مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
لا تزال الوقفات مع الإمام ابن عطية في لطائفه ودقائقه في ( التفسير بالمثال ) ، ومن هذه التخريجات التي كان يعمل بها فيما يرد عن السلف من ألفاظ توهم التخصيص للفظ العام ما يأتي :
(1) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (الأنفال : 1)
قال الإما ابن عطية : (( وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال : (الأنفال ) الأسارى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم )) .
تأمل هذا القول الغريب الذي لو عُرض على واحد منا لاستنكره واستبعده من أول الأمر ، لكن الإمام ـ رحمه الله ـ يذهب بسعة نظره إلى أن هذا يدخل في باب المثال .
وإذا تأمَّلت الحال ، وجدت أن الأنفال : هي الزيادة التي يغنمها المسلمون فوق النصر ، والأسارى مما يدخل في كونه فوق ما أتاهم من النصر ؛ ولأن الأسارى قد يُفدون بالمال ، فيؤول الأمر إلى غنيمة معتبرة معروفة .
فائدة : لا يلزم من ورود هذا القول عن الشعبي أنه صحيح في النقل عنه ، بل في الأمر شكُّ في صحة ذلك لتفرد النقاش ( ت 351 ) في النقل ، والنقاش ينقل كثيرًا من الغرائب والموضوعات ، لذا لا يُعتدُّ بانفراده في مثل هذه الحال .
ومما ورد في ترجمته في كتاب ( الوافي بالوفيات ) : ((النقاش المفسر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هرون بن جعفر بن سند المقرئ أبو بكر المعروف بالنقاش الموصلي الأصل البغدادي عالم بالقرآن والتفسير، صنف تفسيرا سماه شفاء الصدور ... ذُكر عند طلحة بن محمد بن جعفر قال كان يكذب في الحديث والغالب عليه القصص، وقال البرقاني: كل حديث النقاش مناكير ليس في تفسير حديث صحيح، وقال هبة الله اللالكائي الحافظ: تفسير مناكير النقاش اشفاء الصدور ليس شفاء الصدور، قال الخطيب: في حديثه مناكير بأسانيد مشهورة ... وقد اعتمد صاحب التيسير على رواياته، قال الشيخ شمس الدين: الذي وضح أن هذا الرجل مع جلالته ونبله متروك ليس بثقة، وأجود ما قيل فيه قول أبي عمرو الداني: النقاش مقبول الشهادة، توفي سنة إحدى وخمسين وثلث مائة وولد سنة ست وقيل سنة خمس وستين ومائتين )) .
(2) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الأنفال : 71)
قال القاضي أبو محمد : (( وأما تفسير هذه الآية بقصة عبد الله بن أبي سرح فينبغي أن يحرر ، فإن جلبت قصة عبد الله بن أبي سرح على أنها مثال كما يمكن أن تجلب أمثلة في عصرنا من ذلك فحسن ، وإن جلبت على أن الآية نزلت في ذلك فخطأ ، لأن ابن أبي سرح إنما تبين أمره في يوم فتح مكة ، وهذه الآية نزلت عقيب بدر )) .
لله در هذا الإمام ، تأمل هذا التحليل المحرَّر ، والتدقيق المُنيف ، إن مثل هذا التخريج المحرر لمثل هذا القول لهو تدريب عملي لطالب علم التفسير ، يعرف به كيف يخرج من مضايق مشكلات بعض الآثار ، فلا يعجل عليها بالنقض والرد ، بل يذهب بها إلى توجيه محتمل مقبول ، فإن لم يمكن فساعتئذ يكون النقض .
