مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
إن التوغل في التاريخ القديم صعب للغاية ، غير أنَّ هناك إشارات ودلالات يهتدي بها من يريد إثبات قضية ما .
واليوم أطرح لكم شيئًا يتعلق بعروبة إبراهيم عليه السلام ، وأبين لكم نقد النظرية العبرية المزعومة ، فأقول :
لقد عاش إبراهيم حياته الأولى في العراق ، وحصل له ما حصل مع قومه عبدة النجوم والأصنام على السواء ، ثمَّ هاجر عليه السلام من العراق ومع زوجه سارَّة ( لاحظ عروبة هذا الاسم ) ، وابن أخيه لوط ( لاحظ عروبة هذا الاسم ) .
فمن هم قوم إبراهيم عليه السلام ؟
سكن قوم إبراهيم في ( أور : مدينة بالقربة من البصرة الآن ) في جنوب العراق ، وهي منطقة عربية منذ القدم ، قامت إليها هجرات عربية من الجزيرة العربية على مراحل مختلفة الزمن .
وقد ظهر أنبياء في جزيرة العرب قبل إبراهيم ، منهم نوح ، وصالح ، وهود ، وشعيب ، ثمَّ جاءت رسالة إبراهيم بعد ذلك .
فالعرب سابقون لإبراهيم قطعًا ـ فيما لو فُرِضَ أنه ليس بعربي ـ لا يخالف في ذلك إلاَّ مجادل لا يريد الوصول إلى الحق .
ويكاد يجمع مؤرخو الحضارات القديمة اليوم أنَّ الشعوب التي سكنت منطقة العراق والشام ومصر وشمال القارة الإفريقية وساحل البحر الأحمر من جهة أفريقية ، يكادون يجمعون على أنهم شعوب عربية خرجت من جزيرة العرب . ( ينظر على سبيل المثال : دراسات تاريخية لنجمد معروف الدواليبي )
لكنَّ بعضهم ـ مع الأسف ـ يستخدم مصطلح ( السامية ) للدلالة على تلك الشعوب ، ويجعل العرب قسمًا منهم ، وهذا منه مكابرة وبعدٌ عن الحقِّ .
ومصطلح السامية قد ظهر زيفه وبطلانه بما لا يحتاج إلى كبير إعمال ذهن ، وعلي أطرح نقده في مقال لاحق ( ينظر : نقد النظرية السامية ، ج1 ، أسطورة النظرية السامية : توفيق سليمان ، دار دمشق للطباعة والنشر ، ط 1 ، 1982م ) .
أما الكلدانيون الذين تُنسب إليهم هذه المدينة، فكانت لغتهم الأكادية ( ينظر : معجم الحضارات السامية ، مادة كلدانيون ) .
والأكادية هي أحد اللغات العروبية القديمة التي خرجت من جزيرة العرب مع هؤلاء الكلدانيين الذين استقروا في جنوب العراق اليوم ( ينظر في اللغة الأكادية العربية كتاب : ملامح فقه اللهجات العربيات من الأكادية والكنعانية وحتى السبئية والعدنانية ، للدكتورمحمد بهجت القيسي ) .
تنبيه : هكذا جاءت قراءة الغربيين لهذه المادة ( كلدان ) بالكاف ، ولا يبعد أن تكون مأخوذة من مادة ( خَلَدَ ) ، وليس ( كلد ) ، وأنت على خُبرٍ بأن الغربيين لا ينطقون لفظ الخاء ، بل يبدلونه بحرف الكاف .
وإذا كان من مادة خلد ، فهو واضح العربية بلا ريب ، ويكونون هم الخالديون ، بنو خالد ، الخالدي ، والله أعلم .
ومادة ( كلد ) عربية أيضًا ، وهي تدل على صلابة في الشيء ، ومن اسم الحارث بن كَلَدَة الطبيب العربي المشهور ( ينظر في هذه المادة : مقاييس اللغة لابن فارس ) .
كما أن مادة الأكاديين قد تكون قراءتها الصحيحة ( عكاديين ) من مادة ( عكد ) ، ويرجع ابن فارس أصل هذه المادة إلى التجمع والتراكم . ( ينظر مقاييس اللغة ، مادة : عكد ) .
وأنت على خُبرٍ أيضًا بأنَّ قراء الغرب للغتنا لا ينطقون العين ، بل يُبدلونها ألفًا .
أما ( أكد ) في لغة العرب ، فالهمزة منقلبة من الواو ، كما ذكر ابن فارس في مقاييس اللغة ، مادة ( أكد ) .
