طارق مصطفى حميدة
New member
داود وسليمان عليهما الصلاة والسلامعليهما السلام (2)
محاريب آل داود
طارق مصطفى حميدة
مركز نون للدراسات القرآنية
يلفت النظر في القرآن الكريم أن أول نبي وردت في قصته لفظة ( المحراب)، هو داود عليه السلام، في قوله تعالى: ﴿ وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب﴾[ سورة ص: 21]، ثم في قصة ابنه نبي الله سليمان عليه السلام، في قوله تعالى: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ﴾[ سورة سبأ: 13]، ولم ترد اللفظة قبل ذلك مع أي رسول، وإن وردت فيما بعد في سياق قصتي زكريا ومريم عليهما السلام.
والمثير للاهتمام، كون اللفظة تتضمن معنى مكان التعبد من جهة، وأنها مشتقة ـــــ في الوقت ذاته ــــ من ( الحرب)، سيما ومادة الحرب في القرآن الكريم لم تأت إلا بمعناها المعروف في مقابلة السلم.
ويستفاد من قوله تعالى ( تسوروا المحراب)، أن المحراب بناء مرتفع كالعلالي، يغلب أن لا يكون له درج موصل، ولكن يصعد إليه بسلم، ويعزز ذلك قول الشاعر:
رَبَّةُ مِحْرَابٍ إِذَا جِئْتُهَا ... لَمْ أَلْقَهَا أَوْ أَرْتَقِي سُلَّمَا
ولعل الأصل أن مثل هذه الأبنية تتخذ للحرب فيُتحصن بها ويُقاتل من خلالها، ويصعب وصول العدو إليها؛ لعلوها ولعدم وجود الأدراج الموصلة إلى ساكنيها غالباً، حيث يرتقي إليها أصحابها بسلالم خاصة ثم يرفعون تلك السلالم إليهم بعد الارتقاء، وسميت بها صدور المجالس ومأوى الأسد كما يقال: دخل فلان على الأسد في محرابه، ثم أُطلق المحراب على البناء يتّخذه أحد ليخلو فيه بتعبده وصلاته، فينعزل عن الناس ولا يسهل على أغلبهم الدخول عليه ولا تعطيله أو إشغاله عن العبادة، وهُوَ ــــــ كما ذكروا ــــــ مَأْخُوذٌ من المُحَارَبَةِ، لأنَّ المُصَلِّيَ يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ، ويُحَارِبُ نَفْسَهُ بِإحْضَارِ قَلْبِهِ. والمحراب على وزن مفعال وهو صيغة مبالغة واسم آلة، فكأنّهم جعلوا ذلك المكان آلة لحرَب الشيطان، وقد يطلق على الشخص شديد المحاربة.
وهذا التأويل من اللغويين والمفسرين، محاولة منهم للربط بين الأصل اللغوي للمحراب ووظيفة التعبد التي تتم فيه، لكن يبدو لي أن هناك ملحظاً آخر، وهو أن التعبد في مثل هذا المكان ـــــ بالنسبة لداود عليه السلام مثلاً ــــ ليس لغاية الانعزال عن الحياة والأحياء، ولا لغرض الرهبنة، ولكنه بغرض التزود والشحن للحرب مع الشر وأهله، ولأجل الاستعداد الروحي والمعنوي في تلك المعركة، بالذكر الذي تطمئن به القلوب، وتثبت به الأقدام، ولتحصيل السكينة التي تتطلبها المعركة، وتضرعاً إلى العلي الكبير أن ينصر عباده على القوم الكافرين، فتلك المعركة هي في سبيل الله وليست لأي غرض دنيوي من مال وجاه وعلو.
