خالد سعد النجار
New member
قال تعالى:
{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} [الشعراء:181]
هذا طرفا من قصة شعيب عليه السلام مع أصحاب الأيكة، والأيكة الشجرة الملتفة كشجر الدوم، وهذه الغيضة قريبة من مدينة مدين، وشعيب أرسل لهما معاً، وفي سورة هود {وإلى مدين أخاهم شعيباً} لأنه منهم ومن مدينتهم فقيل له أخوهم، وأما أصحاب الأيكة جماعة من بادية مدين كانت لهم أيكة من الشجرة يعبدونها تحت أي عنوان كعبدة الأشجار والأحجار في كل زمان ومكان، فبعث الله تعالى إليهم شعيباً فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فكذبوه، وهو قوله تعالى: {كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون} أي اتقوا الله وخافوا عقابه {إني لكم رسول أمين} فاتقوا الله بعبادته وترك عبادة ما سواه وأطيعون أهدكم الى ما فيه كمالكم وسعادتكم {وما أسألكم عليه من أجر} أي على بلاغ رسالة ربي إليكم أجراً أي جزاء وأجرة {إن أجري} أي ما أجري إلا على رب العالمين. وأمرهم بترك أشهر معصية كانت شائعة بينهم وهي تطفيف الكيل والوزن، فقال لهم {أوفوا الكيل} أي أتموها ولا تنقصوها {ولا تكونوا من المخسرين} أي الذين ينقصون الكيل والوزن {وزنوا} أي إذا وزنتم {بالقسطاس المستقيم} أي بالميزان العادل {ولا تبخسوا الناس أشاءهم} أي لا تنقصوهم من حقوقهم شيئاً، فما يساوي ديناراً لا تعطوا فيه نصف دينار، وما يساوي عشرة لا تأخذوه بخمسة مثلاً، ومن أجرته اليومية عشرون لا تعطوه عشرة مثلاً {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي ولا تفسدوا في البلاد بأي نوع من الفساد كالقتل والسلب ومنع الحقوق وارتكاب المعاصي والذنوب {واتقوا الذي خلقكم} أي الله فخافوا عقابه {والجبلة الأولين} أي وخلق الخليقة من قبلكم، اتقوه بترك الشرك والمعاصي تنجوا من عذابه، وتظفروا برضاه وإنعامه. (1)
{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} استئناف من كلامه انتقل به من غرض الدعوة الأصلية بقوله {أَلا تَتَّقُونَ} .. إلى آخره، إلى الدعوة التفصيلية بوضع قوانين المعاملة بينهم، فقد كانوا مع شركهم بالله يطففون المكيال والميزان ويبخسون أشياء الناس إذا ابتاعوها منهم، ويفسدون في الأرض. فأما تطفيف الكيل والميزان فظلم وأكل مال بالباطل، ولما كان تجارهم قد تمالئوا عليه اضطر الناس إلى التبايع بالتطفيف.
و {أَوْفُوا} أمر بالإيفاء، أي جعل الشيء تاما، أي اجعلوا الكيل غير ناقص. والمخسر: فاعل الخسارة لغيره، أي المنقص، فمعنى {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} لا تكونوا من المطففين. وصوغ {مِنَ الْمُخْسِرِينَ} أبلغ من: لا تكونوا مخسرين. لأنه يدل على الأمر بالتبرؤ من أهل هذا الصنيع، كما تقدم آنفا في عدة آيات منها قوله {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] في قصة نوح.
والقسطاس: بضم القاف وبكسرها من أسماء العدل، ومن أسماء الميزان، كما في قوله تعالى {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء:35]، حمل على المعنيين هنا كما هنالك وإن كان الوصف بـ {المستقيم} يرجح أن المقصود به الميزان.
وبخس أشياء الناس: غبن منافعها وذمها بغير ما فيها ليضطروهم إلى بيعها بغبن، وأما الفساد فيقع على جميع المعاملات الضارة. والبخس: النقص والذم .. ومن بخس الأشياء أن يقولوا للذي يعرض سلعة سليمة للبيع: إن سلعتك رديئة ليصرف عنها الراغبين فيشتريها برخص. (2)
واعلم أنَّ الكيل على ثلاثة أضرب: وافٍ، وطفيف، وزائد. فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله: {أَوْفُوا الكَيْلَ} ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} ولم يذكر الزائد، لأنه إن فعله فقد أحسن، وإن لم يفعله فلا إثم عليه. ثم لما أمر بالإيفاء بين كيف يفعل، فقال: {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} وهو: الميزان {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} يقال بخسه حقه: إذا نقصه إياه، وهذا عام في كل حق {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} (3)
يقول الشيخ ابن عثيمين: إذا كلتم لأحد فأوفوا الكيل، إذا وزنتم لأحد فأوفوا الوزن .. يمكن أن نقول: إن هذا من باب ضرب المثل، وإن المراد بإيفاء الكيل والميزان إيفاء الحقوق كلها، يعني إذا كان عليكم حقوق فأوفوا الحقوق. إن كانت كيلا فأوفوا الكيل وإن كانت وزنا فأوفوا الوزن.
