(( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته , فينسخ الله ما يلقي الشيطان , ثم يحكم الله آياته , والله عليم حكيم . ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم , وإن الظالمين لفي شقاق بعيد . وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم , وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ))
لقد رويت في سبب نزول هذه الآيات روايات كثيرة ذكرها كثير من المفسرين .
قال ابن كثير في تفسيره:"ولكنها من طرق كلها مرسلة , ولم أرها مسندة من وجه صحيح . والله أعلم" .
وأكثر هذه الروايات تفصيلا رواية ابن أبي حاتم . قال:حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي , حدثنا محمد بن إسحاق الشيبي , حدثنا محمد بن فليح , عن موسى بن عقبة , عن ابن شهاب , قال:أنزلت سورة النجم , وكان المشركون يقولون:لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم , وأحزنه ضلالهم ; فكان يتمنى هداهم . فلما أنزل الله سورة النجم قال: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ؟ ألكم الذكر وله الأنثى ؟) ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال:وإنهن لهن الغرانيق العلى , وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى . . وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته . . فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة , وزلت بها ألسنتهم , وتباشروا بها , وقالوا:إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه . . فلما بلغ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] آخر النجم سجد , وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك . غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه . فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين .
ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين , فاطمأنت أنفسهم - أي المشركون - لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وحدثهم به الشيطان أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد قرأها في السورة , فسجدوا لتعظيم آلهتهم . ففشت تلك الكلمة في الناس ; وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين:عثمان بن مظعون وأصحابه ; وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم , وصلوا مع رسول الله ; وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ; وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة , فأقبلوا سراعا , وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان , وأحكم الله آياته , وحفظه من الفرية , وقال: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته , فينسخ الله ما يلقي الشيطان . ثم يحكم الله آياته . والله عليم حكيم . ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم . وإن الظالمين لفي شقاق بعيد). . فلما بين الله قضاءه , وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين , واشتدوا عليهم" . .
قال ابن كثير:وقد ساق البغوي في تفسيره روايات مجموعة من كلام ابن عباس , ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك , ثم سأل ها هنا سؤالا:كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله - صلوات الله وسلامه عليه - ثم حكى أجوبة عن الناس , من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك . فتوهموا أنه صدر عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وليس كذلك في نفس الأمر , بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن [ صلى الله عليه وسلم ] وعلى آله وسلم - والله أعلم .
وقال البخاري:قال ابن عباس: (في أمنيته)إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه . فيبطل الله ما يلقي الشيطان (ثم يحكم الله آياته).
وقال مجاهد: (إذا تمنى)يعني إذا قال ; ويقال أمنيته:قراءته .
وقال البغوي:وأكثر المفسرين قالوا:معنى قوله: (تمنى)أي تلا وقرأ كتاب الله (ألقى الشيطان في أمنيته)أي في تلاوته .
وقال ابن جرير عن تفسير(تمنى)بمعنى تلا:هذا القول أشبه بتأويل الكلام !
هذه خلاصة تلك الروايات في هذا الحديث الذي عرف بحديث الغرانيق . . وهو من ناحية السند واهي الأصل .
قال علماء الحديث:إنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة , ولا رواه بسند سليم متصل ثقة . وقال أبو بكر البزار:هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بإسناد متصل يجوز ذكره وهو من ناحية موضوعه يصادم أصلا من أصول العقيدة وهو عصمة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من أن يدس عليه الشيطان شيئا في تبليغ رسالته .
[mark=FFFF33]وهناك من النص ذاته ما يستبعد معه أن يكون أن يكون سبب نزول الآية شيئا كهذا , وأن يكون مدلوله حادثا مفردا وقع للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فالنص يقرر أن هذه القاعدة عامة في الرسالات كلها مع الرسل كلهم: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته , فينسخ الله ما يلقي الشيطان , ثم يحكم الله آياته). .[/mark]
وقد أولع المستشرقون والطاعنون في هذا الدين بذلك الحديث , وأذاعوا به , وأثاروا حوله عجاجة من القول . والأمر في هذا كله لا يثبت للمناقشة , بل لا يصح أن يكون موضوعا للمناقشة . فلا بد أن يكون المقصود أمرا عاما يستند إلى صفة في الفطرة مشتركة بين الرسل جميعا , بوصفهم من البشر , مما لا يخالف العصمة المقررة للرسل .