أما التفسير الذي ذكره فقد ورد عن قتادة عند الطبري بالسند الآتي : (( حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(وإن يريدوا خيانتك) الآية، قال: ذكر لنا أن رجلا كتب لنبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم عمد فنافق، فلحق بالمشركين بمكة، ثم قال: "ما كان محمد يكتب إلا ما شئت!" فلما سمع ذلك رجل من الأنصار، نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح، أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومِقْيَس بن صُبابة، وابن خطل، وامرأة كانت تدعو على النبيّ صلى الله عليه وسلم كل صباح. فجاء عثمان بابن أبي سرح، وكان رضيعه = أو: أخاه من الرضاعة = فقال: يا رسول الله، هذا فلان أقبل تائبًا نادمًا! فأعرض نبي الله صلى الله عليه وسلم . فلما سمع به الأنصاريّ أقبل متقلدًا سيفه، فأطاف به، وجعل ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم يده فبايعه، فقال: أما والله لقد تلوَّمتك فيه لتوفي نذرك! فقال: يا نبيّ الله إنيّ هِبْتك، فلولا أوْمضت إليّ! فقال: إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يومض)) .
وما قاله الإمام ابن عطية عين التحقيق ويقينه ، فالآية ـ بلا ريب ـ نزلت بشأن بدر ، وقصة ابن أبي سرح كانت بعدها ، وإذا تأملت حاله وجدته يدخل في عموم من خان فأمكن الله منه ، فيكون ذكر حاله مثالاً لهذا لمعنى الآية .
أما لو كان القائل زعم أنها نزلت بسببه ، فإنه يلزمه أن يثبت تأخُّر نزول هذه الآية عن وقعة بدر التي نزلت هذه السورة بشأنه ، فإن لم يكن ثمَّ إثبات ، فإن هذا الزعم ـ لو كان ـ خطأ بلا ريب .
ثم تأمل هذا التوسيع في التَّنْزيل على الواقع الذي نهجه الإمام في هذا المثال ، فقد قال : ((كما يمكن أن تجلب أمثلة في عصرنا من ذلك )) ، وهذا يفيدنا في أن القرآن الكريم يخاطبنا ويشرح لنا أحوالنا ، وأننا يمكن أن نحمل كثيرًا مما يقع بنا على آيات القرآن فتكون كأنها إنما نزلت ناطقة بما يحصل من أمرنا اليوم ، ولعمر الله إن هذا لمن أعجاز القرآن الكريم الذي يبقى بتجدده لا يخلق على مدى الأزمان ، فما حفت بمسلم نازلة ولا مصيبة فطلبها في القرآن إلا وجد فيه ما يغنيه فيها ، لكننا مبتلون بقلة الفقه في كتاب الله ، أسال الله لي ولكم الفقه في كتابه .
تأمل قوله تعالى : (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) ، ثم تأمل حالك الشخصي ، ثم حال أمتك من حولك ؛ ألا تجد أن في حياتك التي تعيشها أمثلة كثيرة تدخل في عموم هذه الآية ؟!
(3) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (التوبة : 12)
قال الإمام ابن عطية : (( وقال قتادة : المراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهما .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إن لم يتأول أنه ذكرهم على جهة المثال ضعيف لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير )) .
أقول : أما المروي عن قتادة ، فقد أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره عن شيخه معمر عن قتادة ، قال : (( أبو سفيان بن حرب ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وهم الذين نكثوا عهد الله ، وهموا بإخراج الرسول ، وليس والله كما يتأول أهل الشبهات والبدع ، والفري على الله تعالى وعلى كتابه )) .
وفي المروي عن قتادة أمر لابد من التنبه له ، وهو أن ما حمله عليه الإمام من التمثيل صحيح بلا ريب ؛ لأن بعض من ذكرهم قتادة قد أسلموا وحسُن إسلامهم ، ولم يكنوا من الناكثين لعهد الله كغيرهم من الكفار الذين ماتوا على الكفر ، فأبو سفيان وسهيل بن عمرو ممن أسلم في عام الفتح وحسن إسلامه ، فالخطاب متعلق بهم حال كفرهم فقط ، فلما انتقلوا إلى الإيمان خرجوا من هذا الخطاب .
وأما ملحظ الإمام الثاني ـ وهو معتمد على تاريخ الواقعة وتاريخ النُّزول ـ فيشير إلى أن قتادة يذهب إلى التنبيه على أن الآية تشمل هؤلاء حال كفرهم يوم بدر ، ولا يلزم منه أن من آمن منهم ومات على الإيمان باقٍ في شمول الآية له ، ولو كان يذهب إلى أنهم داخلون في معنى الآية حال نزولها فهذا خطأ بين ظاهر ، ولا يُتصوَّر بحافظ الأمة قتادة أن يذهب هذا المذهب ؛ لذا يحسن بنا أن نحمل تفسيره على التمثيل لبعض أئمة الكفر في وقت من أوقات كفرهم ، مع أن منهم من آمن بالله .