ولكننا نجد كثيرا من الناس على خلاف هذه الحال، إذا كان الشيء عليهم فرطوا فيه، وإذا كان الشيء لهم أفرطوا فيه، وأضرب لهذا مثلين:-
المثل الأول: بعض الناس يكون عليه الطلب «الدين» فيماطل مع قدرته على الوفاء. يأتيه صاحب الحق يا فلان أعطني حقي، يقول: غدا، أعطني، بعد غد .. ولاسيما إذا كان الحق للدولة، فإن كثيرا من الناس يتهاون به، وذلك في مثل وفاء صندوق التنمية العقارية، لأننا نسمع أن كثيرا من الناس عندهم ما يوفون به الصندوق، ولكن يماطلون، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مطل الغني ظلم» أي القادر على الوفاء. والظلم ظلمات يوم القيامة، إذًا هذا المطلوب الذي يماطل نقول: لم يوف الكيل لأنه لم يوف صاحب الحق حقه.
المثال الثاني: عكس ذلك إذا كان للإنسان حق أراد أن يستوفيه كاملا حتى إنه إذا كان له غريم فقير قال إما أن توفيني وإما أن أرفعك إلى الجهات المسؤولة فتحبس. فيضطر هذا الفقير المدين إلى أن يذهب ويتدين فيتضاعف عليه الدين أضعافا مضاعفة.
مثال آخر: هؤلاء الكفلاء الذين استقدموا العمال، يريدون من العامل أن يقوم بالعمل كاملا ولكنهم لا يوفون العامل أجرة عمله، حتى إن بعض العمال يتقدم يشكو يقول: أنا لي ثلاثة، أربعة .. أشهر عند كفيلي ما أعطاني شيئا، وهذا ظلم وجور، بل قد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه حقه» [البخاري:2150] هؤلاء الذين يتعاملون مع الناس هذه المعاملة إذا كان الحق لهم أخذوا به كاملا، وإذا كان الحق عليهم فرطوا فيه. استمعوا إلى جزائهم يوم القيامة، قال الله تعالى سورة المطففين: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1-6].
ومن ذلك أيضا أن بعض الأزواج يريد من الزوجة أن تقوم بحقه كاملا ولكنه يماطلها بحقها، تجده يريد أن تقوم بكل خدمة البيت على الوجه الأكمل ولكنه لا يعطيها حقها من النفقة حتى الإنفاق الواجب عليه لا يقوم به، وهذا يدخل في المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، وفي هذه الحال يجوز للمرأة إذا امتنع زوجها من إعطائها النفقة الكافية يجوز أن تأخذ من ماله بلا علمه، هكذا أفتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن هند بنت عتبة جاءت تشكو زوجها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالت إنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي بالمعروف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك» [البخاري:6758 ]، لأنه حق لها فإذا بخل به فلها أن تأخذ من ماله بلا علمه. كما أن من النساء من تكون بالعكس تريد من زوجها أن يقوم بحقها كاملا ولكنها هي تنقصه حقه. هؤلاء داخلون في هذه الآية بالقياس الجلي الواضح. (4)
هذه الآية فيها رد على العلمانيين القائلين: لا دخل للدين بالحياة ولا دخل للدين بالاقتصاد، فهذه الآية من أقوى الآيات التي ترد عليهم، فهي تنظم لنا أمور اقتصادنا وتمنع الغش فيما بيننا، وقد قال نحو مقالة هؤلاء العلمانيين الكفرة قوم شعيب لما أُرسل إليهم آمراً إياهم بعبادة الله وعدم تطفيف المكاييل والموازين: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87] يعني: نحن أحرار في أموالنا {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} يعنون السفيه الضال كما أسلفنا.
وشعيب صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة فيها الأمر بإقامة الوزن والمكيال بالقسط {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:85-86]، وقال الله سبحانه: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:181-183]، وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9]، وقال سبحانه: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء:35]، وقال: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، فلابد من الوفاء ولابد من العدل في المكاييل والموازين، وإلا فالتطفيف كبيرة من الكبائر بالاتفاق.