[mark=FFFF66]وهذا ما نحاول بيانه بعون الله . والله أعلم بمراده , إنما نحن نفسر كلامه بقدر إدراكنا البشري . . [/mark]
إن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس , يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة , وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه . . ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة والرسل بشر محدودو الأجل . وهم يحسون هذا ويعلمونه . فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق . . يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى , فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة ! ويودون مثلا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة , على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة !
ويودون . ويودون . من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها . . ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة , وفق موازينها الدقيقة , ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم . . هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين , ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق . فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف , وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش , مستقيمة لاعوج فيها ولا انحناء . .
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية , وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات , فرصة للكيد للدعوة , وتحويلها عن قواعدها , والقاء الشبهات حولها في النفوس . . ولكن الله يحول دون كيد الشيطان , ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات , ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل , وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة . كما حدث في بعض تصرفات الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وفي بعض اتجاهاته , مما بين الله فيه بيانا في القرآن . .
بذلك يبطل الله كيد الشيطان , ويحكم الله آياته , فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب:
(والله عليم حكيم). . فأما الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحراف , والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين ; فيجدون في مثل هذه الأحوال مادة للجدل واللجاج والشقاق: (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد). وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل: وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم . .
وفي حياة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفي تاريخ الدعوة الإسلامية نجد أمثلة من هذا , تغنينا عن تأويل الكلام , الذي أشار إليه الإمام ابن جرير رحمه الله .
نجد من ذلك مثالا في قصة ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - الأعمى الفقير الذي جاء إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول:يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله , ويكرر هذا القول والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] مشغول بأمر الوليد بن المغيرة يود لو يهديه إلى الإسلام ومعه صناديد قريش , وابن أم مكتوم لا يعلم أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مشغول بهذا الأمر . حتى كره , رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلحاحه فعبس وأعرض عنه . . فأنزل الله في هذا قرآنا يعاتب فيه الرسول عتابا شديدا:
(عبس وتولى . أن جاءه الأعمى . وما يدريك لعله يزكى , أو يذكر فتنفعه الذكرى ! أما من استغنى , فأنت له تصدى ؟ وما عليك ألا يزكى ؟ وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى ؟ كلا ! إنها تذكرة فمن شاء ذكره . . .).
وبهذا رد الله للدعوة موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة . وصحح تصرف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذي دفعته إليه , رغبته في هداية صناديد قريش , طمعا في إسلام من وراءهم وهم كثيرون . فبين الله له:أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهم من إسلام أولئك الصناديد . وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة , وأحكم الله آياته . واطمأنت إلى هذا البيان قلوب المؤمنين .
ولقد كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد ذلك يكرم ابن أم مكتوم . ويقول إذا رآه:" مرحبا بمن عاتبني فيه ربي " ويقول له:" هل لك من حاجة " واستخلفه على المدينة مرتين .
كذلك وقع ما رواه مسلم في صحيحه قال:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي , عن إسرائيل , عن المقدام بن شريح , عن أبيه , عن سعد - هو ابن أبي وقاص - قال:كنا مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ستة نفر . فقال المشركون للنبي [ صلى الله عليه وسلم ]:أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا . قال:وكنت أنا وابن مسعود , ورجل من هذيل , وبلال , ورجلان نسيت اسميهما . فوقع في نفس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما شاء الله أن يقع , فحدث نفسه , فأنزل الله عز وجل: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم ; بالغداة والعشي يريدون وجهه).
وهكذا رد الله للدعوة قيمها المجردة , وموازينها الدقيقة . ورد كيد الشيطان فيما أراد أن يدخل من تلك الثغرة . ثغرة الرغبة البشرية في استمالة كبراء قريش بإجابة رغبتهم في أن لا يحضر هؤلاء الفقراء مجلسهم مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقيم الدعوة أهم من أولئك الكبراء , وما يتبع إسلامهم من إسلام الألوف معهم وتقوية الدعوة في نشأتها بهم - كما كان يتمنى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والله أعلم بمصدر القوة الحقيقية , وهو الاستقامة التي لا ترعى هوى شخصيا ولا عرفا جاريا !
