” أينَ الأمَّةُ الأُمِّيَّةُ ونبيُّها "

إنضم
20/07/2018
المشاركات
134
مستوى التفاعل
8
النقاط
18
العمر
70
الإقامة
السعودية
” أينَ الأمَّةُ الأُمِّيَّةُ ونبيُّها " :


  • قال تعالى :"الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (157)الاعراف
وقال تعالى : "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (158) الاعراف
قال ابن كثير:
وقوله : "فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي" أخبرهم أنه رسول الله إليهم ، ثم أمرهم باتباعه والإيمان به ، " النبي الأمي" أي : الذي وُعِدتم به وبُشرتم به في الكتب المتقدمة ، فإنه منعوت بذلك في كتبهم ; ولهذا قال: "النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته" أي : يصدق قوله عمله ، وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه " واتبعوه " أي : اسلكوا طريقه واقتفوا أثره ، " لعلكم تهتدون " أي : إلى الصراط المستقيم .اهـ
وفي الحديث الصحيح : لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَمْرِو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا، قُلتُ: أخْبِرْنِي عن صِفَةِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في التَّوْرَاةِ؟ قالَ: أجَلْ، واللَّهِ إنَّه لَمَوْصُوفٌ في التَّوْرَاةِ ببَعْضِ صِفَتِهِ في القُرْآنِ: {يَا أيُّها النبيُّ إنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أنْتَ عَبْدِي ورَسولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ ليسَ بفَظٍّ ولَا غَلِيظٍ، ولَا سَخَّابٍ في الأسْوَاقِ، ولَا يَدْفَعُ بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، ولَكِنْ يَعْفُو ويَغْفِرُ، ولَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حتَّى يُقِيمَ به المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بأَنْ يقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ويَفْتَحُ بهَا أعْيُنًا عُمْيًا، وآذَانًا صُمًّا، وقُلُوبًا غُلْفًا ".
الراوي : عبدالله بن عمرو المصدر : صحيح البخاري


  • وقال تعالى : " وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" (48) العنكبوت
قال القرطبي :
قوله تعالى :" وما كنت تتلو من قبله من كتاب " الضمير في ( قبله ) عائد إلى الكتاب وهو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ; أي وما كنت يا محمد تقرأ قبله ولا تختلف إلى أهل الكتاب ; بل أنزلناه إليك في غاية الإعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك فلو كنت ممن يقرأ كتابا ويخط حروفا لارتاب المبطلون أي من أهل الكتاب وكان لهم في ارتيابهم متعلق ، وقالوا : الذي نجده في كتبنا أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ ، وليس به . قال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ ; فنزلت هذه الآية ; قال النحاس : دليلا على نبوته لقريش ; لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ، ولم يكن بمكة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم وزالت الريبة والشك .اهـ


  • وقال تعالى : " وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" (78) البقرة
قال أبو جعفر الطبري: وأرى أنه قيل للأمي" أمي"؛ نسبة له بأنه لا يكتب إلى " أمه " ، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء ، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال- إلى أمه- في جهله بالكتابة، دون أبيه ، كما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب "، وكما قال: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ " الجمعة: 2 فإذا كان معنى ”الأمي" في كلام العرب ما وصفنا, فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي، من أن معنى قوله: "ومنهم أميون" ومنهم من لا يحسن أن يكتب.


  • قال تعالى : " فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" (20 (ال عمران
قال أبو جعفرالطبري : يعني بذلك جل ثناؤه: "وقل "، يا محمد، "للذين أوتوا الكتاب " من اليهود والنصارى "والأميين " الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب " أأسلمتم "، يقول: قل لهم: هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ولا إله سواه " فإن أسلموا "، يقول: فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له " فقد اهتدوا "، يعني: فقد أصابوا سبيل الحق، وسلكوا مَحَجَّة الرشد .
وقال ابن كثير:
وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته ، صلوات الله وسلامه عليه ، إلى جميع الخلق ، كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث ، فمن ذلك قوله تعالى : "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " الأعراف : 158 ، وقال تعالى : "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا" الفرقان : 1 ،، وفي الصحيحين وغيرهما ، مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة ، أنه بعث كتبه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ملوك الآفاق ، وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم ، كتابيهم وأميهم ، امتثالا لأمر الله له بذلك . وقد روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أهل النار " رواه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : " بعثت إلى الأحمر والأسود " وقال : " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة .إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث .اهـ


  • ويقول تعالى : " وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (75) ال عمران
القول في تأويل قوله : "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ"
قال أبو جعفر الطبري : يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ من استحلّ الخيانةَ من اليهود، وجحودَ حقوق العربيّ التي هي له عليه، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربيُّ عليه إلا ما دامَ له متقاضيًا مطالبًا ، من أجل أنه يقول: لا حرَج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ولا إثم، لأنهم على غير الحق، وأنهم مشركون.
وعن قتادة: ليس علينا في المشركين سبيل ، يعنون من ليس من أهل الكتاب.
وعن السدي: يقال له: ما بالك لا تؤدِّي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلَّها الله لنا! !
وعن سعيد بن جبير: لما نـزلت " وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... "الاية ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبَ أعداءُ الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ إلى البر والفاجر.
وعن صعصعة: أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزْو من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس! قال: هذا كما قال أهل الكتاب:" ليس علينا في الأميين سبيل " إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيِب أنفسهم. اهـ


  • قال تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" (2) الجمعة
قال ابن كثير :
وقوله تعالى : "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم" الأميون هم : العرب كما قال تعالى "وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم .." الاية ، وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ، ولكن المنة عليهم أبلغ وآكد ، كما في قوله : "وإنه لذكر لك ولقومك " الزخرف :44 ، وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به . وكذا قوله : "وأنذر عشيرتك الأقربين " الشعراء : 214 ، وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى : "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " الأعراف: 158 ، وقوله : "لأنذركم به ومن بلغ" الأنعام : 19...
وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة ، على حين فترة من الرسل ، وطموس من السبل ، وقد اشتدت الحاجة إليه ، وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب - أي : نزرا يسيرا - ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام ; ولهذا قال تعالى : "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" ،، وذلك أن العرب كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام فبدلوه وغيروه ، وقلبوه وخالفوه ، واستبدلوا بالتوحيد شركا وباليقين شكا ، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله وكذلك أهل الكتابين قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها ، فبعث الله محمدا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق ، فيه هدايتهم ، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم ، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ، ورضا الله عنهم ، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله . حاكم ، فاصل لجميع الشبهات والشكوك ، والريب في الأصول والفروع . وجمع له تعالى ، وله الحمد والمنة جميع المحاسن ممن كان قبله ، وأعطاه ما لم يعط أحدا من الأولين ، ولا يعطيه أحدا من الآخرين ، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. اهـ


  • وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " نحنُ آخِرُ الأمَمِ ، وأوَّلُ مَنْ يُحاسَبُ ، يقالُ : أينَ الأمَّةُ الأُمِّيَّةُ ونبيُّها ، فنحنُ الآخِرونَ الأوَّلونَ ".
المحدث : الألباني | المصدر : صحيح ابن ماجه- صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 3482 - : 6749 خلاصة حكم المحدث : صحيح
والمحدث : الوادعي | المصدر : الصحيح المسند
الصفحة أو الرقم: 666 | خلاصة حكم المحدث : صحيح ، رجاله رجال الصحيح
شرح الحديث
«نحنُ آخِرُ الأمَمِ»، أي: آخِرُها وُجودًا في الزَّمنِ، «وأوَّلُ مَن يُحاسَبُ» يومَ القِيامةِ، «يُقالُ: أين الأُمَّةُ الأمِّيَّةُ ونَبيُّها؟»، أي: الأُمَّةُ التي كانت لا تَقرأُ ولا تَكتُبُ على الغالِبِ فيها عندَ بَدءِ الرِّسالةِ، ونَبيُّها كان أُمِّيًّا، فهي منسوبةٌ إلى أمِّيَّتِه، «فنحن الآخِرون»، في زَمانِ الدُّنيا، «الأوَّلون»، أي: الأوَّلونَ في الحِسابِ ودُخولِ الجَنَّةِ، والأوَّلونَ مَنزلةً وكرامةً يَومَ القِيامةِ.


  • وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وعِشْرِينَ، ومَرَّةً ثَلَاثِينَ ".
الراوي : عبدالله بن عمر المصدر : صحيح البخاري
شرح الحديث من إرشاد الساري
"إنا" ( أي العرب أو نفسه المقدسةصلى الله عليه وسلم ( "أمة") جماعة قريش ( "أمية") بلفظ النسبة إلى الأم أي باقون على الحالة التي ولدتنا عليها الأمهات ( "لا نكتب") بيان لكونهم كذلك أو المراد النسبة إلى أمة العرب لأنهم ليسوا أهل كتاب والكاتب منهم نادر ( "ولا نحسب" (بضم السين لا نعرف حساب النجوم وتسييرها فلم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة لائحة يستوي في معرفتها الحساب وغيرهم، ثم تمم عليه الصلاة والسلام هذا المعنى بإشارته بيده من غير لفظ إشارة يفهمها الأخرس والأعجمي ( الشهر هكذا وهكذا .اهـ

يتبع بإذن الله تعالى
 
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ

  • عَنْ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أنَّها قالَتْ: أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيا إلَّا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ، وكانَ يَخْلُو بغارِ حِراءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه - وهو التَّعَبُّدُ - اللَّيالِيَ ذَواتِ العَدَدِ قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِها، حتَّى جاءَهُ الحَقُّ وهو في غارِ حِراءٍ، فَجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقْرَأْ، قالَ: ما أنا بقارِئٍ، قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: اقْرَأْ، قُلتُ:ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: {اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ (2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ} [العلق: 1- 3] فَرَجَعَ بها رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَرْجُفُ فُؤادُهُ، فَدَخَلَ علَى خَدِيجَةَ بنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فقالَ لِخَدِيجَةَ وأَخْبَرَها الخَبَرَ: لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي فقالَتْ خَدِيجَةُ: كَلّا واللَّهِ مايُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ، فانْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وكانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجاهِلِيَّةِ، وكانَ يَكْتُبُ الكِتابَ العِبْرانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بالعِبْرانِيَّةِ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شيخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ، فقالَتْ له خَدِيجَةُ: يا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ، فقالَ له ورَقَةُ: يا ابْنَ أخِي ماذا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَبَرَ ما رَأَى، فقالَ له ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ، قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وفَتَرَ الوَحْيُ.
الراوي : عائشة أم المؤمنين المصدر : صحيح البخاري
التخريج : أخرجه البخاري (3) واللفظ له، ومسلم (160)

وقال صلى الله عليه وسلم : " أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ يَومَ القِيامَةِ، وأَوَّلُ مَن يَنْشَقُّ عنْه القَبْرُ، وأَوَّلُ شافِعٍ وأَوَّلُ مُشَفَّعٍ".
الراوي : أبو هريرة المصدر : صحيح مسلم

وقال صلى الله عليه وسلم : " أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر وأنا أولُ من تنشقُّ الأرضُ عنه يومَ القيامةِ ولافخر وأنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ ولا فخر ولواءُ الحمدِ بيدي يومَ القيامةِ ولا فخرَ".
الراوي : أبو سعيد الخدري | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح ابن ماجه
الصفحة أو الرقم: 3496 | خلاصة حكم المحدث : صحيح |


  • لا مشاحة في اختلاف معنى مصطلح : الْأُمِّيَّ
هو من لا يعرف القراءة والكتابة
هو من يُنسب للاميين الذين لا كتاب لهم
هو من لم يتعلم ومازال على فطرته منذ ولدته امه
هو الاممي الذي أُرسِل لكل الامم ، و.... و....
المهم، أن صفة الأميّ للرسول صلى الله عليه وسلم تشير إلى معانٍ عظيمة ، وهي صفات مدح وكمال لا نقص. فهو نبي لكل الأمم المؤسس لأمة عظيمة جديدة وهو النبي الذي بُعث من بين قومه العرب الاميين وليس من بني إسرائيل ولا من أهل الكتاب والذي هو نبي لهم جميعا ليجمعهم في أمته الواحدة، وهو النبي الفطري الذي جاء بدين الفطرة، وهو النبي المكي صلى الله عليه وسلم الذي جاء في أم القرى لكل القرى.

الكلام عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا ينتهي وفضائله الكثيرة والعظيمة لا تعد ولا تحصى، ولكن حسبنا أن نأتي ببعضها:
أن الله تعالى قرن إسم محمد باسمه " لا إله إلا الله محمد رسول الله"
زكاه ربه في عقله فقال سبحانه (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)،
زكاه في صدقه فقال سبحانه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى)،
زكاه في علمه فقال سبحانه (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)،
زكاه في بصره فقال سبحانه (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)،
زكاه في فؤاده فقال سبحانه (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)،
زكاه في صدره فقال سبحانه (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)،
زكاه في ذكره فقال سبحانه (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)،
زكاه كله فقال سبحانه وتعالى (وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
اللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّدٍ وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما صَلَّيْتَ علَى إبْرَاهِيمَ، وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ،
اللَّهُمَّ بَارِكْ علَى مُحَمَّدٍ وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما بَارَكْتَ علَى إبْرَاهِيمَ، وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.


  • صفة الْأُمِّيَّ للنبي مَنْقَبة، وفي غيره مَثْلَبَة :
فالأميّة في النبي هي أميّة تكوينية جِبْليَّة في ذاته المقدسة صلى الله عليه وسلم ، وما يحصل عليه من علم فهو من عند الله تعالى بواسطة الوحي الامين جبريل عليه الصلاة والسلام .
أما من دونه من افراد أمته :
قال في الحاوي الكبير (شرح مختصر المزني):
هل يجوز تولية القاضي الأمي ؟
فإن كان القاضي ممن لا يكتب الخط ولا يقرأه فقد اختلف اصحابنا في صحة ولايته على وجهين :
أحدهما : تصح ولايته ، لأن شروط النبوة أغلظ . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا ، ولأنه اذا لم يلزمه العمل بخطه لم يؤثر فقده في ولايته .
الوجه الثاني : لا تصح ولايته اذا كان أميا حتى يكتب ويقرأ ، لأنه لا يقوى في الاجتهاد الا بما يقرأه من العلوم ولا يحفظ ما علمه من شرع وأمضاه من حكم إلا بما يرجع اليه من كتابه ويتذكره من خطه ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " قيدوا العلم بالكتابة ". فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جعل الله تعالى ذلك من معجزاته فخالف فيه من سواه .اهـ


تحرم إمامة الأُميِّ :
اشترطوا لصحة الإمامة أن يكون الإمام قارئاً إذا كان المأموم قارئاً، فلا تصح إمامة أمي بقارئ، والشرط هو أن يحسن الإمام قراءة ما لا تصح الصلاة إلا به، فلو كان إمام قرية مثلاً يحسن قراءة ما لا تصح الصلاة إلا به، فإنه يجوز للمتعلم أن يصلي خلفه، أما إذا كان أميّاً، فإنه لا تصح إمامته إلا بأمي مثله، سواء وجد قارئ يصلي بهما أو لا، باتفاق ثلاثة من الأئمة؛ وخالف المالكية،
قالوا: لا يصح اقتداء أمي عاجز عن قراءة الفاتحة بمثله إن وجد قارئ ويجب عليهما معاً أن يقتديا به، وإلا بطلت صلاتهما، أما القادر على قراءة الفاتحة، ولكنه لا يحسنها، فالصحيح أنه يمنع ابتداء من الاقتداء بمثله إن وجد من يحسن القراءة، فإن اقتدى بمثله صحت، أما إذا لم يوجد قارئ فيصح اقتداء الأمي بمثله على الأصح.

الأمة الأمية :
 
من هم الاميين او الامة الامية ؟
لو استعرضنا بعض الاحداث الهامة والقريبة من عهد النبي الامي صلى الله عليه وسلم :

  • أصحاب الفيل :
قال تعالى : " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5) " الفيل
وفي الحديث : وُلِدْتُ أنَا ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عامَ الفيلِ، قال : وسأل عثمانُ بنُ عفانَ قُبَاثَ بنَ أَشْيَمَ أخا بني يَعْمُرَ بنِ لَيْثٍ : أَأَنْتَ أَكْبَرُ أم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ؟ قال : رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أكبرُ مِنِّي، وأنَا أَقْدَمُ منه في المِيلادِ [ وُلِدَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عامَ الفيلِ، ورَفَعَتْ بي أمي على المَوْضِعِ ]، قال : ورَأَيْتُ خَذْقَ الطيرِ أَخْضَرَ مُحِيلًا .
الراوي : المطلب بن حنطب بن الحارث | المحدث : الترمذي | المصدر : سنن الترمذي الصفحة أو الرقم: 3619 | خلاصة حكم المحدث : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق التخريج : أخرجه الترمذي (3619) واللفظ له، وابن أبي عاصم في ((الآحاد والمثاني)) (566)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (1/77) من حديث قيس بن مخرمة.
تفسير القرطبي لقوله تعالى : "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ":
فيه خمس مسائل :
الثالثة : في قصة أصحاب الفيل ; وذلك أن ( أبرهة ) بنى القليس بصنعاء ، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ، وكان نصرانيا ، ثم كتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي ، غضب رجل من النسأة ، فخرج حتى أتى الكنيسة ، فقعد فيها - أي أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه ; فأخبر بذلك أبرهة ، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل : صنعه رجل من أهل هذا البيت ، الذي تحج إليه العرب بمكة ، فغضب عند ذلك أبرهة ، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ، وبعث رجلا كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة ; فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل ; فزاد أبرهة ذلك غضبا وحنقا ، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم سار وخرج معه بالفيل ; وسمعت بذلك العرب ، فأعظموه وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقا عليهم ، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام . ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك ، يريد ما خرج له ، ... حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف ، فقالوا له : أيها الملك ، إنما نحن عبيدك ; سامعون لك مطيعون ، ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة ، نحن نبعث معك من يدلك عليه ; فتجاوز عنهم . وبعثوا معه أبا رغال ، حتى أنزله المغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هناك ، فرجمت قبره العرب ; فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس (لخيانته).
فلما نزل أبرهة بالمغمس ، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له ، حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها ; فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ; ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك . وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا لي بحرب ، فلا حاجة لي بدمائكم ; فإن هو لم يرد حربي فأتني به . فلما دخل حناطة مكة ، سأل عن سيد قريش وشريفها ; فقيل له : عبد المطلب بن هاشم ; فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة ; فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك منه طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم - عليه السلام - ، أو كما قال ، فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته ، وإن يحل بينه وبينه ، فوالله ما عندنا دفع عنه . فقال له حناطة : فانطلق إليه ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك ; فانطلق معه عبد المطلب ، ومعه بعض بنيه ، حتى أتى العسكر، فقيل: أيها الملك ، هذا سيد قريش ببابك ، يستأذن عليك ، وهو صاحب عين مكة ، يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رءوس الجبال ; فأذن له عليك ، فيكلمك في حاجته . قال : فأذن له أبرهة .
وكان عبد المطلب أوسم الناس ، وأعظمهم وأجملهم ، فلما رآه أبرهة أجله ، وأعظمه عن أن يجلسه تحته ; فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه . ثم قال لترجمانه : قل له : حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان ، فقا ل : حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال له ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه . قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني ، قال أنت وذاك . فرد عليه إبله . وانصرف عبد المطلب إلى قريش ، فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب ، تخوفا عليهم معرة الجيش . ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش ، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا إنهم لن يقهروا قواكا
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله ، وعبأ جيشه ، فلما وجهوا الفيل إلى مكة برك الفيل ، وضربوا الفيل ليقوم فأبى ، فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى ; فأدخلوا محاجن لهم في مراقه ، فبزغوه بها ليقوم ، فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن ، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك . وأرسل الله عليهم طيرا من البحر ، أمثال الخطاطيف والبلسان ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك ; وليس كلهم أصابت . وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاءوا منها ، فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك على كل سهل ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث قيحا ودما ; حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون .
الخامسة : قال علماؤنا : كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت قبله وقبل التحدي ; لأنها كانت توكيدا لأمره ، وتمهيدا لشأنه . ولما تلا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة ، كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة ; ولهذا قال : ألم تر ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكففان الناس . وقالت عائشة - رضي الله عنها - مع حداثة سنها : لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس . وقال أبو صالح : رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة ، سودا مخططة بحمرة .اهـ

