بشير عبدالعال
Member
قوله تعالى في سورة النحل :{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)}
قبل أن أعرضَ كلامَ أهلِ السنة من المُفسرين ,لنقف مع الآيات وقفةَ مُتدبر مُنصف ......
أولا : قبل هذه الآية يقولُ تعالى :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} فدل على أن السياقَ كله مرتبطٌ بالقرآن العظيم .
ثانيا : بعد هاتين الآيتين يقول تعالى :{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} فالحديثُ عن القرآنِ لا مَحالة ...
ثالثا : قوله تعالى :{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} لا يمكن حملُها أبدا على غير الآية الشرعية بدليل السباق والسياق واللحاق في الآيات .. وبدليل قوله تعالى :{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } فالإنزال واضح في هذه الدلالة ... وبدليل :{ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ } فهل الافتراء يُطلق على تبديل الآية الحسية يا عُقلاء المسلمين ..!! وقوله :{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } فهذا إنزال واضح .
رابعا : في سورة البقرة :{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } وفي النحل :{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } فالآيتان دلالتهما واضحة في كون الناسخ والمنسوخ آية شرعية أولاً ..
وفي ختام الآيات يقول تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)}
أليس هذا الختام أوضحَ دلالة على المعنى المُراد .
وإلينا جميعا ما تتابعت عليه تفاسير أهل العلم :
قال ابن عطية رحمه الله في محرره :
وقوله { وإذا بدلنا آية مكان آية } كان كفار مكة إذا نسخ الله لفظ آية بلفظ أخرى ومعناها وإن بقي لفظها ، لأن هذا كله يقع عليه التبديل ، يقولون : لو كان هذا من عند الله لم يتبدل ، وإنما هو من افتراء محمد ، فهو يرجع من خطأ يبدلونه إلى صواب يراه بعد ، فأخبر الله عز وجل أنه أعلم بما يصلح للعباد برهة من الدهر ، ثم ما يصلح لهم بعد ذلك ، وأنهم لا يعلمون هذا.
قال القرطبي رحمه الله :
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) قِيلَ: الْمَعْنَى بَدَّلْنَا شَرِيعَةً مُتَقَدِّمَةً بِشَرِيعَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. مُجَاهِدٌ: أَيْ رَفَعْنَا آيَةً وَجَعَلْنَا مَوْضِعَهَا غَيْرَهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَسَخْنَا آيَةً بِآيَةٍ أَشَدَّ مِنْهَا عَلَيْهِمْ. وَالنَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ رَفْعُ الشَّيْءِ مع وضع غير مَكَانَهُ. وقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) يَعْنِي جِبْرِيلَ، نَزَلَ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ.
قال ابن كثير رحمه الله :
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ضَعْفِ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ وَقِلَّةِ ثَبَاتِهِمْ وَإِيقَانِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ وَقَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا تَغْيِيرَ الْأَحْكَامِ نَاسِخِهَا بِمَنْسُوخِهَا قَالُوا لِلرَّسُولِ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} أَيْ: كَذَّابٌ وَإِنَّمَا هُوَ الرَّبُّ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} أَيْ: رَفَعْنَاهَا وَأَثْبَتْنَا غَيْرَهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [الْبَقَرَةِ:106] .
فَقَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: {قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} أَيْ: جِبْرِيلُ، {مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أَيْ: بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} فَيُصَدِّقُوا بِمَا أَنْزَلَ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَتُخْبِتُ لَهُ قُلُوبُهُمْ، {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} أَيْ: وَجَعَلَهُ هَادِيًا [مُهْدِيًا] وَبِشَارَةٍ للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله.
قال في فتح القدير :
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ هَذَا شُرُوعٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِي حِكَايَةٍ شِبْهُ كُفْرِيَّةٍ وَدَفْعِهَا، وَمَعْنَى التَّبْدِيلِ: رَفْعُ الشَّيْءِ مَعَ وَضْعِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ، وَتَبْدِيلُ الْآيَةِ رَفْعُهَا بِأُخْرَى غَيْرِهَا، وَهُوَ نَسْخُهَا بِآيَةٍ سِوَاهَا.
قال في التحرير والتنوير :
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِيهَا شِدَّةٌ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أَلْيَنُ مِنْهَا يَقُولُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ، الْيَوْمَ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ وَغَدًا يَنْهَى عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ» اه.
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي حَاصِلِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. فَالْمُرَادُ مِنَ التَّبْدِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَدَّلْنا مُطْلَقُ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَامَاتِ، أَوِ التَّغَايُرُ فِي الْمَعَانِي وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَقَامَاتِ مَعَ وُضُوحِ الْجَمْعِ بَين محاملها.