( 4) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
قال الإمام ابن عطية : (( وذكر الناس من معاني الخفة والثقل أشياء لا وجه لتخصيص بعضها دون بعض ، بل هي وجوه متفقة ، فقيل : الخفيف : الغني ، والثقيل : الفقير ، قاله مجاهد .
وقيل : الخفيف : الشاب ، والثقيل : الشيخ ، قاله الحسن وجماعة .
وقيل : الخفيف : النشيط ، والثقيل : الكاسل ، قاله ابن عباس وقتادة .
وقيل : المشغول ومن لا شغل له ، قاله الحكم بن عيينة وزيد بن علي .
وقيل : الذي له ضيعة هو الثقيل ، ومن لا ضيعة له هو الخفيف ، قاله ابن زيد .
وقيل : الشجاع هو الخفيف ، والجبان هو الثقيل ، حكاه النقاش .
وقيل : الراجل هو الثقيل ، والفارس هو الخفيف ، قاله الأوزاعي .
قال القاضي أبو محمد : وهذان الوجهان الآخران ينعكسان ، وقد قيل ذلك ، ولكنه بحسب وطأتهم على العدو ، فالشجاع هو الثقيل ، وكذلك الفارس .
والجبان هو الخفيف ، وكذلك الراجل .
وكذلك ينعكس الفقير والغني ، فيكون الغني هو الثقيل بمعنى صاحب الشغل ، ومعنى هذا أن الناس أمروا جملة .
وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة ...)) .
أقول : هانحن أما أقوال متعددة تصل إلى سبعة ، ومع هذا فإن الإمام ببصره بعبارات السلف ، وتحريره في مراداتهم يختصر علينا المقام ، ويهب إلى أن هذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة ، وبهذا التخريج لا تجد أي حرج من كثرة هذه الأقوال ، ولا تحتاج إلى أن تبحث عن المراد منها دون غيره ، بل كلها داخلة في المراد .
وكون العموم هو المراد في الآية هو ما ذهب إليه الطبري ونبَّه عليه ، ثم تبعه ابن عطية ـ رحم الله الجميع ـ ، قال الطبري : (( وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنَّفر لجهاد أعدائه في سبيله، خفافًا وثقالا. وقد يدخل في "الخفاف" كل من كان سهلا عليه النفر لقوة بدنه على ذلك، وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا يُسْرٍ بمالٍ وفراغ من الاشتغال، (1) وقادرًا على الظهر والركاب.
ويدخل في "الثقال"، كل من كان بخلاف ذلك، من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن مُعسِرٍ من المال، ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهرَ له ولا ركاب، والشيخ وذو السِّن والعِيَال.
فإذ كان قد يدخل في "الخفاف" و"الثقال" من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا، ولم يكن الله جل ثناؤه خصَّ من ذلك صنفًا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نَصَب على خصوصه دليلا وجب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافًا وثقالا مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخفّة والثقل )) .
وهذا التعدد في الأقوال في التمثيل للفظ العام لا يضيرك حتى لو بلغ أكثر من عشرة ما دام يصدق عليه مدلول اللفظ العام ، والله أعلم .
5 ـ قوله تعالى : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) ( هود : 114 ) .
قال الإمام ابن عطية : (( وقوله ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن ( الحسنات ) يراد بها الصلوات الخمس - وإلى هذه الآية ذهب عثمان - رضي الله عنه - عند وضوئه على المقاعد(1) وهو تأويل مالك .
