فيها من الهدايات والدلالات شيء كبير وعظيم يجل عن الوصف، وهكذا هو كتاب الله يظهر لمن تدبره وتأمل في معانيه الشيء الكثير، خاصة إذا اطمأن طالب العلم إلى مقصد السورة ومحورها الأساس الذي يغلب على الظن أن السورة تدور عليه، فهذا له لذة يجدها من عاناها، والله المستعان.
كتبت في 17/رمضان/1431هـ
ـــــــــــــــــــــــــ
كلمات مختصرة في علوم سورة هود
ـ فضلها: ورد فيها الحديث المشهور من طريق ابن عباس وغيره ، ولكن كل طرقه مراسيل وجزم الدارقطني بضعفها كلها.
وثمة رؤيا رواها البيهقي في شعب الإيمان (4/82) فقال: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ السَّرِيَّ، يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ج فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! رُوِيَ عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: " شَيَّبَتْنِي هُودٌ " قَالَ: " نَعَمْ " فَقُلْتُ: مَا الَّذِي شَيَّبَكَ مِنْهُ قَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَهَلَاكُ الْأُمَمِ ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ قَوْلُهُ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}.
ـ ظروف نزول السورة: يبدو ـ والله أعلم ـ أن هذه السورة نزلت في ظروف صعبة وقاسية كان النبي ج يمر بها هو وأصحابه، ويقال: إن نزولها كان بعد وفاة خديجة وعمه أبي طالب! والله أعلم بهذه المعلومة الأخيرة، لكن المقطوع به أن نزولها كان لمعالجة حال صعبة وشدة كان يعانيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبرهان هذا هو المحور الذي أرى أن السورة كلها قامت عليه.
قال ابن عاشور : ـ في التحرير والتنوير (11/197) ـ :
"نزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف، وقد عُدّتْ الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور، ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة يونس؛ لأن التحدي فيها وقع بعشر سور وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة ... إلى أن قال في (11/218) :
فقال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان التحدي أول الأمر بأن يأتوا بعشر سور مثل القرآن. وهو ما وقع في سورة هود، ثم نسخ بأن يأتوا بسورة واحدة كما وقع في سورة البقرة وسورة يونس، فتخطى أصحاب هذا القول إلى أن قالوا إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس، وهو الذي يعتمد عليه.
وقال المبرد: تحداهم أولا بسورة ثم تحداهم هنا بعشر سور لأنهم قد وسع عليهم هنا بالاكتفاء بسور مفتريات فلما وسع عليهم في صفتها أكثر عليهم عددها، وما وقع من التحدي بسورة اعتبر فيه مماثلتها لسور القرآن في كمال المعاني، وليس بالقوي.
إلى أن قال في (11/352) :
والإشارة من قوله: {في هذه} قيل إلى السورة وروي عن ابن عباس، فيقتضي أن هذه السورة كانت أوفى بأنباء الرسل من السور النازلة قبلها وبهذا يجري على قول من يقول: إنها نزلت قبل سورة يونس، والأظهر أن تكون الإشارة إلى الآية التي قبلها وهي: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض} - إلى قوله -: {من الجنة والناس أجمعين}فتكون هذه الآيات الثلاث أول ما نزل في شأن النهي عن المنكر" انتهى.
ـ مقصد السورة ومحورها كلها ـ والعلم عند الله ـ يدور على قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود : 12] = تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت قلبه.
وبراهين هذا، لعلي أوضحها فيما يلي باختصار:
1.في الآيات التي قبلها تنويه واضح بعظمة هذا الوحي الذي أوحاه الله تعالى إلى هذا النبي العظيم، من إحكام وإتقان ، فكيف يقع في قلبك فتور عن الاحتفاء به والدعوة إليه، وهو بهذه المثابة؟ وتلا هذه الآية ـ التي يمكن أن نسميها آية المحور ـ تحدٍّ للمشركين أن يأتوا بعشر سور فقط من مثل سور هذا القرآن.
2.تحدث صدر السورة عن سعة علم الله تعالى، وأنه المتولي لشؤون خلقه، وكأن هذه تقول: إن ما يدور في مكة من كيد لك ولأصحابك، وما تعانيه من همٍّ لا يخفى على الله تعالى، والذي دبّر شؤون الحشرات الصغيرة والدويبات الضعيفة، فلن يترك خيرة الرسل وصفوة الخلق ج ومن معه وهم يبلغون رسالات الله وينصرون دينه.
3.المقولات التي قالها أعداؤك لك من سحر وتكذيب ليست جديدة، وستسمع في ثنايا السورة أنواع من الأذى اللفظي والمعنوي الذي لحق بإخوانك من الرسل.
4.الموضع الوحيد الذي ورد في القرآن الكريم بالثناء على من جمعوا بين الصبر والعمل الصالح هو في سورة هود، بل وفُرّع عليها محور السورة ، فقال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ ...}
5.ثم يأتي تثبيت بأسلوب آخر على طريقة الاستفهام التقريري: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [هود : 17].
6.ثم يأتي بعد ذلك الحديث عن هوان أعدائه على الله، ولكن لحكمة بالغة يستدرجون ويمهلون: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}.
7.ثم ينتقل الحديث لبيان عاقبة المتبعين له، وأن حال من استجاب لك وأعرض عنك كحال الأعمى والأصم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.
8.ثم ينتقل الحديث ـ وهذا لب السورة ـ إلى نماذج من سير إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لكن سياق القصص هنا يختلف عن سياقها في أي سورة من القرآن ، وبيان ذلك كما يلي:
ـ لم تفصل قصة نوح كما فصّلت هنا حتى في سورة نوح نفسها، ونلاحظ في هذه القصة في سورة ود التنبيه إلى أمور:
&إبراز مقولة الملأ: { ما نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود : 27].