  • حرب الفِجَارِ :
ولِدَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَ الفيلِ وبينَ الفِجَارِ وبينَ الفيلِ عشرونَ سنةً قال سمُّوه الفِجارَ لأنهم [ فَجَروا ] وأحلُّوا أشياءَ كانوا يُحرمونها وكان بينَ الفِجارِ وبينَ بناءِ الكعبةِ خمسَ عشرةَ سنةً وبينَ بناءِ الكعبةِ ومبعثِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خمسُ سنينَ فبُعِث النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو ابنُ أربعينَ.
الراوي : قيس بن مخرمة | المحدث : الهيثمي | المصدر : مجمع الزوائد الصفحة أو الرقم: 8/260 | خلاصة حكم المحدث : فيه جعفر بن مهران السباك وقد وثق وفيه كلام وبقية رجاله ثقات‏.
قال في الرحيق المختوم :
وفي السنة العشرين من عمره صلى الله عليه وسلم وقعت في سوق عُكاظ حرب بين قريش ـ ومعهم كنانة ـ وبين قَيْس عَيْلان، تعرف بحرب الفِجَار وسببها‏:‏ أن أحد بني كنانة، واسمه البَرَّاض، اغتال ثلاثة رجال من قيس عيلان، ووصل الخبر إلى عكاظ فثار الطرفان، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية؛ لمكانته فيهم سنا وشرفًا، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان في وسط النهار كادت الدائرة تدور على قيس‏.‏ ثم تداعى بعض قريش إلى الصلح على أن يحصوا قتلى الفريقين، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد‏.‏ فاصطلحوا على ذلك، ووضعوا الحرب، وهدموا ما كان بينهم من العداوة والشر‏.‏ وسميت بحرب الفجار؛ لانتهاك حرمة الشهر الحرام فيها، وقد حضر هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينبل على عمومته؛ أي يجهز لهم النبل للرمي‏.‏ اهـ

  • حلف الفضول :
قال صلى الله عليه وسلم : " لقدْ شَهِدْتُ في دارِ عبدِ اللهِ بنِ جُدْعانَ حِلْفًا، لو دُعِيتُ به في الإسلامِ لأَجَبْتُ، تَحالَفوا أنْ يَرُدُّوا الفُضولَ على أهْلِها، وأنْ لا يعد ظالمٌ مَظلومًا".
الراوي : محمد و عبدالرحمن بن أبي بكر | المحدث : ابن الملقن | المصدر : البدر المنير الصفحة أو الرقم: 7/325 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
قال في الرحيق المختوم :
وعلى أثر هذه الحرب وقع حلف الفضول في ذى القعدة في شهر حرام تداعت إليه قبائل من قريش‏:‏ بنو هاشم، وبنو المطلب،وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جُدْعان التيمى؛ لسنِّه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة‏:‏ ‏(‏لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت‏)‏‏.‏ وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها، ويقال في سبب هذا الحلف‏:‏ إن رجلًا من زُبَيْد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمى، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار ومخزومًا، وجُمَحًا وسَهْمًا وعَدِيّا فلم يكترثوا له، فعلا جبل أبي قُبَيْس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعًا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال‏:‏ ما لهذا مترك‏؟‏ حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلف الفضول، فعقدوا الحلف ثم قاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي‏.‏ اهـ

  • بناء الكعبة
وفي عمدة التفسير:
ولَمَّا بلَغَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَمسًا وثلاثينَ سنةً، اجتمَعَتْ قُريشٌ لِبُنْيانِ الكعبةِ، وكانوا يَهُمُّونَ بذلك لِيَسقُفُوها، ويَهابُونَ هَدْمَها، وإنَّما كانت رَضْمًا فوقَ القامةِ، فأرادوا رَفْعَها وتَسْقِيفَها، وكان بمكَّةَ رجلٌ قِبطِيٌّ، فهيَّأَ لهم في أنفسِهم بعضَ ما يُصلِحُها، فلمَّا أجمَعوا أَمْرَهم في هَدْمِها وبُنْيانِها، قام أبو وَهْبٍ ابنُ عَمرِو بنُ عائِدِ بنِ عبدِ بنِ عِمْرانَ بنِ مَخْزُومٍ، فقال: يا مَعشرَ قُريشٍ، لا تُدخِلُوا في بُنْيانِها مِن كَسْبِكم إلَّا طَيِّبًا، لا يُدخَلُ فيها مَهْرُ بَغِيٍّ ولا بَيْعُ رِبًا، ولا مَظْلَمةُ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ، ثمَّ إنَّ قُرَيشًا تَجزَّأَتِ الكعبةَ، فكان شِقُّ البابِ لِبَني عبدِ مَنافٍ وزُهْرةَ، وكان ما بين الرُّكنِ الأسودِ والرُّكنِ اليَماني لِبَني مَخْزُومٍ وقبائِلَ مِن قُريشٍ انضَمُّوا إليها، وكان ظَهْرُ الكعبةِ لِبَني جُمَحٍ وسَهْمٍ، وكان شِقُّ الحَجَرِ لِبَني عبدِ الدَّارِ بنِ قُصَيٍّ، ولِبَني أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ قُصَيٍّ، ولِبَني عَدِيِّ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ، وهو الحُطَيْمُ، حتَّى إذا انتَهى الهَدْمُ إلى الأساسِ، أساسِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، أفضَوْا إلى حِجارةٍ خُضْرٍ كالآسِنةِ آخِذٌ بعضُها بعضًا، ثمَّ إنَّ القبائِلَ مِن قُريشٍ جمَعَتِ الحجارةَ لِبِنائِها، كلُّ قبيلةٍ تجمَعُ على حِدَةٍ، ثمَّ بَنَوْها، حتَّى بلَغَ البُنْيانُ موضِعَ الرُّكنِ -يعني الحَجَرَ الأسودَ- فاختَصَمُوا فيه، كلُّ قَبيلةٍ تُريدُ أنْ تَرفَعَه إلى مَوضِعِه دونَ الأخرى، حتَّى تَحاوَرُوا وتَخالَفُوا، وأعَدُّوا للقتالِ، فقرَّبَتْ بَنو عبدِ الدَّارِ جَفْنةً مَملوءةً دَمًا، ثمَّ تَعاقَدوا هم وبَنو عَدِيِّ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ على الموتِ، وأَدخَلُوا أيديَهم في ذلك الدَّمِ في تلك الجَفْنةِ، فسمِعُوا: لَعْقةَ الدَّمِ، فمكَثَتْ قُريشٌ على ذلك أربَعَ ليالٍ أو خَمسًا، ثمَّ إنَّهم اجتَمَعوا في المسجدِ فتَشاوَرُوا وتَناصَفُوا، فزعَمَ بعضُ أهلِ الرِّوايةِ: أنَّ أبا أُمَيَّةَ بنَ المُغِيرةِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُومٍ -وكان عامَئِذٍ أسَنَّ قُرَيشٍ كلِّهم- قال: يا مَعشرَ قُريشٍ، اجعَلُوا بينَكم فيما تَختلِفون فيه أوَّلَ مَن يدخُلُ مِن بابِ هذا المسجدِ يَقضي بينكم فيه، ففعَلُوا، فكان أوَّلُ داخِلٍ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا رأَوْه قالوا: هذا الأمينُ رَضِينا، هذا محمَّدٌ، فلمَّا انتَهى إليهم وأخبَرُوه، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هَلُمَّ إليَّ ثَوًّبا، فأُتِيَ به، فأخَذَ الرُّكنَ -يعني الحَجَرَ الأسودَ- فوضَعَه فيه بيدِه، ثمَّ قال: لِتَأخُذْ كلُّ قَبيلةٍ بناحِيةٍ مِنَ الثَّوبِ ثمَّ: ارفَعُوه جميعًا، ففَعَلوا، حتَّى إذا بَلَغُوا به موضِعَه وضَعَه هو بيدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ بَنى عليه، وكانت قُرَيشٌ تُسمِّي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قبلَ أنْ ينزِلَ عليه الوَحيُ: الأمينَ، وكانتِ الكعبةُ على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثمانيةَ عَشَرَ ذِراعًا، وكانت تُكسَى القَبَاطِيَّ، ثمَّ كُسِيَتْ بعد البُرودِ، وأوَّلُ مَن كَسَاها الدِّيباجَ الحَجَّاجُ بنُ يُوسُفَ.
الراوي : - | المحدث : أحمد شاكر | المصدر : عمدة التفسير
الصفحة أو الرقم: 1/182 | خلاصة حكم المحدث : [أشار في المقدمة إلى صحته]


  • بدء عرض الرسالة على قبائل العرب :
روى البيهقي في دلائل النبوة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لما أمر الله تبًارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبًائل العرب ، خرج وأنا معه ، وأبو بكر رضي الله عنه ، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب ، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه وكان مقدما في كل خير ، وكان رجلا نسابة فسلم ، وقال : ممن القوم ؟ قالوا : من ربيعة . قال : وأي ربيعة أنتم ؟ أمن هامها أي : من لهازمها ؟ فقالوا : من الهامة العظمى ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : وأي هامتها العظمى أنتم ؟ قالوا : من ذهل الأكبر ، قال : منكم عوف الذي يقال له : لا حر بوادي عوف ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ، ومانع الجار ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم بسطام بن قيس : أبو اللواء ، ومنتهى الأحياء ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا : لا . قال : فمنكم أصحاب الملوك من لخم ؟ قالوا : لا ، قال : أبو بكر : فلستم من ذهل الأكبر أنتم من ذهل الأصغر ، قال : فقام إليه غلام من بني شيبًان يقال له : دغفل حين تبين وجهه فقال : إن على سائلنا أن نسله والعبو لا نعرفه أو نجهله ، يا هذا قد سألتنا فأخبرناك ، ولم نكتمك شيئا فممن الرجل ؟ قال أبو بكر : أنا من قريش ، فقال الفتى : بخ بخ أهل الشرف والرياسة ، فمن أي القرشيين أنت ؟ قال : من ولد تيم بن مرة ، فقال الفتى : أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة . أمنكم قصي الذي جمع القبًائل من فهر فكان يدعى في قريش مجمعا ؟ قال : لا ، قال : فمنكم - أظنه قال - هشام الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف ؟ قال : لا ، قال : فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذي كان وجهه القمر يضيء في الليلة الداجية الظلماء ؟ قال : لا ، قال : فمن أهل الإفاضة بًالناس أنت ؟ قال : لا . قال : فمن أهل الحجابة أنت ؟ قال : لا ، قال فمن أهل السقاية أنت ؟ قال : لا ، قال : فمن أهل النداوة أنت ؟ قال : لا ، قال : فمن أهل الرفادة أنت ؟ قال : فاجتذب أبو بكر رضي الله عنه زمام الناقة راجعا إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فقال الغلام : صادف در السيل درا يدفعه يهضبه حينا وحينا يصدعه أما والله لو ثبت لأخبرتك من قريش ، قال : فتبسم رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قال علي : فقلت : يا أبًا بكر ! لقد وقعت من الأعرابي على بًاقعة ، قال : أجل أبًا حسن ما من طامة إلا وفوقها طامة ، والبلاء موكل بًالمنطق . قال : ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار ، فتقدم أبو بكر فسلم ، فقال : ممن القوم ؟ قالوا : من شيبًان بن ثعلبة ، فالتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فقال : بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر الناس ، وفيهم مفروق بن عمرو ، وهانىء بن قبيصة ، والمثنى بن حارثة ، والنعمان بن شريك ، وكان مفروق قد غلبهم جمالا ولسانا ، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته وكان أدنى القوم مجلسا ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : كيف العدد فيكم ؟ فقال مفروق : إنا لنزيد على ألف ، ولن تغلب ألف من قلة . فقال أبو بكر : وكيف المنعمة فيكم ؟ فقال المفروق : علينا الجهد ولكل قوم جهد . فقال أبو بكر رضي الله عنه : كيف الحرب بينكم وبين عدوكم ؟ فقال مفروق : إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب ، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد ، والسلاح على اللقاح ، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى ، لعلك أخا قريش . فقال أبو بكر رضي الله عنه : قد بلغكم أنه رسول اللهِ ألا هوذا ، فقال مفروق : بلغنا أنه يذكر ذاك فإلى ما تدعو يا أخا قريش ؟ فتقدم رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فجلس وقام أبو بكر رضي الله عنه يظله بثوبه ، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإلى أن تئووني وتنصروني ، فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله ، وكذبت رسله ، واستغنت بًالبًاطل عن الحق ، والله هو الغني الحميد . فقال مفروق بن عمرو : وإلام تدعونا يا أخا قريش ، فوالله ما سمعت كلاما أحسن من هذا ؟ فتلا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ] قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم – إلى – فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ . فقال مفروق : وإلام تدعونا يا أخا قريش زاد فيه غيره : فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض ؟ ثم رجعنا إلى روايتنا قال : فتلا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ] إن الله يأمر بًالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [ . فقال مفروق بن عمرو : دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك . وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانىء بن قبيصة ، فقال : وهذا هانىء شيخنا وصاحب ديننا ، فقال هانىء : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش إني أرى إن تركنا ديننا واتبًاعنا على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر أنه زلل في الرأي ، وقلة نظر في العاقبة ، وإنما تكون الزلة مع العجلة ، ومن ورائنا قوم نكره أن يعقد عليهم عقدا ، ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر . وكأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة ، فقال : وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا ، فقال المثنى بن حارثة : سمعت مقالتك يا أخا قريش ، والجواب فيه جواب هانىء بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتك على دينك ، وإنا إنما نزلنا بين صريين اليمامة ، والسمامة ، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : ما هذان الصريان ؟ فقال : أنهار كسرى ومياه العرب ، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول ، وأما ماكان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول ، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا أن لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا قرشي مما يكره الملوك ، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا .
فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بًالصدق وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه أرأيتم أن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم و نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه ؟ فقال النعمان بن شريك : اللهم فلك ذلك ، قال : فتلا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : ] إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ . ثم نهض رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قابضا على يدي أبي بكر وهو يقول : يا أبًا بكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها ! بها يدفع الله عز وجل بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم . قال : فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بًايعوا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قال : فلقد رأيت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وقد سر بما كان من أبي بكر ومعرفته بأنسابهم.

  • ما كان عليه العربُ المُشرِكون مِن حِفظِ العَهدِ والجوارِ.
في حديث أم المؤمنين رضي الله عنها : لَمْ أعْقِلْ أبَوَيَّ قَطُّ، إلَّا وهُما يَدِينانِ الدِّينَ، ولَمْ يَمُرَّ عليْنا يَوْمٌ إلَّا يَأْتِينا فيه رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ طَرَفَيِ النَّهارِ، بُكْرَةً وعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ خَرَجَ أبو بَكْرٍ مُهاجِرًا نَحْوَ أرْضِ الحَبَشَةِ، حتَّى إذا بَلَغَ بَرْكَ الغِمادِ لَقِيَهُ ابنُ الدَّغِنَةِ وهو سَيِّدُ القارَةِ، فقالَ: أيْنَ تُرِيدُ يا أبا بَكْرٍ؟ فقالَ أبو بَكْرٍ: أخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أنْ أسِيحَ في الأرْضِ وأَعْبُدَ رَبِّي، قالَ ابنُ الدَّغِنَةِ: فإنَّ مِثْلَكَ يا أبا بَكْرٍ لا يَخْرُجُ ولا يُخْرَجُ، إنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ وتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ وتَقْرِي الضَّيْفَ وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ، فأنا لكَ جارٌ ارْجِعْ واعْبُدْ رَبَّكَ ببَلَدِكَ، فَرَجَعَ وارْتَحَلَ معهُ ابنُ الدَّغِنَةِ، فَطافَ ابنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً في أشْرافِ قُرَيْشٍ، فقالَ لهمْ: إنَّ أبا بَكْرٍ لا يَخْرُجُ مِثْلُهُ ولا يُخْرَجُ، أتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ المَعْدُومَ ويَصِلُ الرَّحِمَ، ويَحْمِلُ الكَلَّ ويَقْرِي الضَّيْفَ، ويُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ، فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بجِوارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وقالوا: لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أبا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ في دارِهِ، فَلْيُصَلِّ فيها ولْيَقْرَأْ ما شاءَ، ولا يُؤْذِينا بذلكَ ولا يَسْتَعْلِنْ به، فإنَّا نَخْشَى أنْ يَفْتِنَ نِساءَنا وأَبْناءَنا، فقالَ ذلكَ ابنُ الدَّغِنَةِ لأبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أبو بَكْرٍ بذلكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ في دارِهِ، ولا يَسْتَعْلِنُ بصَلاتِهِ ولا يَقْرَأُ في غيرِ دارِهِ، ثُمَّ بَدا لأبِي بَكْرٍ، فابْتَنَى مَسْجِدًا بفِناءِ دارِهِ، وكانَ يُصَلِّي فِيهِ، ويَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَنْقَذِفُ عليه نِساءُ المُشْرِكِينَ وأَبْناؤُهُمْ، وهُمْ يَعْجَبُونَ منه ويَنْظُرُونَ إلَيْهِ، وكانَ أبو بَكْرٍ رَجُلًا بَكّاءً، لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إذا قَرَأَ القُرْآنَ، وأَفْزَعَ ذلكَ أشْرافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فأرْسَلُوا إلى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عليهم، فقالوا: إنَّا كُنَّا أجَرْنا أبا بَكْرٍ بجِوارِكَ، علَى أنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ في دارِهِ، فقَدْ جاوَزَ ذلكَ، فابْتَنَى مَسْجِدًا بفِناءِ دارِهِ، فأعْلَنَ بالصَّلاةِ والقِراءَةِ فِيهِ، وإنَّا قدْ خَشِينا أنْ يَفْتِنَ نِساءَنا وأَبْناءَنا، فانْهَهُ، فإنْ أحَبَّ أنْ يَقْتَصِرَ علَى أنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ في دارِهِ فَعَلَ، وإنْ أبَى إلَّا أنْ يُعْلِنَ بذلكَ، فَسَلْهُ أنْ يَرُدَّ إلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فإنَّا قدْ كَرِهْنا أنْ نُخْفِرَكَ، ولَسْنا مُقِرِّينَ لأبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلانَ، قالَتْ عائِشَةُ: فأتَى ابنُ الدَّغِنَةِ إلى أبِي بَكْرٍ فقالَ: قدْ عَلِمْتَ الذي عاقَدْتُ لكَ عليه، فَإِمَّا أنْ تَقْتَصِرَ علَى ذلكَ، وإمَّا أنْ تَرْجِعَ إلَيَّ ذِمَّتِي، فإنِّي لا أُحِبُّ أنْ تَسْمع العَرَبُ أنِّي أُخْفِرْتُ في رَجُلٍ عَقَدْتُ له، فقالَ أبو بَكْرٍ: فإنِّي أرُدُّ إلَيْكَ جِوارَكَ، وأَرْضَى بجِوارِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَئذٍ بمَكَّةَ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ: إنِّي أُرِيتُ دارَ هِجْرَتِكُمْ، ذاتَ نَخْلٍ بيْنَ لابَتَيْنِ وهُما الحَرَّتانِ، فَهاجَرَ مَن هاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ، ورَجَعَ عامَّةُ مَن كانَ هاجَرَ بأَرْضِ الحَبَشَةِ إلى المَدِينَةِ، وتَجَهَّزَ أبو بَكْرٍ قِبَلَ المَدِينَةِ، فقالَ له رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: علَى رِسْلِكَ، فإنِّي أرْجُو أنْ يُؤْذَنَ لي فقالَ أبو بَكْرٍ: وهلْ تَرْجُو ذلكَ بأَبِي أنْتَ؟ قالَ: نَعَمْ فَحَبَسَ أبو بَكْرٍ نَفْسَهُ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيَصْحَبَهُ، وعَلَفَ راحِلَتَيْنِ كانَتا عِنْدَهُ ورَقَ السَّمُرِ وهو الخَبَطُ، أرْبَعَةَ أشْهُرٍ. قالَ ابنُ شِهابٍ، قالَ: عُرْوَةُ، قالَتْ عائِشَةُ: فَبيْنَما نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ في بَيْتِ أبِي بَكْرٍ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قالَ قائِلٌ لأبِي بَكْرٍ: هذا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَقَنِّعًا، في ساعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينا فيها، فقالَ أبو بَكْرٍ: فِداءٌ له أبِي وأُمِّي، واللَّهِ ما جاءَ به في هذِه السَّاعَةِ إلَّا أمْرٌ، قالَتْ: فَجاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ له فَدَخَلَ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأبِي بَكْرٍ: أخْرِجْ مَن عِنْدَكَ. فقالَ أبو بَكْرٍ: إنَّما هُمْ أهْلُكَ، بأَبِي أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: فإنِّي قدْ أُذِنَ لي في الخُرُوجِ فقالَ أبو بَكْرٍ: الصَّحابَةُ بأَبِي أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: نَعَمْ قالَ أبو بَكْرٍ: فَخُذْ - بأَبِي أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ - إحْدَى راحِلَتَيَّ هاتَيْنِ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بالثَّمَنِ. قالَتْ عائِشَةُ: فَجَهَّزْناهُما أحَثَّ الجِهازِ، وصَنَعْنا لهما سُفْرَةً في جِرابٍ، فَقَطَعَتْ أسْماءُ بنْتُ أبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِن نِطاقِها، فَرَبَطَتْ به علَى فَمِ الجِرابِ، فَبِذلكَ سُمِّيَتْ ذاتَ النِّطاقَيْنِ قالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَبُو بَكْرٍ بغارٍ في جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنا فيه ثَلاثَ لَيالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُما عبدُ اللَّهِ بنُ أبِي بَكْرٍ، وهو غُلامٌ شابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فيُدْلِجُ مِن عِندِهِما بسَحَرٍ، فيُصْبِحُ مع قُرَيْشٍ بمَكَّةَ كَبائِتٍ، فلا يَسْمَعُ أمْرًا، يُكْتادانِ به إلَّا وعاهُ، حتَّى يَأْتِيَهُما بخَبَرِ ذلكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلامُ، ويَرْعَى عليهما عامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِن غَنَمٍ، فيُرِيحُها عليهما حِينَ تَذْهَبُ ساعَةٌ مِنَ العِشاءِ، فَيَبِيتانِ في رِسْلٍ، وهو لَبَنُ مِنْحَتِهِما ورَضِيفِهِما، حتَّى يَنْعِقَ بها عامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ بغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذلكَ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن تِلكَ اللَّيالِي الثَّلاثِ، واسْتَأْجَرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِن بَنِي الدِّيلِ، وهو مِن بَنِي عبدِ بنِعَدِيٍّ، هادِيا خِرِّيتًا، والخِرِّيتُ الماهِرُ بالهِدايَةِ، قدْ غَمَسَ حِلْفًا في آلِ العاصِ بنِ وائِلٍ السَّهْمِيِّ، وهو علَى دِينِ كُفّارِ قُرَيْشٍ، فأمِناهُ فَدَفَعا إلَيْهِ راحِلَتَيْهِما، وواعَداهُ غارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاثِ لَيالٍ، براحِلَتَيْهِما صُبْحَ ثَلاثٍ، وانْطَلَقَ معهُما عامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ، والدَّلِيلُ، فأخَذَ بهِمْ طَرِيقَ السَّواحِلِ .
الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري


  • وعند نزول القران :
 
  • وعند نزول القران:
قال تعالى : " وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ* أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ " 30-32 الزخرف
قال في التفسير الوسيط :
أى: وحين جاءهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالحق من عند ربهم، لكى يخرجهم من ظلمات الكفر، إلى نور الإِيمان.. قالوا - على سبيل الجحود والعناد -: هذا الذى جئتنا به نوع من السحر، وإنا به كافرون مكذبون. والتعبير بقوله: {جَآءَهُمُ} يشعر بأن الحق قد وصل إليهم دون أن يتعبوا أنفسهم فى البحث عنه، ومع ذلك فقد استقبلوه بالجحود والإِنكار. ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من ألوان حسدهم وعنادهم فقال: "وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ". والمراد بالقريتين مكة أو الطائف.. ومقصودهما إحداهما، كالوليد بن المغيرة من مكة، وكعروة بن مسعود من الطائف.. ويعنون بالعظم: كثرة المال، والرئاسة فى قومه. أى: وقال هؤلاء المشركون - على سبل العناد والحسد -: هلا أنزل هذا القرآن، الذى يقرؤه علينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على رجل عظيم فى ماله وسلطانه، ويكون من إحدى هاتين القريتين، وهما مكة أو الطائف. فهم لجهلهم وانطماس بصائرهم، استكثروا أن ينزل هذا القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - الذى وإن كان فى القمة من الشرف والسمو بين قومه إلا أنه لم يكن أكثرهم مالا وسلطانا، وهم يريدون أن تكون النبوة فى زعيم من زعمائهم، أو رئيس من رؤسائهم. وهذا منهم - كما يقول الآلوسى - لجهلهم بأن رتبة الرسالة، إنما تستدعى عظيم النفس، بالتخلى عن الرذائل الدنية، والتحلى بالكمالات والفضائل القدسية، دون التزخرف بالزخارف الدنيوية. وقد وبخهم الله -تعالى - على جهلهم هذا بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} فالاستفهام للإِنكار والتهكم بهم، والتعجب من تفكيرهم. اهـ
وروى البيهقي في شعب الايمان :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حِينَ اجْتَمَعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ لِيَجْتَمِعُوا عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَقُولُونَ : فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُفُودِ الْعَرَبِ ، فَقَالُوا : فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ! فَقُلْ وَأَقِمْ رَأَيًا نَقُومُ بِهِ ، فَقَالَ : بَلْ أَنْتُمْ ، فَقُولُوا : أَسْمَعُ ، فَقَالُوا : نَقُولُ كَاهِنٌ ، فَقَالَ : مَا هُوَ بِكَاهِنٍ ، لَقَدْ رَأَيْتُ الْكُهَّانَ ، فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَسِحْرِهِ ، فَقَالُوا : نَقُولُ : هُوَ مَجْنُونٌ ، فَقَالَ : مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ ، وَعَرَفْنَاهُ ، فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ ، وَلا تَخَالُجِهِ ، وَلا وَسْوَسَتِهِ ، فَقَالُوا : نَقُولُ : شَاعِرٌ ، قَالَ : مَا هُوَ بِشَاعِرٍ ، وَلَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ بِرَجَزِهِ وَهَزَجِهِ ، وَقَرِيضِهِ ، وَمَقْبُوضِهِ ، وَمَبْسُوطِهِ ، فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ ، قَالُوا : فَنَقُولُ : هُوَ سَاحِرٌ ، قَالَ : فَمَا هُوَ بِسَاحِرٍ لَقَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلا عَقْدِهِ ، فَقَالُوا : فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ؟ قَالَ : وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلاوَةً ، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَمُغْدِقٌ ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنًى ، فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنْ تَقُولُوا : سَاحِرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ ، وَبَيْنَ أَبِيهِ ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ ، وَبَيْنَ أَخِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ زَوْجِهِ ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ عَشِيرَتِهِ ، فَتُفَرِّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ " ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ :
"ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا ۖ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)" سورة المدثر.

  • مُّحَمَّدٌ لا يكذب :
( قال أبو جهل في ملأ من قريش لقد انتشر علينا أمر محمد فلو التمستم عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة لقد سمعت السحر والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي إن كان كذلك ، فأتاه فقال له : يا محمد أنت خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ ، فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا ! ، فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا لك ألويتنا وكنت رأسنا ما بقيت ، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي أبيات قريش شئت ، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بسم الله الرحمن الرحيم { حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } حتى بلغ "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ " ، فأمسك عتبة على فيه وانشده الرحم ليكف عنه ، (لفظ ابن مردويه) ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم ، فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبا إلى محمد وأعجبه كعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته انطلقوا بنا إليه ، فأتوه فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا ، وقال لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته . . . فقص عليهم القصة فأجابني بشيء ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة ، قرأ بسم الله الرحمن الرحيم { حم تنزيل من الرحمن الرحيم } حتى بلغ { فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب.)
الراوي : جابر بن عبدالله | المحدث : الزيلعي | المصدر : تخريج الكشاف الصفحة أو الرقم: 3/228 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صالح
...................
فيتبين من الاحداث المذكورة عاليه شرف الاخلاق في الجاهلية التي يدفع بها الله عز وجل بأس بعضهم عن بعض.
وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " تَجِدُونَ النَّاسَ مَعادِنَ، خِيارُهُمْ في الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ في الإسْلامِ، إذا فقِهُوا، وتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ في هذا الشَّأْنِ أشَدَّهُمْ له كَراهيةً. وتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذا الوَجْهَيْنِ الذي يَأْتي هَؤُلاءِ بوَجْهٍ، ويَأْتي هَؤُلاءِ بوَجْهٍ."
الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالأمة التي بُعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم أولاً هم العرب وبواسطتهم حصلت الدعوة لسائر الأمم؛ لأنه إنما بعث بلسانهم فكانوا أميين عامة ليست فيهم مزية علم ولا كتاب ولا غيره مع كون فطرهم كانت مستعدة للعلم أكمل من استعداد سائر الأمم. بمنزلة أرض الحرث القابلة للزرع؛ لكن ليس لها من يقوم عليها فلم يكن لهم كتاب يقرؤونه منزل من عند الله كما لأهل الكتاب ولا علوم قياسية مستنبطة كما للصابئة ونحوهم. وكان الخط فيهم قليلاً جدًّا، وكان لهم من العلم ما يُنال بالفطرة التي لا يخرج بها الإنسان عن الأُمُوَّة العامة. كالعلم بالصانع سبحانه وتعظيم مكارم الأخلاق وعلم الأنواء. والأنساب والشعر. فاستحقوا اسم الأمية من كل وجه. كما قال فيهم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2] وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آل عمران:20] فجعل الأميين مقابلين لأهل الكتاب. اهـ (مجموع الفتاوي: 25/ 167-169).
ولكن حيث كان لأهل الجاهلية صفات حميدة كالكرم والوفاء والشجاعة وفيهم بقايا من دين إبراهيم عليه السلام كتعظيم البيت والطواف به والحج وإهداء البدن ،، فإلى جانب هذا كانت لهم صفات وعادات ذميمة كالزنا , وشرب الخمور وأكل الربا وقتل البنات والظلم , وعبادة الأصنام .ولما انتشر الشرك والفساد بهذه الصورة بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى عبادة الله وحده سراً ثم جهراً ، فأنذر عشيرته الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين . فآمن بهذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم قلة من الأغنياء والأشراف والضعفاء والفقراء والعبيد رجالاً ونساءً من الأميين، حتى أظهر الله دينه.


  • هل الشريعة أمّية ؟
 
السلام عليكم ورحمة الله
أخي أحمد صبري
معنى الأمية :
فقد تكون كتابياً : أي من أهل الكتاب وأنت لا تقرأ ولا تكتب كعامة الناس اليوم الذين لا يقرأوون ولا يكتبون سواء (من اليهود أو النصارى أو المسلمين ) مع أنه أنزل إلى كل من هذه الطوائف كتاب .
وقد تكون أمياً وأنت تقرأ وتكتب كالصحابة أميون وكان منهم من يقرأ ويكتب كعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم .

فالأمية حقيقةً ليس لها علاقة بالكتابة والقراءة .

لم ترد "الأمي" وصفاً لرسول لله في القرآن إلا مرتين ولم يوصف بها- فيما نعلم - غيرنبينا محمد عليه الصلاة والسلام فوردت مرة في دعوة اليهود والنصارى لوجوب إتباعه على أنه "الرسول النبي الأمّي"، ثم في الآية تليها مباشرة من سورة الأعراف " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله "ورسوله النبي الأمّي" الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون
فبهذه الصفات الثلاث متتالية يوجب الله على الناس جميعاً - بما فيهم أهل الكتاب - أن يتبعوا هذا "الرسول النبي الأمي " وها هنا أصل السؤال ، أن يؤمر الناس جميعاً باتباعه لأنه رسول من الله يستسيغه كل مَدْعُو بهذه الآية ، ، أمر معقول واجب ، وأن يؤمر الناس جميعاً باتباعه لأنه نبي الله أمر واجب أيضاً ، وأما أن يؤمر الناس جميعاً باتباعه لأنه " لا يقرأ ولا يكتب" فهمٌ فيه نظر ، فلا خلاف أن اتباع " الكتاب " ومن يحمل الكتاب أولى من اتباع ما سواه .
القرآن أَولى بالتصديق وظاهرُه أولى بالإتباع فهو من أوَّلِه كتابٌ عربيٌ مفصَّل مبيَّن .
فـ "الأمّي" أصلها "أُمْ" أضيفت إليها ياءُ النسبة ، ك"مكِّي" نسبة لمكة ، كما لو كنت من مصر فأنت مصري وكما لو كنت من الصين فأنت صينى وكما لو كنت من العرب فأنت عربى أو من العجم فأنت عجمى .... كذلك كل من كان من أم القرى فهو أمي .

والأم بلسان القرآن العربي : الأصل والأول ، فأم الرجل أصلهُ وأولهُ ومنشأهُ ، كما في سورة القَصَصْ {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في "أُمِّها" رسولاً} أي في أصولها وجمعها ، وليس هناك مسلم لا يعرف "أم الكتاب" التي في أول القرآن وأصله ، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم بوصف النبي المعصوم لها بكونها "أم الكتاب " .

وأية آل عمران دليل آخر "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب" بما تحمله الآية من معاني الأصول والجوهر.

بعثه الله من ( أم القرى ) .. فكان مبعثه من الأميين وفى الأميين وإلى الأميين .
فكلمة { النَّبِيِّ الأُمِّيِّ } ليست بمعنى الأمية ( الذي لا يقرأ ولا يكتب ).. بل تعنى أن رسول الله كان أمياً من أم القرى .


فأهل مكة جميعهم أميين ليس لأنهم لايعرفون القراءة والكتابة فهم كانوا أهل الفصاحة واللسان ولكن لكونهم من أم القرى مكة .

يقول تبارك وتعالى : " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ " بكل ما تعنيه الكلمة من معاني الأصل ، أصل المنشأ و أصل الرسالة وحتى أصل اللسان .

وعدم القراءة والكتابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت شرفاً له وتشريفاً من الله حتى لا يرتاب المشككون أو يدّعى المبطلون أنه قام بكتابة كلام الله أو تم إلإملاء به عليه يقول جل شأنه : " وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ".
وكما في صحيح الحديث " إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته" فلم يُبعث نبي ولم يُرسل رسول إلا على "لا أله إلا الله محمد رسول الله " كما تقرره آية آل عمران "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وانا معكم من الشاهدين ".
، لم يرسل رسول ولا نبي إلا وأُمر باتباع "الرسول النبي الأمّي " وأن يأمر قومه باتباعه! فهو بهذا "أم" أي أصل الرسالة والنبوة وهذا ما يشهد له "إمامة" النبي للنبيين في المسجد الأقصى .

فكان بذلك كل نبي ورسول يرسل الى قومه خاصة وهو يعلم أن محمدا رسول الله ، فكل الرسل والنبيين مقدِّمون "خاصون" للرسالة العامة حتى إذا أدى كل نبي ما عليه ، بُعث الرسول النبي "الأمّي" عامة لكل الأمم .

أم القرى نسبة الى منشأ الناس الأول وكما في الحديث " كانت الكعبة خشعة على الماء ثم دحى الله الأرض من حولها ، فكانت مكة أول ما تشكل على ظهر البحر، ثم انبسطت الأرض من حولها " فمكة "أم القرى" وأصل نشأة الناس جميعاً وقريتهم الأم : أي الأصل ، قال تعالى {لتنذر أم القرى ومن حولها} و{إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} ليكون بذلك النبي "الأمّي" للناس جميعاً ، كونه من "أم قراهم"، ومن "بيت" أبيهم الأول ، فهو لهم كافة فهذه أرضهم "وبيت" أبيهم آدم من قبل وإن تباعدت بهم السبل وتفرقت بهم الأرضون .
 
إن شئتِ أن تتقدَّمي * وتُعَظَّــمي وتُكَــرَّمي
يـــا أمَّـــةً أُمِّــــيَّةً * بيْن الورى فتــعلَّمي
اقرأ أتتْ باسمِ الذي * خَلَقَ البرايَا الأكــرَمِ
اقرأ وقد عُلِّمتَ يـــا * إنســـانُ ما لم تعلمِ
وجــوابُ كيفَ مبيَّنٌ * ما ردَّهُ إلَّا العَـــــمِي
قَدْ علَّمَ الإنســـانَ بالــ*ـقَلَمِ انتبِهْ ولتَفْهَمِ
___
أمَّا النَّــــبيُّ فكونُ ما * يوحـــى إليه بالفمِ
لا مثلَ موسى يــقرأ الألواحَ بعـــــدَ تَعَلُّمِ
لا كــــاتبًا أو تاليًا * كُتُبًا فــــذا للأسْـلَمِ
من أن يُحــاطَ بريبةٍ * من مُبطلــينَ وزُنَّـم
___
أوليس من يأتيك بالــ*ــخبَرِ اليقين الأقدمِ
وبما به تفصــيلُ آيـــاتِ الكتابِ المُحكمِ
أمِّيَّ أُمـــــيِّينَ ليـــ*ــس بذاكَ أو بمترجِمِ​
 
تعليقا على كلام العضو صالح:
- الأمية ليست نسبة لأم القرى! بل نسبة للأم
(حتى لغويا لا يجوز، إذ النسبة لأم القرى: قروي)
- كانت أمة العرب أمية في المجمل، ولم يظهر فيها تأليف كتب، بينما كان للروم والفرس والصين والهند مؤلفات (وبعضها حسابي وعلمي وقبل البعثة المحمدية بألف سنة)
- أغلب الرسل كانوا في أمة أهل "الكتاب".. وكان التوقع السائد عند اليهود أن الرسول المنتظر سيأتي منهم، فكانت الصدمة هي اختياره من أمة أخرى.
نزل القرآن في أمة كانت بلا كتاب سابق، بينما أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى كانوا في أمة الكتاب.
فكلمة "نبي الأميين" يجب فهمها في ضوء كلمة "أهل الكتاب".
 
السلام عليكم ورحمة الله

لا تعارض بين القراءة والتعلم وبين الأمية لكن السؤال ماذا نقرأ ؟؟
سمعت أحدهم على إحدى القنوات التي يسمونها " دينية " يقول نحن أمةُ اقرأ ،، فأقول له
اقرأ ماذا ؟ اقرأ التي في سورة العلق ، ماذا كانت ؟ اقرأ ماذا ؟ "اقرأ باسم ربك الذي خلق " أبى نبيُ الله أن تُقرأ التوراة والإنجيل وهو حي .

هم عندهم اقرأ ما تيسر لك من كل خرف وباطل وكذب .
بينما قال الله " اقرأ باسم ربك الذي خلق " فحين قال الله اقرأ، قال اقرأ لغيري ؟؟ قال اقرأ باسمي الذي خلقك ثم قال في آخرها " اسجد واقترب "
فكلُ قراءةٍ من غيرِ الوحي لا تقربُ الى الله عز وجل .

اقرأ- يا محمد- ما أنزل إليك من القرآن مفتتحا باسم ربك المتفرد بالخلق ، الذي صور الإنسان من قطعة دم غليظ .
اقرأ ما أنزل إليك ربك ومَنَّ عليك بالفهم والجود والإحسان.
 
السلام عليكم ورحمة الله
الأخ محمد سلامة بارك الله فيك
أنا لم أقل أن الأمية نسبة لأم القرى ولا أعلم من أين أتيت بها ، أنا قلت أن الأمية نسبة للأم ومن خلال تتبع آيات القرآن في فهم كلمة الأم وجدنا أن مكة تُسمى بأم القرى أي أصل ومنشأ القرى الأول . أظن الكلام واضح .

والأم بلسان القرآن العربي : الأصل والأول ، فأم الرجل أصلهُ وأولهُ ومنشأهُ ، كما في سورة القَصَصْ {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في "أُمِّها" رسولاً} أي في أصولها وجمعها ، وليس هناك مسلم لا يعرف "أم الكتاب" التي في أول القرآن وأصله ، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم بوصف النبي المعصوم لها بكونها "أم الكتاب " .
وأية آل عمران دليل آخر "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب" بما تحمله الآية من معاني الأصول والجوهر.
فمكة "أم القرى" وأصل نشأة الناس جميعاً وقريتهم الأم : أي الأصل ، قال تعالى {لتنذر أم القرى ومن حولها} و{إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} ليكون بذلك النبي "الأمّي" كونه من "أم قراهم"، ومن "بيت" أبيهم الأول .
أرجو أن يزول الإشكال الآن .

أما كلامك عن أهل الكتاب
و
أن العرب كانت أمة أمية في المجمل، ولم يظهر فيها تأليف كتب، بينما كان للروم والفرس والصين والهند مؤلفات (وبعضها حسابي وعلمي وقبل البعثة المحمدية بألف سنة)
- أغلب الرسل كانوا في أمة أهل "الكتاب".. وكان التوقع السائد عند اليهود أن الرسول المنتظر سيأتي منهم، فكانت الصدمة هي اختياره من أمة أخرى.
نزل القرآن في أمة كانت بلا كتاب سابق، بينما أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى كانوا في أمة الكتاب.

فهذا لا علاقة له بالأمية لا من قريب ولا من بعيد ، هذا لأنك فهمت الأمية على أنها الذي لا يقرأ ولا يكتب أو تأليف كتب .
 
كما أنه لا تعارض عندما نقول أن الأمية نسبة لأم القرى ( مكة ) على اعتبار أن مكة أصل ومنشأ النبي صلى الله عليه وأصل ومنشأ القرى ،،،، فالفهم الذي يوصل الى هذا هو المهم .
لاحظ أنا تكلمت عن فهم معين على اعتبار أن الأم تحمل معنى الأصل والمنشأ الأول ، وهناك معاني أخرى أو فهم آخر لم أكتبه بعد لأن الموضوع متشابك فلا بد من التدرج .
 