تنبيه : قد يخطر ببالك استفسار ؛ هذا نصُّه :
لِمَ جعلت اللغة العربية المدونة أصلاً في فهم تلك اللغات العروبية القديمة ؟
وهذا سؤال مهم جدًّا ، ولعلي آتي على شيء منه في مقالة مستقلَّة أبين فيها بعض ظواهر اللغة العربية كالاشتقاق ، والقلب والبدل وغيرها من الظواهر ، وأنها طريق إلى فهم معاني تلك الكلمات التي في اللغات العروبية القديمة ، التي قد يكون مات فيها أصل الكلمة أو معناها ، وانظر على سبيل المثال تفسير ( وفومها ) عند الفراء في معانيه ، وعنه الطبري في تفسيره ، والأزهري في تهذيب اللغة .
أعود إلى موضوع المقالة ، وهو عروبة إبراهيم وعبرانيته ، فأقول :
1 ـ إنَّ اسم إبراهيم قد اختلفت في أصله الآراء ، وكثرت في النظر في اشتقاقه ، فمنهم من جعله ( أب رحيم ) ، ومنهم من جعله ( آب رام ؛ أي : أبو العلا ) ، ومنهم من جعله من مادة ( بره ) ، أي صاحب البرهان ... الخ من تحليل لهذا الاسم . ( ينظر في هذا : العلم الأعجمي في القرآن مفسرًا بالقرآن ، لرؤوف أبو سعدة ، ومعرب القرآن عربي أصيل للدكتور جاسر أبو صفية ، ومقالة بعنوان : تأصيل عروبة إبراهيم ، لأحمد نصيف الجنابي ، مجلة الضاد ، بغداد ، ج2: 1409 ـ 1989 ) .
ولكني إلى اليوم لم أصل إلى ما تطمئن إليه نفسي من أصل اشتقاق هذا الاسم العربي ، أما من له صلة قرابة بإبراهيم ( آزر ، إسماعيل ، إسحاق ، يعقوب ، سارة ، هاجر ، لوط ) فإني سآتي ـ إن شاء الله ـ على بيان عروبتهم .
2 ـ هل كان إبراهيم عبرانيًّا ؟
لقد خرج إبراهيم بمن معه من لعراق ، ثمَّ اتَّجه إلى الشام ، فأين كان مسكنه ؟
الذي يظهر من سيرته أنه سكن بادية الشام ، وأنه كان صاحب بقر ؛ لأنه جاء بعجل حنيذ لأضيافه ، ولأنه كان ساكنًا في بادية الشام ، وكان عابرًا إليها من العراق سُمِّي ( إبرام العبراني ) .
فأصل الكلمة عربيٌ صحيح ، مأخوذ من مادة (عبر) التي تدلُّ على الانتقال من مكان إلى مكان كما هو حال إبراهيم عليه السلام الذي عبر من (أور الكلدانيين ) إلى بادية الشام .
ويظهر أنَّ العبراني ـ آنذاك ـ كانت له إطلاقات ، منها :
1 ـ أنها تُطلق على الذي يعبر إلى شيء كما هو أصل دلالة اللفظة ، وكذا كان حال إبراهيم حيث عبر إلى بادية الشام .
2 ـ أنه ساكن البادية ، وكذا كان حال إبراهيم عليه السلام ، حيث استقرَّ ببادية الشام ، وكان يتنقَّل إلى ما جاورها من المدن طلبًا للتجارة ، كما ذهب إلى مصر في رحلته المعروفة .
والذي يدلُّ على ذلك ما ورد في سورة يوسف لما جاء بأبويه إلى مصر ، قال تعالى : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف:100) ، فإبراهيم وذريته ( إسحاق وابن يعقوب وأبناء يعقوب ) كانوا في البادية كما هو نصُّ الآية ( وجاء بكم من البدو ) .
ولا يلزم من كونهم كانوا في البادية عيب أو نقيصة ، بل تلك كانت مشيئة الله لهم ، والله يفعل ما يشاء لا معقِّب لحكمه .
وكما أنَّ بداوتهم ليس فيها نقيصة ، فليس على إبراهيم أبي الأنبياء من نقيصة من كونه لم يؤمن به في وقته كثيرٌ ، بل لم يُذكر أنه آمن به ـ وهو من هو في الفضل من بين الأنبياء ـ سوى زوجه وهاجر وأبنائه منهما ولوط .
