عيسى السعدي
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
الوسط اسم جامع لما بين الطَّرفين ؛ وهو أحمد الأشياء حسًّا ومعنًى ؛ لأنّ الطّرف يسرع إليه الخلل ؛ فأوسط القوم أفضلهم ؛ قال تعالى : } قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ {[ القلم : 28 ] ؛ أي أعدلهم وخيرهم ، ووسط الوادي خير موضع فيه وأكثره كلأً ، وواسطة العقد أنفس شيء فيها ، وأوسط الصِّفات خيرها وأعدلها ؛ لبعدها عن طرفي الإفراط والتَّفريط ، قال تعالى : } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا {[ البقرة : 143 ] ؛ أي خيارًا عدولاً ، لا مُفرِطين ولا مفرّطين ولا منحرفين إلى غلوّ أو تقصير ([1]) ، قال الطَّبريّ : (( إنّما وصفهم بأنّهم وسط لتوسّطهم في الدِّين ؛ فلا هم أهل غلوّ فيه ، غلوّ النَّصارى الَّذين غلوا بالتَّرهّب ، وقيلهم في عيسى u ما قالوا فيه ، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الَّذين بدّلوا كتاب الله ، وقتلوا أنبياءهم ، وكذبوا على ربَّهم ، وكفروا به ، ولكنّهم أهل توسّط واعتدال فيه ، فوصفهم الله بذلك ؛ إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها ))([2]) ؛ فالإسلام وسط بين الغلوّ والتَّقصير ، وهذا التوسّط مطلب كلّ باحث عن الحقّ في كلّ زمان ، وهو من أهمّ أسباب قبول الإسلام وانتشاره في المعمورة ؛ ولهذا عني العلماء ببسطه وتفصيله ، وإيضاحه وتقريره ؛ وهو باب واسع نقتصر على أهمّ جوانبه ؛ وهي:ـ
1 ـ التَّوحيد والصِّفات ؛ فالمسلمون وسط في التَّوحيد بين اليهود والنَّصارى ؛ فإنّ اليهود وصفوا الربّ بصفات النَّقص المختصّة بالمخلوق ، وشبّهوا الخالق بالمخلوق ؛ فقالوا : إِنَّ الله فقير ، ويد الله مغلولة ، وأنّه تعب لمَّا خلق فاستراح يوم السّبت ، إلى غير ذلك من النّقائص الصَّريحة أو اللازمة ؛ كمنع النَّسخ وإنكاره ؛ لأنّ ذلك يستلزم تعجيز الخالق عمَّا تقتضيه قدرته وحكمته في النُّبوّات والشَّرائع . والنَّصارى قالوا : إِنَّ الله هو المسيح ابن مريم ، أو ثالث ثلاثة ، أو ابن الله ، وقالوا : إنّه يخلق ويرزق ، ويغفر ويرحم ، ويثيب ويعاقب تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا . أمَّا المسلمون فوحّدوا الله تعالى ، ونزّهوه عن النّقائص ، ووصفوه بالكمال المنزّه عن المثل ؛ وقالوا : } إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ {[ النِّساء : 171 ] ، و } مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {[ المائدة : 75 ] .
2 ـ النُّبوّة والولاية ؛ فاليهود جفوا عن كثير من أنبياء الله وأوليائه ، وكذّبوا كثيرًا من الرُّسل ، واستكبروا عن اتّباعهم ، ورموهم بالعظائم ، وكانوا يقتلون الأنبياء بغير حقّ ، ويقتلون الَّذين يأمرون بالقسط من النّاس . والنَّصارى غلوا فيهم ، وأشركوهم في الرُّبوبيّة والألوهيّة ، وأشركوا الحواريين في الرِّسالة ، والأحبار والرُّهبان في النَّسخ والتَّحليل والتَّحريم ! وأمّا المسلمون فآمنوا بأنّ الخلق والأمر لله وحده دون أحد من خلقه ، فهو الَّذي يمحو ما يشاء ويثبت من شرائع الأنبياء ؛ ولهذا آمنوا بهم جميعًا دون أن يفرِّقوا بين أحد من رسله ، وعزّروهم ، وأحبّوهم ، وأنزلوهم منازلهم الَّتي أنزلهم الله تعالى ، فهم رسل لا يكذبون ، وعباد لا يُعبدون ، قال تعالى : } قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {[ آل عمران : 64 ] .