إن صلاة الليل ضرورية لحَمَلة الرسالات والمجاهدين، وقد أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم الليل إلا قليلا وترتيل القرآن، كيما يكون قادراً على تحمل القول الثقيل: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلمُزَّمِّلُ قُمِ ٱلَّيلَ إِلَّا قَلِيلا نِّصفَهُۥ أَوِ ٱنقُص مِنهُ قَلِيلًا أَو زِد عَلَيهِ وَرَتِّلِ ٱلقُرءَانَ تَرتِيلًا إِنَّا سَنُلقِي عَلَيكَ قَولا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيلِ هِيَ أَشَدُّ وَطٔا وَأَقوَمُ قِيلًا﴾ [ سورة المزمل: 1-6].
كما أمرت الملائكة مريم بمزيد من التعبد استعدادا للدور العظيم الذي سيناط بها، وقد كانت صاحبة محراب، وأورد أحمد في الزهد قول الخليفة الفاروق" لئن نمت النهار لأضيعن الرعية ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي فكيف بالنوم مع هذين؟" وكثيراً ما يوصف المجاهدون بأنهم رهبان في الليل فرسان في النهار، ويروى أن صلاح الدين كان يتفقد جنده ذات ليلة، فإذا جنود إحدى الخيام نيام خلافاً لبقية الجند الذين كانوا يقومون الليل، فقال:" من هنا تأتي الهزيمة".
وكذلك فقد سخر الله تعالى لسليمان عليه السلام من الجن من يعملون له المحاريب، ﴿ يَعمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَان كَٱلجَوَابِ وَقُدُور رَّاسِيَٰتٍ ٱعمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكرا وَقَلِيل مِّن عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ﴾[ سورة سبأ: 13]، ويظهر أن سليمان عليه السلام في حله وترحاله، في مغازيه وأسفاره وتنقله بين ممالك دولته، كلما دخل الليل جُهّز له المحراب وقام بين يدي ربه، والتعبير ( ما يشاء من محاريب) يشير إلى كثرتها وتكرر حاجة سليمان عليه السلام إليها، ثم سرعة إنجازها من أولئك الجن، وربما كانت كثرة المحاريب أيضاً لتعبد قادة جيش سليمان عليه السلام وأركان دولته وأعوانه وجنوده، وتقديم المحاريب في الآية الكريمة لأن الأولوية عند سليمان عليه السلام للشأن الديني التعبدي، أي للصلة بالله تعالى.
وختام الآية ﴿ ٱعمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكرا وَقَلِيل مِّن عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ﴾، يذكرنا بحديث عائشة رَضي اللَّه عنها ( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَان يقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تتَفطَرَ قَدمَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ، لِمْ تصنعُ هَذَا يَا رسولَ اللَّهِ، وقدْ غفَرَ اللَّه لَكَ مَا تقدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تأخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عبْداً شكُوراً؟) متفقٌ عَلَيهِ.
صلاة داود أحب الصلاة إلا الله
روى البخاري ومسلم عن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضى الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: ( أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ).
وقد أفاض الشراح فيما يستفاد من أحكام هذا الحديث الشريف، ولكن مما يلفت النظر هذا التقسيم لليل: ( ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)، هذا التنظيم الدقيق للوقت، والمداومة على هذه الحال، وذلك مظهر من مظاهر شخصية داود عليه السلام أنه يتميز يالتوسط والدقة والاعتدال والاتزان، والإمساك بزمام نفسه وحسن إدارتها وقيادتها، ومن ملك نفسه وأحسن قيادها، سهل عليه قيادة الآخرين، ومن يقسم بالعدل والقسط في شؤون نفسه، هو المؤهل لأن يكون الحاكم والقاضي الذي يقيم العدل ويقسم بالقسط بين الناس، ويؤتي كل ذي حق حقه.
مزامير آل داود
روى البخاري عن أبي هريرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( خُفِّفَ على داوُدَ عليه السَّلامُ القُرْآنُ، فَكانَ يَأْمُرُ بدَوابِّهِ فَتُسْرَجُ، فَيَقْرَأُ القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوابُّهُ، وَلا يَأْكُلُ إِلّا مِن عَمَلِ يَدِه)ِ.
