(2) تعريف بكتاب: النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم للشيخ محمد دراز

هشام البوزيدي

فريق إشراف ملتقى الانتصار للقرآن
إنضم
05/01/2013
المشاركات
30
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الكتاب: النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم
المؤلف: محمد بن عبد الله دراز رحمه الله
تقديم: الدكتور عبد العظيم إبراهيم المطعني
الناشر: دار القلم للنشر والتوزيع 1426هـ- 2005م

فصول الكتاب:

- تقديم الأستاذ عبد العظيم المعطني.
- مقدمة المحقق: مع الكاتب والكتاب.
- مقدمة المؤلف للطبعة الثانية.
- مقدمة المؤلف للطبعة الأولى.
- البحث الأول "في تحديد معنى القرآن".
- المعنى اللغوي والاشتقاقي لكلمتي: "قرآن" و"كتاب".
- سر التسمية بالاسمين جميعًا.
- سر اختصاص القرآن بالخلود وعدم التحريف، دون الكتب السابقة.
- هل يمكن تحديد القرآن تحديدًا منطقيًّا؟
- عناصر التعريف المشهور للقرآن.
- البحث الثاني: "في بيان مصدر القرآن".
- تمهيد.
- تحديد الدعوى أخذًا من النصوص القرآنية.
- طرف من سيرته بإزاء القرآن.
- فترة الوحي في حادث الإفك.
- مخالفة القرآن لطبع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعتابه الشديد له في المسائل المباحة.
- توقف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أحيانًا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان.
- موقف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قضية المحاسبة على النيات.
- مسلكه في قضية الحديبية.
- منهجه في كيفية تلقي النص، أول عهده بالوحي.
- طرف من سيرته العامة.


كتاب النبإ العظيم - نظرات جديدة في القرآن يعتبر بحق من أنفس ما كتبه الشيخ محمد عبد الله دراز رحمه الله, ذلك العلم الأزهري الذي وهب قلمه وفكره لخدمة القرآن والرد على أباطيل خصومه. والكتاب نفيس معنى ومبنى, إذ جمع دقة البحث وعمق التحليل وطلاوة اللغة وجمال الأسلوب, فهو زاد للفكر متعة للوجدان, وقد انتفعت به أيما انتفاع حين ندبني بعض إخواني إلى اختيار كتاب يصلح لبيان إعجاز القرآن والرد على شبهات المشككين, فتطوعت بتقديمه ومدارسته في إحدى الغرف الصوتية الحوارية. وطريقتي في هذا التعريف أن أذكر نبذة مختصرة عن منهج الكتاب والغرض من تأليفه, ثم أثني بتعريف مفصل يأخذ القارئ في رحلة سريعة بين أهم محطات الكتاب.
يقوم الكتاب على تصور القرآن في وحدته كبناء محكم متراص متماسك الأجزاء والسور, ويظهر اهتمام الشيخ بفكرة الوحدة الموضوعية للسور القرآنية في تفسيره لترابط مواضيع سورة البقرة الذي ختم به كتابه.
كما يعتبر الكتاب دفاعا عن القرآن أمام شبهات خصومه, حيث يأخذ الشيخ بيد المشكك ليدحض شبهاته واحدة واحدة, مستدلا ببراهين النقل والعقل, فلا يبقى للمنصف إلا أن يقر بإعجاز هذا القرآن.
وضع المؤلف بين يدي الكتاب مقدمة تتعلق بحد القرآن وبيان ما يميزه عن الحديث النبوي والحديث القدسي, وذكر بعض خصائص القرآن بناء على اشتقاق اسميه: "القرآن" و"الكتاب".
افتتح الشيخ بحثه ببيان مصدر القرآن, فذكر دلائل على أنه كلام الله, منها عتابه للنبي صلى الله عليه وسلم في بعض ما صدر منه من المباحات, ثم بين أن في القرآن من العلوم ما لا يُنال إلا بالتلقي والتعليم, كأخبار الأمم السابقة, وخلص إلى أن للنبي صلى الله عليه وسلم معلما, لكنه ليس من البشر كما زعم المشركون, بل هو جبريل الأمين. ثم انتقل الشيخ إلى تحليل ظاهرة الوحي لأهميتها في فهم مصدر القرآن.
واختتم بحثه بذكر أوجه الإعجاز القرآني:
1 الإعجاز اللغوي.
2 الإعجاز العلمي.
3 الإعجاز التشريعي.
خاتمة الكتاب دراسة فريدة للترابط الموضوعي لسورة البقرة, أفردها الشيخ في مقدمة وأربعة مقاصد وخاتمة, أودعها المؤلف رحمه الله خلاصة تدبره وتأمله لبناء هذه السورة وأسرار ترابط أجزاءها وتناسق أغراضها وتناسب مواضيعها.
 
