فلا علم بدون فهم ؛ لأن الاعتماد على الحفظ وحده دون فهم يصدق فيه ما يردده بعض الناس من قولهم بإزاء من يحفظ : زاد في البلد نسخة ، يعني كون البلد فيها نسخ كثيرة من هذا الكتاب ، وهذا يحفظ هذا الكتاب ولا يعاني فهمه ، هذا بمثابة زيادة نسخة ، وهذه العبارة ، وإن كان أصلها ومنشأها سببه التقليل من شأن الحفظ ، وقد راج قبل نصف قرن من الزمان الدعايات ضد الحفظ ، حتى قال قائلهم ممن يزعم أنه يعاني تربية الجيل : أن الحفظ يبلد الذهن ، الحفظ يبلد الذهن .
وأقول : لا علم إلا بحفظ ، وأنتم سمعتم ، ورأيتم من يعلم ، ومن يفتي مع ضعف في حافظته ، أو عدم عناية منه بالحفظ ، سمعتم ما لا يعجبكم ، بخلاف من حفظ العلوم ، وعلى رأسها النصوص ، قال الله ، وقال رسوله .
فالذي يفتي بالنصوص على نور من الله - جل وعلا - ، أما الذي ليس له نصيب من الحفظ ، مثل هذا يتخبط يمينا وشمالا ، وبالأساليب الإنشائية يمضي الوقت ، لكن هل يقنع السامع ، لا سيما إذا كان السامع طالب علم ؟ لا ، والساحة مملوءة من أمثال هؤلاء .
يعني فرق بين أن تسمع كلام عالم له عناية بالفقه ، بالعلم من أبوابه ، وله حفظ ، ورصيد من الحفظ من النصوص ، ومن أقول أهل العلم ، ولا سيما من أقوال سلف الأمة فيما يوضح به النصوص ، البون شاسع بين هذا وبين من لا يحفظ ، فلا بد من الحفظ ، ولا بد من الفهم ، لا يكفي الحفظ وحده ، ولا يكفي الفهم وحده ، ولو كان الفهم كافيا دون حفظ لرأينا من عوام المسلمين - ممن يعدون من أذكياء العالم- ، وهم في أسواقهم من الباعة ، رأيناهم علماء ، وهم يسمعون العلم ، يسمعون الخطب ، يسمعون الدروس في المساجد ، ومع ذلك لا يدركون شيئا من العلم ، وهم على جانب كبير من الفهم.
فعلى هذا المفاتيح الغريزية هي : الفهم والحفظ ، فإذ حفظ طالب العلم ما يريد حفظه من نصوص الكتاب والسنة ، ومن أقوال العلماء ، من المتون المعروفة عندهم في كافة العلوم ، حرص على فهم واحد ، وكل منهما يعين على صاحبه ، فالفهم يعين على الحفظ ، والحفظ يعين على الفهم .
العلم يحتاج إلى مدارسة وسهر وتعب
العلم يحتاج إلى مدارسة ، يحتاج إلى أن تسهر الليالي ، وعرف من كثير من المتقدمين تقسيم الليل إلى ثلاثة أجزاء : ثلث للنوم ، وثلث للمطالعة والكتابة ، وثلث للصلاة ، ولا بد من الاستعانة بالصبر والصلاة ؛ لأن بعض الطلاب تجده حريص على طلب العلم ، ومن درس إلى درس ، ومن حلقة إلى حلقة ، ومع ذلك يشق عليه أن يصوم يوم في سبيل الله ، أو يصلي ركعتين مثل هذا لا يعان على طلب العلم ، خير ما يعين على طلب العلم العمل بالعلم ، ولذا تجدون الجبال الكبار من أئمة الحفظ والفهم لو نظرت إلى مدة طلبهم للعلم بالنسبة لما عرف عنهم من عمل وجدت أن العمل أكثر ، يعني الإمام أحمد وهو يحفظ سبعمائة ألف حديث كيف تدرك سبعمائة ألف حديث ؟ يعني يحتاج إلى أن يحفظ كم في اليوم الواحد ؟ هل نقول : إن الإمام أحمد عطل الواجبات ترك النوافل والمندوبات ؟ أبدا ، الإمام أحمد يصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة ، ويقول القائل مما لا يحتمل عقله مثل هذا الكلام هذا غير معقول ، ثلاثمائة ركعة تحتاج إلى إيش ؟ تحتاج إلى دقيقة مثلا ، يعني ركعة أقل ما يجزئ تحتاج إلى دقيقة ، وثلاثمائة دقيقة يعني خمس ساعات ، متى يطلب العلم ؟ متى يتعلم ؟ متى يعلم ؟ متى ينام ؟ متى.. ؟ لكن لتعلم أن الإمام أحمد ما عنده استراحة ، نعم وليس عنده أناس يؤنسونه ، ويضيعون عليه الأوقات كما يفعله كثير من الناس اليوم ، وليس عنده على ما قال بعضهم : صالون في بيته يحتاج إلى ثلاث ساعات في اليوم ينظر في المرآة ، وهذه شعرة زائدة ، وهذه شعرة ناقصة ، الإمام أحمد ما عنده شيء من هذا ، فإذا صرف خمس ساعات في الصلاة وقل مثلها للعلم بقي عنده أربعة عشر ساعة ، والواحد منا إذا حضر درس أو ألقى درس يحتاج إلى راحة كأنه ألقى صخرة من فوق رأسه يحتاج بقية اليوم كله يرتاح وينفس عن نفسه ، فمثل هذا يحتاج الإنسان في مثل هذه الظروف إلى إعادة نظر.