ولعله مما يلحق بالمثلين المتقدمين ما حدث في أمر زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقد زوجها من زيد بن حارثة - رضي الله عنه - وكان قد تبناه قبل النبوة , فكان يقال له:زيد بن محمد . فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة فقال تعالى: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)وقال: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم). . وكان زيد - رضي الله عنه - أحب الناس إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش - رضي الله عنها - فلم تستقم بينهما الحياة . . وكانوا في الجاهلية يكرهون أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه . فأراد الله سبحانه إبطال هذه العادة , كما أبطل نسبة الولد إلى غير أبيه . فأخبره رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد - لتكون هذه السنة مبطلة لتلك العادة - ولكن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أخفى في نفسه ما أخبره به الله . وكان كلماشكا إليه زيد تعذر الحياة مع زينب قال له: (أمسك عليك زوجك)مراعيا في هذا كراهية القوم لزواجه منها حين يطلقها زيد . وظل يخفي ما قدر الله إظهاره حتى طلقها زيد . . فأنزل الله في هذا قرآنا , يكشف عما جال في خاطر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويقرر القواعد التي أراد الله أن يقوم تشريعه في هذه المسألة عليها:
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه:أمسك عليك زوجك واتق الله . وتخفي في نفسك ما الله مبديه , وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه . فلما قضى زيد منها وطرأ زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا . .
ولقد صدقت عائشة - رضى الله عنها وهي تقول:لو كتم محمد [ صلى الله عليه وسلم ] شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه , وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه). .
وهكذا أنفذ الله شريعته وأحكمها , وكشف ما خالج خاطر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من كراهية القوم لزواجه من مطلقة دعيه . ولم يمكن للشيطان أن يدخل من هذه الثغرة . وترك الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم يتخذون من هذه الحادثة , مادة للشقاق والجدال ما تزال !!!
هذا هو ما نطمئن إليه في تفسير تلك الآيات . والله الهادي إلى الصواب .
(في ظلال القرآن)
لقد رويت في سبب نزول هذه الآيات روايات كثيرة ذكرها كثير من المفسرين .
قال ابن كثير في تفسيره:"ولكنها من طرق كلها مرسلة , ولم أرها مسندة من وجه صحيح . والله أعلم" .
وأكثر هذه الروايات تفصيلا رواية ابن أبي حاتم . قال:حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي , حدثنا محمد بن إسحاق الشيبي , حدثنا محمد بن فليح , عن موسى بن عقبة , عن ابن شهاب , قال:أنزلت سورة النجم , وكان المشركون يقولون:لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم , وأحزنه ضلالهم ; فكان يتمنى هداهم . فلما أنزل الله سورة النجم قال: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ؟ ألكم الذكر وله الأنثى ؟) ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال:وإنهن لهن الغرانيق العلى , وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى . . وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته . . فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة , وزلت بها ألسنتهم , وتباشروا بها , وقالوا:إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه . . فلما بلغ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] آخر النجم سجد , وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك . غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه . فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين .
ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين , فاطمأنت أنفسهم - أي المشركون - لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وحدثهم به الشيطان أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد قرأها في السورة , فسجدوا لتعظيم آلهتهم . ففشت تلك الكلمة في الناس ; وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين:عثمان بن مظعون وأصحابه ; وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم , وصلوا مع رسول الله ; وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ; وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة , فأقبلوا سراعا , وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان , وأحكم الله آياته , وحفظه من الفرية , وقال: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته , فينسخ الله ما يلقي الشيطان . ثم يحكم الله آياته . والله عليم حكيم . ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم . وإن الظالمين لفي شقاق بعيد). . فلما بين الله قضاءه , وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين , واشتدوا عليهم" . .
قال ابن كثير:وقد ساق البغوي في تفسيره روايات مجموعة من كلام ابن عباس , ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك , ثم سأل ها هنا سؤالا:كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله - صلوات الله وسلامه عليه - ثم حكى أجوبة عن الناس , من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك . فتوهموا أنه صدر عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وليس كذلك في نفس الأمر , بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن [ صلى الله عليه وسلم ] وعلى آله وسلم - والله أعلم .