تحديد معنى القرآن
استنبط الشيخ من اشتقاق كلمتي "قرآن" و"كتاب" أن الجمع بين حفظ التنزيل في الصدور وحفظ رسمه في المصاحف من أسس الحفظ الرباني لهذا الكتاب. وصدر بحثه بتعريف للقرآن يميزه عن غيره من الحديث النبوي والقدسي.

بيان مصدر القرآن
القرآن صريح في أنه ورد على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصدر منه, فهو يذكر القراءة والإقراء، والتلاوة والترتيل، وتحريك اللسان, وقد عهد الناس أن يُصدّر الكتّاب مؤلفاتهم بما يبين غرضهم منها, والقرآن يقول: {سنقرئك فلا تنسى} ويقول {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}.
ولا يستقيم أن يقال إن صلى الله عليه وسلم نسب كلامه إلى الوحي, وحاشاه فقد أجمع محبه ومبغضه على صدقه, وهاهو كلامه بين أيدينا وليس يشبه القرآن, ولو كان القرآن من كلامه لما تأخر شهرا عن الذب عن عرضه حين خاض من خاض في أمر الإفك, ولكنه رسول يبلغ رسالات ربه.

مخالفة القرآن لطبع الرسول وعتابه الشديد له في المسائل المباحة:
يستشهد الشيخ بعتاب القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم في بعض المسائل المباحة على أنه كلام الله سبحانه, ومن ذلك صدر سورة التحريم وآية الأسرى في الأنفال. وهذه الأخيرة لم تنزل إلى بعد قبول الفدية من أسارى بدر وإطلاق سراحهم, فافتتحت بالتخطئة ثم ختمت بالإقرار. ولو افترضنا تنزلا أن الخطابين ترجمة لموقفين نفسيين متعاقبين نسخ أحدهما الآخر, فما الداعي أن يثبت النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه شيئا عدل عنه إلى غيره؟ لا شك أن الآية تدل على أنها كلام الرب لعبد ونبيه.
إن المتأمل في تلك الأمور التي عوتب فيها النبي صلى الله عليه وسلم ليوقن أنه تصرف فيها بمقتضى الحكمة البشرية, وأن عتابه وتصويبه تم بمقتضى الحكمة الربانية.
ومما يجعلنا نجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم ناقل للقرآن وليس المتكلم به, توقفه أحيانا كثيرة في بيان مشكله وتفصيل مجمله. وضرب الشيخ قضية المحاسبة على النيات في خواتيم البقرة مثالا على ذلك.
طرف من سيرته العامة
أورد الشيخ مواقف عملية من السيرة المطهرة, تبين وقوف النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أمره عند حكم القرآن, ومثاله موقفه من الجارية التي أنشدت في عرس: : وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين". ومصداقه في كتاب الله تعالى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ.
خلص الشيخ دراز إلى أن دراسة السيرة بتجرد وإنصاف تقود إلى تأكيد صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.

البحث عن مصدر القرآن
القرآن لا يمكن أن يكون إيحاءً ذاتيًّا من نفس محمد صلى الله عليه وسلم, لأن القرآن ضم كثيرا من العلوم والمعارف والأخبار التي لا تُنال بمجرد الذكاء وقوة الفراسة, بل لا بد من النقل والتلقي لتحصيلها. ومن ذلك أخبار الأمم السابقة وأنبيائها. كيف والنبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب ولا يقرأ؟
وقد فطن المشركون إلى ذلك فقالوا: {وليقولوا درست} لأنهم أيقنوا أن هذا العلم الجديد ثمرة تعليم جديد.
إذا تقرر أن العمدة في أخبار التاريخ النقل, فهل تنال العقائد القرآنية بالحدس والفراسة؟ لا شك أن الحقائق الغيبية لا بد فيها من نقل أيضا, لأن قصارى ما يدركه العقل وجوب وجود خالق مدبر حكيم, لكن الحقائق الاعتقادية والشرعية التي جاء بها القرآن مما لا يستقل العقل المجرد بإدراكه.
لكن القرآن أخبر أيضا بكثير من الغيوب المستقبلة, فأخبر بما يكون في أعوام قليلة, وبما سيكون آخر الزمان, وبما لا يكون أبد الدهر,
فيأتي الزمان مصدقا لما أخبر به القرآن, لا يتخلف منه شيء, وهذا من آيات النبوة الصادقة.
{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ .}