وقال مجاهد : ( الحسنات ) : قول الرجل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات ، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال ، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السلام : ( ما اجتنبت الكبائر ) ... )) .في هذا الكلام عدد من التنبيهات :
التنبيه الأول : ورد تفسير الحسنات بالصلوات الخمس عن جمع من السلف كما أشار إلى ذلك الإمام ابن عطية ، ويبدو أن السرَّ في اختيارهم هذا المثال أن السِّباق قد مضى بقوله : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، فكان تنبيههم على أن الحسنات الصلوات تنبيه له مقصده ، وقد ذكر الإمام ابن عطية علَّة أخرى في ذكر هذا القول ، واستشهد له بما يعضده ،فقال : ((ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال ، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السلام : (ما اجتنبت الكبائر) ... )) .
التنبيه الثاني : ذكر في سبب نزول هذه الآية الخبر المشهور ، وقد سلك في روايته له مسلك ذكر ما يتضمنه من معنى دون ذكر النص بالتحديد ، والخبر له روايات متعددة كما أشار الإمام ، قال : ((وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار ، قيل : هو أبو اليسر بن عمرو ، وقيل : اسمه عباد ، خلا بامرأة فقبلها وتلذّذ بها فيما دون الجماع ، ثم جاء إلى عمر فشكا إليه ، فقال : قد ستر الله عليك فاستر على نفسك ، فقلق الرجل فجاء أبا بكر فشكا إليه ، فقال له مثل مقالة عمر ، فقلق الرجل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى معه ، ثم أخبره وقال : اقض فيَّ ما شئت ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلها زوجة غاز في سبيل الله ، قال : نعم ، فوبخه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أدري ، فنزلت هذه الآية ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاها عليه : فقال معاذ بن جبل : يا رسول الله خاصة؟ قال : بل للناس عامة . وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ )) . والسؤال الذي يرد : هل يؤثر هذا الخبر على الحكم بالتفسير بالمثال ؟
الجواب : إن من القواعد التي استنبطتها من تعليق العلماء على علاقة أسباب النُّزول بالألفاظ العامة (أن أسباب النزول ـ إن تعددت ـ إنما هي أمثلة للمعنى العام )، ومن ثَمَّ ، فإننا نظر إلى صحة اندراج المعنى المذكور في أسباب النُّزول المتعددة في معنى اللفظ العامِّ ، فإذا كانت تندرج تحت هذا المعنى العام ، فلا يضير تعدُّدها ، ونجعلها أمثلة للفظ العام ، وما ذُكر في هذا الخبر يندرج تحت قوله تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) .
وفي سياق هذا الخبر لطائف علمية :
أولها : إذا كان سبب نزول هذه الآية هو الرجل التَّمار ، كما ورد في صحيح مسلم الذي روى بسنده عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ - قَالَ - فَنَزَلَتْ (أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) .
قَالَ : فَقَالَ الرَّجُلُ : أَلِىَ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِى )) .
فيحتمل أن تكون هذه الآية مدنية نُزِّلت في سورة مكية .
ثانيها : أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استدلَّ بهذه الآية على دخول حال الرجل التَّمار في عموم لفظ قواه تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، وقد ورد في الرواية الأخرى التي رواها الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ، قَالَ : (( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : (( يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى عَالَجْتُ امْرَأَةً فِى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّى أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِىَّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ - قَالَ - فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ ، فَأَتْبَعَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً دَعَاهُ وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ (أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : يَا نَبِىَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً ؟!
قَالَ : بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً )) .
وهذا يعني أن الآية مكيَّة ـ وهذا هو الأصل ـ وأن حال الرجل يدخل في عموم الآية ، كما ورد في آخر الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِى )) ، وفي الرواية الأخرى : ((بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً )) .
ويمكن أن يكون الإخبار بالنُّزول فيه توسع في التعبير ، وأن المراد بقوله في الرواية الأولى ( فنزلت ) ليس ابتداء النُّزول ، وإنما المراد بها التلاوة وتنْزيل الآية على حال الرجل بدلالة الرواية الأخرى : ((وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ )) .
وإلى وقفة أخرى إن شاء الله تعالى .
ـــــــــــ
(1) يشير إلى أثر ذكره الطبري في تفسير هذه الآية عن عثمان بن عفان ، وفيه : (( جلس عثمان بن عفان يومًا على المقاعد = فذكر نحوه ـ أي حديث من توضأ وضوئي هذا ... ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه قال: "وهن الحسنات إن الحسنات يذهبن السيئات )) .