وقال البخاري:قال ابن عباس: (في أمنيته)إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه . فيبطل الله ما يلقي الشيطان (ثم يحكم الله آياته).
وقال مجاهد: (إذا تمنى)يعني إذا قال ; ويقال أمنيته:قراءته .
وقال البغوي:وأكثر المفسرين قالوا:معنى قوله: (تمنى)أي تلا وقرأ كتاب الله (ألقى الشيطان في أمنيته)أي في تلاوته .
وقال ابن جرير عن تفسير(تمنى)بمعنى تلا:هذا القول أشبه بتأويل الكلام !
هذه خلاصة تلك الروايات في هذا الحديث الذي عرف بحديث الغرانيق . . وهو من ناحية السند واهي الأصل .
قال علماء الحديث:إنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة , ولا رواه بسند سليم متصل ثقة . وقال أبو بكر البزار:هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بإسناد متصل يجوز ذكره وهو من ناحية موضوعه يصادم أصلا من أصول العقيدة وهو عصمة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من أن يدس عليه الشيطان شيئا في تبليغ رسالته .
[mark=FFFF33]وهناك من النص ذاته ما يستبعد معه أن يكون أن يكون سبب نزول الآية شيئا كهذا , وأن يكون مدلوله حادثا مفردا وقع للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فالنص يقرر أن هذه القاعدة عامة في الرسالات كلها مع الرسل كلهم: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته , فينسخ الله ما يلقي الشيطان , ثم يحكم الله آياته). .[/mark]
وقد أولع المستشرقون والطاعنون في هذا الدين بذلك الحديث , وأذاعوا به , وأثاروا حوله عجاجة من القول . والأمر في هذا كله لا يثبت للمناقشة , بل لا يصح أن يكون موضوعا للمناقشة . فلا بد أن يكون المقصود أمرا عاما يستند إلى صفة في الفطرة مشتركة بين الرسل جميعا , بوصفهم من البشر , مما لا يخالف العصمة المقررة للرسل .
[mark=FFFF66]وهذا ما نحاول بيانه بعون الله . والله أعلم بمراده , إنما نحن نفسر كلامه بقدر إدراكنا البشري . . [/mark]
إن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس , يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة , وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه . . ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة والرسل بشر محدودو الأجل . وهم يحسون هذا ويعلمونه . فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق . . يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى , فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة ! ويودون مثلا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة , على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة !
ويودون . ويودون . من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها . . ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة , وفق موازينها الدقيقة , ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم . . هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين , ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق . فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف , وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش , مستقيمة لاعوج فيها ولا انحناء . .
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية , وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات , فرصة للكيد للدعوة , وتحويلها عن قواعدها , والقاء الشبهات حولها في النفوس . . ولكن الله يحول دون كيد الشيطان , ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات , ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل , وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة . كما حدث في بعض تصرفات الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وفي بعض اتجاهاته , مما بين الله فيه بيانا في القرآن . .
بذلك يبطل الله كيد الشيطان , ويحكم الله آياته , فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب:
(والله عليم حكيم). . فأما الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحراف , والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين ; فيجدون في مثل هذه الأحوال مادة للجدل واللجاج والشقاق: (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد). وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل: وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم . .
وفي حياة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفي تاريخ الدعوة الإسلامية نجد أمثلة من هذا , تغنينا عن تأويل الكلام , الذي أشار إليه الإمام ابن جرير رحمه الله .
نجد من ذلك مثالا في قصة ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - الأعمى الفقير الذي جاء إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول:يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله , ويكرر هذا القول والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] مشغول بأمر الوليد بن المغيرة يود لو يهديه إلى الإسلام ومعه صناديد قريش , وابن أم مكتوم لا يعلم أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مشغول بهذا الأمر . حتى كره , رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلحاحه فعبس وأعرض عنه . . فأنزل الله في هذا قرآنا يعاتب فيه الرسول عتابا شديدا:
(عبس وتولى . أن جاءه الأعمى . وما يدريك لعله يزكى , أو يذكر فتنفعه الذكرى ! أما من استغنى , فأنت له تصدى ؟ وما عليك ألا يزكى ؟ وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى ؟ كلا ! إنها تذكرة فمن شاء ذكره . . .).