أمثلة من النبوءات القرآنية وهي تتعلق بأنواع ثلاثة:
1- ما يتعلق بمستقبل الإسلام وكتابه ورسوله.
2- ما يتصل بمستقبل المؤمنين.
3- ما يتصل بمستقبل المعاندين.
1- فيما يتصل بمستقبل الإسلام
أولا: الإخبار ببقاء الإسلام:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.
صدرت هذه البشارات المؤكدة في مكة والإسلام في استضعاف وقلة وحصار, فهي ضمان من رب الدهر ومصرف الحوادث لبقاء هذا الدين مهما كاد له الكائدون, فإنهم لن يخرجوا عما سطرته هاتان الآيتان:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ.}
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.}
ومثل ذلك التحدي بالقرآن:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وأنى لبشر أن ينفي الإتيان بمثل كلامه نفيا مؤبدا ما بقيت السماوات والأرض؟

تثبيت المؤمنين وإخبارهم بما سيكون من أمر مستقبلهم:
مثال هزيمة الروم أمام الفرس. {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ.لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
فأخبرت الآية بأمرين خارجين عن إدراك العقل. فجعل زمان غلبة الروم أمارة على نصر المؤمنين, فتراهن المشركون على تكذيب النبوءتين مجتمعتين, لكنهما وقعتا لسبب يوقن به من تأمل الآية الأخرى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.} فانتصرت الروم يوم انتصر المسلمون في بدر كما رواه الترمذي وغيره.

ثانيا: إخبار القرآن بمستقبل المعاندين:
قال تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر.} جعل عمر يقول: أي جمع هذا؟ قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله يقولها.
ومن إخبار القرآن بما ينال أعداء هذا الدين قوله عن الوليد بن المغيرة: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} فأصيب أنفه يوم بدر فكان موسوما على الخرطوم يعير بها دهره.

فهل يصح في الأذهان أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جاء بذلك كله من عند نفسه وهو الأمي الذي لم يؤثر عنه طلب للعلم أي علم؟
الجواب أنه لا بد من أن مصدر هذه العلوم والأخبار جميعها من معلم خارجي, ثم إن هذا المصدر له من سعة العلم ودقته وكماله ما لا يحيط به بشر. ولا يمكن بحال قبول الإدعاء أن ذلك كله ثمرة ذكاء رجل أمي وعبقريته. فأي عبقري ينال من الدهر عهدا أن يصوب ظنونه كلها وأن يوافقه في تنبؤه بالمستقبل.
حتى الأنبياء لم يظفروا بمثل هذا العهد. انظر إلى يعقوب يتهم بنيه حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب, ثم يتهمهم حين قالوا له: إن ابنك سرف, فقال في كلتا المرتين: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ, فأصابت فراسته في الأولى وأخطأت في الثانية.
فما بال هذا القرآن دوما يصيب, فأخباره صدق وأحكامه عدل, لا تترك كلاما لمستدرك؟
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.}

يتبع إن شاء الله
 
المرحلة الثانية من البحث بيان أن محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بد أن يكون أخذ القرآن عن معلم
المتكلم بكلام ما, إما قائل له أو ناقل, والنبي صلى الله عليه وسلم وقومه أميون, فلم يبق إلا أهل الكتاب, وقد لقي النبي أفرادا منهم كورقة بن نوفل, لكن لم يؤثر عنه أخذ عنهم.

 موقف محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العلماء موقف المصحح لما حرفوا، الكاشف لما كتموا
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 2 {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}
هذا الكتاب يقف من علماء أهل الكتاب موقف المعلم لا موقف المتعلم.
يتحدى الشيخ من يدعي أن للنبي صلى الله عليه وسلم معلما من البشر أن يسميه, ويعجب من المشركين إذ لم يجدوا إلا حدادا أعجميا لينسبوا إليه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن : {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.

ووصف اضطرابهم الشديد في أمر القرآن, كما قال ربنا: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} فهذه الآية القصيرة ترجمة لحيرتهم واضطرابهم.

المرحلة الرابعة من البحث البحث في جوهر القرآن نفسه عن حقيقة مصدره

كانت المباحث السالفة دراسة للطريق الذي جاءنا منه هذا الكتاب استنادا إلى تلمس سيرة صاحب القرآن وغيرها من المصادر التاريخية, ومن لم يكفه ذلك, فسيشرع الشيخ في الاستدلال من القرآن نفسه أنه كلام الله.