(1) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (الأنفال : 1)
قال الإما ابن عطية : (( وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال : (الأنفال ) الأسارى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم )) .
تأمل هذا القول الغريب الذي لو عُرض على واحد منا لاستنكره واستبعده من أول الأمر ، لكن الإمام ـ رحمه الله ـ يذهب بسعة نظره إلى أن هذا يدخل في باب المثال .
وإذا تأمَّلت الحال ، وجدت أن الأنفال : هي الزيادة التي يغنمها المسلمون فوق النصر ، والأسارى مما يدخل في كونه فوق ما أتاهم من النصر ؛ ولأن الأسارى قد يُفدون بالمال ، فيؤول الأمر إلى غنيمة معتبرة معروفة .
فائدة : لا يلزم من ورود هذا القول عن الشعبي أنه صحيح في النقل عنه ، بل في الأمر شكُّ في صحة ذلك لتفرد النقاش ( ت 351 ) في النقل ، والنقاش ينقل كثيرًا من الغرائب والموضوعات ، لذا لا يُعتدُّ بانفراده في مثل هذه الحال .
ومما ورد في ترجمته في كتاب ( الوافي بالوفيات ) : ((النقاش المفسر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هرون بن جعفر بن سند المقرئ أبو بكر المعروف بالنقاش الموصلي الأصل البغدادي عالم بالقرآن والتفسير، صنف تفسيرا سماه شفاء الصدور ... ذُكر عند طلحة بن محمد بن جعفر قال كان يكذب في الحديث والغالب عليه القصص، وقال البرقاني: كل حديث النقاش مناكير ليس في تفسير حديث صحيح، وقال هبة الله اللالكائي الحافظ: تفسير مناكير النقاش اشفاء الصدور ليس شفاء الصدور، قال الخطيب: في حديثه مناكير بأسانيد مشهورة ... وقد اعتمد صاحب التيسير على رواياته، قال الشيخ شمس الدين: الذي وضح أن هذا الرجل مع جلالته ونبله متروك ليس بثقة، وأجود ما قيل فيه قول أبي عمرو الداني: النقاش مقبول الشهادة، توفي سنة إحدى وخمسين وثلث مائة وولد سنة ست وقيل سنة خمس وستين ومائتين )) .
(2) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الأنفال : 71)
قال القاضي أبو محمد : (( وأما تفسير هذه الآية بقصة عبد الله بن أبي سرح فينبغي أن يحرر ، فإن جلبت قصة عبد الله بن أبي سرح على أنها مثال كما يمكن أن تجلب أمثلة في عصرنا من ذلك فحسن ، وإن جلبت على أن الآية نزلت في ذلك فخطأ ، لأن ابن أبي سرح إنما تبين أمره في يوم فتح مكة ، وهذه الآية نزلت عقيب بدر )) .
لله در هذا الإمام ، تأمل هذا التحليل المحرَّر ، والتدقيق المُنيف ، إن مثل هذا التخريج المحرر لمثل هذا القول لهو تدريب عملي لطالب علم التفسير ، يعرف به كيف يخرج من مضايق مشكلات بعض الآثار ، فلا يعجل عليها بالنقض والرد ، بل يذهب بها إلى توجيه محتمل مقبول ، فإن لم يمكن فساعتئذ يكون النقض .
أما التفسير الذي ذكره فقد ورد عن قتادة عند الطبري بالسند الآتي : (( حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(وإن يريدوا خيانتك) الآية، قال: ذكر لنا أن رجلا كتب لنبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم عمد فنافق، فلحق بالمشركين بمكة، ثم قال: "ما كان محمد يكتب إلا ما شئت!" فلما سمع ذلك رجل من الأنصار، نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح، أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومِقْيَس بن صُبابة، وابن خطل، وامرأة كانت تدعو على النبيّ صلى الله عليه وسلم كل صباح. فجاء عثمان بابن أبي سرح، وكان رضيعه = أو: أخاه من الرضاعة = فقال: يا رسول الله، هذا فلان أقبل تائبًا نادمًا! فأعرض نبي الله صلى الله عليه وسلم . فلما سمع به الأنصاريّ أقبل متقلدًا سيفه، فأطاف به، وجعل ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم يده فبايعه، فقال: أما والله لقد تلوَّمتك فيه لتوفي نذرك! فقال: يا نبيّ الله إنيّ هِبْتك، فلولا أوْمضت إليّ! فقال: إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يومض)) .