وبعد أن عرفنا داود عليه السلام الصوام القوام، يأتي هذا الحديث الشريف ليكشف جانباً آخر من شخصيته بوصفه: ( الرجل القرأني)، حيث لا يكتفي بالتلاوة خلال قيام الليل، بل إنه ليتلو كل الكتاب المنزل عليه قبل أن تُسرج دوابُّه، وهذا سلوك شبه يومي كلما خرج داود عليه السلام إلى مقر الحكم، أو للغزو والجهاد، آو تفقد نواحي مملكته، وبغلب أن يكون ذلك ـــــــ في تقديري ــــــ أول النهار، مع الفجر، وهي السُّنة ذاتها التي أمر ربنا تعالى بها نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام بقرآن الفجر والتهجد بالليل: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾[ الإسراء: 78، 79]، وتلاوة القرآن وهو الذكر، تذكرٌ لأوامر الله تعالى ونواهيه، واطمئنانٌ بهذا الذكر، وتمتينٌ للصلة بالإله المعبود، ومظهرٌ لتعظيم العبد لربه وكلامه وتقديمه على كل كلام وكل أمر؛ بجعله أول ما يستفتح به نهاره، فضلاً عن أنه يقضي معه ليله.
وعلاقة داود عليه الصلاة والسلام بكتاب ربه ليست مجرد تأدية روتينية لتكليف مفروض، بل هي تلاوة المحب شديد الحب لربه وكلامه؛ فهو لا يكتفي بأن يلازم التلاوة بل إنه ليتلو حق التلاوة فيترنم بها ويتغنى، وذلك يتجلى في قَول رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مُوسَى الأشعري:( لوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارَاً مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ)، وهي حالة من التلذذ الذاتي، والشعور بحسن الكلام المتلو شكلاً ومضموناً، وبالتالي فإن صاحبه عاملٌ بما في كتاب ربه سعيدٌ بذلك، ثم هو حين يدعو غيره إلى دينه فيتلو كتاب ربه متغنياً به مستشعراً قيمته وعظمته وحسنه، وناقلاً تلكم المشاعر الصادقة، فإنه بلا شك سؤثر بهم أبلغ التأثير وأقواه وأفعله.
والتغني بالتلاوة، كان سلوك( آل داود)، أي لم يكن منحصراً بداود وحده، بل يشاركه فيه آله الذين يؤولون إليه بالتابعية من أهل بيته والمؤمنين معه، ومقتضى كونهم يتلون كتاب ربهم حق التلاوة، أنهم يقيمون الدين والخلافة في الأرض، ويجاهدون في الله حق الجهاد، ولا يكفي في هذا الأمر العظيم أن يقوم به شخص واحد، لا بالتلاوة على الوجه الأحسن، ولا ما ينبثق عنها من إقامة الخلافة والجهاد، ولذلك فقد استغربتُ من تبني بعض شراح الحديث القول بأن المقصود بآل داود هو داود وحده، لمجرد أنه لم يُنقل ذلك عن غير داود!! ولماذا العدول عن النص الصريح الظاهر، وقد ورد في القرآن التعبير ذاته مقصوداً به الجماعة وليس داود عليه السلام وحده؟ وذلك في قوله تعالى ﴿ اعملوا آل داود شكراً ﴾، حيث ورد هذا الكلام في سياق قصة سليمان عليه السلام.
ونخلص من هذه المقالة بما خلصنا إليه في مقالة سابقة، أن التعبد بالقيام والتلاوة، كما هو التعبد بالصيام، تزودٌ واستعانة على الجهاد وإقامة الدين، وليس انعزالاً عن الحياة والأحياء، بل إن شؤون الحياة يكافة جوانبها تتم على الوجه الأكمل ولا تتعطل منها أية ناحية القيام بهذه العبادات، فهو يصوم ويقوم ويتلو كتاب ربه، ولكنه مع كل ذلك لا يخلف الوعد، ولا يفر إذا لاقى، ولا يأكل إلا من عمل يده.