قال الله سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أي: طلبوا من الناس أن يكيلوا لهم {يَسْتَوْفُونَ} يأخذون حقهم مستوفى، يعني إذا اشترى من شخص يقول له: أرجح الكيل.
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن البائع هو الذي يكيل، أو هو الذي يعطي أجرة الكيل لمن يكيل، وقد ورد في الباب حديث في إسناده ضعف إلا أن الضعف فيه قليل: «إذا بعت فكل - أي أنت الذي تكيل- وإذا ابتعت فاكتل -أي اطلب من شخص أن يكيل لك-» فإذا بعت أنت الذي تكيل، وإذا اشتريت يكال لك، فهذه بعض تنظيمات البيوع.
فالفقهاء منهم من بوب باب: صاحب السلعة أحق بالسوم، يعني: صاحب الشيء هو الذي يقول: أنا حاجتي أبيعها بكذا، ويستدل لذلك بما أخرجه البخاري بإسناده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء عليه الصلاة والسلام يشتري من بني النجار حائطهم -أي بستانهم- كي ينشئ فيه المسجد النبوي قال: «يا بني النجار ساوموني بحائطكم» يعني قولوا كم تريدون ثمن حائطكم؟ فهذا رأي فريق من العلماء، ومنهم من رأى أن الأمر في هذا واسع.
الشاهد: أن البائع هو الذي يكيل ويزن، قال الله سبحانه: {الذين إذا اكتالوا} أي: طلبوا من الناس أن يكيلوا لهم {على الناس يستوفون وَإِذَا كَالُوهُمْ} أي: كالوا لهم {أَوْ وَزَنُوهُمْ} أي: وزنوا لهم {يُخْسِرُونَ}، فهذا مثل أن يكون للرجل قدح كبير يشتري به وقدح صغير يبيع به، أو كيلو صنجته كبيرة وكيلو صنجته صغيرة يشتري بهذا ويبيع بهذا، فكل هذا يدخل في الوعيد. (5)
الهوامش
{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} [الشعراء:181]
هذا طرفا من قصة شعيب عليه السلام مع أصحاب الأيكة، والأيكة الشجرة الملتفة كشجر الدوم، وهذه الغيضة قريبة من مدينة مدين، وشعيب أرسل لهما معاً، وفي سورة هود {وإلى مدين أخاهم شعيباً} لأنه منهم ومن مدينتهم فقيل له أخوهم، وأما أصحاب الأيكة جماعة من بادية مدين كانت لهم أيكة من الشجرة يعبدونها تحت أي عنوان كعبدة الأشجار والأحجار في كل زمان ومكان، فبعث الله تعالى إليهم شعيباً فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فكذبوه، وهو قوله تعالى: {كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون} أي اتقوا الله وخافوا عقابه {إني لكم رسول أمين} فاتقوا الله بعبادته وترك عبادة ما سواه وأطيعون أهدكم الى ما فيه كمالكم وسعادتكم {وما أسألكم عليه من أجر} أي على بلاغ رسالة ربي إليكم أجراً أي جزاء وأجرة {إن أجري} أي ما أجري إلا على رب العالمين. وأمرهم بترك أشهر معصية كانت شائعة بينهم وهي تطفيف الكيل والوزن، فقال لهم {أوفوا الكيل} أي أتموها ولا تنقصوها {ولا تكونوا من المخسرين} أي الذين ينقصون الكيل والوزن {وزنوا} أي إذا وزنتم {بالقسطاس المستقيم} أي بالميزان العادل {ولا تبخسوا الناس أشاءهم} أي لا تنقصوهم من حقوقهم شيئاً، فما يساوي ديناراً لا تعطوا فيه نصف دينار، وما يساوي عشرة لا تأخذوه بخمسة مثلاً، ومن أجرته اليومية عشرون لا تعطوه عشرة مثلاً {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي ولا تفسدوا في البلاد بأي نوع من الفساد كالقتل والسلب ومنع الحقوق وارتكاب المعاصي والذنوب {واتقوا الذي خلقكم} أي الله فخافوا عقابه {والجبلة الأولين} أي وخلق الخليقة من قبلكم، اتقوه بترك الشرك والمعاصي تنجوا من عذابه، وتظفروا برضاه وإنعامه. (1)
{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} استئناف من كلامه انتقل به من غرض الدعوة الأصلية بقوله {أَلا تَتَّقُونَ} .. إلى آخره، إلى الدعوة التفصيلية بوضع قوانين المعاملة بينهم، فقد كانوا مع شركهم بالله يطففون المكيال والميزان ويبخسون أشياء الناس إذا ابتاعوها منهم، ويفسدون في الأرض. فأما تطفيف الكيل والميزان فظلم وأكل مال بالباطل، ولما كان تجارهم قد تمالئوا عليه اضطر الناس إلى التبايع بالتطفيف.