العلم متين ويحتاج إلى حفر في القلوب
إذا عجزت عن الحفظ ، بعض الناس الحافظة عنده قريبة من الصفر ، وبعض الناس الحافظة عنده قريبة من المائة في المائة ، كما أن القريب من الصفر في الحافظة ، عنده فهم قريب من المائة بالمائة ، والثاني بالعكس ، وبين هذين ما يقرب من هذا وما يبعد من هذا.
نضرب مثال بالجلالين ــ صاحبي التفسيرــ ، جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي ، جلال الدين المحلي إمام من أئمة الشافعية ، ومع ذلك في الحافظة يقرب من الصفر ، وقال : إنه حاول أن يحفظ فصل من كتاب أخذ عليه وقت طويل جدا مدة أكثر من أسبوع ، وارتفعت حرارته ، وظهر في جسده بثور ، وفي النهاية عجز!!
والسيوطي يقول إنه يحفظ أكثر من مئتي ألف حديث ، كيف صار المحلي إمام من أئمة الشافعية ؟ كيف صار ؟ هناك طريقة لمن هذه صفته ، إذا عجزت استعمل القلم ، اكتب ما تريد حفظه، راجع عليه الشروح وعلق عليه ، ومن كثرة المداولة يثبت في ذهنك ، مقومات التحصيل الحفظ والفهم ، قد يجتمعان في شخص ، وقد يفقدان من شخص الكلية فيصير فدما ، ما يفهم ولا يحفظ ، هذا يسلك العلم يثبت له أجر السلوك والطريق ، ويقرأ نظر ويردد القرآن ويذكر الله -جل وعلا- ولا يحرم من الأجر.
فبعض الناس عنده حافظة قوية ، وبعضهم ضعيفة ؛ لكن الفهم عنده قوي ، نقول لمثل هذا : أمسك القلم ، وكثر الأوراق اقرأ الفاتحة واكتب الفاتحة ، وراجع عليها التفاسير ، وانتق من تفسير ابن كثير على الفاتحة ، ومن تفسير الشيخ ابن سعدي ، ومن فلان ومن فلان تجتمع عندك تصور للتفسير إجمالي ، ولو لم يكن من كثرة هذه المعاناة إلا ما رسخ في ذهنك مما كتبت ومما قرأت فيكفي ؛ لأن العلم متين يحتاج إلى معاناة ، يحتاج إلى حفر في القلوب .
أقول ؛ مثل هذا الذي لا يستطيع أن يحفظ يعمد إلى كتاب صعب ، لا يذهب إلى منار السبيل أو منهج السالكين ، - لا – نقول : اذهب إلى أصعب الكتب من المتون الفقهية ، خذ زاد المستقنع –مثلا - أو مختصر خليل - إن كنت مالكي - ، الذي كلامه أشبه ما يكون بالألغاز ، وانظر ما قال الشراح حول هذا الكلام ، وتصور الكلام واكتب ما تصورت ، واكتب ما راجعت ، وراجع عليه كتب اللغة إن عجزت عن معنى كلمة ، راجع عليه كتب لغة الفقهاء ؛ لأن الفقهاء لهم لغة صنفت فيها الكتب ، راجع عليه الكتب التي هي أسهل منه ، بحيث إذا فهمت هذا الكلام الصعب انتقش في قلبك ، والذي لا يثبت في القلب إلا بصعوبة فإنه حينئذ لا يخرج منه إلا بصعوبة .