يبدأ الشيخ في مدارسة نواحي الإعجاز الثلاث مع التركيز على الناحية اللغوية لوقوع التحدي بها, ويعرض الشبه حول هذه المسألة تمهيدا لتفنيدها:
الشبهة الأولى: شبهة غر ناشئ يتوهم القدرة على محاكاة البلاغة القرآنية
 هذا إنما يعرض للأغرار الناشئين, فدواء علته إطالة النظر في أساليب العرب حتى ينال ملكة تذوق الأدب والبيان, ثم يعود فينظر في القرآن. فلن ينتهي به الأمر إلا موقنا بصغار نفسه وبمدى عجزه حين ينظر إلى هذا القرآن كما أيقن السحرة أن عصا موسى ليست من جنس السحر.

الشبهة الثانية: شبهة أديب متواضع ينسب القدرة على محاكاة القرآن لغيره
فليرجع الدعي إلى التاريخ فإن قالوا "لو نشاء لقلنا مثل هذا" فقل: "هاتوا برهانكم!" فإن عجز معاصروا التنزيل فمن بعدهم أعجز.

الشبهة الثالثة: عدم معارضة القرآن سببها انصراف العرب عن ذلك.
القول بالصرفة قول متهافت فالقوم علموا أنهم عاجزون عن معارضة القرآن مع بقاء قدرتهم, فهل نزل مستوى شعرهم بعد نزول القرآن؟ وانظر قول الوليد بن المغيرة: وما هو بقول بشر.

 الشبهة الرابعة: من يظن أن إعجاز القرآن ليس في بلاغته فهو لم يخرج عن لغة العرب
 والجواب أن البيان مثل البنيان: فهل يخلق المهندس البناء مادة البناء؟ كذلك أهل اللغة, يردون موردا واحد ويصدرون بألوان من الكلام شتى تتباين في درجات البلاغة تباينا عظيما.
"فالجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين..."

الشبهة الخامسة: قولهم لكل أسلوب خصوصية, فلا يستطيع أحد أن يجاري كلام أحد؟
 نحن لا نطلب نفس صورة القرآن الكلامية بل كلاما يأتي به صاحبه يحاذي القرآن ويساميه في البلاغة والنظم والبيان. فهذا موطن التماثل والمقاربة التي نتحداهم أن يدانوه. فيا ترى لم عجزوا؟

 الإنتقال من جلاء الشبهة إلى شفاء العلة لمن كان من طلاب الحق, واستبان له معنا أن القرآن نسيج وحده
نظرات في لب البيان القرآني وخصائصه التي امتاز بها عن سائر الكلام
نحن إذن سننظر في قيمة البيان قبل أن ننطلق إلى النظر في قيمة المبين ولنقسم خصائص القرآن البيانية إلى مراتب أربع:

 1القرآن في قطعة منه:"أسلوب القرآن تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرفها" ولننظر في كلام الناس حتى يتبين المراد:
القصد في اللفظ مع الوفاء بحق المعنى: نهايتان تقصر عنهما همم البلغاء, كما يقصر الزوج عن إرضاء ضرتين. فمن مال إلى الطي وادخار اللفظ قد يقع في الإختصار المخل, ومن جنح إلى التفصيل والبسط لم يأمن الإملال والإسراف."

أقرأ ما شئت من القرآن لترى كيف اجتمعت هاتان الغايتان على وجه الكمال والإستمرار. أحص كلمات منه ثم أحص كلمات في عدتها من كلام رجل بليغ, ثم انظر كم كلمة تستطيع أن تسقطها من المقطع القرآني ومن الكلام البشري دون أن يختل المعنى.
خطاب الخاصة والعامة
القرآن متعة للعامة والخاصة والعالم والعامي, كل ميسر لما أراد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
إقناع العقل وإمتاع العاطفة
والقرآن يجمع أيضا بين غايتين: إقناع العقل وإمتاع العاطفة: فللإنسان قوة تفكير وقوة وجدان: ولكل منهما حاجات: فالأولى قوة عاقلة مفكرة, أما الأخرى فتحس وتشعر وتفرح وتحزن, والبيان التام هو الذي يوفي الحاجتين حقهما, فيجمع لك بين المتعة الفكرية واللذة الوجدانية.

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الأنبياء: 22] تأمل كيف جمعت الآية الاستدلال والتهويل والاستعظام في هذه الكلمات القليلة. بل الدليل نفسه جامع بين عمق المقدمات اليقينية ووضوح المقدمات المسلمة ودقة التصوير لما يعقب التنازع من "الفساد" الرهيب. فهو برهاني خطابي عاطفي معًا. هل تجد مثل هذا في كتاب من كتب الحكمة النظرية؟
البيان والإجمال: فإنك ترى الناس إذا حددوا المراد من كلامهم لم يتركوا مجالا لتأويل, وإذا جنحوا إلى الإجمال أوقعوا السامع أو القارئ في الإلتباس.