وبهذا رد الله للدعوة موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة . وصحح تصرف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذي دفعته إليه , رغبته في هداية صناديد قريش , طمعا في إسلام من وراءهم وهم كثيرون . فبين الله له:أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهم من إسلام أولئك الصناديد . وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة , وأحكم الله آياته . واطمأنت إلى هذا البيان قلوب المؤمنين .
ولقد كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد ذلك يكرم ابن أم مكتوم . ويقول إذا رآه:" مرحبا بمن عاتبني فيه ربي " ويقول له:" هل لك من حاجة " واستخلفه على المدينة مرتين .
كذلك وقع ما رواه مسلم في صحيحه قال:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي , عن إسرائيل , عن المقدام بن شريح , عن أبيه , عن سعد - هو ابن أبي وقاص - قال:كنا مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ستة نفر . فقال المشركون للنبي [ صلى الله عليه وسلم ]:أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا . قال:وكنت أنا وابن مسعود , ورجل من هذيل , وبلال , ورجلان نسيت اسميهما . فوقع في نفس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما شاء الله أن يقع , فحدث نفسه , فأنزل الله عز وجل: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم ; بالغداة والعشي يريدون وجهه).
وهكذا رد الله للدعوة قيمها المجردة , وموازينها الدقيقة . ورد كيد الشيطان فيما أراد أن يدخل من تلك الثغرة . ثغرة الرغبة البشرية في استمالة كبراء قريش بإجابة رغبتهم في أن لا يحضر هؤلاء الفقراء مجلسهم مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقيم الدعوة أهم من أولئك الكبراء , وما يتبع إسلامهم من إسلام الألوف معهم وتقوية الدعوة في نشأتها بهم - كما كان يتمنى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والله أعلم بمصدر القوة الحقيقية , وهو الاستقامة التي لا ترعى هوى شخصيا ولا عرفا جاريا !
ولعله مما يلحق بالمثلين المتقدمين ما حدث في أمر زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقد زوجها من زيد بن حارثة - رضي الله عنه - وكان قد تبناه قبل النبوة , فكان يقال له:زيد بن محمد . فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة فقال تعالى: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)وقال: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم). . وكان زيد - رضي الله عنه - أحب الناس إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش - رضي الله عنها - فلم تستقم بينهما الحياة . . وكانوا في الجاهلية يكرهون أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه . فأراد الله سبحانه إبطال هذه العادة , كما أبطل نسبة الولد إلى غير أبيه . فأخبره رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد - لتكون هذه السنة مبطلة لتلك العادة - ولكن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أخفى في نفسه ما أخبره به الله . وكان كلماشكا إليه زيد تعذر الحياة مع زينب قال له: (أمسك عليك زوجك)مراعيا في هذا كراهية القوم لزواجه منها حين يطلقها زيد . وظل يخفي ما قدر الله إظهاره حتى طلقها زيد . . فأنزل الله في هذا قرآنا , يكشف عما جال في خاطر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويقرر القواعد التي أراد الله أن يقوم تشريعه في هذه المسألة عليها:
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه:أمسك عليك زوجك واتق الله . وتخفي في نفسك ما الله مبديه , وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه . فلما قضى زيد منها وطرأ زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا . .
ولقد صدقت عائشة - رضى الله عنها وهي تقول:لو كتم محمد [ صلى الله عليه وسلم ] شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه , وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه). .
وهكذا أنفذ الله شريعته وأحكمها , وكشف ما خالج خاطر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من كراهية القوم لزواجه من مطلقة دعيه . ولم يمكن للشيطان أن يدخل من هذه الثغرة . وترك الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم يتخذون من هذه الحادثة , مادة للشقاق والجدال ما تزال !!!
هذا هو ما نطمئن إليه في تفسير تلك الآيات . والله الهادي إلى الصواب .
(في ظلال القرآن)