أبو سعد الغامدي
New member
- إنضم
- 26/02/2009
- المشاركات
- 1,878
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
ضحايا المتشابهات عكسوا فانتكسوا
د. خليل بن عبد الله الحدري لجينيات ـ دعوني آخذكم اليوم إلى ثلاث آيات بينات من سورة آل عمران لعلكم تكتشفون بعدها السر في الإيراد .. واللبيب بالإشارة يفهمُ ..
قال ربكم جل شأنه :" هو الذين أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا ألو الألباب * ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب * ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد "
في الآية الأولى قسَّم ربنا جل ثناؤه القرآن إلى قسمين : قسم وصفه بأنه ( آيات محكمات ) يعني واضحات بينات لا تحتمل من التأويل إلا وجها واحد ولا تلتبس على أحد من الناس ، وقسْم وصفه بأنه ( أخر متشابهات ) يعني غير واضحات المعاني ولا بينات الدلالة بل تلتبس في دلالاتها على كثير من الناس لأنها تحتمل من التأويل أوجهاً ، وبه قال إمام المفسرين الإمام ابن جرير الطبري وابن كثير رحمهما الله وغيرهم من أئمة التفسير الأثبات .
ثم قسم ربنا - سبحانه - الناس في التعامل المنهجي مع هذه الآيات إلى قسمين : قسم جعل تخصصه في حمل الناس على المحكمات لعلمه أن مشاريع الأمة الدينية والدنيوية لا تقوم إلا عليها .
وقسم جعل تخصصه في تتبع ( المتشابهات ) التي لا يمكن أن تقوم عليها مشاريع الأمة الدينية ولا تصلح بها نهضتها التنموية الدنيوية ..
وهؤلاء هم زائغو القلوب مرضى العقول ، اللاهثون وراء الفتنة الذين ( عكسوا فانتكسوا ) كما يقول ابن كثير رحمه الله ..
إنهم فئام من مثقفي أمتنا لا تهمهم قضاياها ولا يتمعرون لمشكلاتها وهم أحد أعمدتها التي تحطمت تحت ضعف يقينهم بالله من جهة وضغط واقع الحياة من حولهم من جهة أخرى .
تجمع مقالاتهم وتستعرض أطروحاتهم فلا تجدهم إلا عن المحكمات معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة .. يعرضون عن محكمات العقيدة ومحكمات الأخلاق ومحكمات الإعلام ومحكمات الاقتصاد ومحكمات السياسة ومحكمات الفكر ومحكمات الحياة الاجتماعية ... الخ .. وإذا بحثت في سبب هذا الإعراض وجدته يكمن في انحرافهم المنهجي عن تلقي المعرفة بعد أن زاغوا - بطوعهم اختيارهم - عن المحكمات فأزاغ الله قلوبهم بالمتشابهات .
قل لي بربك أيها العاقل : هل سمعتهم يتحدثون عن موالاة الكافرين من دون المؤمنين كمحكم من محمكات العقيدة ؟؟!! هل سمعتهم يتحدثون عن الاستقامة على الكتاب والسنة – بعيدا عن أي انتماء حزبي أو طائفي أو غيرها - ويدعون الناس إلى ذلك كمحكم من محكمات الأخلاق ؟؟!!
هل سمعتهم يتحدثون عن ميثاق الشرف الإعلامي المنبثق من عقيدة المجتمع وشريعته الربانية وما تضمنه النظام الأساسي للحكم في بلادهم ؟؟!! هل سمعتهم يتحدثون عن تبرج الجاهلية الأولى في البرامج الإعلامية عبر مظاهره المختلفة محذرين المرأة والأسرة من قنوات ( السحق القيمي ) للدين والعفاف والمروءة ، وهل رأيتهم ينكرون على المرأة العاملة في مجال الإعلام كشف ما أجمعت الشرائع على وجوب ستره كالشعر والصدر والساقين والذراعين وما فوق ذلك ؟؟ !! وهذه بعض المحكمات الإعلامية التي يجب أن يلتزمها الإعلام في بلاد المسلمين وعلى الأخص في قبلة العالم وبلاد الحرمين الشريفين .
هل سمعتهم يتحدثون عن تحريم الربا ويحذرون الناس مغبة حربهم لله تعالى كمحكم من محكمات الاقتصاد ؟؟!! هل سمعتهم يتحدثون عن أن الفكر البشري المرتبط بقدرات العقل البشري قاصر عن تلبية مطالب الناس بعمق وشمول واتزان ؟؟!! وأن من كانت هذه حاله فقد وجب أن يزم بزمام الشرع الحنيف كمحكم من محكمات الفكر .