3 ـ العبادة والشَّريعة ؛ فقد حرّم على اليهود كثير من الطيّبات ، وشدّد عليهم في الطَّهارة واجتناب النَّجاسات ، ومع ذلك أضاعوا مقصود الطَّهارة ، وأعرضوا عن العبادة حتَّى في يوم السَّبت الَّذي أُمروا بالتَّفرّغ فيه لعبادة الله تعالى . والنَّصارى استحلّوا كثيرًا من الخبائث ، وباشروا كثيرًا من النَّجاسات ، وعبدوا الله ببدع ما أنزل الله بها من سلطان . وأمّا المسلمون فقد أباح الله تعالى لهم الطيِّبات ، وحرَّم عليهم الخبائث ، وهداهم لدين المرسلين ؛ فعبدوا الله وحده بما شرع ، ولم يعبدوه بالبِدع ؛ قال ابن تَيْمِيَّة ـ رحمه الله ـ : (( هذا هو دين الإسلام الَّذي بعث الله به جمع النَّبيين ؛ وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره ؛ وهو الحنيفيّة دين إبراهيم ؛ فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا ، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر ))([3]) .
وهذا التَّوسُّط والاعتدال يعتبر معلمًا من أهمّ معالم الإسلام ، وقاعدة من أهمّ قواعد الدّعوة إلى الله تعالى ؛ فالفضيلة وسط بين طرفين متقابلين : وهي مطلب العقلاء في كلّ زمان ومكان ؛ ولهذا لم تَرُقْ هذه السِّمة لكثير من أعداء الإسلام ؛ فحاولوا الانحراف به إلى جانب الغلوّ أو التَّقصير ، وكان من أبناء المسلمين فئام لم يقدروا دينهم حقّ قدره ، ولم يعرفوه حقّ المعرفة ؛ فاجتمع تقصير الأبناء ، وبغي الأعداء ، فمالوا بكثير من المسلمين إلى غلوّ أو تقصير ، وكلاهما أمران محبّبان للشّيطان لا يبالي بأيّهما ظفر ؛ قال الأوزاعيّ ـ رحمه الله ـ : (( ما من أمرٍ أمرَ الله به إلاّ عارض الشَّيطان فيه بخصلتين ، لا يبالي أيّهما أصاب : الغلوّ ، أو التَّقصير ))([4]) ، وقال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ : (( إِنَّ دين الله وضع على القصد ، فدخل الشَّيطان فيه بالإفراط والتَّقصير ، فهما سبيلان إلى نار جهنّم ))([5]) .
وكانت أهمّ آثار تحريف أعداء الإسلام وانحراف بعض أبنائه ظهور البدع المتقابلة منذ فجر الإسلام ؛ فظهرت المحكّمة الأولى من الخوارج ، وهي أوّل الفرق ظهورًا ، ثُمَّ ظهرت السبئيّة ، والقدريّة ، والمرجئة ، والجهميّة ؛ وهي الأصول الَّتي تشعّبت عنها الفرق الَّتي أنذر النَّبيُّ e بخروجها في قوله : ((افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً))([6]) ، وفي رواية : ((وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : الْجَمَاعَةُ))([7]) ؛ والمراد بالجماعة هنا أصحاب النَّبيِّ e ومن اتّبعهم بإحسان إلى يوم القيامة ؛ فهم الفرقة النَّاجية المنصورة إلى قيام السّاعة ([8]) ؛ لاستمساكهم بكتاب الله تعالى وسنّة نبيّه e في العقائد والأعمال ؛ ولهذا كانوا وسطًا في الفرق ، كما كان الإسلام وسطًا في الملل ؛ فهم في أسماء الله وآياته وصفاته وسط بين أهل التَّعطيل الَّذين يلحدون في أسماء الله وآياته ، ويعطّلون حقائق ما نعت الله به نفسه ، حتَّى يشبّهوه بالعدم والموات . وبين أهل التَّمثيل الَّذين يضربون له الأمثال ، ويشبّهونه بالمخلوقات . فيؤمن أهل السُّنَّة والجماعة بما وصف الله به نفسه ، وما وصفه به رسوله e من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف وتمثيل .