وما قاله الإمام ابن عطية عين التحقيق ويقينه ، فالآية ـ بلا ريب ـ نزلت بشأن بدر ، وقصة ابن أبي سرح كانت بعدها ، وإذا تأملت حاله وجدته يدخل في عموم من خان فأمكن الله منه ، فيكون ذكر حاله مثالاً لهذا لمعنى الآية .
أما لو كان القائل زعم أنها نزلت بسببه ، فإنه يلزمه أن يثبت تأخُّر نزول هذه الآية عن وقعة بدر التي نزلت هذه السورة بشأنه ، فإن لم يكن ثمَّ إثبات ، فإن هذا الزعم ـ لو كان ـ خطأ بلا ريب .
ثم تأمل هذا التوسيع في التَّنْزيل على الواقع الذي نهجه الإمام في هذا المثال ، فقد قال : ((كما يمكن أن تجلب أمثلة في عصرنا من ذلك )) ، وهذا يفيدنا في أن القرآن الكريم يخاطبنا ويشرح لنا أحوالنا ، وأننا يمكن أن نحمل كثيرًا مما يقع بنا على آيات القرآن فتكون كأنها إنما نزلت ناطقة بما يحصل من أمرنا اليوم ، ولعمر الله إن هذا لمن أعجاز القرآن الكريم الذي يبقى بتجدده لا يخلق على مدى الأزمان ، فما حفت بمسلم نازلة ولا مصيبة فطلبها في القرآن إلا وجد فيه ما يغنيه فيها ، لكننا مبتلون بقلة الفقه في كتاب الله ، أسال الله لي ولكم الفقه في كتابه .
تأمل قوله تعالى : (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) ، ثم تأمل حالك الشخصي ، ثم حال أمتك من حولك ؛ ألا تجد أن في حياتك التي تعيشها أمثلة كثيرة تدخل في عموم هذه الآية ؟!
(3) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (التوبة : 12)
قال الإمام ابن عطية : (( وقال قتادة : المراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهما .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إن لم يتأول أنه ذكرهم على جهة المثال ضعيف لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير )) .
أقول : أما المروي عن قتادة ، فقد أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره عن شيخه معمر عن قتادة ، قال : (( أبو سفيان بن حرب ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وهم الذين نكثوا عهد الله ، وهموا بإخراج الرسول ، وليس والله كما يتأول أهل الشبهات والبدع ، والفري على الله تعالى وعلى كتابه )) .
وفي المروي عن قتادة أمر لابد من التنبه له ، وهو أن ما حمله عليه الإمام من التمثيل صحيح بلا ريب ؛ لأن بعض من ذكرهم قتادة قد أسلموا وحسُن إسلامهم ، ولم يكنوا من الناكثين لعهد الله كغيرهم من الكفار الذين ماتوا على الكفر ، فأبو سفيان وسهيل بن عمرو ممن أسلم في عام الفتح وحسن إسلامه ، فالخطاب متعلق بهم حال كفرهم فقط ، فلما انتقلوا إلى الإيمان خرجوا من هذا الخطاب .
وأما ملحظ الإمام الثاني ـ وهو معتمد على تاريخ الواقعة وتاريخ النُّزول ـ فيشير إلى أن قتادة يذهب إلى التنبيه على أن الآية تشمل هؤلاء حال كفرهم يوم بدر ، ولا يلزم منه أن من آمن منهم ومات على الإيمان باقٍ في شمول الآية له ، ولو كان يذهب إلى أنهم داخلون في معنى الآية حال نزولها فهذا خطأ بين ظاهر ، ولا يُتصوَّر بحافظ الأمة قتادة أن يذهب هذا المذهب ؛ لذا يحسن بنا أن نحمل تفسيره على التمثيل لبعض أئمة الكفر في وقت من أوقات كفرهم ، مع أن منهم من آمن بالله .