هل سمعتهم يتحدثون عن خطورة تحويل المرأة إلى سلعة استهلاكية رخيصة تستدر بها الأموال وتشبع بها النزوات وتسوق بها البرامج الفضائية الساقطة كمحكم من محكمات الحياة الاجتماعية ؟؟!! هل سمعتهم يتحدثون عن محكمات المنهج العلمي في تلقي المعرفة باعتماد الوحيين في طليعة سلم تلقي المعرفة ؟؟!!
هل سمعتهم يوما من الدهر يتلون عليك ضابط ذلك التلقي في قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ... " ؟؟!! هل هم يعتمدون منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين في فهم الدين ؟؟!! فتسمع في أطروحاتهم قوله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث افتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، فيسأله الصحابة عنها فيحددها بضابط علمي جلي جامع مانع في قوله صلى الله عليه وسلم:" من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " ؟؟!! هل سمعتهم يعظمون ورثة الأنبياء وينزلونهم منازلهم وفد زكاهم نبيهم صلى الله عليه وسلم فقال :" العلماء ورثة الأنبياء " وهذه كلها بعض محكمات المنهج المنجي من تفرق الصف واختلاف الكلمة ؟؟!! .
الجواب : لا .. نحن لم نسمعهم يوما من الدهر يتحدثون في هذه المحكمات !! إنهم لا يحبون الحديث عنها ولا يحبذونه ، قل لي لماذا ؟ وستجد ربك الكريم يقول لك في محكم البيان مجيبا عن هذا السؤال :" فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ... "
إن ربك يجلي أهدافهم في أمرين اثنين : ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .. فأما ابتغاء الفتنة فهاهم يبيتونها من الليل وينشرونها في النهار عبر وسائل الإعلام المختلفة ، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنها الفتنة ليس إلا .. وإذا ما أرادوا الضحك على الناس قالوا ( المهم هو الإرهاب ومحاربته ) يقصدون إرهاب السلاح ، متناسين الطرف الآخر من المعادلة الإرهابية وهو الإرهاب الفكري والقيمي التغريبي الوارد في قوله تعالى:" والفتنة أشد من القتل " إي والله !! فإن فتنة الناس في دينهم أشد من فتنتهم في دنياهم وقد شهد الله على منتهجي طريقهم بذلك في صريح الآية السابقة .. غير أن المختصين في تتبع المتشابهات قد عشيت عيونهم عن رؤية الحقيقة .
وأما ابتغاء تأويله فمن يستقرىء طروحاتهم يقف على صنوف من هذا التأويل الخطير للنصوص الشرعية لتوافق مراداتهم العقلية القاصرة أو لتوافق شهواتهم التي استحكمت في نفوسهم فما استطاعوا منها فكاكا .
ثم يأتي التحديد الدقيق من المولى سبحانه لموقف الراسخين في العلم تجاه هذين القسمين – المحكمات والمتشابهات – في قوله تعالى " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل – المحكم والمتشابه – من عند ربنا " .. وهو سلوك الواعين الذين جمعوا بين الذكاء والزكاء " وما يذكر - في التفريق بين المحكم والمتشابه وحسن التعامل معهما - إلا ألو الألباب " أما الذين في قلوبهم زيغ فأنى لهم الذكرى وقلوبهم مُجَخِّية لم تجد المحكمات إليها سبيلا .
ثم جاءت الآية الثانية في صورة دعاء يستلهمه المؤمن بأن يجنبه الله سلوك أرباب الفتنة والتأويل الباطل : " ربنا لا تزغ قلوبنا " فنفعل كما فعل ضحايا المتشابهات .. " وهب لنا من لدنك رحمة - نسلك بها بعد توفيقك سبيل الراسخين في العلم – إنك أنت الوهاب " .. ولن يتحقق ذلك إلا بالمعالجة التربوية القرآنية التي تفتح القلب على الآخرة كما نصت عليه الآية الثالثة " ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ... " وما أعجب تناسب هذه الآيات ووحدتها الموضوعية .
تعال يا ضحية المتشابهات !!! يا مبتغي فتنة الناس عن محكمات دينهم وقيمهم وأخلاقهم !!! ثكلتك أمك !!! أنسيت أنك رقم في إحصائية ذلك اليوم حين تقف بين يدي الله تعالى قد تجردت من كل شيء ، فيسألك : أين سارت بك المتشابهات ؟ وكم خلفت من التضليل والتجهيل والتخبيل ؟ ألهذا خلقت ؟ ألهذا منحت السمع والبصر والفؤاد والمنبر ؟؟؟!!! ونسيت أنك عن كل ذلك مسؤول .. أم أنك تشك في وقوع ذلك اليوم أو تستبعده ؟؟ لا .. لا .. إن الله يختم الآية بقوله تباركت أسماؤه " إن الله لا يخلف الميعاد " وهو ورب البيت أقرب إليك من شراك نعلك .