فأنت إذا عانيت هذا الكتاب الصعب ، وأتقنته وفهمته من خلال مراجعاتك عليه الكثيرة الشديدة ، وحاولت جاهدا أن تفهم هذا الكتاب ، أنت في النهاية استقر في ذهنك شيء قدر كبير من هذا الكتاب ، فالذي حافظته ضعيفة لا يذهب إلى الكتب السهلة ، التي تعينه على الغفلة ، لا ، يذهب إلى الكتب الصعبة ، التي لا تعينه على الغفلة ، كل كلمة تحتاج إلى نظرات ليس بنظر الواحد .
فأقول يذهب إلى أصعب الكتب ، ويراجع عليها الشروح ، ويسأل الشيوخ المختصين فيما يعجز عنه إذا انتهى يكون فهم ولا ما فهم ؟ فهم ، يكون قد ثبت في ذهنه شيء أو ما ثبت ؟ يكون ثبت في ذهنه ؛ لأن هذه المعاناة بهذه الطريقة لا بد أن يثبت الشيء في الذهن .
العلم لا يعدله شيء
يقول: أنا إنسان بدأت بطلب العلم ؛ ولكن أحس كثيرا أني لم أستفد من هذا العلم ؛ لأني أريد شيئا يوفر لي المأكل والمشرب ، وهذا العلم لم يوفر لي هذا الشيء ؛ رغم أني أعلم فضيلة العلم ؛ ولكني أفكر دائما كيف أوفر للأهل الأكل والشرب ، فهذا الشيء يتردد في نفسي دائما ، فأتثبت في طلب العلم... وضح لنا حلا في هذه المشكلة ؟!
لا شك أن الظروف التي نعيشها فيها شيء من الصعوبة ، يعني الذي يكفي الناس في الزمن السابق ، قد لا يكفي في هذا الزمان عشرة أضعافه ! واحد من الأساتذة الوافدين ، أستاذ في فنه أستاذ في الحديث ، استغنت عنه الجهة التي يعمل فيها ، فقال لي : مثل هذا الكلام ، أريد عمل فيه دخل لي ولأولادي ، العمل استغنى عني ، قلت : ما تقتدي بالأئمة الإمام أحمد ويحيى بن معين وعلي بن المديني ؟! هؤلاء حياتهم كلها للعلم ، وما نسوا نصيبهم من الدنيا الشيء اليسير ، قال: بس الإمام أحمد ويحيى بن معين ما عندهم فواتير تلفون ! ولا فواتير كهرباء ، ولا سيارات ، ولا أولاد يدرسون بالأجرة ، ما عندهم مثلنا ، صحيح الظروف التي نعيشها فيها شيء من الصعوبة ؛ لكن العلم لا يعدله شيء ! وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بأن طالب العلم يأخذ من الزكاة لشراء الكتب وما يعينه على التحصيل ، وعلى كل حال إذا أمكن الجمع بين العلم ومصدر يغنيه عن تكفف الناس فهذا هو الأكمل والأفضل ، إذا لم يتمكن فالعلم لا يعدله شيء ، فلا يترك العلم من أجل الدنيا ، ومع ذلك لا ينس نصيبه من الدنيا ؛ فعليه أن يسدد ويقارب ، لا يمنع طالب علم أن يشتغل في مكتبة ، في مطبعة ، في أي عمل يناسب عمل علمي بأجرة ، نصف الوقت ، والنصف الثاني يتفرغ فيه للطلب .
{وهذا كتاب أنزلناه مبارك} بركة القرآن لا تنتهي ، فهو مبارك من كل وجه ، وعلى أي حال ، فمجرد قراءته متعبد بها ، التي لا تكلف شيئا ، وبكل حرف عشر حسنات ، إذا قرئ القرآن يحصل للقارئ على كل حرف في مقابل كل حرف عشر حسنات ، هذا أقل تقدير ، والله يضاعف لمن يشاء ، فأقل ما يحصل للقارئ في الختمة الواحدة قراءة القرآن مرة واحدة على أكثر من ثلاثة ملايين حسنة ، هذا إذا قلنا أن المراد بالحرف حرف المبنى ، و إلا فالخلاف موجود : هل المراد بالحرف حرف المعنى أو المبنى ؟ لكن المرجح أنه حرف المبنى .