( 4) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
قال الإمام ابن عطية : (( وذكر الناس من معاني الخفة والثقل أشياء لا وجه لتخصيص بعضها دون بعض ، بل هي وجوه متفقة ، فقيل : الخفيف : الغني ، والثقيل : الفقير ، قاله مجاهد .
وقيل : الخفيف : الشاب ، والثقيل : الشيخ ، قاله الحسن وجماعة .
وقيل : الخفيف : النشيط ، والثقيل : الكاسل ، قاله ابن عباس وقتادة .
وقيل : المشغول ومن لا شغل له ، قاله الحكم بن عيينة وزيد بن علي .
وقيل : الذي له ضيعة هو الثقيل ، ومن لا ضيعة له هو الخفيف ، قاله ابن زيد .
وقيل : الشجاع هو الخفيف ، والجبان هو الثقيل ، حكاه النقاش .
وقيل : الراجل هو الثقيل ، والفارس هو الخفيف ، قاله الأوزاعي .
قال القاضي أبو محمد : وهذان الوجهان الآخران ينعكسان ، وقد قيل ذلك ، ولكنه بحسب وطأتهم على العدو ، فالشجاع هو الثقيل ، وكذلك الفارس .
والجبان هو الخفيف ، وكذلك الراجل .
وكذلك ينعكس الفقير والغني ، فيكون الغني هو الثقيل بمعنى صاحب الشغل ، ومعنى هذا أن الناس أمروا جملة .
وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة ...)) .
أقول : هانحن أما أقوال متعددة تصل إلى سبعة ، ومع هذا فإن الإمام ببصره بعبارات السلف ، وتحريره في مراداتهم يختصر علينا المقام ، ويهب إلى أن هذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة ، وبهذا التخريج لا تجد أي حرج من كثرة هذه الأقوال ، ولا تحتاج إلى أن تبحث عن المراد منها دون غيره ، بل كلها داخلة في المراد .
وكون العموم هو المراد في الآية هو ما ذهب إليه الطبري ونبَّه عليه ، ثم تبعه ابن عطية ـ رحم الله الجميع ـ ، قال الطبري : (( وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنَّفر لجهاد أعدائه في سبيله، خفافًا وثقالا. وقد يدخل في "الخفاف" كل من كان سهلا عليه النفر لقوة بدنه على ذلك، وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا يُسْرٍ بمالٍ وفراغ من الاشتغال، (1) وقادرًا على الظهر والركاب.
ويدخل في "الثقال"، كل من كان بخلاف ذلك، من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن مُعسِرٍ من المال، ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهرَ له ولا ركاب، والشيخ وذو السِّن والعِيَال.
فإذ كان قد يدخل في "الخفاف" و"الثقال" من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا، ولم يكن الله جل ثناؤه خصَّ من ذلك صنفًا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نَصَب على خصوصه دليلا وجب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافًا وثقالا مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخفّة والثقل )) .
وهذا التعدد في الأقوال في التمثيل للفظ العام لا يضيرك حتى لو بلغ أكثر من عشرة ما دام يصدق عليه مدلول اللفظ العام ، والله أعلم .
5 ـ قوله تعالى : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) ( هود : 114 ) .
قال الإمام ابن عطية : (( وقوله ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن ( الحسنات ) يراد بها الصلوات الخمس - وإلى هذه الآية ذهب عثمان - رضي الله عنه - عند وضوئه على المقاعد(1) وهو تأويل مالك .
وقال مجاهد : ( الحسنات ) : قول الرجل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات ، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال ، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السلام : ( ما اجتنبت الكبائر ) ... )) .في هذا الكلام عدد من التنبيهات :
التنبيه الأول : ورد تفسير الحسنات بالصلوات الخمس عن جمع من السلف كما أشار إلى ذلك الإمام ابن عطية ، ويبدو أن السرَّ في اختيارهم هذا المثال أن السِّباق قد مضى بقوله : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، فكان تنبيههم على أن الحسنات الصلوات تنبيه له مقصده ، وقد ذكر الإمام ابن عطية علَّة أخرى في ذكر هذا القول ، واستشهد له بما يعضده ،فقال : ((ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال ، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السلام : (ما اجتنبت الكبائر) ... )) .