ومن هذا تعرف أنَّ الوصف بالعبرانية لا يعني قومية معينة ، ولا لغة مستقلة محددة مطلقًا ، بل هو وصف لحال إبراهيم من بين الشعوب التي نزل بجوارها .
3 ـ إذا كان هذا الوصف هو لحال إبراهيم عليه السلام ، فإنه يُعلم أنَّ هذا الوصف قد بقي في أحفاده من نسل إسحاق من بعده ، فهم عبروا أيضًا إلى مصر ، وهم بهذا يُسمون بالعبرانيين لأجل هذه الدلالة الوصفية فحسب .
4 ـ وإذا رجعنا إلى لغة إبراهيم عليه السلام ، فإننا لن نجدها لغة مستقلَّة مغايرة مغايرةً تامةً لغة سكان الشام آنذاك ، ومما يستأنس به في هذا أنَّ الله سبحانه وتعالى أرسل لوطًا إلى قرى سدوم وعمورة وغيرها ، ولو لم يكن يعرف لسانهم لما صَلُحَ لأن يبعث لهم ، والله تعالى يقول : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم:4) ، فدلَّ هذا على أنَّ لسان لوط ولسان من أُرسِل إليهم واحدٌ ، وهو اللسان الذي يتكلم به أصحاب هذه المنطقة في عراقهم وشامهم ومصرهم وجزيرتهم العربية كما هو الحال اليوم في توحًّدِ اللغة .
5 ـ وُلِدَ لإبراهيم ولدان : إسماعيل ، وقد سكن مع أمه هاجر المصرية ( لاحظ عربية اسمها ) في مكة ، وسيأتي إن شاء الله حديثًا عنها .
ثمَّ وُلِدَ له ابن إسحاق الذي بقي عنده في بادية الشام ، ووُلِدَ لإسحاق يعقوب ، ووُلِدَ ليعقوب بنوه الاثنا عشر ، ومكث هؤلاء في البلدية كما هو نصُّ الآية السالفة ، وكانت لغتهم بلا ريب هي لغة أبيهم يعقوب ، وجدهم إسحاق ، وجد أبيهم إبراهيم ، ولم تكن لهم لغة خاصة مستقلة البتة .
ثمَّ نزلوا إلى مصر ، وسكنوا فيها فعاشروا الناس وخالطوهم إلى عهد موسى عليه السلام ( بين يوسف وموسى نحو أربعمائة سنة ونيف كما في أسفارهم ) ، فهل يا تُرى بقوا على لغة آبائهم التي دخلوا بها ولم يتأثَّروا بلغة المصريين ؟!
إنَّ الذي يظهر لي أنَّ العبرية وصف لهم من جهة القومية لا اللغة بقي ملتصقًا بهم ، ومعناه كما ذكرتُ لك سابقًا ، أما اللغة التي يتحدثون بها فإنما هي بمثابة لهجة من اللهجات العروبية آنذاك ، ولا تخرج عن ذلك القطر العربي الكبير .
فالعبرانيون بمعنى : الذين يعبرون ، أو بمعنى البدو الرُّحَّل هو المعنى المراد بهم ، لكن هؤلاء أوتوا القدرة على تبديل وتحريف الأشياء ، كيف لا ، وقد حرَّفوا كلام الله وشرعه ، فانطلى على كثيرين أن لهم لغة مستقلَّة ، وأنَّ لها حروفًا خاصًّة ، ورسمًا خاصًا ، وليس الأمر كذلك ، فهم من بيئة عربية لم يخرجوا منها ، وإنما الأمر يرجع إلى تقادم عهدهم عن اللغة العربية المعيارية التي نزل بها القرآن .
وقد تقول : إنَّه ورد في البخاري في وصف ورقة بن نوفل : ( وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ) .
فأقول لك : نعم هو كتاب عبراني ، وله رسمه الخاصُّ لكنه لم يكن خاصًّا بهم فقط ، بل هم استفادوه من غيرهم ، وهو لا يخرج عن اللغات العروبية ولا الرسم المتعارف عليه عندهم . وهذا مبحث يحتاج إلى مزيد بسط ليس هذا محلُّه ، وهو يتعلق باللغات التي جاء النصُّ عليها في كتبهم ، كما يتعلق بالوقت الذي دُوِّنت فيه هذه الكتب ، ونوع اللغة ( اللهجة العروبية ) التي كانوا يتحدثونها آنذاك ، ونوع الرسم الذي رُسِمت به ، وذلك ما لم يكن خاصًّا بهم كما سيظهر إن شاء الله في بحث هذه الجزئية بحثًا مستقلاًّ .