و {أَوْفُوا} أمر بالإيفاء، أي جعل الشيء تاما، أي اجعلوا الكيل غير ناقص. والمخسر: فاعل الخسارة لغيره، أي المنقص، فمعنى {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} لا تكونوا من المطففين. وصوغ {مِنَ الْمُخْسِرِينَ} أبلغ من: لا تكونوا مخسرين. لأنه يدل على الأمر بالتبرؤ من أهل هذا الصنيع، كما تقدم آنفا في عدة آيات منها قوله {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] في قصة نوح.
والقسطاس: بضم القاف وبكسرها من أسماء العدل، ومن أسماء الميزان، كما في قوله تعالى {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء:35]، حمل على المعنيين هنا كما هنالك وإن كان الوصف بـ {المستقيم} يرجح أن المقصود به الميزان.
وبخس أشياء الناس: غبن منافعها وذمها بغير ما فيها ليضطروهم إلى بيعها بغبن، وأما الفساد فيقع على جميع المعاملات الضارة. والبخس: النقص والذم .. ومن بخس الأشياء أن يقولوا للذي يعرض سلعة سليمة للبيع: إن سلعتك رديئة ليصرف عنها الراغبين فيشتريها برخص. (2)
واعلم أنَّ الكيل على ثلاثة أضرب: وافٍ، وطفيف، وزائد. فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله: {أَوْفُوا الكَيْلَ} ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} ولم يذكر الزائد، لأنه إن فعله فقد أحسن، وإن لم يفعله فلا إثم عليه. ثم لما أمر بالإيفاء بين كيف يفعل، فقال: {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} وهو: الميزان {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} يقال بخسه حقه: إذا نقصه إياه، وهذا عام في كل حق {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} (3)
يقول الشيخ ابن عثيمين: إذا كلتم لأحد فأوفوا الكيل، إذا وزنتم لأحد فأوفوا الوزن .. يمكن أن نقول: إن هذا من باب ضرب المثل، وإن المراد بإيفاء الكيل والميزان إيفاء الحقوق كلها، يعني إذا كان عليكم حقوق فأوفوا الحقوق. إن كانت كيلا فأوفوا الكيل وإن كانت وزنا فأوفوا الوزن.
ولكننا نجد كثيرا من الناس على خلاف هذه الحال، إذا كان الشيء عليهم فرطوا فيه، وإذا كان الشيء لهم أفرطوا فيه، وأضرب لهذا مثلين:-
المثل الأول: بعض الناس يكون عليه الطلب «الدين» فيماطل مع قدرته على الوفاء. يأتيه صاحب الحق يا فلان أعطني حقي، يقول: غدا، أعطني، بعد غد .. ولاسيما إذا كان الحق للدولة، فإن كثيرا من الناس يتهاون به، وذلك في مثل وفاء صندوق التنمية العقارية، لأننا نسمع أن كثيرا من الناس عندهم ما يوفون به الصندوق، ولكن يماطلون، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مطل الغني ظلم» أي القادر على الوفاء. والظلم ظلمات يوم القيامة، إذًا هذا المطلوب الذي يماطل نقول: لم يوف الكيل لأنه لم يوف صاحب الحق حقه.
المثال الثاني: عكس ذلك إذا كان للإنسان حق أراد أن يستوفيه كاملا حتى إنه إذا كان له غريم فقير قال إما أن توفيني وإما أن أرفعك إلى الجهات المسؤولة فتحبس. فيضطر هذا الفقير المدين إلى أن يذهب ويتدين فيتضاعف عليه الدين أضعافا مضاعفة.
مثال آخر: هؤلاء الكفلاء الذين استقدموا العمال، يريدون من العامل أن يقوم بالعمل كاملا ولكنهم لا يوفون العامل أجرة عمله، حتى إن بعض العمال يتقدم يشكو يقول: أنا لي ثلاثة، أربعة .. أشهر عند كفيلي ما أعطاني شيئا، وهذا ظلم وجور، بل قد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه حقه» [البخاري:2150] هؤلاء الذين يتعاملون مع الناس هذه المعاملة إذا كان الحق لهم أخذوا به كاملا، وإذا كان الحق عليهم فرطوا فيه. استمعوا إلى جزائهم يوم القيامة، قال الله تعالى سورة المطففين: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1-6].