وهذه من بركاته ، من بركاته أنه شفاء لأمراض القلوب ، ولأمراض الأبدان ، فمن قرئت عليه الفاتحة برئ من اللدغة كأنما نشط من عقال ، كأنه ما أصيب ؛ فالبركة فيه من كل وجه ، من تدبره ورتله ، وقرأه على الوجه المأمور به ، هداه الله ، من يريد ويروم الهدى فإنه هنا في قراءة القرآن على الوجه المأمور به ، من يريد زيادة الإيمان والطمأنينة وانشراح الصدر فعليه بقراءة القرآن ، من يريد النور التام في الدنيا والآخرة فعليه أن يتمسك بالقرآن .
وفي كل يوم يطلع على سر من أسرار القرآن التي يثبت الله بها عباده الذين آمنوا ، لكن لو قرأنا القرآن على الوجه المأمور به عرفنا هذا ، {بل أكثرهم لا يعلمون} مع الأسف أن أكثر المسلمين ، وهم يقرؤون القرآن لا يعلمون وجوه هذا التثبيت ، لا يعلمه إلا من عاناه ممن قرأه على وجهه المأمور به ، {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} [(102) سورة النحل] هدى لا شك أن فيه الهداية ؛ لأنه هو الصراط المستقيم ، كما جاء في تفسير السلف أنه القرآن هو الذي يهديهم وهو الذي يدلهم ، {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [(9) سورة الإسراء] فالقرآن هدى ، في مطلع سورة البقرة {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [(2) سورة البقرة] هدى فالقرآن هدى.
ثبت في النصوص عن أهل العلم من الصحابة ومن دونهم أنهم يسهرون ، لكن على أي شئ ؟ على الخير ، فمنهم من يقسم الليل إلى أجزاء ينام ثلثه ، ثم يتعلم ويطلب العلم ويقرأ ويبحث ثلثه ، ثم يصلي ثلثه ، يصلي ثلث الليل ، بهذه الطريقة لا شك أن الإنسان يصل إلى مراده ، نعم هذه صعبة على النفوس لكنها بالجهاد تسهل ، بالمجاهدة تذل ، ثم بعد ذلك تكون سجية للإنسان ، وتكون أيضا لذة ومتعة ، فالسلف منهم من قال : "كابدنا قيام الليل عشرين سنة، ثم تلذذنا به عشرين سنة" ؛ فالمسألة لا بد من المرور بمرحلة المجاهدة ، طلب العلم شاق يحتاج إلى مجاهدة في أول الأمر ، ثم يكون لذة ، يتلذذ به طالب العلم.
والمعلم في أول الأمر يجاهد ، كثير من مشايخ وقضاة وطلاب العلم ودعاة في بعض المناطق تسأل هل في هذا البلد دروس؟ يقول لك: ما فيه دروس ، تسأل القاضي ، لماذا؟ يقول : والله جلسنا ، جلسنا في رجب مثلا ، جلس عندنا عشرة طلاب ، ثم جاء رمضان انقطع الدرس ثم استأنفاه بعد العيد ما حضر إلا خمسة ، ثم جاء الحج وانقطع الدرس بعد الحج حضر اثنين ، من يجلس للاثنين ؟ قلت : يا أخي تجلس لواحد ، أنت إذا أردت أن يقرأ عليك الكتاب وجئت بشخص يقرأ عليك الكتاب لا تدفع له أجرة ؟ قال : أدفع له أجرة ، قلت : إذن جرب أنت أثبت واصبر، وتجاوز هذه المرحلة ، مرحلة امتحان ، كل الناس مروا بهذا ، أنا أعرف شخص يحضر دروسه في الفجر - فضلا عن المغرب - ما يقرب من ألف ، الآن دروس المغرب جموع غفيرة ، أنا أدركته قبل ثلاثين سنة ، ما عنده إلا طالب واحد ، ثم صبر إلى أن أقبل الناس عليه ، فلا بد من تجاوز هذه المرحلة ، مرحلة الامتحان ، ثم بعد ذلك تتلذذ ، والله المستعان .