وللحديث بقية .
واليوم أطرح لكم شيئًا يتعلق بعروبة إبراهيم عليه السلام ، وأبين لكم نقد النظرية العبرية المزعومة ، فأقول :
لقد عاش إبراهيم حياته الأولى في العراق ، وحصل له ما حصل مع قومه عبدة النجوم والأصنام على السواء ، ثمَّ هاجر عليه السلام من العراق ومع زوجه سارَّة ( لاحظ عروبة هذا الاسم ) ، وابن أخيه لوط ( لاحظ عروبة هذا الاسم ) .
فمن هم قوم إبراهيم عليه السلام ؟
سكن قوم إبراهيم في ( أور : مدينة بالقربة من البصرة الآن ) في جنوب العراق ، وهي منطقة عربية منذ القدم ، قامت إليها هجرات عربية من الجزيرة العربية على مراحل مختلفة الزمن .
وقد ظهر أنبياء في جزيرة العرب قبل إبراهيم ، منهم نوح ، وصالح ، وهود ، وشعيب ، ثمَّ جاءت رسالة إبراهيم بعد ذلك .
فالعرب سابقون لإبراهيم قطعًا ـ فيما لو فُرِضَ أنه ليس بعربي ـ لا يخالف في ذلك إلاَّ مجادل لا يريد الوصول إلى الحق .
ويكاد يجمع مؤرخو الحضارات القديمة اليوم أنَّ الشعوب التي سكنت منطقة العراق والشام ومصر وشمال القارة الإفريقية وساحل البحر الأحمر من جهة أفريقية ، يكادون يجمعون على أنهم شعوب عربية خرجت من جزيرة العرب . ( ينظر على سبيل المثال : دراسات تاريخية لنجمد معروف الدواليبي )
لكنَّ بعضهم ـ مع الأسف ـ يستخدم مصطلح ( السامية ) للدلالة على تلك الشعوب ، ويجعل العرب قسمًا منهم ، وهذا منه مكابرة وبعدٌ عن الحقِّ .
ومصطلح السامية قد ظهر زيفه وبطلانه بما لا يحتاج إلى كبير إعمال ذهن ، وعلي أطرح نقده في مقال لاحق ( ينظر : نقد النظرية السامية ، ج1 ، أسطورة النظرية السامية : توفيق سليمان ، دار دمشق للطباعة والنشر ، ط 1 ، 1982م ) .
أما الكلدانيون الذين تُنسب إليهم هذه المدينة، فكانت لغتهم الأكادية ( ينظر : معجم الحضارات السامية ، مادة كلدانيون ) .
والأكادية هي أحد اللغات العروبية القديمة التي خرجت من جزيرة العرب مع هؤلاء الكلدانيين الذين استقروا في جنوب العراق اليوم ( ينظر في اللغة الأكادية العربية كتاب : ملامح فقه اللهجات العربيات من الأكادية والكنعانية وحتى السبئية والعدنانية ، للدكتورمحمد بهجت القيسي ) .
تنبيه : هكذا جاءت قراءة الغربيين لهذه المادة ( كلدان ) بالكاف ، ولا يبعد أن تكون مأخوذة من مادة ( خَلَدَ ) ، وليس ( كلد ) ، وأنت على خُبرٍ بأن الغربيين لا ينطقون لفظ الخاء ، بل يبدلونه بحرف الكاف .
وإذا كان من مادة خلد ، فهو واضح العربية بلا ريب ، ويكونون هم الخالديون ، بنو خالد ، الخالدي ، والله أعلم .
ومادة ( كلد ) عربية أيضًا ، وهي تدل على صلابة في الشيء ، ومن اسم الحارث بن كَلَدَة الطبيب العربي المشهور ( ينظر في هذه المادة : مقاييس اللغة لابن فارس ) .
كما أن مادة الأكاديين قد تكون قراءتها الصحيحة ( عكاديين ) من مادة ( عكد ) ، ويرجع ابن فارس أصل هذه المادة إلى التجمع والتراكم . ( ينظر مقاييس اللغة ، مادة : عكد ) .
وأنت على خُبرٍ أيضًا بأنَّ قراء الغرب للغتنا لا ينطقون العين ، بل يُبدلونها ألفًا .
أما ( أكد ) في لغة العرب ، فالهمزة منقلبة من الواو ، كما ذكر ابن فارس في مقاييس اللغة ، مادة ( أكد ) .