بل قلتَ:
[فكلمة النَّبِيِّ الأُمِّيِّ ليست بمعنى الأمية (الذي لا يقرأ ولا يكتب) بل تعنى أن رسول الله كان أميا من أم القرى.
فأهل مكة جميعهم أميين ليس لأنهم لايعرفون القراءة والكتابة فهم كانوا أهل الفصاحة واللسان ولكن لكونهم من أم القرى مكة]

وهذا خطأ.
أم القرى شيء وأمية النبي شيء آخر!
الأميون هم العرب من غير أهل الكتاب. أمة لم تكن تكتب كتبا ولم يكن لها توراة ولا إنجيل. أمميون/أغيار بمصطلح أهل الكتاب اليهود.
 
السلام عليكم ورحمة الله

[FONT=&quot]فكلمة النَّبِيِّ الأُمِّيِّ ليست بمعنى الأمية (الذي لا يقرأ ولا يكتب) بل تعنى أن رسول الله كان أميا من أم القرى.[/FONT]
[FONT=&quot]فأهل مكة جميعهم أميين ليس لأنهم لايعرفون القراءة والكتابة فهم كانوا أهل الفصاحة واللسان ولكن لكونهم من أم القرى مكة][/FONT]
أخي الكريم هذا الكلام صحيح ولا غبار عليه وادعاءك أنه "لغويا" لا يجوز هو الخطأ لأن القرية مقرونة بكلمة أم فلا يقال أم القروي ، ولا أم المصروي ولا غيرها .

والله لا أعرف ماذا أقول لك ولكن فرضاً وتنزلاً معك أن أم القرى شيء وأمية الرسول شيء أخر بقي أنني استدللت باللسان العربي على معنى الأم والقرآن أكبر شاهد فبماذا استدللت أنت ؟؟!!!!

ألم تقل أنت بأن الأمية نسبة الى الأم ، ماذا تعني الأم ؟ يعني عندما نقول أم القرى ، ماذا تعني أم ؟
فعندما نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم " الأمي" التي هي نسبة إلى الأم والتي تعني الأصل أو المنشأ الأول من أم القرى ؟ هل هناك جامع بينهما !!! يكاد يكون مبينا .

أنت تقول أن الأميون هم العرب من غير أهل الكتاب ، الدليل ؟؟!!!!
أثبت لي أن الأمة الأمية هي التي ليس لها كتاب أو التي لم تكن تكتب ؟؟

[FONT=&quot]أمة لم تكن تكتب كتبا ولم يكن لها توراة ولا إنجيل[/FONT]

ما علاقة التوراة و الإنجيل بالأمية ؟؟؟ أريد أدلة ما تقولي لأنهم عندهم كتاب وما بعرف شو ، أريد استدلالات .
 
ما هو تفسيرك اخي الكريم لقوله تعالى " ومنهم اميون لا يعلمون الكتاب الا اماني وان هم الا يظنون"
 
فعندما نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم " الأمي" التي هي نسبة إلى الأم والتي تعني الأصل أو المنشأ الأول من أم القرى ؟ هل هناك جامع بينهما !!! يكاد يكون مبينا .
أنت تقول أن الأميون هم العرب من غير أهل الكتاب ، الدليل ؟؟!!!!
أثبت لي أن الأمة الأمية هي التي ليس لها كتاب أو التي لم تكن تكتب ؟؟
ما علاقة التوراة و الإنجيل بالأمية ؟؟؟ أريد أدلة ما تقولي لأنهم عندهم كتاب وما بعرف شو ، أريد استدلالات.

الموازنة بين الأمية (والأميين) والكتابة (وأهل الكتاب) من أوضح ما يكون!
"قل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم"
"الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل"
وقال أهل الكتاب "ليس علينا في الأميين سبيل"
"ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله"


ابن تيمية: "يقال الأمي لمن لا يقرأ ولا يكتب كتابا، ثم يقال لمن ليس لهم كتاب منزل من الله يقرؤونه - وإن كان قد يكتب ويقرأ ما لم ينزل- ، وبهذا المعنى كان العرب كلهم أميين فإنه لم يكن عندهم كتاب منزل من الله.
فلما نزل القرآن عليهم لم يبقوا أميين باعتبار أنهم لا يقرءون كتابا من حفظهم بل هم يقرءون القرآن من حفظهم وأناجيلهم في صدورهم، لكن بقوا أميين باعتبار أنهم لا يحتاجون إلى كتابة دينهم بل قرآنهم محفوظ في قلوبهم.
فأمتنا ليست مثل أهل الكتاب الذين لا يحفظون كتبهم في قلوبهم بل لو عدمت المصاحف كلها كان القرآن محفوظا في قلوب الأمة وبهذا الاعتبار فالمسلمون أمة أمية بعد نزول القرآن وحفظه.
فديننا لا يحتاج أن يكتب ويحسب كما عليه أهل الكتاب من أنهم يعلمون مواقيت صومهم وفطرهم بكتاب وحساب ودينهم معلق بالكتب لو عدمت لم يعرفوا دينهم"
(مجموع الفتاوى) (17/ 435)

"الأميين أي: العرب، والأمي: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكذلك كان كثير من العرب.
وسمي أميا نسبة إلى أمه يوم ولدته لم يعرف القراءة، ولا الكتابة وبقي على ذلك.
وفي الحديث: إنا أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب ولا نحسب. وهذا حكم على المجموع لا على الجميع؛ لأن في العرب من كان يكتب مثل كتبة الوحي، عمر وعليا وغيرهم.
وكونه صلى الله عليه وسلم أميا بمعنى لا يكتب، بينه قوله تعالى: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك"
(أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) (8/ 115)

"الأميون يتناول العرب قاطبة دون أهل الكتاب"
(مجموع الفتاوى) (16/ 190)

فكلامك خطأ.
 
السلام عليكم
أنا ما بحب المكابرة يا أخي
عندما قلت أنا أن الأمية نسبة للأم و الأم تعني الأصل والمنشأ الأول ، والنبي صلى الله عليه وسلم من أم القرى أي أصل القرى فعلى هذا الفهم يكون معنى الأمية الأصل والمنشأ الأول ، هل أخطأت وأين الخطأ ؟؟ هذا أولاً .

ثم ذكرت لك زيادة تبين أكثرهذا الفهم وهوما نصه :
فهو بهذا أمّ الرسالة والنبوة، لم يرسل رسول ولا نبي، إلا أُمر باتباع الرسول النبي الأمّي ، وأن يأمر قومه باتباعه. وهذا ما يشهد له إمامة النبي عليه الصلاة والسلام للنبيين في المسجد الأقصى!!

فكان بذلك كل نبي ورسول يرسل الى قومه خاصة ، وهو يعلم أن محمداً رسول الله ، ويأمر بها قومه، حتى إذا أدى كل نبي أمانته في كل الأمم، بُعث الرسول النبي الأمّي كافّة للأمم جميعاً، فكل الرسل والنبيين مقدِّمون خاصون للرسالة العامة الأم بالرسول النبي الأُمّي محمد عليه الصلاة والسلام.

فحين يُدعى الكتابي للإيمان بنبي غير نبيه يتعزّز ، بأنه على دين نبي ، موسى كان أو عيسى ، فالآن يُدعى الكتابي للإيمان بـالأمي ، فهو أم نبوة موسى وعيسى والنبيين جميعاً ، فكيف تؤمن بشيء وتكفر أمّه وإمامه!؟

فإذا علم الكتابي يهودياً كان أو نصرانياً ، أن هذا الأُمّي هو أمّ رسالة موسى وعيسى وإبراهيم ، تبرر الأمر عنده باتباعه والإيمان به ، كما في الصحيحين: أَنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَأَدْرَكَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ فَلَهُ أَجْرَان.

ثم هي كذلك في القراءات القرآنية -من غير المتواتر- ولكن لها سند يحملها ، فقد قُرأت الأَمّي ، بالألف المفتوحة ، كما أوردها ابن جني في المحتسب، وعلق عليها بقوله: هو الذي يأتمّ به من قبله!. فيما الأصل أن يأتم به من يأتي بعده ، ولكن هذه القراءة تؤكد ما ذهبنا إليه ، فهو النبي الإمام للنبيين الأولين وللناس كافة.

فهو بهذا أم النبوة والكتاب ، فمعه أم الكتاب ، وكتابه مهيمن على الكتب، كما نبوته أمّ النبوات.

ثانياً : ما وصلنا من أقوال المجتهدين من المفسرين في هذا الباب ، اجتهاد مشكور، بَيدَ أنه مُختلِف غير متفق ، ولا يسكن له قلب السائل المتدبر!، فعلى المؤمن أن يضع رحاله حيث يطمئن قلبه من البيّنات والبراهين! فهي آراؤهم أولاً وأخيراً ، ولو كان فيما نقلوه إلينا نص محكم من آية أو حديث لسلمنا وآمنا! ولكن كل ما وصلنا لا يرقى إلى درجة الحجة فهو رأي مجرد . وليس أدل على ذلك ، من الخلاف نفسه الذي صاحب هذه المسألة عند أهل العلم أنفسهم فثمة أقوال وأفهام ولا قول متفق عليه .

وإن شئت ذكرت لك بعضاً من تلك الأقوال المتضاربة المتناقضة ، فَهُم يروون عن ابن عباس قولين وعن مجاهد قولين وغيرهم كثير .

ثالثاً :نشير إلى إيماننا الجازم أن النبي محمداً عليه الصلاة والسلام، بُعث لا يتلو من كتاب ولا يخطه بيمينه! بشاهد هذه الآية التي لا يُعلم لها ناسخ {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} العنكبوت 48ولا نعلم بإسناد صحيح، أنه مات على غير ما بعث عليه ، فعليها بُعث، وعليها قُبض.
هذا معلوم يا أخي الكريم وليس هذا موضوعنا حتى تدندن حوله حشوا وتطويلاً للكلام .
لكن الذي نُنكره هو أن يكون قوله تعالى " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك" بيان لمعنى الأمية بمعنى لا يكتب كما ذكرت أنت في تعليقك .
رابعاً :
ابن تيمية يقول :

يُقال الأمي لمن لا يقرأ ولا يكتب كتابا، ثم يُقال لمن ليس لهم كتاب مُنزل من الله يقرؤونه - وإن كان قد يكتب ويقرأ ما لم ينزل- ، وبهذا المعنى كان العرب كلهم أميين فإنه لم يكن عندهم كتاب منزل من الله .

بناءاً على هذا الكلام فإن كلمة أُمي تُقال لمن لا يقرأ ولا يكتب وتُقال أيضاً لمن يقرأ و يكتب -سواءاً بسواء- ، ما لم ينزل عليه كتاب من الله .. السؤال كاللآتي " إن نزل عليه كتاب من الله ماذا يُسمى هل تبقى الأمية نعت له أم تزول ؟

وما علاقة حفظ القرآن بالأمية إذا كانت الأمية متعلقة بالكتابة والقراءة ؟؟ فأنا لم أقف على قول يذكر الحفظ أو عدمه وهو يتكلم عن الأمية ؟

كلام ابن تيمية متناقض فهو يقول
[FONT=&quot]فلما نزل القرآن عليهم [/FONT][FONT=&quot]لم يبقوا أميين[/FONT][FONT=&quot] باعتبار أنهم لا يقرءون كتابا من حفظهم بل هم يقرءون القرآن من حفظهم وأناجيلهم في صدورهم، [/FONT][FONT=&quot]لكن بقوا أميين[/FONT][FONT=&quot] باعتبار أنهم لا يحتاجون إلى كتابة دينهم بل قرآنهم محفوظ في قلوبهم. [/FONT]

من الآخر أميون أم لا ؟ كيف يعني لم يبقوا أميين ثم يقول لكن بقوا أميين ؟ أرسى على بر إما أن يكونوا أميين أو لا يكونوا !!!


وسمي أميا نسبة إلى أمه يوم ولدته لم يعرف القراءة، ولا الكتابة وبقي على ذلك.

ألم تقل أنت أن الأمية من الأم ، ما معنى الأم عندك ، يعني عندما نقول أم القرى : هل معناه التي لا تعرف القراءة ولا الكتابة وبقيت على ذلك !!!

أرجوك أجب عن الأسئلة التي طرحتها عليك قبل تحكم عليّ بالخطأ حتى استبين لعل الله يهديني إلى الصواب على يديك .
 
هل الشريعة أمية ؟

لا مشاحة في اختلاف معنى مصطلح :الْأُمِّيَّ هو من لا يعرف القراءة والكتابة هو من يُنسب للاميين الذين لا كتاب لهم هو من لم يتعلم ومازال على فطرته منذ ولدته امه هو الاممي الذي أُرسِل لكل الامم ، و.... و....
المهم، أن صفة الأميّ للرسول صلى الله عليه وسلم تشير إلى معانٍ عظيمة ، وهي صفات مدح وكمال .
فهو النبي الذي بُعث من بين قومه العرب الاميين وليس من بني إسرائيل ولا من أهل الكتاب والذي هو نبيٌّ لهم جميعا ليجمعهم في أمته الواحدة ، وهو النبي الأميّ الفطري الذي جاء بدين الفطرة ، وهو النبي الأميّ المكي الذي جاء في أم القرى لكل القرى ، وهو النبيّ الأَميّ الامام القائد لكل الأمم المؤسس لأمة عظيمة جديدة صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين.
ولكن لو راجعنا أحداث ما قبل البعثة عن الأميين في أصحاب الفيل ، وحرب الفِجَارِ ، وحلف الفضول ، وبناء الكعبة ، وعندما أمر الله تبًارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبًائل العرب ، وحيرة كبرائهم عندما نزل القران ما يَقُولُونَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُفُودِ الْعَرَبِ ، وما كان عليه العربُ المُشرِكون مِن حِفظِ العَهدِ والجوارِ ، وغيره من محاسن ومفاسد.....
فلو راجعنا ذلك فسيواجهنا سؤال : هل الآن مازالت الامة أميه على عهدها الأول ومن ثم يقتضي أن تكون الشريعة أميه ؟؟،
حسب ما قرره بعض أهل العلم ومنهم الشاطبي ،، ولنبدأ بما ذكره في الموافقات لمناقشته بشيئ من التفصيل:

قال الشاطبي : }}النوع الثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام :
الْمُسَألَةُ الثَّالِثَةُ:
هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ أُمِّيَّةٌ ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا كَذَلِكَ، فَهُوَ أَجْرَى عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا:
النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الْجُمُعَةِ: 2] .
وَقَوْلِهِ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] .
وَفِي الْحَدِيثِ: "بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ " لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِعُلُومِ الْأَقْدَمِينَ، وَالْأُمِّيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ، وَهُوَ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ وِلَادَةِ الْأُمِّ لَمْ يَتَعَلَّمْ كِتَابًا وَلَا غَيْرَهُ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: "نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا" ، وَقَدْ فَسَرَ مَعْنَى الْأُمِّيَّةِ فِي الْحَدِيثِ، أَيْ: لَيْسَ لَنَا عِلْمٌ بِالْحِسَابِ وَلَا الْكِتَابِ.
وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 48] .
وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الدالة على أن الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ لِأَنَّ أَهْلَهَا كَذَلِكَ.
وَالثَّانِي:
أَنَّ الشَّرِيعَةَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرَبِ خُصُوصًا وَإِلَى مَنْ سِوَاهُمْ عُمُومًا، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى نِسْبَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مَنْ وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا أُمِّيَّةً، أَيْ: مَنْسُوبَةً إِلَى الْأُمِّيِّينَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، لَزِمَ أَنْ تَكُونَ عَلَى غَيْرِ مَا عَهِدُوا، فَلَمْ تَكُنْ لِتَتَنَزَّلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَنْزِلَةً مَا تُعْهَدُ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِيهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَا يَعْهَدُونَ، وَالْعَرَبُ لَمْ تَعْهَدْ إِلَّا مَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأُمِّيَّةِ، فَالشَّرِيعَةُ إِذًا أُمِّيَّةٌ.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا يَعْهَدُونَ لم يكن عندهم معجزا.
وَلَكَانُوا يَخْرُجُونَ عَنْ مُقْتَضَى التَّعْجِيزِ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا عَلَى غَيْرِ مَا عَهِدْنَا، إِذْ لَيْسَ لَنَا عَهْدٌ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ كَلَامَنَا مَعْرُوفٌ مَفْهُومٌ عِنْدَنَا، وَهَذَا لَيْسَ بِمَفْهُومٍ وَلَا مَعْرُوفٍ، فَلَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَتْ: 44] ، فَجَعَلَ الْحُجَّةَ عَلَى فَرْضِ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَعْجَمِيًّا، وَلَمَّا قَالُوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النَّحْلِ: 103] ، رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْلِ: 103] ، لَكِنَّهُمْ أذعنوا لِظُهُورِ الْحُجَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ به وعهدم بِمِثْلِهِ، مَعَ الْعَجْزِ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ، وَأَدِلَّةُ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
فَصْلٌ: (علوم للعرب)
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَ لَهَا اعْتِنَاءٌ بِعُلُومٍ ذَكَرَهَا النَّاسُ، وَكَانَ لِعُقَلَائِهِمِ اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فَصَحَّحَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ وَزَادَتْ عَلَيْهِ، وَأَبْطَلَتْ مَا هُوَ بَاطِلٌ، وَبَيَّنَتْ مَنَافِعَ مَا يَنْفَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَضَارَّ مَا يَضُرُّ منه.
فمن هذه العلوم:
عِلْمُ النُّجُومِ:
وَمَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الِاهْتِدَاءِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ بِاخْتِلَافِ سَيْرِهَا، وَتَعَرُّفِ مَنَازِلِ سَيْرِ النَّيِّرَيْنِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا
الْمَعْنَى، وَهُوَ مَعْنًى مُقَرَّرٌ فِي أَثْنَاءِ الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الْأَنْعَامِ: 97]
وَقَوْلِهِ: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النَّحْلِ: 16] .
وَقَوْلِهِ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 39- 40] .
وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يُونُسَ: 5] .
وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} الآية [الإسراء: 12] .
وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الْمُلْكِ: 5] .
وَقَوْلِهِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [الْبَقَرَةِ: 189] .
وَمَا أشبه ذلك.
وَمِنْهَا: عُلُومُ الْأَنْوَاءِ
وَأَوْقَاتُ نُزُولِ الْأَمْطَارِ، وَإِنْشَاءُ السَّحَابِ، وَهُبُوبُ الرِّيَاحِ الْمُثِيرَةِ لَهَا، فَبَيَّنَ الشَّرْعُ حَقَّهَا مِنْ بَاطِلِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} الآية [الرعد: 12-13] .
وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 68-69] .
وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النَّبَأِ: 14] .
وَقَالَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الْوَاقِعَةِ: 82]
خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الْوَاقِعَةِ: 82] ، قَالَ:"شُكْرُكُمْ، تَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، وَبِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا".
وَفِي الْحَدِيثِ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بي وكافر [بي] " الحديث في الأنواء.
وَفِي "الْمُوَطَّأِ" مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ: "إِذَا أَنْشَأَتْ بحرية ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة".
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالنَّاسُ تَحْتَهُ: "كَمْ بَقِيَ مِنْ نَوْءِ الثريا؟ فقال به الْعَبَّاسُ: بَقِيَ مِنْ نَوْئِهَا كَذَا وَكَذَا".
فَمِثْلَ هَذَا مُبَيِّنٌ لِلْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ فِي أَمْرِ الْأَنْوَاءِ وَالْأَمْطَارِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوه} الآية [الحجر: 22] .
وَقَالَ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فَاطِرٍ: 9] .
إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا.
وَمِنْهَا: عِلْمُ التَّارِيخِ وَأَخْبَارُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ
وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ احْتَفَلَ فِي ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ بِهَا عِلْمٌ، لَكِنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا كانوا ينتحلون.
قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَم} الآية [آل عمران: 44] .
وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هُودٍ: 49] .
وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةُ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَى.
وَمِنْهَا: مَا كَانَ أَكْثَرُهُ بَاطِلًا أَوْ جَمِيعُهُ
كَعِلْمِ الْعِيَافَةِ، وَالزَّجْرِ، وَالْكِهَانَةِ، وَخَطِّ الرَّمْلِ، وَالضَّرْبِ بِالْحَصَى، وَالطِّيَرَةِ، فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل.
وَنَهَتْ عَنْهُ كَالْكِهَانَةِ وَالزَّجْرِ، وَخَطِّ الرَّمْلِ، وَأَقَرَّتِ الْفَأْلَ لَا مِنْ جِهَةِ تَطَلُّبِ الْغَيْبِ، فَإِنَّ الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور تخرُّصٌ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجهةٍ مِنْ تعرُّف عِلْمِ الْغَيْبِ مِمَّا هُوَ حَقٌّ مَحْضٌ، وَهُوَ الْوَحْيُ وَالْإِلْهَامُ، وَأُبْقِيَ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، وَأُنْمُوذَجٌ مِنْ غَيْرِهِ لِبَعْضِ الخاصة وهو الإلهام والفراسة.
وَمِنْهَا: عِلْمُ الطِّبِّ
فَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ مِنْهُ شَيْءٌ لَا عَلَى مَا عِنْدَ الْأَوَائِلِ، بَلْ مَأْخُوذٌ مِنْ تَجَارِيبِ الْأُمِّيِّينَ، غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى عُلُومِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي يُقَرِّرُهَا الْأَقْدَمُونَ، وَعَلَى ذَلِكَ الْمَسَاقِ جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ جَامِعٍ شافٍ قليلٍ يُطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى كَثِيرٍ،فَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الْأَعْرَافِ: 31] .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ التَّعْرِيفُ بِبَعْضِ الْأَدْوِيَةِ لبعض الأدواء ، وأبطل من ذَلِكَ مَا هُوَ بَاطِلٌ، كَالتَّدَاوِي بِالْخَمْرِ، وَالرُّقَى الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا.
وَمِنْهَا: التَّفَنُّنُ فِي عِلْمِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ
وَالْخَوْضُ فِي وُجُوهِ الْفَصَاحَةِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَعْظَمُ مُنْتَحَلَاتِهِمْ، فَجَاءَهُمْ بِمَا أَعْجَزَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] .
وَمِنْهَا: ضَرْبُ الْأَمْثَالِ
[وَقَدْ قَالَ تَعَالَى] : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا [لِلنَّاس] فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الرُّومِ: 58] إِلَّا ضَرْبًا وَاحِدًا، وَهُوَ الشِّعْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ نَفَاهُ وَبَرَّأَ الشَّرِيعَةَ مِنْهُ، قَالَ تعالى في حكايته عن الكفار: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصَّافَّاتِ: 36] ، أَيْ: لَمْ يَأْتِ بِشِعْرٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}الآية [يس: 69] .
وَبَيَّنَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 224-226] .
فَظَهَرَ أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ، وَلَكِنَّهُ هَيَمَانٌ عَلَى غَيْرِ تَحْصِيلٍ، وَقَوْلٌ لَا يُصَدِّقُهُ فِعْلٌ، وَهَذَا مُضَادٌّ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى.
فَهَذَا أُنْمُوذَجٌ يُنَبِّهُكَ عَلَى مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُلُومِ الْعَرَبِ الْأُمِّيَّةِ.
مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الِاتِّصَافِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَا يَنْضَافُ إِلَيْهَا، فَهُوَ أَوَّلُ مَا خُوطِبُوا بِهِ، وَأَكْثَرُ مَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، مِنْ حيث كان آنس لهم، وَأُجْرِيَ عَلَى مَا يُتَمَدَّحُ بِهِ عِنْدَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النَّحْلِ: 90] إِلَى آخِرِهَا.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الْأَنْعَامِ: 151] إِلَى انْقِضَاءِ تِلْكَ الْخِصَالِ.
[وَقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِه} ] [الْأَعْرَافِ: 32]
وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الْأَعْرَافِ: 33] .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي هَذَا الْمَعْنَى.
لَكِنْ أُدْرِجَ فِيهَا مَا هُوَ أَوْلَى مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَالتَّكْذِيبِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ، وَأَبْطَلَ لَهُمْ مَا كَانُوا يُعِدُّونَهُ كَرْمًا وَأَخْلَاقًا حَسَنَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ مَا يُرْبِي عَلَى الْمَصَالِحِ الَّتِي تَوَهَّمُوهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [الْمَائِدَةِ: 90].
ثُمَّ بَيَّنَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ خُصُوصًا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا فِي الْفَسَادِ أَعْظَمُ مِمَّا ظَنُّوهُ فِيهِمَا صَلَاحًا، لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ تُشَجِّعُ الْجَبَانَ، وَتَبْعَثُ الْبَخِيلَ عَلَى الْبَذْلِ، وَتُنَشِّطُ الْكُسَالَى، وَالْمَيْسِرُ كَذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمْ مَحْمُودًا لِمَا كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهِ مِنْ إِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالْعَطْفِ عَلَى المحتاجين، وقد قال تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [الْبَقَرَةِ: 219] .
وَالشَّرِيعَةُ [كُلُّهَا] إِنَّمَا هِيَ تَخَلُّقٌ بمكارمِ الْأَخْلَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ" .
إِلَّا أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
مَا كَانَ مَأْلُوفًا وَقَرِيبًا مِنَ الْمَعْقُولِ الْمَقْبُولِ، كَانُوا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا خُوطِبُوا بِهِ، ثُمَّ لَمَّا رَسَخُوا فِيهِ تَمَّمَ لَهُمْ مَا بَقِيَ،وَهُوَ:
الضَّرْبُ الثَّانِي:
وَكَانَ مِنْهُ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فأُخِّرَ، حَتَّى كَانَ مِنْ آخِرِهِ تَحْرِيمُ الرِّبَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ الَّذِي كان معهودا عندهم على الجملة.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ لِلْعَرَبِ أَحْكَامٌ عِنْدِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ، كَمَا قَالُوا فِي الْقِرَاضِ، وَتَقْدِيرِ الدِّيَةِ وَضَرْبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْقَافَةِ، وَالْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْحُكْمِ فِي الْخُنْثَى، وَتَوْرِيثِ الْوَلَدِ لِلذِّكْرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْقَسَامَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ.
ثُمَّ نَقُولُ: لَمْ يُكْتَفَ بِذَلِكَ حَتَّى خُوطِبُوا بِدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ فِيمَا يَعْرِفُونَ مِنْ سَمَاءٍ، وَأَرْضٍ، وَجِبَالٍ، وَسَحَابٍ، وَنَبَاتٍ وَبِدَلَائِلِ الْآخِرَةِ وَالنُّبُوَّةِ كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْبَاقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ شَرَائِعِ الأنْبياء شَيْءٌ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبِيهِمْ، خُوطِبُوا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَدُعُوا إِلَيْهَا، وَأَنَّ مَا جاء به محمد صلى الله عليهوسلم هِيَ تِلْكَ بِعَيْنِهَا: كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الْحَجِّ: 78] . وَقَوْلِهِ: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} الآية [آل عمران: 67] .
غَيْرَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا جُمْلَةً مِنْهُمْ، وَزَادُوا، وَاخْتَلَفُوا، فَجَاءَ تَقْوِيمُهَا مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُخْبِرُوا بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُوَ لَدَيْهِمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأُخْبِرُوا عَنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَأَصْنَافِهِ بِمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي تَنَعُّمَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، لَكِنْ مُبَرَّأٌ مِنَ الْغَوَائِلِ والآفات التي تلازم التنعم4 الدُّنْيَوِيَّ، كَقَوْلِهِ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الْوَاقِعَةِ: 27-30] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
وبَيَّنَ مَنْ مَأْكُولَاتِ الْجَنَّةِ وَمَشْرُوبَاتِهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ، كَالْمَاءِ، وَاللَّبَنِ، وَالْخَمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالنَّخِيلِ، وَالْأَعْنَابِ، وَسَائِرِ مَا هُوَ عِنْدَهُمْ مَأْلُوفٌ دُونَ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْكُمَّثْرَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَوَاكِهِ الْأَرْيَافِ وَبِلَادِ الْعَجَمِ، بَلْ أَجْمَلَ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْفَاكِهَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النَّحْلِ: 125]
فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حِكْمَةٌ، وَقَدْ كَانُوا عَارِفِينَ بِالْحِكْمَةِ، وَكَانَ فِيهِمْ حُكَمَاءُ، فَأَتَاهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ بِمَا عَجَزُوا عَنْ مِثْلِهِ، وَكَانَ فِيهِمْ أَهْلُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ، كقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يُجَادِلْهُمْ إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْجَدَلِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الْقُرْآنَ وَتَأَمَّلَ كَلَامَ الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَجَدَ الْأَمْرَ سَوَاءً إِلَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ مِنَ الْخَوَاصِّ الْمَعْرُوفَةِ.
وَسِرْ فِي جَمِيعِ مُلَابَسَاتِ الْعَرَبِ هَذَا السَّيْرَ، تَجِدِ الْأَمْرَ كَمَا تَقَرَّرَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَضَحَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ لَمْ تَخْرُجْ عما ألفته العرب. {{ انتهى كلام الشاطبي
يتبع بمشيئة الله تعالى..
 
ربما تكون الأمة أمية ولكن لا يمكن أن تكون الشريعة أمية :

كما قال د.أنور إبراهيم: وقد وقف العلماء أمام كلام الشاطبي هذا ما بين مستنكر ومتعجب ، وحاول فريق آخر البحث عن وجوه يمكن حمل الكلام عليها .

  • قال الشيخ عبدالله دراز في تعليقه على قول الامام الشاطبي في الموافقات (هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ أُمِّيَّةٌ):
[[ أي: لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك، والحكمة في ذلك:
أولا: أن من باشر تلقيها من الرسول صلى الله عليه وسلم أميون على الفطرة.
ثانيا: فإنها لو لم تكن كذلك، لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم، فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولا، ثم تطبيقها ثانيا، وكلاهما غير ميسور لجمهور الناس المرسل إليهم من عرب وغيرهم، وهذا كله فيما يتعلق بأحكام التكليف، لأنه عام يجب أن يفهمه العرب والجمهور ليمكن الامتثال، أما الأسرار والحكم والمواعظ والعبر، فمنها ما يدق عن فهم الجمهور ويتناول بعض الخواص منه شيئا فشيئا بحسب ما يسره الله لهم وما يلهمهم به، وذلك هو الواقع لمن تتبع الناظرين في كلام الله تعالى على مر العصور، يفتح على هذا بشيء ولم يفتح به على الآخر، وإذا عرض على الآخرة أقره على أنه ليست كل الأحكام التكليفية التي جاءت في الكتاب والسنة مبذولة ومكشوفة للجمهور، وإلا لما كان هناك خواص مجتهدون وغيرهم مقلدون حتى في عصر الصحابة، وكل ما يؤخذ من مثل حديث "نحن أمة أمية" ما ذكرناه على أن التكاليف لا تتوقف في امتثالها على وسائل علمية وعلوم كونية وهكذا.]] اهـ

وقال دراز في قول الشاطبي (أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا يَعْهَدُونَ لم يكن عندهم معجزا) :
[[ فيقال: هل لو جاءت الشريعة على طريق يحتاج لعلوم كونية ووسائل فلسفية، ولكنها صيغت في القالب العربي المعجز لهم عن الإتيان بمثله، بحيث يفهمون معناه والغرض منه، وإن كانوا في تطبيقه وتعرف مبنى أحكامه محتاجين إلى تلك الوسائل، كما إذا بنى أوقات الصلوات الخمس على مواعيد تحتاج إلى الآلات والتقاويم الفلكية، ولم يكتف بالمشاهدات الحسية كما صنع في الزوال والغروب والشفق إلخ، أو بنى الصوم لا على رؤية الهلال بالبصر، بل وضع القاعدة على لزوم معرفة علم الميقات لمعرفة أول رمضان، لو كان الشارع بدل أن يبني الأحكام على الأمور الحسية التي تسع جميع الخلق بناها على أمور علمية كما صورنا، هل كان ذلك يمنع عن فهم القرآن وغرضه، ويكون الحال مثل ما إذا جاء بلغة أعجمية بالنسبة للعرب؟ الجواب بالنفي، غايته أنه يكون في تكاليفها مشاق على أكثر الخلق بإلزامهم بتعرف هذه الوسائل ليطبقوا أوامر الشريعة حسبما أرادت، أما أنهم يعجزون عن فهم الكتاب حتى لا يكون حجة، فليس بظاهر لأن حجيته عليهم جاءت من جملة أمور أهمها عندهم أنه كلام من جنس كلامهم في كل شيء إلا أنه بأسلوب أعجزهم عن الإتيان بمثله.]] اهـ

وكذلك قال دراز فيما ذكره الشاطبي من اعتناء العرب لبعض العلوم:
[[ لو لم يكن لهم علم بسير النجوم بالمقدار الذي ينسبه لهم، فهذه الآيات يمكن فهمها لهم بعد لفت نظرهم إليها، إنها لا تحتاج إلا إلى التدبر في تطبيقها بطريق المشاهدة، على أن علم النجوم لم يكن لجمهورهم بل للبعض القليل الذي كان يستعمل غالبا دليلا للقوافل في سير الليل ومع ذلك، فلم يتوقف الجمهور في فهمها، ومثله يقال في علوم الأنواء أن ذلك ليس لجمهورهم، بدليل ما رواه عن عمر وسؤاله للعباس، فإذا كان مثل عمر ليس عارفا، فما ذلك إلا لأن هذا يختص به جماعة منهم، كما هو الحال عندنا اليوم، الملاحون يعرفون كثيرا من هذه الأنواء وشأن الرياح، وهي أسباب عادية غير مطردة، ولا يعرفها الجمهور الذين عنايتهم بما يتسببون فيه لمعاشهم يعرفون منه ما لا يعرفه فيه غيرهم، وقد قال في الآية الثانية: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُون} ، ثم قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُون} ، فهل كان للعرب من علوم الزراعة وتكوين المني وخلق الإنسان ما تفهم فيه مثل هذا ومثل: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب} ، ومثل أدوار الجنين: {نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} إلخ، ومثل قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه} ، فإن معرفة أن تسوية الأصابع على ما هي عليه يعد من أدق تكوين الإنسان وكمال صنعته، حيث امتازت تقاسيم الجلد الكاسي لها، فلا يوجد تشابه بين شخص وآخر في هذه التقاسيم، حتى نبه الله سبحانه إليها وقال: {بَلَى} ، أي: نجمعها قادرين على جمعها وتسويتها على أدق ما يكون كما في تسوية البنان، إن هذا لا يعرفه العرب ووجه إليهم الخطاب به، وقد فهم سره في هذا العصر، وانبنى عليه علم تشبيه الأشخاص"ببصمة الأصابع"،وجعلت له إدارة تسمى "تحقيق الشخصية"، الواقع أن هذه وغيرها مما لا يحصى أمور كونية عامة يفهمها كل من توجه إليه الخطاب بفهمها والاستدلال بها على الصانع الحكيم القادر. ]] اهـ

وأيضا قال دراز فيما ذكره الشاطبي عن إخبار القرآن بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم ولكنها من جنس ما ينتحلون:
[[ هذا يعضد ما قلناه، من أنه ليس بلازم أن يكون القرآن مجاريا لما عند العرب، فيصحح صحيحه، أو يزيد عليه، أو يبطل باطله، كل هذا تكلف لا داعي إليه في هذا المقام؛ لأن الرسول بُعث بالكتاب؛ ليخرج الناس كافة من الظلمات إلى النور بتعليم ما لم يعلموا، وتصحيح ما أخطأوا فيه، وتوجيه همتهم وعقولهم إلى ما فيه إصلاحهم بالعلم والعمل، سواء أكان لهذا كله أصل عند العرب أم لم يكن له أصل ولا رابطة مطلقا بين كون الشريعة أمية وكون كل ما جاءت به منطبقا على ما عند العرب، وإعجاز العرب شيء آخر لا يتوقف على ما قال، فتأمل، فالمقام جدير بالتدبر؛ لأنه إذا كان يكتفي بجنس ما كانوا يعرفون وإن لم يكن هو ولا نوعه، فما الذي يبقى حتى نحترز عنه، ولا يبعد أن يكون لبعضهم إلمام بهذه الأجناس والكائنات التي تتعلق بما ورد في الكتاب والسنة. ]] اهـ
يتبع
 
  • وقال محمد الطاهر ابن عاشور في مقدمة تفسيره التحرير والتنوير:
[[ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَلَامَ الصَّادِرَ عَنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ لَا تُبْنَى مَعَانِيهِ عَلَى فَهْمِ طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّ مَعَانِيَهُ تُطَابِقُ الْحَقَائِقَ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْحَقِيقَةِ فِي عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ وَكَانَتِ الْآيَةُ لَهَا اعْتِلَاقٌ بِذَلِكَ فَالْحَقِيقَةُ الْعِلْمِيَّةُ مُرَادَةٌ بِمِقْدَارِ مَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ أَفْهَامُ الْبَشَرِ وَبِمِقْدَارِ مَا سَتَبْلُغُ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ وَيُبْنَى عَلَى تَوَفُّرِ الْفَهْمِ، وَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَمَّا يَصْلُحُ لَهُ اللَّفْظُ عَرَبِيَّةً، وَلَا يَبْعُدُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا يَكُونُ تَكَلُّفًا بَيِّنًا وَلَا خُرُوجًا عَنِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ كَتَفَاسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فَقَالَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ: «لَا يَصِحُّ فِي مَسْلَكِ الْفَهْمِ وَالْإِفْهَامِ إِلَّا مَا يَكُونُ عَامًّا لجَمِيع الْعَرَب، فَلَا يتكلّف فِيهِ فَوْقَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ» وَقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي: «مَا تَقَرَّرَ مِنْ أُمِّيَّةِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِهَا وَهُمُ الْعَرَبُ تَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ، مِنْهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَجَاوَزُوا فِي الدَّعْوَى عَلَى الْقُرْآنِ الْحَدَّ فَأَضَافُوا إِلَيْهِ كُلَّ عِلْمٍ يُذْكَرُ لِلْمُتَقَدِّمِينَ أَوِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلُومِ الطَّبِيعِيَّاتِ وَالتَّعَالِيمِ وَالْمَنْطِقِ وَعِلْمِ الْحُرُوفِ وَأَشْبَاهِهَا وَهَذَا إِذَا عَرَضْنَاهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَمْ يَصِحَّ فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا أَعْلَمَ بِالْقُرْآنِ وَبِعُلُومِهِ وَمَا أُودِعَ فِيهِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا سِوَى مَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّكَالِيفِ وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ. نَعَمْ تَضَمَّنَ عُلُومًا مِنْ جِنْسِ عُلُومِ الْعَرَبِ وَمَا هُوَ عَلَى مَعْهُودِهَا مِمَّا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ أُولُو الْأَلْبَابِ وَلَا تَبْلُغُهُ إِدْرَاكَاتُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ إِلَخْ» .
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا أَسَّسَهُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِلْأُمِّيِّينَ وَهُمُ الْعَرَبُ فَإِنَّمَا يَعْتَمِدُ فِي مَسْلَكِ فَهْمِهِ وَإِفْهَامِهِ عَلَى مَقْدِرَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ . وَهُوَ أَسَاسٌ وَاهٍ لِوُجُوهٍ سِتَّةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا بَنَاهُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ انْتِقَالُ الْعَرَبِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49]
الثَّانِي: أَنَّ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ رَاجِعَةٌ إِلَى عُمُومِ الدَّعْوَةِ وَهُوَ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ تَتَنَاوَلَهُ أَفْهَامُ مَنْ يَأْتِي مِنَ النَّاسِ فِي عُصُورِ انْتِشَارِ الْعُلُومِ فِي الْأُمَّةِ .
الثَّالِثُ: أَنَّ السَّلَفَ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ يَعْنُونَ مَعَانِيَهُ وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الشاطبي لَانقضت عَجَائِبُهُ بِانْحِصَارِ أَنْوَاعِ مَعَانِيهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ مِنْ تَمَامِ إِعْجَازِهِ أَنْ يَتَضَمَّنَ مِنَ الْمَعَانِي مَعَ إِيجَازِ لَفْظِهِ مَا لَمْ تَفِ بِهِ الْأَسْفَارُ الْمُتَكَاثِرَةُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ مِقْدَارَ أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ابْتِدَاءً لَا يَقْضِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ مَفْهُومًا لَدَيْهِمْ فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الْمَعَانِي الْأَسَاسِيَّةِ فَقَدْ يَتَهَيَّأُ لِفَهْمِهِ أَقْوَامٌ، وَتُحْجَبُ عَنْهُ أَقْوَامٌ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ.
السَّادِسُ: أَنَّ عَدَمَ تَكَلُّمِ السَّلَفِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ فِيمَا لَيْسَ رَاجِعًا إِلَى مَقَاصِدِهِ فَنَحْنُ نُسَاعِدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا فَلَا نُسَلِّمُ وُقُوفَهُمْ فِيهَا عِنْدَ ظَوَاهِرِ الْآيَاتِ بَلْ قَدْ بَيَّنُوا وَفَصَّلُوا وَفَرَّعُوا فِي عُلُومٍ عُنُوا بِهَا، وَلَا يَمْنَعُنَا ذَلِك أَن نقفي عَلَى آثَارِهِمْ فِي عُلُومٍ أُخْرَى رَاجِعَةٍ لِخِدْمَةِ الْمَقَاصِدِ الْقُرْآنِيَّةِ أَوْ لِبَيَانِ سَعَةِ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذِكْرُهُ لِإِيضَاحِ الْمَعْنَى فَذَلِكَ تَابِعٌ لِلتَّفْسِيرِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ إِنَّمَا تَبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ التَّفْسِيرِ لَكِنَّهُ تَكْمِلَةٌ لِلْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ وَاسْتِطْرَادٌ فِي الْعِلْمِ لِمُنَاسَبَةِ التَّفْسِيرِ لِيَكُونَ مُتَعَاطِي التَّفْسِيرِ أَوْسَعَ قَرِيحَةً فِي الْعُلُومِ.
وَذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ» إِلَى إِنْكَارِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْعُلُومِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى غَيْرِ هَاتِهِ الْعُلُومِ وَذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَحْقِيرِ الْفَلْسَفَةِ لِأَجْلِ مَا خُولِطَتْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَهُوَ مُفْرِطٌ فِي ذَلِكَ مُسْتَخِفٌّ بِالْحُكَمَاءِ.
وَأَنَا ( ابن عاشور ) أَقُولُ: إِنَّ عَلَاقَةَ الْعُلُومِ بِالْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ:
الْأُولَى: عُلُومٌ تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ كَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَالْفِقْهِ وَالتَّشْرِيعِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْأُصُولِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْبَلَاغَةِ.
الثَّانِيَةُ: عُلُومٌ تَزِيدُ الْمُفَسِّرَ علما كالحكمة والهيأة وَخَوَاصِّ الْمَخْلُوقَاتِ.
الثَّالِثَةُ: عُلُومٌ أَشَارَ إِلَيْهَا أَوْ جَاءَتْ مُؤَيِّدَةً لَهُ كَعِلْمِ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَالطِّبِّ وَالْمَنْطِقِ.
الرَّابِعَةُ: عُلُومٌ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِهِ إِمَّا لِبُطْلَانِهَا كَالزَّجْرِ وَالْعِيَافَةِ وَالْمِيثُولُوجْيَا )الأساطير)، وَإِمَّا لِأَنَّهَا لَا تُعِينُ عَلَى خِدْمَتِهِ كَعِلْمِ الْعَرُوضِ وَالْقَوَافِي.]] اهـ
وقال ابن عاشور في موضع أخر:
[[ هَذَا وَإِنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ جَاءَ لِهَدْيِ أُمَّةٍ وَالتَّشْرِيعِ لَهَا، وَهَذَا الْهَدْيُ قَدْ يَكُونُ وَارِدًا قَبْلَ الْحَاجَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهِ قَوْمٌ عَلَى وَجْهِ الزَّجْرِ أَوِ الثَّنَاء أَو غير هما، وَقَدْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهِ جَمِيعُ مَنْ يَصْلُحُ لِخِطَابِهِ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ بِكُلِّيَّاتٍ تَشْرِيعِيَّةٍ وَتَهْذِيبِيَّةٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَعْيُ الْأُمَّةِ لِدِينِهَا سَهْلًا عَلَيْهَا، وَلِيُمْكِنَ تَوَاتُرُ الدِّينِ، وَلِيَكُونَ لِعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مَزِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ أَضْعَافَ هَذَا الْمُنَزَّلِ وَأَنْ يُطِيلَ عُمَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّشْرِيعِ أَكْثَرَ مِمَّا أَطَالَ عُمَرَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: " وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " الْمَائِدَة: 3] ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلِمَاتِهِ عَلَى خُصُوصِيَّاتٍ جُزْئِيَّةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ مُرَادَ اللَّهِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْمِيمُ مَا قُصِدَ مِنْهُ الْخُصُوصُ وَلَا إِطْلَاقُ مَا قُصِدَ مِنْهُ التَّقْيِيدُ لِأَنَّ ذَلِك قد يقْضِي إِلَى التَّخْلِيطِ فِي الْمُرَادِ أَوْ إِلَى إِبْطَالِهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدِ اغْتَرَّ بَعْضُ الْفِرَقِ بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ فِي الْخَوَارِجِ: إِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى آيَاتِ الْوَعِيدِ النَّازِلَةِ فِي الْمُشْرِكِينَ فَوَضَعُوهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَجَاءُوا بِبِدْعَةِ الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ بِالذَّنْبِ، وَقد قَالَ الحرورية لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ التَّحْكِيمِ "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ " الْأَنْعَام: 57 ، فَقَالَ عَلِيٌّ «كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ » وَفَسَّرَهَا فِي خُطْبَةٍ لَهُ فِي «نَهْجِ الْبَلَاغَةِ» .]] اهـ
 
  • يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
[[ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ} لَيْسَ هُوَ طَلَبًا فَإِنَّهُمْ أُمِّيُّونَ قَبْلَ الشَّرِيعَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وَقَالَ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ قَبْلَ الْمَبْعَثِ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِابْتِدَائِهَا. نَعَمْ قَدْ يُؤْمَرُونَ بِالْبَقَاءِ عَلَى بَعْضِ أَحْكَامِهَا فَإِنَّا سَنُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يَبْقَوْا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مُطْلَقًا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إخْبَارًا مَحْضًا أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ؛ إذْ لَهُمْ طَرِيقٌ آخَرُ غَيْرُهُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ بَلْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ فَإِنَّ الْأُمِّيَّةَ صِفَةُ نَقْصٍ لَيْسَتْ صِفَةَ كَمَالٍ فَصَاحِبُهَا بِأَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْدُوحًا. قِيلَ: لَا يَجُوزُ هَذَا لِأَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي بَعَثَهُ اللَّهُ إلَيْهَا فِيهِمْ مَنْ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ كَثِيرًا كَمَا كَانَ فِي أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ مَنْ يَحْسُبُ وَقَدْ بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي فِيهَا مِنْ الْحِسَابِ مَا فِيهَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَامِلُهُ عَلَى الصَّدَقَةِ ابْنُ اللتبية حَاسَبَهُ. وَكَانَ لَهُ كُتَّابٌ عِدَّةٌ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَمُعَاوِيَةَ - يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ وَيَكْتُبُونَ الْعُهُودَ وَيَكْتُبُونَ كُتُبَهُ إلَى النَّاسِ إلَى مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَرُءُوسِ الطَّوَائِفِ: وَإِلَى عُمَّالِهِ وَوُلَاتِهِ وَسُعَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ الْحِسَابُ.]] (مجموع الفتاوى: 25/ 166).
وقال ابن تيمية أيضًا:
[[ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّمَيُّزَ عَنْ الْأُمِّيِّينَ نَوْعَانِ " فَالْأُمَّةُ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَا هُمْ الْعَرَبُ وَبِوَاسِطَتِهِمْ حَصَلَتْ الدَّعْوَةُ لِسَائِرِ الْأُمَمِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا بُعِثَ بِلِسَانِهِمْ فَكَانُوا أُمِّيِّينَ عَامَّةً لَيْسَتْ فِيهِمْ مَزِيَّةُ عِلْمٍ وَلَا كِتَابٍ وَلَا غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِ فِطَرِهِمْ كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لِلْعِلْمِ أَكْمَلَ مِنْ اسْتِعْدَادِ سَائِر الْأُمَمِ. بِمَنْزِلَةِ أَرْضِ الْحَرْثِ الْقَابِلَةِ لِلزَّرْعِ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَقُومُ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ يَقْرَءُونَهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا عُلُومٌ قِيَاسِيَّةٌ مُسْتَنْبِطَةٌ كَمَا لِلصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَكَانَ الْخَطُّ فِيهِمْ قَلِيلًا جِدًّا وَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُنَالُ بِالْفِطْرَةِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ الْأُمُوَّةِ الْعَامَّةِ. كَالْعِلْمِ بِالصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعْظِيمِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمِ الْأَنْوَاءِ. وَالْأَنْسَابِ وَالشِّعْرِ. فَاسْتَحَقُّوا اسْمَ الْأُمِّيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. كَمَا قَالَ فِيهِمْ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} فَجَعَلَ الْأُمِّيِّينَ مُقَابِلِينَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ. فَالْكِتَابِيُّ غَيْرُ الْأُمِّيِّ. فَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَتَدَبُّرِهِ وَعَقْلِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ - وَقَدْ جَعَلَهُ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَعَلَّمَهُمْ نَبِيُّهُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ - صَارُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ. بَلْ صَارُوا أَعْلَمَ الْخَلْقِ وَأَفْضَلَهُمْ فِي الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَزَالَتْ عَنْهُمْ الْأُمِّيَّةُ الْمَذْمُومَةُ النَّاقِصَةُ وَهِيَ عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إلَى أَنْ عَلِمُوا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَأُورِثُوا الْكِتَابَ. كَمَا قَالَ فِيهِمْ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فَكَانُوا أُمِّيِّينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَلَمَّا عَلَّمَهُمْ الْكِتَابُ وَالْحِكْمَةَ قَالَ فِيهِمْ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} {أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} وَاسْتُجِيبَ فِيهِمْ دَعْوَةُ الْخَلِيلِ حَيْثُ قَالَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَقَالَ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} .]] (انظر: مجموع الفتاوي: 25/ 169)


  • و قال ابن خلدون:
[[ "ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فُتيا، ولا كان يؤخذ عن جميعهم وإنما كان ذلك للحاملين للقرآن، العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه، وسائر دلالاته مما تلقوه من النبي وممن سمعه منه من عليتهم، وكانوا يُسَمَّوْنَ لذلك القراء، أي: الذين يقرءون الكتاب؛ لأن العرب كانوا أمة أمية، فاختص من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ، وبقي الأمر كذلك صدر الملة، ثم عظمت الأمصار وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب وتمكن الاستنباط وكمل الفقه وأصبح صناعةً وعلماً، فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء"]] (تاريخ ابن خلدون: [1/ 563- 564]).


  • وقال الشيخ عبد العزيز بن باز:
[[ "أما وصف الأمة بالأمية فليس المقصود منه ترغيبهم في البقاء عليها وإنما المقصود الإِخبار عن واقعهم وحالهم حين بعث الله إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم وقد دل الكتاب والسنة على الترغيب في التعلم والكتابة والخروج من وصف الأمية فقال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب} [الزمر:9] وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]، وقال سبحانه: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقا إلى الجنة» (رواه الإِمام مسلم في صحيحه). وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» (متفق على صحته)، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وبالله التوفيق . ]] اهـ



  • ويقول الشيخ خالد المصلح في موقعه:
[[ قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ»، والمقصود بالأمة الأمية أي: فيما يتعلق بعموم التشريع فيها للمتعلم والجاهل، فمن رحمة الله تعالى للمتعلم العارف بالحساب وغيره ولمن لا يعرف ذلك. فالمقصود بالأمية هنا ليست دعوة للأمية، إنما بيان أن التشريع في هذا الدين لم يأتِ فقط للمتعلمين والعارفين، بل من يُسر الشريعة أنها أناطت الأحكام بما يمكن أن يتوصل إليه من له معرفة وعلم، ومن لا معرفة له، فينبغي أن يُفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ»؛ لأن بعض الناس يفهمه على معنى غير مقصود من كلامه صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال بعده: «لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» أي: لا نتكلف في إثبات الشهور بالكتاب والحساب، بل نقتصر ونكتفي بالطريق الذي شرعه الله تعالى من معرفة دخول الشهور وتعاقبها بالأهلة التي قال فيها تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ .قوله صلى الله عليه وسلم: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» يعني: مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين.]] اهـ
 
  • وقال الاستاذ طه جابر العلواني في موقع الملتقى:
[[ قلت: وهذا منطق عجيب لو أخذ على ظاهره فانه قد يعزز ما ذهب إليه كثير من المستشرقين وتلامذتهم من تاريخانية هذه الشريعة، وارتباطها انحصاراً في زمانها ومكانها وحملتها الأولين لا تتعداهم فكيف يمكن القول -بعد ذلك- بعمومها وشمولها وكمالها، وصلاحها لكل زمان ومكان وإنسان وعالميتها وخلودها؟ وبقائها ودوامها واشتمالها على المقاصد الخالدة؟ لاشتمالها على سائر الخصائص التي تؤهلها لذلك كله.
إن من البديهي الذي لا يخفى على تلامذة أبي إسحاق -وأنا منهم- أن الرسل والأنبياء إنما يبعثون إلى الأمم والشعوب ليخرجوهم من الظلمات إلى النور؛ ومن الظلمات التي يحرر الرسلُ البشرَ منها "الأمية" فهي من وسائل الشيطان المهمة في إخضاع الإنسان لما كان عليه الآباء بقطع النظر عن طبيعته، وجعل الإنسان الأمي -بهذا المعنى- الذي يتبناه الشاطبي مستعداً لقبول الخرافة والشعوذة وسائر الانحرافات. ثم إن القرآن العظيم لقب اليهود والنصارى الذين كانوا أميين قبل نزول كتبهم "بالكتابيين" ولم يلقبهم "بالكاتبين" فلم لم يصبح العرب -في نظر أبي إسحاق ومن إليه- أهل كتاب هو القرآن بعد أن نزل عليهم أعظم كتاب وآخر الكتب وأهمها؟ أيخرجهم الكتاب من الظلمات إلى النور ولا يخرجهم من الأمية؟ وهو لإخراجهم منها نزل...
.... ومنها أيضاً قوله تعالى "هَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ" (الأنعام:155-157). فهذه الآيات صريحة بأن ما كان العرب وغيرهم من الشعوب الأمية يتطلعون إليه ويتمنَّونه إنما هو نـزول كتاب عليهم يجعلهم قادرين على التفوق على أهل الكتاب من الطائفتين اليهود والنصارى في مجالات الهداية، لا تعلم القراءة والكتابة وحدهما؛ إذ أن تعلم ذلك متاح دون وحي ولا حاجة للناس بتمني نـزول الوحي ليحصلوا على تلك المهارة.....
ولعل ما قدمناه يرجح أن المراد "بالأميين" العرب ومن إليهم من الشعوب التي لم ينـزل عليها كتاب ولم يأتهم رسول من قبل. ومن هنا نجد أن الخطاب القرآني قد تدرج بشكل دقيق فأخرج العرب من أميتهم، وجعلهم قاعدة ومنطلقاً لهذه الرسالة: فلم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وجزيرة العرب -كلها- قد غمرها نور الإسلام لينطلق حملة الرسالة الأولون -بعد ذلك- لدعوة الشعوب الأمية الآخرين من فرس وترك وبربر وأكراد وهنود ومن إليهم. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة التصديق على الكتب السابقة والهيمنة عليها، وإخراج أهل الكتاب من التحريفات التي أضافوها إلى كتبهم ونسبوها إلى الله تعالى "فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ" (البقرة:79) وحين يتم ذلك يكون القرآن المجيد قد قام بتجديد وبناء وإعادة بناء "الدين كله"، وآنذاك يصبح الدين كما جاء القرآن به ظاهراً على الدين كله في العالم كله وبين البشر أجمعين "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" (التوبة:33)، ويصبح القرآن مرجع البشرية بلا منازع.
... إن من الواضح أن الشاطبي قد برزت في عهده مخالفات خطيرة وزلزل المؤمنون في عهده زلزالاً شديداً، وابتليت الأمة بفتن داخلية وغزو خارجي. فلذلك كتب كتابيه المهمين "الاعتصام، والموافقات" في الأول وقف ضد البدع بكل أنواعها، وأكد على أن إنقاذ الأمة يتوقف على عودتها إلى التمسك بكتاب الله تعالى، والاعتصام به وبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان بمثابة المقدمة التي أراد أن يقيم عليها إعادة بناء الشريعة كما يفهمها أو منهجه التجديدي ومشروعه للتجديد -كما يليق به أن يسمى. ولذلك فإن الكتابين في حاجة إلى إعادة قراءة في ضوء "علم اجتماع المعرفة" فذلك هو الذي سيساعد على فهم شخصية الشاطبي ومشروعه التجديدي، وأطروحاته التي حفل بهما الكتابان. ولأن هذه الدراسة في حد ذاتها مشروع مستقل لا يسعنا إلا انتظار الأستاذ الذكي أو الباحث النجيب ليقوم به، فإننا نبادر بالقول إن أطروحة أبي إسحاق حول حصر فهم القرآن المجيد والسنة المطهرة "بمعهود لسان العرب وأساليبهم في التخاطب" في عصر التنـزيل، وعدم قبول الأفهام المستحدثة بعد ذلك، وكذلك أطروحته حول أمية الشريعة تبعاً لأمية الأمة وعدم جواز فهم معان متعمقة من وراء النص، هاتان الأطروحتان إضافة إلى قضايا أخرى حفل بها كتابا أبي إسحاق -إن هي إلا رد فعله تجاه التأويلات الفلسفية، والتفسيرات الباطنية، والاعتبارات الرمزية والإشارات التي حفل بها عصره، وبعض العقود التي سبقته. فأراد بموقفه المتصلب ذلك أن يغلق الطريق أمام أصحاب تلك التأويلات، ولذلك كان في مواقفه خاصةً في هاتين القضيتين ما هو جدير بالمناقشة.
وقد ناقش ابن عاشور في تفسيره مقولة الإمام الشاطبي مناقشة مستفيضة، وذلك في مقدمته الرابعة من مقدمات تفسيره....
... وبذلك يتضح لنا أن المسألتين الثالثة والرابعة لأبي إسحاق الشاطبي وما شاد من بناء عليهما لا دلالة فيهما على ما أراده؛ لأن ذلك البناء -كله- قد قام على افتراض أن لا معنى "للأمي" إلا من لا يقرأ أو لا يكتب وقد تبين لنا ما فيه، ويكون وصف أهم وأعظم الشرائع الموحاة بالأمية وصفاً يحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر في نور هداية القرآن الكريم. فالقرآن كريم لا يبخل على أحد بفضله ونواله ويستطيع الناس على اختلاف مستوياتهم أن ينهلوا منه وهو لا يرد أحداً خائباً لكن لا يمكن أن يكون فهم الأئمة المجتهدين منه مثل فهم عامة الناس، فهناك أئمة يستنبطون من الآية الواحدة عشرات، بل مئات المسائل وهناك من يكتفي بفهم ما يتبادر إلى ذهنه منها وهو يسير، بل إن الشخص الواحد قد يقرأ السورة فلا يخرج منها بكثير، ثم يقرؤها ثانية وثالثة وعاشرة متدبراً فيفتح الله عليه بمعان لم يخطر على باله شئ منها في قراءته الأولى }كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا.{ (الإسراء:20).
ومن الدلالات التاريخية تحدى القرآن للعالمين كافة، وثبوت عجزهم إنساً وجناً على أن يأتوا بمثل سورة من سوره، والتحدي باتفاق علماء الأمة شامل للفظ والنظم والأسلوب والمعنى، فلو كان بدو الأعراب والعرب وأميوهم وعامتهم قادرين على الوصول إلى معانيه والمراد به، وعلى القرآن أن لا يرتقي عن مستوى إدراكهم، فكيف يكون الإعجاز؟ إن القرآن معجز في نظمه ولغته وهذا أمر لا خلاف فيه بين أهل البلاغة، وقد أضاف المعاصرون إلى وجوه إعجازه الكثيرة ما اصطلحوا على تسميته "بالإعجاز العلمي"، وهناك الإعجاز التاريخي؛ وإعجازه في قوة تأثيره وقدرته على إصلاح القلوب والعقول والأنفس وبناء الأمم والمجتمعات! والمتقدمون والمعاصرون يجمعون على إعجازه النظمي والتشريعي فكيف تكرس أمية الشريعة بهذا الشكل؟ وإذا لم يكن لنصوص القرآن خاصة فضاء يستوعب الزمان والإنسان والحضارات والثقافات في سائر عصورها فكيف تكون شرائعه صالحة لكل زمان ومكان؟
إن تحكيم جيل محدد بمواصفات الأمية -كما فهمها أبو إسحاق ومن إليه- في الكتاب الكريم يصادر أفهام الأجيال التالية، ويعفيها من سائر الأواصر الواردة في ضرورة تدبر القرآن والتفكر فيه وتعقله وتذكره والاجتهاد في ذلك كله. ويجعل منه نصاً مرتبطاً بواقع عصر النـزول، تتشكل كل معانيه وفقاً لآفاق ذلك العصر المعرفية، وليس أمام الأجيال التالية إلا التقليد والقياس على ما أنتج في ذلك العصر وسيكون أبو إسحاق -في هذه الحالة- قد تجاوز بنفسه ما قرره من مقاصد الشريعة والقواعد والضوابط التي بني عليها نظرياته فيها.
إن مما يدعو إلى العجب أن أبا إسحاق قد توفى سنة (790ﻫ) أي نهاية القرن الثامن -أي بعد أن قامت "الحضارة الإسلامية" وعلومها وفنونها وعمرانها والكثير من دولها من المشرق والمغرب. فهل كان ذلك -كله- نتاج "الأمية والأميين" ولو أن العرب استمروا في "أميتهم" كما فهمها أبو إسحاق ومن إليه هل كانت هذه الحضارة التي ما عرف الناس قبلها ولا بعدها حضارة أقرب إلى إنسانية الإنسان منها؟
إن أمانة أهل العلم أن يحكِّموا القرآن في كل ما عداه، لا أن يتخذوه شواهد يستشهد بآياته لتعزيز ما يجرى بناؤه من مقالات ومذاهب.....
... قد نجد لأبي إسحاق ومن إليه عذراً فيما ذهبوا إليه إذا استحضرنا ما ذهب إليه الباطنية ومن إليهم من أصحاب التفسير الرمزي أو الإشاري أو الباطني فالقرآن هو الذي يتحكم باللغة التي اختار كلماتها وعاءاً لمعانيه المطلقة.
إن القضايا المعرفية الكبرى والقضايا العلمية الكلية لا ينبغي أن تشاد على ردود الأفعال وغلق الذرائع ونحوها؛ بل لابد من سند علمي متين يقرر العالم على أساس منه ما يريد أن يقرره. وفكرة أمية الأمة وسوء فهم حديث "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب…" والانحراف في تفسيره قد جر على الأمة ويلات وانحرافات فكرية لا نزال نعاني منها حتى اليوم. كما أن تحكيم فهم "البدو والأعراب" في بيان المراد بالقرآن انحراف لا يقل خطورة عن الجنوح نحو التأويلات الرمزية والباطنية المنحرفة؛ بل إن القرآن نفسه قد صادر من البدوي أو الأعرابي هذه المهمة فقال تعالى "قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (الحجرات:14)، وقال تعالى "الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (التوبة:97).
خاتمة:
... نخلص إلى القول بأنه ليس من المعقول أبداً أن يكون الأعراب أو ما سموه "بديوان الجاهلية" من شعرهم – هو الحَكَم والمرجع في فهم معاني القرآن. فإن وحدة الشيء ووحدة المعنى والمضمون والأفكار والمعارف التي يحملها اللفظ شيء، والكتاب الذي فُصِّل بعلم الله وعلى قدر هذا العلم شيء آخر، فهذا الكتاب لا يمكن أن يتحكم في معانيه شعرٌ أو نثر فُصِّل بعلم الأعرابي وعلى قدر فهم البدوي. والتسوية بين الاستعمال الإلهي المتحدي المعجز للسان واستعمال البدو أو أهل اللسان أمر تأباه حاكمية الكتاب الكريم. والقرآن يفسر بعضه بعضاً، ويفسر بالجمع بين القراءتين: قراءة الكون المخلوق وقراءة الكتاب المسطور. ويمكن أن يستأنس بما ورد عن العرب من قريش ومن إليها ممن نـزل القرآن بلسانهم للحصول على مزيد من الفهم، ويبقى القرآن متعالياً مستوعباً ومتجاوزاً يحكم ولا يحكم عليه، يهيمن ولا يهيمن عليه، ويقضي ولا يقضى عليه. ...]] اهـ