فطالب العلم عليه أن يجتاز هذه المرحلة ، والمعلم عليه أن يجتاز هذه المرحلة ، والعابد الذي يريد العبادة النوافل شاقة على النفس ، وبعض الناس يفتح له أبواب ويغلق عليه أبواب ، عنده استعداد يجلس خمس ساعات يقرأ القرآن ، لكن تشق عليه سجدة التلاوة ، فضلا عن صلاة ركعتين ، نقول : عليك أن تجاهد نفسك لترويضها من أجل الصلاة ؛ لأن الصلاة من أفضل الأعمال ، بعض الناس عنده استعداد يبذل الألوف المؤلفة ولا يصوم يوم ، يقال : عليك أن تجاهد نفسك في الصيام ، في هذا الباب ، ليفتح لك ، فإذا جاهدت نفسك وتجاوزت هذه المرحلة أبشر تجد من اللذة والمتعة والأنس ما يجعلك تتمنى أن لو كان اليوم أطول ، وأحيانا منهم من يتمنى وقرأنا في سير بعض العباد ، أنهم يتمنون أن الحر أشد ، والوقت أطول ، لأنهم لا يحسون بتعب ما دام القلب مرتاح فالبقية كلها مرتاحة ، والذي يتعامل مع الله - جل وعلا – القلب ، البدن شبه المعدوم في هذا الباب ، كيف ذلك ؟ شخص جاوز المائة ويصلي خلف شخص في صلاة التهجد ويقرأ في التسليمة جزء كامل من القرآن ، ففي صلاة التهجد يقرأ خمسة أجزاء في التسليمة الأخيرة في يوم من الأيام، وهذا الشخص جاوز المائة ويصلي قائم واقف خلف هذا الإمام ، في التسليمة الأخيرة الخامسة خفف الإمام ؛ لأنه سمع مؤذن يؤذن الأذان الأول والعادة جرت أنه إذا أذن الأذان الأول معناه أن المسجد هؤلاء انتهوا من الصلاة ، فظن أنه تأخر على المصلين فخفف فلما سلم اتجه إليه هذا الشيخ الكبير الذي جاوز المائة ، وأخذ يوبخه ويقرره ويقول : ليال قليلة وجاء وقت اللزوم يعني آخر الوقت كيف تخفف؟. وشباب يتذمرون نجد مسجد يصلي صلاة العشاء مع التراويح بأقل من نصف ساعة ؟ وهذا يمتلأ من الشباب لماذا ؟ لأنه يخفف ، لكن الذي يطول عليهم لو يزيد خمس دقائق تذمروا وضاقوا ذرعا بهذا التطويل ، وبعضهم عنده استعداد يخرج من المسجد ، والتسليمة في أقل من خمس دقائق ويخرج من هذا المسجد ساعة يتحدث من أحد ، وبلغنا عن شخص كبير في السن من عشر سنوات أو أكثر يصلي جالس ، في يوم العيد صارت عارضة ، تعرفون العارضة ؟ نعم ، فأخذ يعرض مع الناس قائم بيده السيف وقتا طويلا ، فلما نوقش يا ابن الحلال تصلي جالس من سنين والآن... قال : والله لو كنتم تعلمون ما الذي حملني على رجلي فأنا أعلم ، ما أدري ما الذي شالني ؟ فالتعامل في مثل هذه المواقف القلب الذي يتعامل تجد شخص تقول: كيف هذا يستطيع أن يعيش ؟ وبعد ذلك إذا وقف في الصلاة كأنه سارية ، لا يتحرك ، وبعض الناس يراوح بين رجليه قبل أن تتم الفاتحة ، ملل وقلق ، وسببه عدم ترويض النفس على العبادة .
النبي - عليه الصلاة والسلام - غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومع ذلك قام حتى تفطرت قدماه ، هذا شكر النعمة ، ولهذا لما قيل له قال : ((أفلا أكون عبدا شكورا؟!)) فعلى الإنسان أن يشكر الله - جل وعلا - على ما أعطاه وأولاه من نعم ، وأسدى إليه من دفع للنقم.
حياة العلم مذاكرته، فكيف تكون مدارسته؟!
يقول : حياة العلم مذاكرته ، فكيف تكون مدارسة العلم ومذاكرته ، وكيف يراجع طالب العلم جميع العلوم ؟ فالعلم مع الأيام ينسى والأشغال تكثر فكيف نراجع ؟ تعبنا نراجع وننسى!