تنبيه : قد يخطر ببالك استفسار ؛ هذا نصُّه :
لِمَ جعلت اللغة العربية المدونة أصلاً في فهم تلك اللغات العروبية القديمة ؟
وهذا سؤال مهم جدًّا ، ولعلي آتي على شيء منه في مقالة مستقلَّة أبين فيها بعض ظواهر اللغة العربية كالاشتقاق ، والقلب والبدل وغيرها من الظواهر ، وأنها طريق إلى فهم معاني تلك الكلمات التي في اللغات العروبية القديمة ، التي قد يكون مات فيها أصل الكلمة أو معناها ، وانظر على سبيل المثال تفسير ( وفومها ) عند الفراء في معانيه ، وعنه الطبري في تفسيره ، والأزهري في تهذيب اللغة .
أعود إلى موضوع المقالة ، وهو عروبة إبراهيم وعبرانيته ، فأقول :
1 ـ إنَّ اسم إبراهيم قد اختلفت في أصله الآراء ، وكثرت في النظر في اشتقاقه ، فمنهم من جعله ( أب رحيم ) ، ومنهم من جعله ( آب رام ؛ أي : أبو العلا ) ، ومنهم من جعله من مادة ( بره ) ، أي صاحب البرهان ... الخ من تحليل لهذا الاسم . ( ينظر في هذا : العلم الأعجمي في القرآن مفسرًا بالقرآن ، لرؤوف أبو سعدة ، ومعرب القرآن عربي أصيل للدكتور جاسر أبو صفية ، ومقالة بعنوان : تأصيل عروبة إبراهيم ، لأحمد نصيف الجنابي ، مجلة الضاد ، بغداد ، ج2: 1409 ـ 1989 ) .
ولكني إلى اليوم لم أصل إلى ما تطمئن إليه نفسي من أصل اشتقاق هذا الاسم العربي ، أما من له صلة قرابة بإبراهيم ( آزر ، إسماعيل ، إسحاق ، يعقوب ، سارة ، هاجر ، لوط ) فإني سآتي ـ إن شاء الله ـ على بيان عروبتهم .
2 ـ هل كان إبراهيم عبرانيًّا ؟
لقد خرج إبراهيم بمن معه من لعراق ، ثمَّ اتَّجه إلى الشام ، فأين كان مسكنه ؟
الذي يظهر من سيرته أنه سكن بادية الشام ، وأنه كان صاحب بقر ؛ لأنه جاء بعجل حنيذ لأضيافه ، ولأنه كان ساكنًا في بادية الشام ، وكان عابرًا إليها من العراق سُمِّي ( إبرام العبراني ) .
فأصل الكلمة عربيٌ صحيح ، مأخوذ من مادة (عبر) التي تدلُّ على الانتقال من مكان إلى مكان كما هو حال إبراهيم عليه السلام الذي عبر من (أور الكلدانيين ) إلى بادية الشام .
ويظهر أنَّ العبراني ـ آنذاك ـ كانت له إطلاقات ، منها :
1 ـ أنها تُطلق على الذي يعبر إلى شيء كما هو أصل دلالة اللفظة ، وكذا كان حال إبراهيم حيث عبر إلى بادية الشام .
2 ـ أنه ساكن البادية ، وكذا كان حال إبراهيم عليه السلام ، حيث استقرَّ ببادية الشام ، وكان يتنقَّل إلى ما جاورها من المدن طلبًا للتجارة ، كما ذهب إلى مصر في رحلته المعروفة .
والذي يدلُّ على ذلك ما ورد في سورة يوسف لما جاء بأبويه إلى مصر ، قال تعالى : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف:100) ، فإبراهيم وذريته ( إسحاق وابن يعقوب وأبناء يعقوب ) كانوا في البادية كما هو نصُّ الآية ( وجاء بكم من البدو ) .
ولا يلزم من كونهم كانوا في البادية عيب أو نقيصة ، بل تلك كانت مشيئة الله لهم ، والله يفعل ما يشاء لا معقِّب لحكمه .
وكما أنَّ بداوتهم ليس فيها نقيصة ، فليس على إبراهيم أبي الأنبياء من نقيصة من كونه لم يؤمن به في وقته كثيرٌ ، بل لم يُذكر أنه آمن به ـ وهو من هو في الفضل من بين الأنبياء ـ سوى زوجه وهاجر وأبنائه منهما ولوط .
ومن هذا تعرف أنَّ الوصف بالعبرانية لا يعني قومية معينة ، ولا لغة مستقلة محددة مطلقًا ، بل هو وصف لحال إبراهيم من بين الشعوب التي نزل بجوارها .