وَذُكِرَتْ عِلَّةٌ مِنْ عِلَلِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، أَيْ تَبْدِيلُ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ، بِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَثْبِيتًا لِلَّذِينِ آمَنُوا إِذْ يَفْهَمُونَ مَحْمَلَ كل آيَة ويهدون بِذَلِكَ وَتَكُونُ آيَاتُ الْبُشْرَى بِشَارَةً لَهُمْ وَآيَاتُ الْإِنْذَارِ مَحْمُولَةً عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ.
فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [سُورَة النَّحْل: 101] ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى بِالْحَقِّ إِيقَاظٌ لِلنَّاسِ بِأَنْ يَنْظُرُوا فِي حِكْمَةِ اخْتِلَافِ أَغْرَاضِهِ وَأَنَّهَا حَقٌّ.
وَفِي التَّعْلِيلِ بِحِكْمَةِ التَّثْبِيتِ وَالْهُدَى وَالْبُشْرَى بَيَانٌ لِرُسُوخِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَدَادِ آرَائِهِمْ فِي فَهْمِ الْكَلَامِ السَّامِي، وَأَنَّهُ تَثْبِيتٌ لِقُلُوبِهِمْ بِصِحَّةِ الْيَقِينِ وَهُدًى وَبُشْرَى لَهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَهُدًى وَبُشْرَى لَهُمْ، فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ لِزِيَادَةِ مَدْحِهِمْ بِوَصْفٍ آخَرَ شَرِيفٍ.
قال أبو السعود رحمه الله :
{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ } أي إذا أنزلنا آيةً من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلاً منها بأن نسخناها بها { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ } أولاً وآخِراً وبأن كلاًّ من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة ، فإن كل وقت له مقتضًى غيرُ مقتضى الآخَر ، فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخرَ مفسدةً وبالعكس. { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يعلمون شيئاً أصلاً أو لا يعلمون أن في النسخ حِكَماً بالغةً ، وإسنادُ هذا الحكمِ إلى الأكثر لما أن منهم مَنْ يعلم ذلك وإنما ينكره عِناداً .
{ قُلْ نَزَّلَهُ } أي القرآنَ المدولَ عليه بالآية { رُوحُ القدس } يعني جبريلُ عليه السلام أي الروحُ المطهّر من الأدناس البشرية ، وإضافةُ الروحِ إلى القدس وهو الطُهْرُ كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل : حاتمُ الجودِ للمبالغة في ذلك الوصفِ كأنه طبعٌ منه ، وفي صيغة التفعيلِ في الموضعين إشعارٌ بأن التدريجَ في الإنزال مما تقتضيه الحِكَمُ البالغة { مِن رَبّكَ } في إضافة الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضةِ آثارِ الربوبية عليه صلى الله عليه وسلم ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المبنيةِ على التلقين المحض { بالحق } أي ملتبساً بالحق الثابتِ الموافقِ للحكمة المقتضيةِ له بحيث لا يفارقها إنشاءً ونسخاً ، وفيه دَلالةٌ على أن النسخ حق { لِيُثَبّتَ الذين ءامَنُواْ } على الإيمان بأنه كلامُه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخَ وتدبّروا ما فيه من رعاية المصالحِ اللائقة بالحال رسَخت عقائدُهم واطمأنت قلوبُهم .
{ وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } المنقادين لحُكمه تعالى وهما معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتاً وهدايةً وبشارةً ، وفيه تعريضٌ بحصول أضدادِ الأمورِ المذكورة لمن سواهم من الكفار .
وختاما : أنا أعلم كما يعلمُ غيري أن هذا النقلَ للذين يؤمنون بآيات الله إعلاما ... ولغيرهم إعلانا وحجة عليهم ... مع أنني أعتقد أنهم لا يريدون أن يصلوا إلى الحقيقة ..بل مرادُهم هو بقاء الموضوع في الهواء مُعلقا حتى حين ... وحينهم معروف .
فلو قام رجل وأنكر وجود المتنبي كشاعر أو أنكر وجود البطالمة كفترة من التاريخ القديم , لاستدعى من أراد أن ُيبرهن أولا- على هذه الحقيقة - الحسَ البيئي- وتتابع الأجيال على تناقل هذه الحقائق في الأمصار والأعصار .. فكيف ينكر رجلٌ له عقل أن المتنبي أو البطالمة أو بقية الحقائق التاريخية والجغرافية ليسوا من الواقع؟
وبالمثل فكل جيل من أجيال المسلمين وُلدَ ومات على حقيقة وجود النسخ في كتابات كل العلماء في كل الأعصار والأمصار . ولم يخالف في هذا إلا من هو معروفٌ بالمخالفة كابن بحر !
ولي سؤال ...لماذا هذه المساحة الكبيرة المتروكة للمخالف ..دون بيان أو تعليق ؟؟؟
ولنتبع كلامه عليه الصلاة والسلام « اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِى لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ».رواه مسلم
قبل أن أعرضَ كلامَ أهلِ السنة من المُفسرين ,لنقف مع الآيات وقفةَ مُتدبر مُنصف ......