أمثلة على دقة التعبير القرآني

 قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
 فتضمن هذا المقطع القرآني: 1. مقالة نصح لليهود بالإيمان بالقرآن و 2. إجابتهم لهذا الناصح بجواب ضم مقصدين و 3. والرد على جوابهم من وجوه عدة.
 قال الناصح: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة, فكلها من عند الله, فجمع الله كل هاته المعاني في هذه الجملة الوجيزة {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} لأنه لم يسم القرآن بل كنى عنه, فبين ما يدعوهم إليه, وبين حجته في دعوتهم إليه, فأخرج الدعوى والدليل في لفظ واحد.
 وتأمل كيف طوى ذكر المنزل عليه, فلم يقل: آمنوا بما أنزل على محمد لأنه كان سيكون في ميزان البيان زائدا وفي ميزان الحكمة الإرشادية مفسدا. فلا مدخل لذكر المنزل عليه في هذا الموضع فيما يراد من إلزام اليهود من اتباع الوحي المنزل, كما قد يتعارض ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع غرض التأليف والإصلاح الذي هو من مقاصد الآية, وذلك لإستحكام العداوة بين اليهود وبين النبي العربي الأمي صلى الله عليه وسلم بغيا منهم وحسدا.
 فأشار هذا الحذف إلى طبيعة الإسلام الذي هو تأليف وجمع بين الأمم على ملة التوحيد ودعوتهم إلى سواء الصراط.
 وانظر إلى جوابهم: إننا إنما آمنا بالتوراة لأنها أنزلت علينا وليس لأنها تنزيل الله فحسب, فتعصبوا وأخذتهم الحمية لجنسهم وعرقهم. أوجز الله هذا المعنى في قوله: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}.
 ولقد أشار قولهم هذا إلى كفرهم بما أنزل على غيرهم, وإن لم يصرحوا بهذا القول لشناعته, فأبرزه القرآن في معرض شرح مقالتهم فقال مباشرة: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}. ولم يجعل لازم مذهبهم مذهبا لهم ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله عنهم: فلم يقل: نؤمن بما أنزل علينا ونكفر بما وراءه. فجمع بيان حالهم مع الأمانة في النقل.
 وانظر قوله: {بِمَا وَرَاءَهُ}: فتضمن كفرهم بالإنجيل والقرآن, ولم يتضمن كفرهم بما قبل التوراة كصحف إبراهيم مثال. فهذا اللفظ الجامع المانع بين هذه المعاني الكثيرة واختزل كفرهم خلال تلك الأزمنة المتطاولة مع الإنصاف والعدل.
 وبعد هذا العرض الموجز المبين لحالهم انتقلت الآية إلى مناقشتهم في قولهم الذي أعلنوه وفي خبايا معتقدهم الذي أسروه, وتركت دعوى إيمانهم بكتابه كأنها مسلمة لتبنى عليها وجوب الإيمان بغيره من الكتب, فتقول لهم: كيف يدعوكم إيمانكم بالكتاب الأول إلى الكفر بالثاني الذي هو حق مثله, بل هو الحق كله, ثم هو لا يعارضه ولا يناقضه حتى يكون الإيمان المتقدم داعيا وموجبا للكفر بالمتأخر.

القرآن إيجاز كله
 القرآن لا يخرج عن الإيجاز سواء في معرض الإجمال أو في مواطن التفصيل, وحقيقة ذلك أنه يأتي بأعظم المعاني وأوفرها بأقل لفظ ممكن.  وهذا اصطلاح جديد للشيخ. فقد قسم أهل البلاغة الكلام إلى مساو وموجز ومطنب. فالمساواة أداء المعنى بلفظ على قدره, والإيجاز أداؤه بلفظ ناقص عنه واف به, والإطناب أداؤه بلفظ زائد عنه لفائدة. وجعلوا المقياس الذي يحكم اختيار البلغاء بين هذه المراتب أمر عرفيا أو وضعيا. فذهب السكاكي إلى أن الغالب على كلام الناس المساواة, التي لا توصف بمدح ولا ذم. والكلام البليغ بين الإيجاز والإطناب.
 والإجمال والتفصيل يتفاوت تفاوتا كبيرا فلا يكاد ينضبط, فما من كلام وجيز إلا أمكن تأدية معناه بأقل من لفظه حتى المثل الذي يضربونه من القرآن للإيجاز {ولكم فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فيمكن تأدية معناه بكلمتين مثلا: القصاص حياة. والفاتحة ترجع إلى كلمات خمس: نحمدك اللهم ونعبدك، ونستعينك ونستهديك.
 لذا يرى الشيخ أن يضع تقسيم هاته المراتب الثلاث على نسق آخر, يجعل الضابط والمقياس هو المقدار الذي يؤدى به المعنى كاملا غير منقوص بأصله وحليته دون إسراف أو تقتير حسب ما يقتضيه الحال والمقام من إجمال وتفصيل وطي وحذف هذا التوسط الذي هو قبلة البلغاء وقرة عين الأدباء.
 هذا التوسط وهذا القصد وهذا الإيجاز هو الميزان الذي يرى الشيخ وفاءه بحق البلاغة والبيان وبحق المعنى وأغراض الكلام في آن واحد.

