"يشربون من"و "يشربون ب" "1"

إنضم
17/03/2006
المشاركات
159
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
هذه لمسة أخرى من لمسات الإعجاز والبيان القرآني تكشف لنا عن روعة استعمال القرآن للفعل "شرب" في تعديه بـ "من"، ثم تعديه بـ "الباء" في السياق نفسه، وهو الذي حار فيه كثير من أهل البيان والتفسير، وهو قوله تعالى: ]إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً *‏ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً[ [الإنسان: 5-6].

فالفعل (يشرب) تعدَّى بـ (من) في قوله: (يشربون من كأس) ثم عدل السياق إلى (الباء) فقال: "عيناً يشرب بها" ولم يقل: "عيناً يشرب منها"، وقد ذهب بعض العلماء إلى القول بأن الباء بمعنى (من)([1]).

أي: عيناً يشرب منها، وأن ذلك من قبيل تناوب الحروف عند من قالوا به، وبعضهم ذهب إلى القول: بتضمين الفعل (يشرب) معنى الفعل (يروي).

يقول الزركشي([2]): "وأما الأفعال فأن تضمن فعلاً معنى فعل آخر، ويكون فيه معنى الفعلين جميعاً، وذلك بأن يكون الفعل يتعدَّى بحرف فيأتي متعدياً بحرف آخر ليس من عادته التعدي به، فيحتاج إما إلى تأويله أو تأويل الفعل ليصح تعديه به …، مثله قوله تعالى: ]عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ[ [الإنسان: 6]. فضمن (يشرب) معنى (يروي)؛ لأنه لا يتعدَّى بالباء فلذلك دخلت الباء، وإلا فيشرب يتعدَّى بنفسه، فأريد باللفظ الشرب والرَّيَّ معاً، فجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد".

وإلى هذا ذهب الفرَّاء فقال([3]): "وقوله عزوجل: (يشرب بها) و(يشربها) سواء في المعنى، وكأن يشرب بها: يروى بها".

ويرفض ابن القيم القول بتناوب الحروف ويستحسن القول بتضمين الفعل معنى فعل آخر، فيقول([4]) "وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنىً مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدي به معناه، هذه طريقة إمام الصناعة -سيبويه- رحمه الله تعالى، وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن، وهذا نحو قوله تعالى: "عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ" فإنهم يضمنون "يشرب" معنى "يروي" فيعدُّونه بالباء التي تطلبها، فيكون في ذلك دليل على الفعلين، أحدهما بالتصريح به، والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار، وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها، ومنه قوله في السحاب: "شربن بماء البحر حتى، روين ثم ترفعن وصعدن"([5])، وهذا أحسن من أن يقال: "يشرب منها" فإنه لا دلالة فيه على الرَّي، وأن يقال: "يروي بها"؛ لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم، فإذا قال: "يشرب بها" دل على الشرب بصريحه وعلى الرَّي، بخلاف الباء، فتأمله".

ولا يسلم لابن القيم قوله: "إن عبارة (يشرب منها) "لا دلالة فيها على الري، لأن المولى -عزوجل- قد وصف الأبرار بقوله: (إن الأبرار يشربون من كأس)"، فعدّى فعل (يشرب) بـ (من) وأيضاً أن الشرب في الجنان لا يكون بغرض الارتواء، فلا ظمأ فيها، فالمولى عزوجل يقرر ذلك بقوله: ]إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى[ [طه: 118-119]. وإنما الشرب فيها ضرب من النعيم المقيم.

والحقيقة أنه لا بد أن يكون لهذا العدول مغزىً يتناسب مع سياقه الوارد فيه، والسياق هو سياق نعيم، فلا بد أن ننعم الفكر في النعيم والمنعمين.

"يتبع"

ــــــــــــــــ
([1]) انظر: المغني، 142.
([2]) البرهان في علوم القرآن، 3/338.
([3]) معاني القرآن 3/215.
([4]) بدائع الفوائد 2/21.
([5]) هكذا في الأصل، ولعل هذا القول هو بيت محرَّف لأبي ذؤيب الهذلي وصوابه هكذا:


شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْر ثُمَّ ترفعت متى لُجَج خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيْجُ

(ديوان الهذليين: 1/51). وللبيت رواية أخرى: (شرح أشعار الهذليين، 1/129):


شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْر ثُمَّ تصعدت متى لُجَج سُودٍ لَهُنَّ نَئِيْجُ
__________________
 
قال أبو حيان في البحر المحيط (8/387) : " وفي { يشرب بها }: أي يمزج شرابهم بها أتى بالباء الدالة على الإلصاق، والمعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل، أو ضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء. وقيل: الباء زائدة والمعنى يشرب بها، وقال الهذلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ** متى لجج خضر لهن نئيج
قيل: أي شربن ماء البحر. " اهـ

قلتُ : والبيت مذكور في " لسان العرب " (مادة – مخر) بنفس اللفظ.
 
قال ابن قتيبة في " أدب الكاتب " ص 515 :
" والباء بمعنى " من " ، قال الشاعر :
شربن بماء البحر ثم ترفعت ** متى لجج خضر لهن نئيج
أي : شربن من ماء البحر ، ومثله قول عنترة :
شربت بماء الدُّحْرُضين فأصبحت ** زوراء تنفر عن حياض الديلم " اهـ

ونظرية تناوب حروف الجر تضعف وتجانب الصّواب في مواطن كثيرة!
ولعل مذهب تضمين الأفعال هو الأقوى والأدق... ولو اعتراه الضعف أحيانا.
 
لا تتعجل أخي عمار فالجواب ما سوف تراه في الحلقة الثانية فلا القول بالتناوب صوابا ،ولا القول بتضمين الفعل، وهنا ينبغي أن نحرر كثيرا من أقوال المتقدمين ولا يسلم بكل ما جاء فيها
 
لم نتعجل بارك الله فيكم ، وقد ذكرتُ ما ذكرتُ لأشدّ عضدك فيما قلتَ في بيتِ أبي ذؤيب...

ولم آتِ لأرجح أي القولين ( التناوب أو التضمين في الأفعال ) أصوب في تفسير الآية الكريمة بل جئتُ طالبا ما عندكم...منتظرا فيوض كرمكم.

وإن كان تعجّلا فلعله الشوق إلى اجتهادكم.

جزاكم الله خيرا.
 
عودة
أعلى