أولا : قبل هذه الآية يقولُ تعالى :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} فدل على أن السياقَ كله مرتبطٌ بالقرآن العظيم .
ثانيا : بعد هاتين الآيتين يقول تعالى :{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} فالحديثُ عن القرآنِ لا مَحالة ...
ثالثا : قوله تعالى :{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} لا يمكن حملُها أبدا على غير الآية الشرعية بدليل السباق والسياق واللحاق في الآيات .. وبدليل قوله تعالى :{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } فالإنزال واضح في هذه الدلالة ... وبدليل :{ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ } فهل الافتراء يُطلق على تبديل الآية الحسية يا عُقلاء المسلمين ..!! وقوله :{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } فهذا إنزال واضح .
رابعا : في سورة البقرة :{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } وفي النحل :{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } فالآيتان دلالتهما واضحة في كون الناسخ والمنسوخ آية شرعية أولاً ..
وفي ختام الآيات يقول تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)}
أليس هذا الختام أوضحَ دلالة على المعنى المُراد .
وإلينا جميعا ما تتابعت عليه تفاسير أهل العلم :
قال ابن عطية رحمه الله في محرره :
وقوله { وإذا بدلنا آية مكان آية } كان كفار مكة إذا نسخ الله لفظ آية بلفظ أخرى ومعناها وإن بقي لفظها ، لأن هذا كله يقع عليه التبديل ، يقولون : لو كان هذا من عند الله لم يتبدل ، وإنما هو من افتراء محمد ، فهو يرجع من خطأ يبدلونه إلى صواب يراه بعد ، فأخبر الله عز وجل أنه أعلم بما يصلح للعباد برهة من الدهر ، ثم ما يصلح لهم بعد ذلك ، وأنهم لا يعلمون هذا.
قال القرطبي رحمه الله :
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) قِيلَ: الْمَعْنَى بَدَّلْنَا شَرِيعَةً مُتَقَدِّمَةً بِشَرِيعَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. مُجَاهِدٌ: أَيْ رَفَعْنَا آيَةً وَجَعَلْنَا مَوْضِعَهَا غَيْرَهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَسَخْنَا آيَةً بِآيَةٍ أَشَدَّ مِنْهَا عَلَيْهِمْ. وَالنَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ رَفْعُ الشَّيْءِ مع وضع غير مَكَانَهُ. وقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) يَعْنِي جِبْرِيلَ، نَزَلَ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ.
قال ابن كثير رحمه الله :
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ضَعْفِ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ وَقِلَّةِ ثَبَاتِهِمْ وَإِيقَانِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ وَقَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا تَغْيِيرَ الْأَحْكَامِ نَاسِخِهَا بِمَنْسُوخِهَا قَالُوا لِلرَّسُولِ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} أَيْ: كَذَّابٌ وَإِنَّمَا هُوَ الرَّبُّ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} أَيْ: رَفَعْنَاهَا وَأَثْبَتْنَا غَيْرَهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [الْبَقَرَةِ:106] .
فَقَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: {قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} أَيْ: جِبْرِيلُ، {مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أَيْ: بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} فَيُصَدِّقُوا بِمَا أَنْزَلَ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَتُخْبِتُ لَهُ قُلُوبُهُمْ، {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} أَيْ: وَجَعَلَهُ هَادِيًا [مُهْدِيًا] وَبِشَارَةٍ للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله.
قال في فتح القدير :
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ هَذَا شُرُوعٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِي حِكَايَةٍ شِبْهُ كُفْرِيَّةٍ وَدَفْعِهَا، وَمَعْنَى التَّبْدِيلِ: رَفْعُ الشَّيْءِ مَعَ وَضْعِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ، وَتَبْدِيلُ الْآيَةِ رَفْعُهَا بِأُخْرَى غَيْرِهَا، وَهُوَ نَسْخُهَا بِآيَةٍ سِوَاهَا.
قال في التحرير والتنوير :
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِيهَا شِدَّةٌ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أَلْيَنُ مِنْهَا يَقُولُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ، الْيَوْمَ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ وَغَدًا يَنْهَى عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ» اه.
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَحْسَنُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي حَاصِلِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. فَالْمُرَادُ مِنَ التَّبْدِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَدَّلْنا مُطْلَقُ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَامَاتِ، أَوِ التَّغَايُرُ فِي الْمَعَانِي وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَقَامَاتِ مَعَ وُضُوحِ الْجَمْعِ بَين محاملها.