التنبيه الثاني : ذكر في سبب نزول هذه الآية الخبر المشهور ، وقد سلك في روايته له مسلك ذكر ما يتضمنه من معنى دون ذكر النص بالتحديد ، والخبر له روايات متعددة كما أشار الإمام ، قال : ((وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار ، قيل : هو أبو اليسر بن عمرو ، وقيل : اسمه عباد ، خلا بامرأة فقبلها وتلذّذ بها فيما دون الجماع ، ثم جاء إلى عمر فشكا إليه ، فقال : قد ستر الله عليك فاستر على نفسك ، فقلق الرجل فجاء أبا بكر فشكا إليه ، فقال له مثل مقالة عمر ، فقلق الرجل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى معه ، ثم أخبره وقال : اقض فيَّ ما شئت ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلها زوجة غاز في سبيل الله ، قال : نعم ، فوبخه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أدري ، فنزلت هذه الآية ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاها عليه : فقال معاذ بن جبل : يا رسول الله خاصة؟ قال : بل للناس عامة . وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ )) . والسؤال الذي يرد : هل يؤثر هذا الخبر على الحكم بالتفسير بالمثال ؟
الجواب : إن من القواعد التي استنبطتها من تعليق العلماء على علاقة أسباب النُّزول بالألفاظ العامة (أن أسباب النزول ـ إن تعددت ـ إنما هي أمثلة للمعنى العام )، ومن ثَمَّ ، فإننا نظر إلى صحة اندراج المعنى المذكور في أسباب النُّزول المتعددة في معنى اللفظ العامِّ ، فإذا كانت تندرج تحت هذا المعنى العام ، فلا يضير تعدُّدها ، ونجعلها أمثلة للفظ العام ، وما ذُكر في هذا الخبر يندرج تحت قوله تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) .
وفي سياق هذا الخبر لطائف علمية :
أولها : إذا كان سبب نزول هذه الآية هو الرجل التَّمار ، كما ورد في صحيح مسلم الذي روى بسنده عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ - قَالَ - فَنَزَلَتْ (أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) .
قَالَ : فَقَالَ الرَّجُلُ : أَلِىَ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِى )) .
فيحتمل أن تكون هذه الآية مدنية نُزِّلت في سورة مكية .
ثانيها : أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استدلَّ بهذه الآية على دخول حال الرجل التَّمار في عموم لفظ قواه تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، وقد ورد في الرواية الأخرى التي رواها الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ، قَالَ : (( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : (( يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى عَالَجْتُ امْرَأَةً فِى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّى أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِىَّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ - قَالَ - فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ ، فَأَتْبَعَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً دَعَاهُ وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ (أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : يَا نَبِىَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً ؟!
قَالَ : بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً )) .
وهذا يعني أن الآية مكيَّة ـ وهذا هو الأصل ـ وأن حال الرجل يدخل في عموم الآية ، كما ورد في آخر الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِى )) ، وفي الرواية الأخرى : ((بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً )) .
ويمكن أن يكون الإخبار بالنُّزول فيه توسع في التعبير ، وأن المراد بقوله في الرواية الأولى ( فنزلت ) ليس ابتداء النُّزول ، وإنما المراد بها التلاوة وتنْزيل الآية على حال الرجل بدلالة الرواية الأخرى : ((وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ )) .
وإلى وقفة أخرى إن شاء الله تعالى .
ـــــــــــ
(1) يشير إلى أثر ذكره الطبري في تفسير هذه الآية عن عثمان بن عفان ، وفيه : (( جلس عثمان بن عفان يومًا على المقاعد = فذكر نحوه ـ أي حديث من توضأ وضوئي هذا ... ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه قال: "وهن الحسنات إن الحسنات يذهبن السيئات )) .