3 ـ إذا كان هذا الوصف هو لحال إبراهيم عليه السلام ، فإنه يُعلم أنَّ هذا الوصف قد بقي في أحفاده من نسل إسحاق من بعده ، فهم عبروا أيضًا إلى مصر ، وهم بهذا يُسمون بالعبرانيين لأجل هذه الدلالة الوصفية فحسب .
4 ـ وإذا رجعنا إلى لغة إبراهيم عليه السلام ، فإننا لن نجدها لغة مستقلَّة مغايرة مغايرةً تامةً لغة سكان الشام آنذاك ، ومما يستأنس به في هذا أنَّ الله سبحانه وتعالى أرسل لوطًا إلى قرى سدوم وعمورة وغيرها ، ولو لم يكن يعرف لسانهم لما صَلُحَ لأن يبعث لهم ، والله تعالى يقول : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم:4) ، فدلَّ هذا على أنَّ لسان لوط ولسان من أُرسِل إليهم واحدٌ ، وهو اللسان الذي يتكلم به أصحاب هذه المنطقة في عراقهم وشامهم ومصرهم وجزيرتهم العربية كما هو الحال اليوم في توحًّدِ اللغة .
5 ـ وُلِدَ لإبراهيم ولدان : إسماعيل ، وقد سكن مع أمه هاجر المصرية ( لاحظ عربية اسمها ) في مكة ، وسيأتي إن شاء الله حديثًا عنها .
ثمَّ وُلِدَ له ابن إسحاق الذي بقي عنده في بادية الشام ، ووُلِدَ لإسحاق يعقوب ، ووُلِدَ ليعقوب بنوه الاثنا عشر ، ومكث هؤلاء في البلدية كما هو نصُّ الآية السالفة ، وكانت لغتهم بلا ريب هي لغة أبيهم يعقوب ، وجدهم إسحاق ، وجد أبيهم إبراهيم ، ولم تكن لهم لغة خاصة مستقلة البتة .
ثمَّ نزلوا إلى مصر ، وسكنوا فيها فعاشروا الناس وخالطوهم إلى عهد موسى عليه السلام ( بين يوسف وموسى نحو أربعمائة سنة ونيف كما في أسفارهم ) ، فهل يا تُرى بقوا على لغة آبائهم التي دخلوا بها ولم يتأثَّروا بلغة المصريين ؟!
إنَّ الذي يظهر لي أنَّ العبرية وصف لهم من جهة القومية لا اللغة بقي ملتصقًا بهم ، ومعناه كما ذكرتُ لك سابقًا ، أما اللغة التي يتحدثون بها فإنما هي بمثابة لهجة من اللهجات العروبية آنذاك ، ولا تخرج عن ذلك القطر العربي الكبير .
فالعبرانيون بمعنى : الذين يعبرون ، أو بمعنى البدو الرُّحَّل هو المعنى المراد بهم ، لكن هؤلاء أوتوا القدرة على تبديل وتحريف الأشياء ، كيف لا ، وقد حرَّفوا كلام الله وشرعه ، فانطلى على كثيرين أن لهم لغة مستقلَّة ، وأنَّ لها حروفًا خاصًّة ، ورسمًا خاصًا ، وليس الأمر كذلك ، فهم من بيئة عربية لم يخرجوا منها ، وإنما الأمر يرجع إلى تقادم عهدهم عن اللغة العربية المعيارية التي نزل بها القرآن .
وقد تقول : إنَّه ورد في البخاري في وصف ورقة بن نوفل : ( وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ) .
فأقول لك : نعم هو كتاب عبراني ، وله رسمه الخاصُّ لكنه لم يكن خاصًّا بهم فقط ، بل هم استفادوه من غيرهم ، وهو لا يخرج عن اللغات العروبية ولا الرسم المتعارف عليه عندهم . وهذا مبحث يحتاج إلى مزيد بسط ليس هذا محلُّه ، وهو يتعلق باللغات التي جاء النصُّ عليها في كتبهم ، كما يتعلق بالوقت الذي دُوِّنت فيه هذه الكتب ، ونوع اللغة ( اللهجة العروبية ) التي كانوا يتحدثونها آنذاك ، ونوع الرسم الذي رُسِمت به ، وذلك ما لم يكن خاصًّا بهم كما سيظهر إن شاء الله في بحث هذه الجزئية بحثًا مستقلاًّ .
وللحديث بقية .