&التنصيص على كلمة بينة ، ففي الأعراف مع بسط القصص فيها لم تذكر كلمة (بينة) إلا مرتين، بينما في هود خمس مرات (أفمن كان على بينة) + قصة نوح ، هود (ما جئتنا ببينة)، صالح ، شعيب!
&التنبيه على مسألة الافتراء والكذب: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [هود : 35].
&وما آمن معه إلا قليل مع طول المدة التي قضاها في الدعوة ، ألف سنة إلا خمسين عاماً!
&كفر ابنه به هو رسالة تقول: استعد فقد تجد من أهل بيتك من يناصبك العداء.
&ختم قصة نوح بقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[هود : 49]
10.أما إذا انتقلت إلى قصة هود صلى الله عليه وسلم ، فإنك ستجد فيها ما يقوي ارتباطها بمحور السورة وذلك فيما يلي:
&لفظة البينة كما سبق.
&تهمة الجنون التي قيلت لك قيلت لإخوانك من قبلك : {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } جرياً على سنة الله الماضية: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت : 43].
&قوة التوكل التي أعلنها هود في وجه قومه مع أنه واحدٌ وهم أمة .. وهي رسالة واضحة للنبي صلى الله عليه وسلم : {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
11.أما إذا انتقلت إلى قصة صالح صلى الله عليه وسلم ، فإنك ستجد فيها ما يقوي ارتباطها بمحور السورة وذلك فيما يلي:
&لفظة البينة كما سبق، وهي هنا آية مبصرة يدركها كل أحد ـ وهي الناقة ـ ومع هذا كفروا رغم وضوحها البيّن! فإذا وجدتَ من يكفر بآيتك فلا تعجب فقد كُذّب بما هو أوضح منها، {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء : 59].
&قوله تعالى: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} وهكذا كانت قريش تقول للنبي صلى الله عليه وسلم.
12.أما إذا انتقلت إلى قصة إبراهيم ، فإن ملامح التبشير والفرج فيها أكثر من ملامحها في سورة الذاريات، فيلاحظ المتأمل التركيز في قصة إبراهيم على ما يتعلق ببشارته بولده، فهي وإن بسطت في سورة الذاريات لكنها ههنا بسطت بشكل أكبر، تأمل: المرأة قائمة وبشرت بإسحق، ثم بشرت بيعقوب من بعد إسحاق، جاء هذا بعد سنين من عدم الإنجاب ، يقال إنها تجاوزت المائة في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فبعد الشدة واليأس يأتي الفرج، ففيها إشارة وتسلية للنبي ج أنه مهما امتدت لحظات الشدة، أو انعقدت غيوم اليأس، فبعدها الفرج والخير، ، وفرج الله إذا جاء فلا يقدر أحدٌ على وصف وقعه في النفس.
13.وفي قصة لوط يلاحظ ما يلي :
&مظاهر الإحباط بيّنة جداً ، ولا تجد هذا الظهور فيها كما في سورة الحجر ، تأمل معي : {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ / وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا/ وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}.
&ثم يأتي التطمين الذي يضخ الأمل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم : {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ...} فإذا كان الله معك ، والملائكة معك فمم تخاف؟! والذي حمى لوطاً هو الذي سيحميك.
&ثم إن في ذكر قصة العقاب التي لا يعهد مثلها في الأمم نوعاً من التطمين أيضاً، فإن عقوبة الله إذا جاءت فلا يتصور أحدٌ كيف تأتي!
14.وفي قصة شعيب الأنبياء صلى الله عليه وسلم تلحظ ما يلي :
&لغة الاستهزاء واضحةٌ بينة قد يسمع النبي ج مثلها كثيراً: { يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} ، ومع كونه فصيحاً بلغياً قيل له: { مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}.
&رسالة كأنها تقول للنبي ج اجعلها شعارك، ولا تبال بالنتائج: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} فدورك يا محمد الإصلاح، والدعوة أما النتائج فليست لك.
&ألمح في التنصيص على الرهط معنى يرتبط بالمحور: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} ففيها تذكير له صلى الله عليه وسلم بما سخّر الله له من نصرة عمه وبعض عصبته الذين تعصبوا له وكانوا معه في الشعب ، فهذه نعمة ينبغي أن تكون منك على بال , فكيف تترك الدعوة وقد سخر الله لك أنصاراً على غير ملتك؟!
15. وفي قصة موسى التي ذكرت اختصاراً ، لكن عقب عليها بما له ارتباط واضح بمحور السورة: وذلك في آيتين:
ـ الأولى: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} فمن تأمل هذا التعقيب وجده عظيم الارتباط بالآية التي ذكرتُ أن السورة تدور عليها.
ـ الثانية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} مع أنهم أهل كتاب ، فما ظنك يا محمد بأناس ليس معهم كتاب وهم قومك؟ هم أولى بالاختلاف؟! وأيضاً : هو أوتي تسع آيات بينات ومع هذا لقي ما لقي.
16.وبعد هذا الحشد الكبير من القصص يأتي التعقيب بثلاث رسائل واضحة وصريحة ، متصلة تمام الصلة بمحور السورة، وهي منارات يجب على كل داعية، وكل صاحب مشروع إصلاحي يستقي دعوته الإصلاحية من مشكاة الوحي أن يهتدي بها ويضعها نصب عينيه:
&{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ }.
&{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }.
&{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
17.وخاتمة المطاف يعود إلى الربط بالمحور الأول الذي ذكرناه: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ/ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ/ وَمَوْعِظَةٌ / وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
والله تعالى أعلم بمراده ونعوذ بالله من القول عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم
والحمد لله رب العالمين ...