ومن ذلك أيضا أن بعض الأزواج يريد من الزوجة أن تقوم بحقه كاملا ولكنه يماطلها بحقها، تجده يريد أن تقوم بكل خدمة البيت على الوجه الأكمل ولكنه لا يعطيها حقها من النفقة حتى الإنفاق الواجب عليه لا يقوم به، وهذا يدخل في المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، وفي هذه الحال يجوز للمرأة إذا امتنع زوجها من إعطائها النفقة الكافية يجوز أن تأخذ من ماله بلا علمه، هكذا أفتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن هند بنت عتبة جاءت تشكو زوجها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالت إنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي بالمعروف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك» [البخاري:6758 ]، لأنه حق لها فإذا بخل به فلها أن تأخذ من ماله بلا علمه. كما أن من النساء من تكون بالعكس تريد من زوجها أن يقوم بحقها كاملا ولكنها هي تنقصه حقه. هؤلاء داخلون في هذه الآية بالقياس الجلي الواضح. (4)
هذه الآية فيها رد على العلمانيين القائلين: لا دخل للدين بالحياة ولا دخل للدين بالاقتصاد، فهذه الآية من أقوى الآيات التي ترد عليهم، فهي تنظم لنا أمور اقتصادنا وتمنع الغش فيما بيننا، وقد قال نحو مقالة هؤلاء العلمانيين الكفرة قوم شعيب لما أُرسل إليهم آمراً إياهم بعبادة الله وعدم تطفيف المكاييل والموازين: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87] يعني: نحن أحرار في أموالنا {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} يعنون السفيه الضال كما أسلفنا.
وشعيب صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة فيها الأمر بإقامة الوزن والمكيال بالقسط {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:85-86]، وقال الله سبحانه: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:181-183]، وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9]، وقال سبحانه: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء:35]، وقال: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، فلابد من الوفاء ولابد من العدل في المكاييل والموازين، وإلا فالتطفيف كبيرة من الكبائر بالاتفاق.
قال الله سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أي: طلبوا من الناس أن يكيلوا لهم {يَسْتَوْفُونَ} يأخذون حقهم مستوفى، يعني إذا اشترى من شخص يقول له: أرجح الكيل.
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن البائع هو الذي يكيل، أو هو الذي يعطي أجرة الكيل لمن يكيل، وقد ورد في الباب حديث في إسناده ضعف إلا أن الضعف فيه قليل: «إذا بعت فكل - أي أنت الذي تكيل- وإذا ابتعت فاكتل -أي اطلب من شخص أن يكيل لك-» فإذا بعت أنت الذي تكيل، وإذا اشتريت يكال لك، فهذه بعض تنظيمات البيوع.
فالفقهاء منهم من بوب باب: صاحب السلعة أحق بالسوم، يعني: صاحب الشيء هو الذي يقول: أنا حاجتي أبيعها بكذا، ويستدل لذلك بما أخرجه البخاري بإسناده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء عليه الصلاة والسلام يشتري من بني النجار حائطهم -أي بستانهم- كي ينشئ فيه المسجد النبوي قال: «يا بني النجار ساوموني بحائطكم» يعني قولوا كم تريدون ثمن حائطكم؟ فهذا رأي فريق من العلماء، ومنهم من رأى أن الأمر في هذا واسع.
الشاهد: أن البائع هو الذي يكيل ويزن، قال الله سبحانه: {الذين إذا اكتالوا} أي: طلبوا من الناس أن يكيلوا لهم {على الناس يستوفون وَإِذَا كَالُوهُمْ} أي: كالوا لهم {أَوْ وَزَنُوهُمْ} أي: وزنوا لهم {يُخْسِرُونَ}، فهذا مثل أن يكون للرجل قدح كبير يشتري به وقدح صغير يبيع به، أو كيلو صنجته كبيرة وكيلو صنجته صغيرة يشتري بهذا ويبيع بهذا، فكل هذا يدخل في الوعيد. (5)
الهوامش
- أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري:3/120 بتصرف
- التحرير والتنوير:19/190 بتصرف
- اللباب في علوم الكتاب:12/269
- مجموع فتواى ورسائل الشيخ ابن عثيمين، الوصايا العشر
- سلسلة التفسير لمصطفى العدوي: 87/4 بتصرف