  • وفي موقع طريق الاسلام (أَعُلماء عَلمانيون ):
[[ قال الشيخ صالح حفظه الله: ومعلوم أن من القواعد الشرعية التي قررها الشاطبي وغيره في كتاب الموافقات وقررها غيره: أن الشريعة -شريعة الإسلام- أمية؛ يعني أنها في تشريعاتها وفيما يطلبه الشارع من أهلها راعى فيها حال الأكثرين وهم الأميون، كما قال النبي صَلَّى الله عليه وسلم «نحن أمة أمية» وإذا عُلِّقت الأحكام بما لا يدركه إلا الخواص كان هذا قدحًا في الشريعة؛ لأن الأحكام التي يحتاجها الناس جميعًا هذا لا يعلق بها معرفة الخواص، ومعلوم أن حال المسلم بأعدائه هذا يحتاجه كل واحد، ولهذا بينه الله جل وعلا في القرآن مفصلاً جدًا". فتلاحظ كيف أُلْغِيَ شطر الفقه من علوم العلماء بكلمة قالها الشاطبي، في مجال ليس هذا مجالها أصلًا! أما أمية الأمة حسب مذهب الشاطبي فنوقشت كثيرًا، وأما "أمية الشريعة" فلم أجد من الأقدمِين من قال بها، ولا من وصف الشريعة بالأمية غير الإمام الشاطبي رحمه الله، فهل يمكن أن يقال له: من سَلَفُك في هذا؟!
قال : وقول الشيخ صالح عن مقولة الشاطبي بأنها "من القواعد الشرعية"، خطأ، وإنما هي من القواعد الشاطبية وليست الشرعية، وبالتالي فهي تُعرَض على الشريعة، لتأخذ حكمَها كباقي أقاويل البشر غير المعصومين، وسيتبيَّن لك أنها مخالفة للشريعة. فالمعنى الذي نحى إليه الشاطبي من معنى "الأمة الأمية" ثم بنى عليه أن "الشريعة أمية"، رغم أنها شريعة العلم، بل أول ما نزل من القرآن "اقرأ"، والأمية التي لا تعرف القراءة والكتابة كُلًّا أو غالبًا! ومع ما سبق من أقوال العلماء، في مفهوم أمية الأمة، وأن مورد الحديث في الأساس في مورد خاص، هو ألا نعلق عباداتنا التي هي لجميع الناس إلا بشيء يعرفه جميع الناس، معلوم أن الصيام لجميع الناس، حتى البادي في البادية عليه أن يصوم وله أن يعرف بم يصوم. أما فنون العلم واختصاصاته فليست للعوام، وإنما للعوام زُبَدُها التي يفتيها بها العلماء المتخصصون، كما في أصول الفقه وعلوم الحديث، تختص به العلماء، رغم أن العامة لا تفهم منه شيئًا، ولربما لو أرغمت عليه لكان مُنَفِّرًا لها من الدين، والعامة تحتاج الفقه والحديث والقرآن، لكن دون علوم القرآن وأصول الفقه وعلم الحديث...
... وكون الشاطبي يقول بأن الشريعة أمية، وأنها نزلت على معهود الأميين العرب، وألزم بتقعيده أن تظل كذلك، فهذا يقتضي أنها شريعة للعرب فقط، وليست عالمية، فلا تصلح لخطاب غير العرب، وهذا يصادم مبدأ عالمية الرسالة والرسول، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28]. وذلك لأن سائر الأمم تختلف معهوداتها غابِرًا وحاضرًا عن معهود الأمة العربية قديمًا وحديثًا. ومن هنا أن تقعيد الإمام الشاطبي من هذه الحيثية خطأ كبير، وما يُبنى عليه أيضًا خطأ، ومن ذلك تحريم فقه الواقع وتبديعه لأجل أنه يخالف أمية الأمة وشريعتها، وبزعم أن السلف لم يقولوا به أيضًا.. ولكن الأمر ليس كذلك في كلا المقدمتين، كما سيتبيَّن إن شاء الله تعالى. الشريعة نزلت على معهود العَالمين ولأجل صلاحية الشريعة لكل قوم ولكل (عقلية) ولكل بيئة، لكل حالة مدنية؛ متطورة أو بدائية، كانت معجزته القرآن ذاته، الذي يشتمل على بلاغته لا في اللسان العربي الذي نزل به على قومٍ عرب فحسب معهودهم النُّوق والحمير والأدب العربي، بل بلاغته في كل ما من شأنه أن يبلغ فيه الناس شأوًا عظيمًا، فيكون أبلغَ منهم في ذلك الأمر؛ علميًّا كان أو أدبيًّا، ويكون معجزًا لهم متحدِّيا لهم ومفحمًا، يُنْبِي كلَّ قوم بأنه كلام رب العالمين....
... فأيها أولى بهذه الشريعة؛ أن تكون مشربة بأمية العرب وجهلهم أو بعلم العليم الذي أنزلها بعلمه وفصَّل فيها كل شيء، حتى أولئك العرب ارتفعوا بها في درجات العلم؟! فهذا أحد العرب؛ علي رضي الله عنه يُفتي في علم الأجنة في شيء لم يكن من معهود العرب، وما أخذه إلا من كتاب الله تعالى.فعن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت: ما يبكيك؟! فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله غيره قط ، فيقضي الله فيّ ما شاء. فلما أتي بها عثمان أمر برجمها، فبلغ ذلك عليا فأتاه، فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تماما لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له عليٌّ أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قال: أما سمعت الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف:15]، وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:223]، فلم نجده بقى إلا ستة أشهر، قال: فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا.." . (انظر التفاسير، والموطأ برقم: [1863])..... ]] اهـ ( أَعُلماء عَلمانيون؟! -(12) القاعدة الشاطبية وأمِّيَّة الشريعة – الباحث أبو محمد بن عبد الله.)

يتبع
 
  • ولتتمة الموضوع ننقل كلام الامام الشاطبي في كتابه الموافقات نهاية هذه المسئلة الرابعة ، والتي يوضح فيها بعض مفاهيم أُمِّيَّةِ الشَّرِيعَةِ :
قال الشاطبي : [[فَصْلٌ:
- وَمِنْهَا : أَنْ تَكُونَ التَّكَالِيفُ الِاعْتِقَادِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ مِمَّا يَسَعُ الْأُمِّيَّ تَعَقُّلُهَا، لِيَسَعَهُ الدُّخُولُ تَحْتَ حُكْمِهَا.
أَمَّا الِاعْتِقَادِيَّةُ – بِأَنْ تَكُونَ مِنَ الْقُرْبِ لِلْفَهْمِ، وَالسُّهُولَةِ عَلَى الْعَقْلِ، بِحَيْثُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْجُمْهُورُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ثَاقِبَ الْفَهْمِ أَوْ بَلِيدًا-، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ، لَمْ تَكُنِ الشَّرِيعَةُ عَامَّةً، وَلَمْ تَكُنْ أُمِّيَّةً، وَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهَا كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي الْمَطْلُوبُ عِلْمُهَا وَاعْتِقَادُهَا سَهْلَةَ الْمَأْخَذِ. ................
وَأَمَّا الْعَمَلِيَّاتُ، فَمِنْ مُرَاعَاةِ الْأُمِّيَّةِ فِيهَا أَنْ وَقَعَ تَكْلِيفُهُمْ بِالْجَلَائِلِ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّقْرِيبَاتِ فِي الْأُمُورِ، بِحَيْثُ يُدْرِكُهَا الْجُمْهُورُ كَمَا عَرَّفَ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ لَهُمْ، كَتَعْرِيفِهَا بِالظِّلَالِ، وَطُلُوعِ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ، وَغُرُوبِهَا وَغُرُوبِ الشَّفَقِ، وَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}[الْبَقَرَةِ: 187] ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ مَنْ حَمَلَ الْعِبَارَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، نَزَلَ: {مِنَ الْفَجْرِ} . .............
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ تَدْقِيقِ النَّظَرِ فِي مَوَاقِعِ الْأَحْكَامِ، وَمَظَانِّ الشُّبُهَاتِ، وَمَجَارِي الرِّيَاءِ وَالتَّصَنُّعِ لِلنَّاسِ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهْلِكَاتِ، الَّتِي هِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الدَّقَائِقِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَى فَهْمِهَا وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَظَائِمَ وَهِيَ مِمَّا لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْجُمْهُورُ.
وَأَيْضًا، لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لِلْعُلَمَاءِ مَزِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ خَاصَّةً وَعَامَّةً، وَكَانَ لِلْخَاصَّةِ مِنَ الْفَهْمِ فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ عَرَبًا وَأُمَّةً أُمِّيَّةً، وَهَكَذَا سَائِرُ الْقُرُونِ إِلَى الْيَوْمِ، فَكَيْفَ هذَا؟
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ عَامَّةً، وَمَا يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ خَاصَّةً، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ الْمُتَشَابِهَاتُ، فَهِيَ شَامِلَةٌ لِمَا يُوصَلُ إِلَى فَهْمِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ، فَأَيْنَ الِاخْتِصَاصُ بِمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ خَاصَّةً؟
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا الْمُتَشَابِهَاتُ، فَإِنَّهَا مِنْ قَبِيلٍ غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهَا إِمَّا رَاجِعَةٌ إِلَى أُمُورٍ إِلَهِيَّةٍ لَمْ يَفْتَحِ الشَّارِعُ لِفَهْمِهَا بَابًا غَيْرَ التَّسْلِيمِ والدخول تحت آيَةِ التَّنْزِيهِ، وَإِمَّا رَاجِعَةٌ إِلَى قَوَاعِدَ شَرْعِيَّةٍ، فَتَتَعَارَضُ أَحْكَامُهَا، وَهَذَا خَاصٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى عَامٍّ هُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا يُجَابُ عَنْهَا بِأَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّهَا أُمُورٌ إِضَافِيَّةٌ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِهَا أَوَّلَ الْأَمْرِ لِلْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ تَعْرِضُ لِمَنْ تَمَرَّنَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَزَاوَلَ أَحْكَامَ التَّكْلِيفِ، وَامْتَازَ عَنِ الْجُمْهُورِ بِمَزِيدِ فَهْمٍ فِيهَا، حَتَّى زَايَلَ الْأُمِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ، فَصَارَ تَدْقِيقُهُ فِي الْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَتَهُ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى مَا فَهِمَهُ نِسْبَةُ الْعَامِّيِّ إِلَى مَا فَهِمَهُ، وَالنِّسْبَةُ إِذَا كَانَتْ مَحْفُوظَةً، فَلَا يَبْقَى تَعَارُضٌ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ.
وَالثَّانِي:
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَرَاتِبَ لَيْسُوا فِيهَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ، فَلَيْسَ مَنْ لَهُ مَزِيدٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ كَمَنْ لَا مَزِيدَ لَهُ، لَكِنَّ الْجَمِيعَ جَارٍ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ.
وَالِاخْتِصَاصَاتُ فِيهَا هِبَاتٌ مِنَ اللَّهِ لَا تُخْرِجُ أَهْلَهَا عَنْ حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ، بَلْ يَدْخُلُونَ مَعَ غَيْرِهِمْ فِيهَا، وَيَمْتَازُونَ هُمْ بِزِيَادَاتٍ في ذلك الأمر المشترك. بِعَيْنِهِ، فَإِنِ امْتَازُوا بِمَزِيدِ الْفَهْمِ لَمْ يُخْرِجْهُمْ ذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَزِيدَ أَصْلُهُ الْأَمْرُ الْمُشْتَرَكُ.
كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الْوَرَعَ مَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَمِنْهُ مَا هُوَ مِنَ الْجَلَائِلِ، كَالْوَرَعِ عَنِ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ، وَالْمَكْرُوهِ الْبَيِّنِ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنَ الْجَلَائِلِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهُوَ مِنْهَا عِنْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ، فَصَارَ الَّذِينَ عَدُّوهُ مِنَ الْجَلَائِلِ دَاخِلِينَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَلَى الْجُمْلَةِ وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع على بَعْضِ مَا لَا يَتَوَرَّعُ عَنْهُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، بِنَاءً عَلَى الشَّهَادَةِ بِكَوْنِ الْمَوْضِعِ مُتَأَكَّدًا لِبَيَانِهِ أَوْ غَيْرَ مُتَأَكَّدٍ لِدِقَّتِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْخَوَاصُّ عَنِ الْعَوَامِّ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْقَانُونِ، فَقَدْ بَانَ أَنَّ الْجَمِيعَ جَارُونَ عَلَى حُكْمِ أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ مَفْهُومٍ لِلْجُمْهُورِ عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّ مَا فِيهِ التَّفَاوُتُ إِنَّمَا تَجِدُهُ فِي الْغَالِبِ فِي الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَمْ يُوضَعْ لَهَا حَدٌّ يُوقَفُ عِنْدَهُ، بَلْ وُكِلَتْ إِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ، فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ فِيهَا مَطْلُوبًا بِإِدْرَاكِهِ، فَمِنْ مُدْرِكٍ فِيهَا أَمْرًا قَرِيبًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ، وَمِنْ مُدْرِكٍ فِيهَا أَمْرًا هُوَ فَوْقَ الأول، فهو المطلوب منه، وربما تفاوت الْأَمْرُ فِيهَا بِحَسَبِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَى الدَّوَامِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ، فَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا، بَلْ بِمَا هُوَ دُونَهَا، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَطْلُوبًا، وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يُعْتَبَرُ مَا جَاءَ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ وُضِعَتِ الْعَمَلِيَّاتُ عَلَى وَجْهٍ لَا تُخْرِجُ الْمُكَلَّفَ إِلَى مَشَقَّةٍ يَمَلُّ بِسَبَبِهَا، أَوْ إِلَى تَعْطِيلِ عَادَاتِهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا صَلَاحُ دُنْيَاهُ، وَيَتَوَسَّعُ بِسَبَبِهَا فِي نَيْلِ حُظُوظِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يُزَاوِلْ شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا الْعَقْلِيَّةِ- وَرُبَّمَا اشْمَأَزَّ قَلْبُهُ عَمَّا يُخْرِجُهُ عَنْ مُعْتَادِهِ - بِخِلَافِ مَنْ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عَهْدٌ، وَمِنْ هُنَا كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً، وَوَرَدَتِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ فِيهَا شَيْئًا فَشَيْئًا وَلَمْ تَنْزِلْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهَا النُّفُوسُ دَفْعَةً وَاحِدَةً.
وَفِيمَا يُحْكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: "مَا لَكَ لَا تُنَفِّذُ الْأُمُورَ؟ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي لَوْ أَنَّ الْقُدُورَ غَلَتْ بِي وَبِكَ فِي الْحَقِّ". قَالَ لَهُ عُمَرُ: "لَا تَعْجَلْ يَا بُنَيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْخَمْرَ فِي الْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، وَحَرَّمَهَا فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنَّى أَخَافُ أَنْ أَحْمِلَ الْحَقَّ عَلَى النَّاسِ جُمْلَةً، فَيَدْفَعُوهُ جملة، ويكون من ذا فتنة".
وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ فِي الِاسْتِقْرَاءِ الْعَادِيِّ، فَكَانَ مَا كَانَ أَجْرَى بِالْمَصْلَحَةِ وَأَجْرَى عَلَى جِهَةِ التَّأْنِيسِ، وَكَانَ أَكْثَرُهَا عَلَى أَسْبَابٍ وَاقِعَةٍ، فَكَانَتْ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ حِينَ صَارَتْ تَنْزِلُ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ، وَكَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى التَّأْنِيسِ حِينَ كَانَتْ تَنْزِلُ حُكْمًا حُكْمًا وَجُزْئِيَّةً جُزْئِيَّةً؛ لِأَنَّهَا إِذَا نَزَلَتْ كَذَلِكَ، لَمْ يَنْزِلْ حُكْمٌ إِلَّا وَالَّذِي قَبْلَهُ قَدْ صَارَ عَادَةً، وَاسْتَأْنَسَتْ بِهِ نَفْسُ الْمُكَلَّفِ الصَّائِمِ عَنِ التَّكْلِيفِ وَعَنِ الْعِلْمِ بِهِ رَأْسًا، فَإِذَا نَزَلَ الثَّانِي كَانَتِ النَّفْسُ أَقْرَبَ لِلِانْقِيَادِ لَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ.
وَلِذَلِكَ أُونسوا فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا يُؤْنَسُ الطِّفْلُ فِي الْعَمَلِ بِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ أَبِيهِ،يَقُولُ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الْحَجِّ: 78] .
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِي} [النَّحْلِ: 123] .
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه} [آلِ عِمْرَانَ: 68] .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ: فَلَوْ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَتَكَاثَرَتِ التَّكَالِيفُ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَنْقَادَ إِلَيْهَا انْقِيَادَهُ إِلَى الحكم الواحد أو الاثنين.
وَفِي الْحَدِيثِ: "الْخَيْرُ عَادَةٌ" وَإِذَا اعْتَادَتِ النَّفْسُ فعلا مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ حَصَلَ لَهُ بِهِ نُورٌ فِي قَلْبِهِ، وَانْشَرَحَ بِهِ صَدْرُهُ، فَلَا يَأْتِي فِعْلٌ ثانٍ إِلَّا وَفِي النَّفْسِ لَهُ الْقَبُولُ؛ هَذَا فِي عَادَةِ اللَّهِ فِي أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَعَادَةٌ أُخْرَى جَارِيَةٌ فِي النَّاسِ أَنَّ النَّفْسَ أَقْرَبُ انْقِيَادًا إِلَى فِعْلٍ يَكُونُ عِنْدَهَا فِعْلٌ آخَرُ مِنْ نَوْعِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ أَضْدَادَ هَذَا وَيُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ، فَكَانَ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَكْرَهُ الْعُنْفَ، وَيَنْهَى عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ مَا لَا يُطَاقُ حَمْلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الانقياد، وأسهل في التشريع للجمهور]]. انتهى كلام الشاطبي.