مذاكرة العلم مع الأقران قبل وبعد ؛ قبل الدرس وبعده ، ينتقي طالب العلم خمسة من أقرانه يقاربونه في الفهم وفي الحفظ ويتعاون معهم على هذا الأمر ، وهذا لا شك أنه من أعظم أنواع التعاون على البر والتقوى ، فهؤلاء الخمسة أو الستة أو العشرة مثلا ؛ يجتمعون قبل الدرس ثم يقرؤون القدر المقرر شرحه في الدرس ، ثم يقرؤون القدر المقرر شرحه في الدرس ، ويحفظونه كل واحد يراجع على الثاني ، ثم بعد ذلك ينصرف كل واحد في زاوية ومعه ورقة وقلم ويعلق على هذا الكلام ؛ يشرح هذا الكلام من تلقاء نفسه ، يشرح هذا الكلام من تلقاء نفسه ، ثم بعد ذلك يقرؤون كل واحد يصحح للثاني ، إذا انتهوا من هذا قرؤوا الشرح على هذا الكلام من قبل أهل العلم ، نفترض أنه مقطع خمسة أسطر من زاد المستقنع ؛ يحفظونه إذا كان الشيخ يطالب بالحفظ وكل واحد يضع عليه شرح أو حاشية حسب استطاعته ؛ حسب فهمه وتصوره لهذه المسألة ، ثم بعد ذلك يصحح كل واحد للثاني ويراجعون الشرح الروض المربع أو الممتع أو غيرهما من الشروح يراجعونها ؛ يصححون الأخطاء التي وقعوا فيها ، ثم يراجعون إذا كان هناك حواشي ، وبعد ذلك يذهبون إلى الدرس ، الآن عندهم تصور شبه كامل عن الدرس ، يسمعون ما يزيده الشيخ على ما تداولوه بينهم ، يسمعون ما يزيده الشيخ على ما تداولوه بينهم ، ثم إذا رجعوا تناقشوا ؛ كل واحد يسأل الثاني عن ما حصل في
الدرس وقبل الدرس ، بعد هذا لا يحتاجون إلى مراجعة ، أبدا لا يحتاجون إلى مراجعة ، وهذه طريقة شرحها الشيخ عبد القادر بن بدران الدومي في كتاب له من أمتع الكتب اسمه: المدخل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل.
كتاب عظيم لا تنقضي عجائبه
ابن القيم يقول : " أهل القرآن هم العالمون به ، العاملون بما فيه وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب - ، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم " هذا الموضوع يحتاج إلى بسط ، يحتاج إلى وقفة طويلة ، ويحتاج إلى مزيد من العناية ؛ لأنه يلاحظ على كثير من طلاب العلم هجر القرآن ، هجر القرآن ، كثير من الإخوان نعم ، قد تجده حافظ حرص في أول عمره على حفظ القرآن ثم ضمن الحفظ وترك القرآن يكفي هذا ؟ لا يكفي ، وتجد بعض الإخوان -مع الأسف الشديد - عوام المسلمين أفضل منه بالنسبة لكتاب الله ، بعض الناس لا يفتح المصحف إلا إذا قدر أنه حضر قبل الإقامة بدقائق بدل ما يضيع الوقت يقرأ القرآن ، وبعض الناس من رمضان إلى رمضان ؛ لكن الإنسان إذا التزم وردا معينا لا يفرط فيه سفرا ولا حضرا ، وقد عرفنا من الناس وهو مسافر في طريقه من بلد إلى بلد إذا جاء وقت الورد على جنب ، يقرأ حزبه إذا انتهى واصل سفره ، الدنيا ملحوق عليها يا أخي ، ما هناك أمر يفوت ، المسألة أنفاس معدودة تتوقف مثلما انتهت ، وخير ما تصرف فيه الأعمار كتاب الله - جل وعلا - .
هو الكتاب الذي من قام يقرأه ... كأنما خاطب الرحمن بالكلم
كتاب عظيم لا تنقضي عجائبه ، فيه حلول لجميع المشاكل ، فيه عصمة من الفتن ، والناس أحوج ما يكونون في هذه الظروف إلى الرجوع إلى كتاب الله - جل وعلا - .
على كل حال بعض الناس يشق عليه جدا أن يرتل وتعود الهذ هذا يهذ ما في بأس ؛ لكن على ألا يهمل التدبر ، لا أقول : مع الهذ لأن هذا ما يصل إليه إلا بعد مراحل ؛ لأنا عرفنا أناس يقرؤون القرآن في يوم ويبكون من قراءته ، هؤلاء تجاوزوا مراحل ، هذا الشخص اللي في البداية ويقول : الترتيل صعب عليه..؛ لأن بعض الناس إذا عرف النتيجة والمحصلة التي قرأها في هذا اليوم خمسة أجزاء ، ستة ، عشرة ، نشط ؛ لكن إذا رتل وتدبر في النهاية جزء هذا يكسل ، نقول: هذا لا بأس هذ ، وحصل أجر الحروف ، واجعل لك ختمة تدبر، ولو كانت في السنة مرة ، اقرأ في هذا اليوم ورقة واحدة بالتدبر ، وامش على طريقك .
الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - ترجم لشخص يقرأ القرآن في ثلاث ، ديدنه عمره كله ، وله ختمة تدبر أمضى فيها عشرين سنة ، وبقي عليه أقل من جزء من القرآن ، توفي ولما يكملها ، فلا هذا ولا ذاك ، يعني المسألة تحصيل الحروف والنشاط لقراءة القرآن يحصل بالهذ بلا شك ، لاسيما من تعود عليه ، والتدبر يجعل له وقت ولو يقرأ في كل يوم ورقة واحدة بالترتيل والتدبر والتفكر والاستنباط ، ويتفهم كلام الله ، ويراجع على هذه الورقة ما يعينه على فهم كتاب الله - جل وعلا - ، نعم في حديث : ((لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)) حمله أهل العلم على من كان ديدنه ذلك ، وأما من استغل الأوقات الفاضلة ، والأماكن الفاضلة في أوقات المضاعفات مثل هذا لا يتناوله مثل هذا الحديث ، على أن الناس يتفاوتون في هذا ، يعني إذا وجه هذا الكلام لعموم المسلمين نعم لعموم المسلمين لا يفقهون إذا قرؤوا ، لكن شخص متفرغ لقراءة القرآن ، يقول : أنا عندي استعداد أجلس بعد صلاة الصبح وأقرأ خمسة أجزاء ، وأجلس بعد صلاة الظهر واقرأ خمسة ، وأجلس بعد صلاة العصر وأقرأ خمسة نعم من غير مشقة بحيث يختم في يومين ، نقول : لا يا أخي أنت خالفت الحديث لا تقرأ الظهر ، اترك القراءة على شان تختم في ثلاثة أيام ، هذا حل ؟ هل هذا مراد النبي - عليه الصلاة والسلام - من هذا الحديث ؟ نعم ، نعم يحل المسألة لو قيل له : اقرأ القرآن ، اقرأ بدل خمسة بعد صلاة الصبح ثلاثة ، بس على الوجه المأمور به ، بعد صلاة الظهر بدل خمسة اقرأ ثلاثة ، أما أن يقال له : اترك القراءة في وقت من هذه الأوقات لتقرأ القرآن في ثلاث ما هو بهذا المراد قطعا ، نعم .
أما الذي يستطيع أن يقرأ القرآن على الوجه المأمور به ويكون ديدنه ، قراءة ترتيل وتدبر ولو قلت قراءته هذا أفضل ، هذا أفضل واختيار أكثر أهل العلم ؛ لكن بعض الناس ما يستطيع يقرأ بالترتيل ، الذي تعود على الهذ ما يستطيع يقرأ بالترتيل ، لا بأس يقرؤه في شهر ، ما المانع ؟ يقرأ على الوجه المأمور به كل يوم جزء أنفع له بكثير ، أنفع لقلبه ؛ لأن هذه الطريقة هي المحصلة للإيمان واليقين كما قال شيخ الإسلام ، وهذا هو الذي أنزل القرآن من أجل هذا ؛ لكن من فضل الله - جل وعلا - أنه رتب الأجر على مجرد النطق بالحروف ، إذا فاته طريقة أدرك طرائق - إن شاء الله تعالى - ، وهو على خير على كل حال.