 القرآن في سورة سورة منه "الكثرة" و"الوحدة"
 ينضاف إلى ثراء القرآن المعنوي مع وجازة اللفظ أمر آخر أعجب وأبهر ألا وهو تناسق أجزائه وائتلاف عناصره حتى لكأنه فص من ماس لا ترى فيه إلا تناسقا وجمالا وانتظاما. وكل من مارس الكتابة يعلم صعوبة نظم الكلام, وترتيب أجزائه.
ويرى الشيخ أن جمع القرآن بين المواضيع المختلفة التي جاءت في مناسبات شتى, من أوجه إعجازه. فهو قد نزل في ثلاث وعشرين سنة منجما فلا يبقى على غرض واحد ولا على أسلوب واحد, بل ينقلك بين مواضيع وأساليب شتى, وهو في أعلى درجات البلاغة. ونحن لا نشعر قط بأثر التباعد الزمني بين نزول الآيات. والشيخ يشبه تناسق المعاني في السورة بالتحام أعضاء الجسد الواحد, فتؤدي السورة غرضا واحدا كأنما هي جسد واحد.
ويختم الشيخ دراز رحمه الله هذا المبحث بملمح آخر لإعجاز القرآن في نزوله منجما, فإن الوقائع التي ارتبطت بها الآيات لم تتخلف قط, فدل ذلك على أن الذي أنزل القرآن هو نفسه الذي صدرت الحوادث والموجودات عن مشيئته, سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
بقي من الكتاب خاتمته, وهي عظيمة النفع, بين فيها الشيخ كيف ترابطت أجزاء سورة البقرة والتحمت التحام أعضاء الجسد الواحد, فلعلي أقدم خلاصة ما ذكره الشيخ فيها, لأختم تقديمي لهذا الكتاب النافع.
 
 نظام عقد المعاني في سورة البقرة إجمالًا وتفصيلًا

ذهب الشيخ إلى أن سورة البقرة تتضمن مقدمة وأربعة مقاصد وخاتمة:
المقصد الأول من مقاصد السورة: في خمس آيات "21-25":
المقصد الثاني من مقاصدها: في ثلاثة وعشرين ومائة آية "40- 162":
المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل
1- ذكر سالفة اليهود "49- 74":
2- ذكر اليهود المعاصرين للبعثة "75- 121":
4- ذكر حاضر المسلمين وقت البعثة "135- 162":
المدخل إلى المقصد الثالث في خمس عشرة آية "163- 177":
"الخطوة الأخيرة" إجمالي الشرائع الدينية
المقصد الثالث من مقاصد السورة: في ست ومائة آية "178- 283":
بعد إصلاح العقيدة .. تفصيل الشريعة:
الصبر في الضراء
الصبر في البأساء
المقصد الرابع من مقاصد السورة: في آية واحدة "284".
الخلاصة

المقدمة: تعريف بهذا الكتاب الذي هو هدى كله بحيث لا يصح الارتياب فيه.
 المقصد الأول: دعوة الناس كافة إلى الدخول في التوحيد والإسلام وتحذيرهم من الشرك.
 المقصد الثاني: دعوة أهل الكتاب خاصة.
 المقصد الثالث: تفصيل شرائع الدين وبيانها بيانا شافيا.
 المقصد الرابع: ذكر الوازع الإيماني الإحساني الباعث على لزوم الشريعة.
 الخاتمة: التعريف بمن استجابوا للدعوة وبيان ما يرجى لهم في معاشهم ومعادهم.