قال الشيخ عبدالله دراز في تعليقه على الوجه الأول :
كيف لا يعارض هذا ما قرره في نتيجة هذا الفصل من قوله ( أي الشاطبي ) آنفا: "وعلى هذا، فالتعمق في البحث في الشريعة وتطلب ما لا يشترك فيه الجمهور خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية"، وهنا يقول: "إنها أمور إضافية"، و"إن تدقيق الذي يتمرن على علم الشريعة في الأمور الجليلة، وإن نسبة ما فهمه إلى ما يفهمه العامي نسبة محفوظة"، ولا يقال: إن ما قرره كان خاصا بالاعتقاديات، لأنا نقول: الجواب أصله عام في المتشابهات الاعتقادية وغيرها، كما يعلم من النظر في الاعتراض، وعلى كل حال، فهو هنا يثبت أن للخاصة أن تفهم وتدقق في الشريعة بما لا يناسب الجمهور ولا يشتركون فيه، وهل هذا إلا عين التسليم بالإشكال على ما سبق؟.اهـ
وقال الشيخ دراز معترضا في تعليقه على الوجه الثاني :
وهل هذه هي الدعوى التي يشتغل ( الشاطبي ) في هذه الفصول بإثباتها، وهي أن الشريعة أمية، وأنه لا يصح أن تُفهم إلا بالوجه الذي يعهده الأميون والجمهور، أما كون الأمر المشترك في التكليف هو ما يفهمه الجمهور وما يقدر على أدائه الجمهور، فلا مرية فيه، إنما الكلام فيما أطال فيه النفس في هذه الفصول من الحجر على الخواص أن يفهموا الكتاب إلا بمقدار الأميين والجمهور، وبنى على هذه النتائج. اهـ

  • نلاحظ هنا في كلام الامام الشاطبي في الأوجه الثلاثة التي ذكرها : أن أهل الشريعة فيهم العوام والخواص ، وإذا كانت الشريعة أمية فليست للجميع ، وكذلك تدرج التشريع ربما يكون في أوله راعَى أمية العرب ولكن أنتهى التشريع الى شريعة محكمة حنيفية ، وهذا ما سيتبين لاحقا .
نَّبِيٌّ اُمِّيٌّ لأمَّةُ اُمِّيَّةُ بشَّرِيعَةٍ حَنِيفًية وليست شَّرِيعَة أُمِّيَّة :
 
نَّبِيٌّ اُمِّيٌّ لأمَّةُ اُمِّيَّةُ بشَّرِيعَةٍ حَنِيفًية وليست شَّرِيعَة أُمِّيَّة :

وتحقيق ذلك يتبين من التالي :
أولا : حنفاء قبل الاسلام :
قد بقيت بقايا من دين إبراهيم عليه السلام ، وصلت إلى العرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت قلة من العرب يدينون ـ قبل البعثة ـ بالحنيفية ، دين إبراهيم عليه السلام ، وكان للحنيفية أثر واضح بين العرب ، على الرغم من قلة أتباعها في العصر الجاهلي ، فكانوا كالنجم الذي يضئ للإنسان الطريق في الظلام الحالك.
وقد ورد في كتب السير والتراجم عدد من هؤلاء الحنفاء او المتحنفين فذُكر منهم: "قس ابن ساعدة الأيادي - زيد بن عمرو بن نفيل - أمية بن أبي الصلت - أرباب ابن رئاب - سويد بن عامر المصطلقي - أسعد أبو كرب الحميري - وكيع بن سلمة الأيادي - عمير بن جندب الجهمي - عدى بن العبادي - أبو قيس صرمة بن أبي أنس - سيف بن ذي يزن - ...........وغيرهم ، ولعلّي أذكر سيرة أحدهم أو أشهرهم:
ففي صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : ( أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ ، فَقَالَ : إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ ، فَأَخْبِرْنِي ؟! فَقَالَ : لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ !! ، قَالَ زَيْدٌ : مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا ، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ !! فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟ ، قَالَ : مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا .قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ ؛ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا،وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ .فَخَرَجَ زَيْدٌ ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ : لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ !! ، قَالَ : مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا ، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ ؟! فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟ ، قَالَ : مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا ، قَالَ : وَمَا الْحَنِيفُ ؟ قَالَ : دِينُ إِبْرَاهِيمَ ؛ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ . فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام خَرَجَ ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيم. )
وروى البخاري عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ :(رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ : يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ ، وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي . وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ : إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ لَا تَقْتُلْهَا ، أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا ؛ فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا : إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا) .
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: ( أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقِيَ زَيْدَ بنَ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ بأَسْفَلِ بَلْدَحٍ، قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الوَحْيُ، فَقُدِّمَتْ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سُفْرَةٌ، فأبَى أنْ يَأْكُلَ منها، ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: إنِّي لَسْتُ آكُلُ ممَّا تَذْبَحُونَ علَى أنْصَابِكُمْ، ولَا آكُلُ إلَّا ما ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عليه، وأنَّ زَيْدَ بنَ عَمْرٍو كانَ يَعِيبُ علَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، ويقولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ، وأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ المَاءَ، وأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا علَى غيرِ اسْمِ اللَّهِ، إنْكَارًا لِذلكَ وإعْظَامًا له.)
وعن سعيد بن زيد قال: [سألت أنا، وعمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو، فقال: يأتي يوم القيامة أمة وحده] (رواه أبو يعلى وإسناده حسن).

ثانيا : أمرَ اللهُ عزّ وجلّ النبيَ صلى الله عليه وسلم بإقامة وجهه للدين الحنيف:
قال الله تعالى : " وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " ﴿105﴾ سورة يونس
وقال تعالى : " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " ﴿30﴾ سورة الروم
قال الراغب في المفردات: "الحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال". يقال : تحنّف فلان ؛ أي تحرّى طريق الاستقامة.
وبوب الإمام البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه :
بَاب الدِّينُ يُسْرٌ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ .
وعن عِيَاضِ الْمُجَاشِعِيِّ عن النَّبيِّ فيما يرويه عن الله ـ تبارك وتعالى ـ قال : " إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ".رواه مسلم
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ ". رواه أحمد في المسند (24334) ، وصححه الألباني في الصحيحة (1829) ، وحسنه محققو المسند .
قال في اللباب في علوم الكتاب في قوله تعالى " وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ":
قال ابنُ الخطيبِ: "إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكليَّةِ إلى طلبِ الدِّين؛ لأنَّ من يريدُ أن ينظر إلى شيءٍ نظر استقصاءٍ فإنَّه يُقيم وجههُ في مقابلته بحيثُ لا يصرفه عنه؛ لأنَّه لو صرفهُ عنه، ولو بالقليل، فقد بطلت تلك المقابلة، وإذا بطلت المقابلةُ اختلَّ الإبصار؛ فلهذا جعل إقامة الوجه كناية عن صرف العقل بالكليةِ إلى طلبِ الدِّين، وقوله "حَنِيفاً" أي: مائلاً إليه ميلاً كليّاً، معرضاً عن كُلِّ ما سواه إعراضاً كلياً".


ثالثا : المؤسس إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ والمجدد مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم :
ذكر هذه العبارة د.محمد ملكاوي في دراسة تحليلية له (الحنفاء العرب ) فأستحسنتها لهذا البحث.
لقوله تعالى : " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ "(130) البقرة
ولقوله جل شأنه : " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ " (68)ال عمران
وقوله عز وجل : " ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿123﴾ النحل
وقوله جل جلاله : " قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿161﴾ الأنعام
وقوله سبحانه : " قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿95﴾ آل عمران
قال بن عاشور :
وقد أضيفت الحنيفية الى إبراهيم عليه السلام وأتباعه على ملته خاصة دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم ، لأن الله تعالى لم يجعل أحدا منهم إماما لمن بعده من عباده الى قيام الساعة كما جُعل إبراهيم عليه السلام ، إذ جعل شريعته في مناسك الحج والختان متعبدا بها أبدا ، وجعل أتباعه عَلَمَا مميزا بين مؤمني عباده المطيعين له وكفارهم العاصين.
وقال : ووجه كون هذا النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم، مثل الذين اتبعوه، إنّهم قد تخلقوا بأصول شرعه، وعرفوا قدره، وكانوا له لسان صدق دائباً بذكره، فهؤلاء أحقّ به ممّن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه، وهم اليهود والنصارى .

رابعا : تشريعات في الجاهلية أقرّها الاسلام :
صحيح ان النصوص تواترت على أنه صلى الله عليه وسلم بُعِث من وفي أمة أمية ، ولكن هؤلاء الأميين كانت تشريعاتهم تُعظِّم الحنيفية بل وكان لِلْعَرَبِ أَحْكَامٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، مِمَّا كَانَ بَاقِيَا عِنْدَهُمْ مِنْ شَرَائِعِ الأنْبياء وشَرِيعَةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَأَنَّ مَا جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هِيَ تِلْكَ الشريعة بِعَيْنِهَا، لقَوْلِهِ تَعَالَى: "مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ " الْحَجِّ 78. غَيْرَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا جُمْلَةً مِنْها، وَزَادُوا، وَاخْتَلَفُوا، فَجَاءَ تَقْوِيمُهَا مِنْ جِهَةِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن ذلك أمثلة مختصرة ، كالتالي :

  • أعمال الحج :
ففي صحيح البخاري : عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : كَانَتْ قُرَيْشٌ ومَن دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بالمُزْدَلِفَةِ، وكَانُوا يُسَمَّوْنَ الحُمْسَ، وكانَ سَائِرُ العَرَبِ يَقِفُونَ بعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلَامُ أمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ يَقِفَ بهَا، ثُمَّ يُفِيضَ منها فَذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفَاضَ النَّاسُ"[البقرة: 199].
وكذلك في صحيح البخاري : قُلتُ لأنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ قالَ: نَعَمْ لأنَّهَا كَانَتْ مِن شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ حتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فمَن حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فلا جُنَاحَ عليه أَنْ يَطَّوَّفَ بهِمَا} (البقرة: 158).
وعن عائشة أم المؤمنين : كانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ في الجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إلَّا الحُمْسَ، والحُمْسُ قُرَيْشٌ وما ولَدَتْ، وكَانَتِ الحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ علَى النَّاسِ، يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا، وتُعْطِي المَرْأَةُ المَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا، فمَن لَمْ يُعْطِهِ الحُمْسُ طَافَ بالبَيْتِ عُرْيَانًا. رواه البخاري
فهذا منسك الحج توارثته العرب من لَدُن إبراهيم -عليه السلام- حتى جاء الإسلام، والرسول -صلى الله عليه وسلم- قائم بين الناس يقول لهم: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا " ، حتى ردَّ المناسك - بما علَّمه الله- إلى ملّة إبراهيم الحنيفية.

  • الْقِرَاض :
الْقِرَاضُ - وهو المُضَارَبَةً - كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ أَهْلَ تِجَارَةٍ لاَ مَعَاشَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهَا وَفِيهِمْ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لاَ يُطِيقُ السَّفَرَ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّغِيرُ، وَالْيَتِيمُ، فَكَانُوا وَذَوُو الشُّغْلِ وَالْمَرَضِ يُعْطُونَ الْمَالَ مُضَارَبَةً لِمَنْ يَتَّجِرُ بِهِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِنْ الرِّبْحِ فَأَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي الإِسْلاَمِ ، وَقَدْ خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاضٍ بِمَالِ خَدِيجَةَ، رضي الله عنها‏.‏

  • الدِّيَةِ وَضَرْبِهَا عَلَى الْعَاقِلَة :
قَضى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ بالدِّيةِ على العاقِلَةِ
الراوي : المغيرة بن شعبة | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح ابن ماجه
الصفحة أو الرقم: 2146 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
قال في "الإفصاح": "واتفقوا على أن الدية في قتل الخطأ على عاقلة القاتل المخطئ، وأنها تجب عليهم مؤجلة في ثلاث سنين.
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: (باب العاقلة) بكسر القاف جمع عاقل، وهو دافع الدية، وسميت الدية عقلاً تسمية بالمصدر؛ لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي القتيل، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، ولو لم تكن إبلاً. وعاقلة الرجل قراباته من قبل الأب، وهم عصبته، وهم الذين كانون يعقلون الإبل على باب ولي المقتول. وتحمُّل العاقلة الدية ثابت بالسنة، وأجمع أهل العلم على ذلك.

  • إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْقَافَة :
ففي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت : دَخَلَ عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذاتَ يَومٍ وهو مَسْرُورٌ، فقالَ:" يا عائِشَةُ، ألَمْ تَرَيْ أنَّ مُجَزِّزًا المُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَرَأَى أُسامَةَ بنَ زَيْدٍ وزَيْدًا وعليهما قَطِيفَةٌ، قدْ غَطَّيا رُؤُوسَهُما وبَدَتْ أقْدامُهُما، فقالَ: إنَّ هذِه الأقْدامَ بَعْضُها مِن بَعْضٍ". وَسَبَبُ سُرورِهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم أنَّ الجاهِليةَ كانَتْ تَقدَحُ في نَسَبِ أُسامةَ رضي اللَّه عنه؛ لِكَونِه أَسْوَدَ شَديدَ السَّوادِ؛ لِكَونِ أُمِّهِ كانَتْ سَوداءَ، وَزَيْدٍ رضي اللَّه عنه أبيَضَ مِن القُطْنِ، فَلَمَّا قال مُجَزِّزٌ ما قال مع اختِلافِ اللَّونِ سُرَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم بذلك؛ لِكَونِه كافًّا لَهُم عَن الطَّعنِ فيهِ لاعتِقادِهِم ذلك.
وممن أثبت الحكم بالقافة عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وعامة أهل الحديث.

  • الْقَسَامَة :
ففي صحيح مسلم : أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَقَرَّ القَسَامَةَ علَى ما كَانَتْ عليه في الجَاهِلِيَّةِ. [وفي رواية]: مِثْلَهُ. وَزَادَ، وَقَضَى بهَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ نَاسٍ مِنَ الأنْصَارِ في قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ علَى اليَهُودِ.
والقَسامةُ: هي أنْ يُقْسِمَ مِن أولياءِ الدَّمِ خَمْسُونَ نفرًا على استحقاقِهم دَمَ صاحبِهم إذا وَجدُوه قتيلًا بَيْنَ قومٍ ولم يُعرَفْ قاتلُه، فإنْ لم يكونوا خَمسين أَقسَمَ الموجودون خمسين يمينًا، ولا يكونُ فيهم صبٌّي ولا امرأةٌ ولا مجنونٌ ولا عبْدٌ، أو يُقْسِمُ بها المتَّهمونَ على نفْيِ القْتلِ عنهم؛ فإنْ حلَفَ المدَّعونَ استحقُّوا الدِّيةَ، وإنْ حَلفَ المتَّهمونَ لم تَلزمْهمُ الدِّيةُ، وقد جاءَتْ على بناءِ الغرامةِ والْحَمالةِ؛ لأنَّها تلزمُ أهلَ الموضعِ الَّذي يُوجدُ فيه القتيلُ، وقضى بها، أي: حَكمَ بها رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بَيْنَ ناسٍ مِنَ الأنصارِ في قتيلٍ ادَّعَوْه على اليهودِ.

  • قطع يد السارق كان معمولًا به في الجاهلية :
قال الشنقيطي ــرحمه الله تعالى- في أضواء البيان: وَقَطْعُ السَّارِقِ كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ. وَعَقَدَ ابْنُ الْكَلْبِي بَابًا لِمَنْ قُطِعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الَّذِينَ سَرَقُوا غَزَالَ الْكَعْبَةِ، فَقُطِعُوا فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَذَكَرَ مِمَّنْ قُطِعَ فِي السَّرِقَةِ: عَوْفَ بْنَ عَبْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، وَمَقِيسَ بْنَ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَهْمٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَّ عَوْفًا السَّابِقَ لِذَلِكَ، .... اهــ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَدْ قُطِعَ السَّارِقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِقَطْعِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَطْعِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ أَوَّلُ سَارِقٍ قَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الرِّجَالِ: الْخِيَارَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ .. اهــ.

  • الختان
وهو من طقوس الحنيفية ، حيث كان أتباعها يختنون أبنائهم ، وبقى بعض العرب يحافظون على هذه الشعيرة حتى بعد ابتعادهم عن الحنيفية الى عبادة الأصنام والاوثان.
وفي صحيح البخاري : عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم : "اخْتَتَنَ إبْراهِيمُ عليه السَّلامُ وهو ابنُ ثَمانِينَ سَنَةً بالقَدُّومِ."
قال فى المغنى:
وإن أمن على نفسه لزمه فعله ، قال حنبل : سألت أبا عبد الله عن الذمي إذا أسلم ترى له أن يطهر بالختان ؟ قال : لا بد له من ذلك ، قلت إن كان كبيرا ، قال أحب إلي أن يتطهر لأن الحديث : [ اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة ] قال تعالى : "ملة أبيكم إبراهيم ".

  • المواريث :
كان العرب في الجاهلية يُورِّثون الذكور فقط، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا، قالَ: كانَ المَالُ لِلْوَلَدِ، وكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِن ذلكَ ما أحَبَّ، فَجَعَلَ: لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ واحِدٍ منهما السُّدُسَ، والثُّلُثَ، وجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ والرُّبُعَ، وللزَّوْجِ الشَّطْرَ والرُّبُعَ.(رواه البخاري)
وفي الحديث : (جاءتِ امرأةُ سَعدِ بنِ الرَّبيعِ بابنَتَيْها مِن سَعدٍ، فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، هاتانِ بِنتا سَعدٍ، قُتِلَ أبوهما معك يومَ أُحُدٍ شَهيدًا، وإنَّ عَمَّهما أخَذَ مالَهما، فلمْ يَدَعْ لهما مالًا، ولا تُنكَحانِ إلَّا ولهما مالٌ. قال: يَقضي اللهُ في ذلك. فأُنزِلَتْ آيةُ المَواريثِ، فبعَثَ إلى عَمِّهما، فقال: أعْطِ بَنتَيْ سَعدٍ الثُّلُثَيْنِ، وأعْطِ أُمَّهما الثُّمُنَ، وما بَقيَ فهو لك.)
الراوي : جابر بن عبدالله | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج سير أعلام النبلاء الصفحة أو الرقم: 1/319 | خلاصة حكم المحدث : [حسن]

  • الصيام
قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : كانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ في الجَاهِلِيَّةِ، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ صَامَهُ، وأَمَرَ بصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَومَ عَاشُورَاءَ، فمَن شَاءَ صَامَهُ، ومَن شَاءَ تَرَكَهُ. رواه البخاري.

  • الذبائح :
ما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لا فَرَعَ وَلا عَتِيرَةَ ".
والفرع هو أول ولدٍ للناقة كانوا يذبحونه لأصنامهم .
العتيرة هي ذبيحة كان يذبحها أهل الجاهلية في شهر رجب.
العقيقة كانت معروفةً في الجاهلية فأبقاها الإسلام وعمل بها ورغب الناس إليها بشروطها.
عن سلمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مع الغلام عقيقة ، فأهريقوا عنه دماً ، وأميطوا عنه الأذى " .رواه البخاري
(وكان أهلُ الجاهليةِ يجعلون قطنةً في دمِ العقيقةِ ويحيلونه على رأسِ الصَّبيِّ فأمر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أن يجعلَ مكان الدَّمِ خَلوقًا)
الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : الألباني | المصدر : إرواء الغليل
الصفحة أو الرقم: 4/389 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
فأمَرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَجعَلَ مَكانَ الدَّمِ خَلوقًا"، أي: أنْ يُوضَعَ عِطرًا طيِّبًا في القُطْنةِ بَدَلًا من الدَّمِ ثُمَّ يُطيَّبُ به المَولودُ، وهذا الأمْرُ جُزءٌ من أوامِرَ كَثيرةٍ شَرَعَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَحْوِ آثارِ الجاهِليَّةِ من نُفوسِ أصْحابِها وإحْلالِ الخَيرِ بَدَيلًا للشَّرِّ الذي كانوا عليه .
نذرَ رجلٌ على عَهدِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ أن ينحرَ إبلًا بِبُوانةَ فأتى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فقالَ إنِّي نذرتُ أن أنحرَ إبلًا ببُوانةَ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ "هل كانَ فيها وثَنٌ من أوثانِ الجاهليَّةِ يعبدُ" قالوا لا قالَ "هل كانَ فيها عيدٌ من أعيادِهم " قالوا لا قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ " أوفِ بنذرِكَ فإنَّهُ لا وفاءَ لنذرٍ في معصيةِ اللَّهِ ولا فيما لا يملِكُ ابنُ آدمَ ".
الراوي : ثابت بن الضحاك | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح أبي داود
الصفحة أو الرقم: 3313 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | انظر شرح الحديث رقم 29824
التخريج : أخرجه أبو داود (3313) واللفظ له، والطبراني (2/76) (1341)، والبيهقي (20634

خامسا :

يتبع بإذن الله
 
عودة
أعلى