وهم في باب خلقه وأمره وسط بين القدريّة النُّفاة المكذّبين بقدرة الله وهم المعتزلة الَّذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ، ومشيئته الشَّاملة ، وخلقه لكلّ شيء ، وبين القدريّة الغلاة المفسدين لدين الله وهم الجبريّة الَّذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل ، فيعطّلون الأمر والنهي ، والثَّواب والعقاب . فيؤمن أهل السُّنَّة بأنّ الله على كلّ شيء قدير ، فيقدر أن يهدي العباد ، ويقلّب قلوبهم ، وأنّه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ، ولا يعجز عن إنفاذ مراده ، وأنّه خالق كلّ شيء من الأعيان والصِّفات والحركات . ويؤمنون أنّ العبد له قدرة ومشيئة وعمل ، وأنّه مختار ، ولا يسمّونه مجبورًا ؛ إذ المجبور من أُكره على خلاف اختياره ، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله ، فهو مختار مريد ، والله خالقه وخالق اختياره . وهذا ليس له نظير ؛ فإنّ الله ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله .
وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيديّة الَّذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلّدين في النَّار ، ويخرجونهم من الإيمان بالكليّة ، ويكذّبون بشفاعة النَّبيِّ e ، وبين المرجئة الَّذين يقولون : إيمان الفسّاق مثل إيمان الأنبياء ، والأعمال الصَّالحة ليست من الدِّين والإيمان ، ويكذّبون بالوعيد والعقاب بالكليّة ، فيؤمن أهل السُّنَّة والجماعة بأنّ فُسّاق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله ، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الَّذي يستوجبون به الجنّة ، وأنّهم لا يُخلّدون في النَّار ، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبّة من إيمان ، أو مثقال خردلة من إيمان ، وأنّ النَّبيَّ e ادّخر شفاعته لأهل الكبائر من أمّته .
وهم في أصحاب رسولِ الله e وسط بين الغالية ؛ الَّذين يغالون في عليّ t فيفضّلونه على أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ويعتقدون أنّه الإمام المعصوم دونهما ، وأنَّ الصَّحابة ظلموا وفسقوا بتقديم غيره في الإمامة ، وربما جعله بعضهم نبيًّا أو إلهًا . وبين الجافية النَّاصبة الَّذين يعتقدون كفره ، وكفر عثمان ـ رضي الله عنهما ـ ويستحلّون دماءهما ، ودماء من تولاّهما ، ويقدحون في خلافة عليّ t وإمامته .
وكذلك في سائر أبواب الاعتقاد هم وسط بين الغالي والجافي ؛ لأنّهم متمسِّكون بكتاب الله ، وسنَّة رسوله e ، وما اتّفق عليه السَّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والَّذين اتّبعوهم بإحسان))([9]) .
([1]) انظر : المحرر الوجيز لابن عطيّة 1/219 ، تفسير القرطبي 2/153 ، 154 ، تفسير ابن كثير 1/190 ، 191 .
([2]) تفسير الطبري 2/6 .
([3]) منهاج السنّة النّبويّة 5/171 . وانظر له أيضًا : كتاب الصَّفديّة 2/310 ـ 314 ، الجواب الصّحيح 1/69 ـ 72 ، 2/135 ـ 154 ، مجموع الفتاوى 3/370 ـ 374 .
([4]) انظر : مجموع الفتاوى 3/381 ، كشف الخفاء للعجلوني 1/470 .
([5]) نوادر الأصول للحكيم الترمذي 1/167 .
([6]) سنن أبي داود : كتاب السُّنَّة ، ح ( 3980 ) . وإسناده صحيح . انظر : سلسلة الأحاديث الصّحيحة ، ح ( 203 ) 1/356 .
([7]) سنن ابن ماجه : كتاب الفتن ، ح ( 3982 ) . وإسناده جيّد . انظر : سلسلة الأحاديث الصّحيحة ، ح ( 1492 ) ، 3/480 .
([8]) انظر : الاعتصام للشَّاطبيّ 2/262 ، التّنبيهات السنيّة للرّشيد ص 15 .
([9]) نقلاً عن مجموع الفتاوى 3/373 ـ 386 [ بتصرّف يسير ] . وانظر : كتاب الصّفديّة 2/313 ، 314 ، الجواب الصّحيح 1/71 ـ 76 ، شرح الطّحاويّة ص 518 ـ 528 .