هجر القرآن سواء هجر التلاوة أو هجر التعلم أو هجر العمل هذا كله لا يجوز {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} [(30) سورة الفرقان] فالهجر أصناف ، وأقل ما يكون بالنسبة للقرآن تلاوته ، ومع ذلك تلاوته على الوجه المأمور به ، فإذا كان أهلا ليستنبط منه الأحكام ليعمل بها وإلا قرأ في الكتب التي تعينه على هذا الأمر ، فيقرأ حزبه اليومي ، يخصص له من القرآن جزء يقرأه سواء كان جزء اصطلاحي عشر ورقات أو أقل أو أكثر المقصود أنه لا يخل بشيء من القرآن يقرأه يوميا ، وإن شغل عنه قضاه من الغد أو بالليل ، وإن كان يقرأ بالليل وشغل عنه يقرأ بالنهار ، المقصود أنه لا يترك يوما يمر بدون أن ينظر في كلام ربه - جل وعلا - ، أما كونه يأثم أو لا يأثم ؟ لا يأثم ، لكنه مع ذلك هذا حرمان شديد حتى يدخل في مسمى الهجر ، ومعلوم أن كثير من طلاب العلم يحصل لهم شيء من هذا ، ولو حفظ القرآن ، بعض الناس يحفظ القرآن يحرص على حفظ القرآن ثم بعد ذلك يتركه ، ما يقرأ إلا في مناسبات إذا تقدم إلى الصلاة أو جاء رمضان أو ما أشبه ذلك ، فلا بد أن تفرض للقرآن من وقتك ما يكفي لقراءة الحزب اليومي ، والمجرب عند كثير من طلاب العلم أن قراءة القرآن في سبع لا تشق على الناس ، لا تشق لا سيما على طالب العلم ، إذا جلس من صلاة الصبح إلى أن تنتشر الشمس قرأ حزبه اليومي الذي هو سبع القرآن ، وامتثل قول النبي - عليه الصلاة والسلام - لعبد الله بن عمرو : ((اقرأ القرآن في سبع، ولا تزد)) .
جاء في أول الحديث: " كان تنورنا وتنور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدا سنتين ، أو سنة وبعض السنة ، وما أخذت (ق) والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأها كل جمعة إذا خطب الناس " ؛ لأن في سؤال من الأسئلة يقول : هل تجوز الخطبة بـ(قاف) فقط ؟ يصعد المنبر ويقرأ سورة (ق) وينزل ؟ نقول : هذه ليست خطبة ؛ لأنها إنما أخذت (ق) والقرآن المجيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس ، يعني ضمن الخطبة تصير ، تكون في ضمن الخطبة ، ولا تكون هي الخطبة .
النبي - عليه الصلاة والسلام - يكثر من قراءة هذه السورة إذا خطب الناس في الجمعة ، وذلكم لما اشتملت عليه ، لما اشتملت عليه هذه السورة من المعاني العظيمة ، فيها أمور لو تأملها المسلم لأفاد منها ؛ ولذا جاء في أخرها {فذكر} كيف ؟ {بالقرآن من يخاف وعيد} [(45) سورة ق] {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} [(45) سورة ق] فالتذكير ينبغي أن يكون بالقرآن ، وكفى بالقرآن واعظا ، ومع الأسف تجد أن بعض الناس إذا كان هناك درس أو محاضرة يعتنون بالدرس والمحاضرة ويجلبون عليه بكل ما أتوا من استنفار ، ثم إذا جاءت الصلاة لم يحضر لها قلب ، لا من الطالب ولا من غيره ؛ لأن العناية والهمة منصبة إلى هذا الدرس ، لا يا أخي نقول : ينبغي أن يعنى بالفريضة قبل كل شيء التي هي الصلاة وتؤدى على الوجه المشروع ، وتطال فيها القراءة طول نسبي ، لا سيما إذا كثر الناس بصوت جميل يؤثر في الناس ، وهذا هو التذكير بالقرآن ، بعض الناس يتضايق من الإمام إذا أطال في الصلاة وهو ينتظر درس ، لا يا أخي هذه أهم من الدرس .
فهذه السورة لا شك أن فيها موضوعات تهم المسلم ، ولو تدبرها طالب العلم لخرج منها بالمعاني العظيمة ، واستعراض هذه السورة وما فيها من معاني يحتاج إلى دروس لا يكفيها درس أو درسين ، وكلكم يحفظ هذه السورة - ولله الحمد - ، وهي من أعظم سور القرآن ، فعلى الخطباء أن يعنوا بها ، وأن يكثروا من قراءتها على الناس بطريقة أو على الوجه المأمور به من الترتيل ، وإدخالها إلى القلوب بتحسين الصوت والتغني بها ؛ لأن القرآن يزين بالقرآن ((زينوا القرآن بأصواتكم)) ((وليس منا من لم يتغن بالقرآن)) والتأثير أولا وأخرا للقرآن المؤدى بالصوت الجميل ، وليس التأثير للصوت أبدا ، بدليل أن هذا الصوت لو قرأ به شيء غير القرآن ما أثر هذا التأثير ، لكن التأثير للقرآن المؤدى بهذا الصوت ، ولا شك أن السامع يتأثر بالقرآن لاسيما إذا أدي على ما أمر به من ترتيل وتدبر وتخشع واستحضار قلب ، والله المستعان.