 المقدمة في عشرين آية: من مفتتح السورة إلى قوله تعالى: {إن الله على كل شيء قدير}.
نوهت السورة إجمالا بهذا الكتاب, الذي هو الحق والهدى المبين الذي لا يصح أن يرتاب فيه, ثم شرعت في بيان ذلك على التفصيل. فناسب أن يبدأ بذكر المنتفعين بهذا الهدى وأخر ذكر الكافرين والمنافقين, فتمت المقابلة بين أصناف الناس حيال القرآن.
وناسب السياق الشروع في دعوة الناس أجمعين لما يصلحهم من التوحيد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}.
المقصد الأول في خمس آيات:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} إلى قوله تعالى {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} شملت أركان العقائد: 1. الأمر بالتوحيد والنذارة عن الشرك. 2. الإيمان بالكتاب والرسالة. 3. الإيمان بالبعث والجزاء.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} إلى قوله تعالى: { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: وصف هداية القرآن فهو يبين الحقائق صغيرها وكبيرها ويضرب لذلك ما يشاء من الأمثال فينقسم الناس إزاءها كما انقسموا في بدو الأمر إزاء هذا الكتاب: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} ثم انتقل إلى خطابهم وتقريعهم: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكنتُم أمْــواتاً فأحْـــياكُمْ}
ثم ذكر الله الناس بنعمه عليهم وبقصة خلق النبي الأول أبا البشر عليه الصلاة والسلام وتاريخ العداوة بينه وبين إبليس وبدء التكليف.
المقصد الثاني من مقاصد السورة:
في ثلاثة وعشرين ومائة آية "40- 162":{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} إلى قوله تعالى { لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}.
 المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل:
 - إجمال الحديث عنهم:
بآية {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} هي جامعة لأغراض الحديث كله: ناداهم بأحب أسمائهم وأشرف أنسابهم وذكرهم بسابق إنعامه إجمالا ودعاهم إلى الوفاء بعهدهم، فجمع بين الترغيب والترهيب.
 - تفصيل الحديث عنهم:
ثم فصل ما أجمل في الآية السابقة في ست آيات {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} وذكرهم بنعمه عليهم.
"ثم" قسم الحديث إلى أربعة أقسام:
"القسم الأول" يذكر فيه سالفة اليهود منذ بعث فيهم موسى -عليهم السلام. "49- 74"
"القسم الثاني" يذكر فيه أحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية. "75- 121"
"القسم الثالث" يذكر فيه أولية المسلمين منذ إبراهيم -عليه السلام. "122-134"
"القسم الرابع" يذكر فيه حاضر المسلمين في وقت البعثة. "135- 162"
وتضمنت هذه الآيات ردا على شبهات يهود, كاستنكارهم لنسخ القبلة, ووصفتهم بالسفهاء, فكأن السورة في هذا الموضع قد فرغت من تثبيت الأصل وشرعت في بيان الفروع, فجاءت خمس عشرة آية كالمدخل إلى المقصد الثالث: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إلى قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}."163- 177" في خطوات ثلاث:
 الخطوة الأولى: تقرير وحدة الإله المعبود. {وإلهكم إله واحد}
 "الخطوة الثانية" تقرير وحدة الآمر المطاع: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}
 "الخطوة الثالثة" فهرس إجمالي للأوامر والطاعات المطلوبة: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} إشارة إلى أن مسألة القبلة التي شغلت الناس ليست سوى شعبة واحدة من شعب البر.
المقصد الثالث من مقاصد السورة: في ست ومائة آية "178- 283":
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى قوله تعالى: { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} : تفصيل الشريعة التي طويت في آية البر.
الحلقة الأولى: خلق الصبر: وبه ختمت آية البر, وذكرت للصبر ثلاث شعب: الصبر في الباساء وفي الضراء وحين البأس.
 وستعنى السورة بتفصيل هذه الشعب بشكل تصاعدي, بل ستتم مراعاة هذا النظام مع سائر الخصال المذكورة في الآية.
 1. الصبر حين البأس "178-182: وضرب له مثال كف النفس عن بواعث الإنتقام: {يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص}.
 2الصبر في الضراء: وذكر أعلاها: الصبر على الجوع والظمإ في طاعة لله: {يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام} 183-187.
 وناسب ذكر الإمساك المؤقت عن بعض ما أحل الله الحض على الصوم الدائم عن السحت والحرام: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} 188.
 3. الصبر في الباساء: مثال الصبر من عبادة جمعت الجهاد بالنفس والمال: الحج: {يسالونك عن الأهلة} 189 -203 إلى قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
لم يتصل ذكر الأهلة بأحكام الحج مباشرة, بل توسطت بين ذكره وبين تفصيل أحكامه ست آيات في أحكام الجهاد "190-195": وسبب نزول الآيات ما جرى في الحديبية في السنة السادسة للهجرة. ثم يستأنف تفصيل أحكام الحج والعمرة." 196-203"
{ومن الناس من يعجبك قوله} إلى قوله تعالى: {ألا إن نصر الله قريب} كانت هذه الموعظة بيانا لوجود فئتين: أهل الأثرة وأهل الإيثار. وذكرت الآيات بما يصيب أهل الإيمان من البلاء.
 الحلقة الثانية: الوفاء بالعهود والعقود: وفيها تفصيل الخصلة الثانية مما أجمل في آية البر: واختارت أعظم العقود: النكاح وما يتعلق به من أحكام الأسرة. "الآيات من 215 إلى 237":
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} إلى قوله تعالى: { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
 طريقة الإنتقال في تلطف: الأسئلة والأجوبة، تتصل بالإنفاق والجهاد "215- 218" وبمخالطة اليتامى وغيرها. وانتظمت الأحكام في شطرين؛ الأول يعالج شئون الأسرة في أثناء اتصالها "223- 232"، والآخر الأخير يعالج شئونها عند وقوع الشقاق أو الطلاق "233- 237".