وَذُكِرَتْ عِلَّةٌ مِنْ عِلَلِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، أَيْ تَبْدِيلُ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ، بِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَثْبِيتًا لِلَّذِينِ آمَنُوا إِذْ يَفْهَمُونَ مَحْمَلَ كل آيَة ويهدون بِذَلِكَ وَتَكُونُ آيَاتُ الْبُشْرَى بِشَارَةً لَهُمْ وَآيَاتُ الْإِنْذَارِ مَحْمُولَةً عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ.
فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [سُورَة النَّحْل: 101] ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى بِالْحَقِّ إِيقَاظٌ لِلنَّاسِ بِأَنْ يَنْظُرُوا فِي حِكْمَةِ اخْتِلَافِ أَغْرَاضِهِ وَأَنَّهَا حَقٌّ.
وَفِي التَّعْلِيلِ بِحِكْمَةِ التَّثْبِيتِ وَالْهُدَى وَالْبُشْرَى بَيَانٌ لِرُسُوخِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَدَادِ آرَائِهِمْ فِي فَهْمِ الْكَلَامِ السَّامِي، وَأَنَّهُ تَثْبِيتٌ لِقُلُوبِهِمْ بِصِحَّةِ الْيَقِينِ وَهُدًى وَبُشْرَى لَهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَهُدًى وَبُشْرَى لَهُمْ، فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ لِزِيَادَةِ مَدْحِهِمْ بِوَصْفٍ آخَرَ شَرِيفٍ.
قال أبو السعود رحمه الله :
{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ } أي إذا أنزلنا آيةً من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلاً منها بأن نسخناها بها { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ } أولاً وآخِراً وبأن كلاًّ من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة ، فإن كل وقت له مقتضًى غيرُ مقتضى الآخَر ، فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخرَ مفسدةً وبالعكس. { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يعلمون شيئاً أصلاً أو لا يعلمون أن في النسخ حِكَماً بالغةً ، وإسنادُ هذا الحكمِ إلى الأكثر لما أن منهم مَنْ يعلم ذلك وإنما ينكره عِناداً .
{ قُلْ نَزَّلَهُ } أي القرآنَ المدولَ عليه بالآية { رُوحُ القدس } يعني جبريلُ عليه السلام أي الروحُ المطهّر من الأدناس البشرية ، وإضافةُ الروحِ إلى القدس وهو الطُهْرُ كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل : حاتمُ الجودِ للمبالغة في ذلك الوصفِ كأنه طبعٌ منه ، وفي صيغة التفعيلِ في الموضعين إشعارٌ بأن التدريجَ في الإنزال مما تقتضيه الحِكَمُ البالغة { مِن رَبّكَ } في إضافة الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضةِ آثارِ الربوبية عليه صلى الله عليه وسلم ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المبنيةِ على التلقين المحض { بالحق } أي ملتبساً بالحق الثابتِ الموافقِ للحكمة المقتضيةِ له بحيث لا يفارقها إنشاءً ونسخاً ، وفيه دَلالةٌ على أن النسخ حق { لِيُثَبّتَ الذين ءامَنُواْ } على الإيمان بأنه كلامُه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخَ وتدبّروا ما فيه من رعاية المصالحِ اللائقة بالحال رسَخت عقائدُهم واطمأنت قلوبُهم .
{ وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } المنقادين لحُكمه تعالى وهما معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتاً وهدايةً وبشارةً ، وفيه تعريضٌ بحصول أضدادِ الأمورِ المذكورة لمن سواهم من الكفار .
وختاما : أنا أعلم كما يعلمُ غيري أن هذا النقلَ للذين يؤمنون بآيات الله إعلاما ... ولغيرهم إعلانا وحجة عليهم ... مع أنني أعتقد أنهم لا يريدون أن يصلوا إلى الحقيقة ..بل مرادُهم هو بقاء الموضوع في الهواء مُعلقا حتى حين ... وحينهم معروف .
فلو قام رجل وأنكر وجود المتنبي كشاعر أو أنكر وجود البطالمة كفترة من التاريخ القديم , لاستدعى من أراد أن ُيبرهن أولا- على هذه الحقيقة - الحسَ البيئي- وتتابع الأجيال على تناقل هذه الحقائق في الأمصار والأعصار .. فكيف ينكر رجلٌ له عقل أن المتنبي أو البطالمة أو بقية الحقائق التاريخية والجغرافية ليسوا من الواقع؟
وبالمثل فكل جيل من أجيال المسلمين وُلدَ ومات على حقيقة وجود النسخ في كتابات كل العلماء في كل الأعصار والأمصار . ولم يخالف في هذا إلا من هو معروفٌ بالمخالفة كابن بحر !
ولي سؤال ...لماذا هذه المساحة الكبيرة المتروكة للمخالف ..دون بيان أو تعليق ؟؟؟
ولنتبع كلامه عليه الصلاة والسلام « اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِى لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ».رواه مسلم