إنها منهجيتنا التربوية أيها العقلاء .. منهجية تفتح القلب على الآخرة ليحدث ثورة هائلة في عالم السلوك .
أولستم تقرؤون سورة المطففين ؟ بدأت بالحديث عن الانحراف الاقتصادي - الفردي منه والعالمي الشخصي والمؤسسي - وانتهت بالانحراف الاجتماعي - الفردي والعالمي الشخصي والمؤسسي - في السخرية بالله ورسوله وآياته والمؤمنين وتقطيع أواصر المودة بين المسلمين عبر جهود فردية وإعلامية عالمية ومؤتمرات دولية وصحف أممية وأقليمية وبرامج فكرية ( راندوية ) يسعى إلى تنفيذها ( السدنة الأبرار ) علموا أم لم يعلموا .. وكانت المعالجة التربوية القرآنية بما ورد بين الانحرافين من الآيات الكريمات اللواتي تضمنتها السورة ، وهي الآيات الواردة بين قوله تعالى : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين * وقوله تعالى :" وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " وإذا تأملت بقية الآيات الورادة بين الانحرافين وجدتها تصف اليوم الآخر وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين والمنافقين .
أولستم تقرأون سورة العلق وتقفون على معالمها العامة المتمثلة في الأمر بالقراءة النظرية والتطبيقية ومواجهة الطغيان والثبات على المبادىء ، فلماذا ورد في وسطها قوله تعالى :" إن إلى ربك الرجعى " ؟؟!!
إنه التوافق العجيب في هذه الآيات الذي يؤكد على أن التزام المسلم مُثُله العليا وقيمه الكبرى وأن معالجة الانحرافات السلوكية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها إنما يتم عن طريق استهداف القلب وتذكيره بالآخرة والمثول فيها بين يدي أحكم الحاكمين ، تأملوها في السور الثلاث - آل عمران والمطففين والعلق - " ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ... ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ... إن إلى ربك الرجعى " لتعلموا أن الذين يُخرجون الوعظ عن العمل الثقافي والتربوي قوم ليس لهم في الصنعة التربوية ورد ولا صدر ، وليس لهم بها علاقة لا من قبيل ولا دبير .
وليت الأمر وقف عند هذا لهان علي ما ألقى ولكن !! إنهم تجاوزوا الحد فجعلوا هذا المنهج القرآني في تحريك القلب - سعيا لضبط السلوك - عملاً هشاً ولغة إنشائية ومنهجية عاطفية وأسلوباً ساذجاً وطريقة باردة جامدة مدغدغة للعواطف ليس إلا .. وهم – كما يزعمون - أهل لغة علمية كمية كيفية عقلية إحصائية .
لكن الذي يحسم الأمر أننا حين نستقرىء النصوص الشرعية المحكمة – وبلغة علمية قرآنية كمية وكيفية - نجد أن الوعظ بالآخرة أحد متطلبات السلوك السوي .. وأن من ابتغى تغيير السلوك وتصحيح الانحراف في حيدة عنه وغفلة منه إنما هو مبتغ في الماء جذوة نار .. والغريب العجيب أن الذي يفعل ذلك يطمس من عقله واقع الأنظمة البشرية والقوانين الوضعية في العالم التي ابتكرت من برامج الترغيب والترهيب ما تحاول به ضبط سلوك الناس فلم تحقق من الإنجاز ما يكافىء جهودها الضخمة جدا في المكافحة ، حتى بلغ بها الأمر حد استخدام الأقمار الصناعية لمكافحة الجريمة ومع ذلك فالجريمة في تنامي مستمر وخطير باتت تنطق بمعدلاتها المتنامية مراكز البحث العلمي ودوائر المعارف العالمية ..
وفي الختام .. تعالوا نعلنها بكل شجاعة أدبية ولغة موضوعية ولنعترف بأن إشغال الناس بالمتشابهات وإغفال المحكمات ضرر محض وشر مستطير ، خاصة حين يتبرع الإعلام فيفتح لها منابره المختلفة ويغلق دون تفنيدها أقلام الناصحين – وسيكون ضحية ذلك على المدى القريب والبعيد الفردَ والأسرةَ والمجتمعَ والأمةَ .. تعالوا نعترف بأن الوعظ بالآخرة – كأحد متطلبات السلوك السوي للفرد والمجتمع - سبيلٌ لصناعة الإنسان قبل صناعة الأوطان .. غير أن صرعى المتشابهات أعداء ما جهلوا أو تجاهلوا .. وهذا كتابنا ينطق عليهم بالحق .. والله يستنسخ ما كانوا يعملون .
د . خليل بن عبدالله الحدري
المصدر : لجينيات .