بدأت الآيات بتقرير حق العشرة والمخالطة بين الأزواج "223" ثم تلته أحكام الأيمان فناسب ذكر حكم الظهار "226- 227" وتأمل كيف اتصل من هنا بأحكام الطلاق وما يتبعه من حقوق وواجبات "228".
وتفصل السورة مسائل الطلاق والعدة والرجعة والخلع والرضاع والخطبة والصداق.
الحلقة الثالثة: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقة:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} إلى قوله تعالى: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
هنالك تبدأ الحلقة الثالثة {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [238- 274].
 {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: انتقال لطيفة من جو تقرير الحقوق والواجبات الأسرية إلى فضاء يملؤه السكون والعفو والمسامحة, كأن هذه الكلمات تريد أن ترفعنا إلى أعلى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} واشتغلوا بالأمور الجليلة وعودوا نفوسكم على المطالب العالية.
 حافظوا على الصلاة .. أنفقوا في سبيل الله .. جاهدوا في سبيل الله ..
 فالحديث إذن عن الجهاد وإن كان الأمر الآن بالحفاظ على الصلاة، وعدة الوفاة، لا بشأن الجهاد تصريحا. فالشيخ يرى أن الخطاب في الآيات للمجاهدين, لبيان ما يحتاجونه من أحكام قبل الأمر بالجهاد. فالإعداد الروحي مقدم على البدني.
 فبينت الآية رخصة المجاهد في الصلاة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} "238" فرخص لهم عند الخوف بعض التخفيف في هيئات الصلاة: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} .
 والمجاهد بل كل جندي مقاتل يتنازعه هاجسان, ويتوجس خيفة على أمرين: نفسه التي بين جنبيه وأهله الذين خلفهم وراءه: فطمأن القرآن المجاهدين إذ وصى الله للأرملة أن تمتع حولا كاملا في بيته متاعا بالمعروف. أما خوف الموت فإن الموت بيد الله: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت}. أما خوف الهزيمة فإن النصر ليس بالكثرة ولا بالقلة بل هو من عند الله: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}.
 ثم تفصل الآيات موضوع بذل المال وإنفاقه والجهاد به وحذرت من الربا باسلوب شديد مليء بالترهيب {الذين يأكلون الربا}, ثم ينتقل الكلام إلى فضيلة البذل والإيثار, التي يقابلها الجشع والأثرة, فيأمر القرآن بإنظار المعسر, أو بوضع الديون عنهم {وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} 281.
 ولما كانت سمة المسامحة غالبة على التشريع القرآني كما سطرته سورة البقرة مما قد يوحي بالتهاون في حفظ حقوق الناس وتبذير المال, فقد جاءت آيتا المداينة والرهان 282-283 لتدفع هذا التوهم, ولتدعوا إلى توثيق الديون. فإن لم يمكن ذلك: {فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه}. وبهذه القاعدة الإيمانية اختتمت الأحكام العملية في هذه السورة.
المقصد الرابع من مقاصد السورة:
في آية واحدة "284". فصلت السورة الإيمان والإسلام فماذا بقي بعد؟ لقد بقي الإحسان:{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

 الخاتمة:
في آيتين اثنتين "285- 286":{آمَنَ الرَّسُولُ} إلى ختام السورة.
تم بيان أركان الدين كلها إيمانا، وإسلاما، فكأن القارئ يتساءل: هل آمن بهذا الكتاب أحد, هل اهتدى بهداه أحد؟ بلى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون. وفاء بعهد الله: {لانكلف نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} وفتح لباب الرجاء أمام المهتدين, فليتضرعوا: ربنا... ربنا...
الخلاصة:
تلكم سورة البقرة اجتهد الشيخ دراز أن يجلي وحدتها في كثرتها, وبين أن ترابط آيها من أوجه إعجاز القرآن الكريم, فرحمه الله وجعل الفردوس مثواه وألحقنا به ووالدينا والمسلمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
 
عودة
أعلى