مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
كنت وقف في مثال سابق (http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=10695) مع مجموعة من تنصيص الإمام ابن عطية على تخريج أقوال السلف في تفسير اللفظ العام ـ بلفظ فيه شبهة التخصيص ـ على أنه من باب التفسير بالمثال ، وأسوق لك هنا أمثلة أخرى في هذا الباب :
1 ـ قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (المائدة : 1)
قال ابن عطية : (( وفسرالناس لفظ « العقود » بالعهود . وذكر بعضهم من العقود أشياء على جهة المثال فمن ذلك قول قتادة ( أوفوا بالعقود ) معناه بعهد الجاهلية . روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام )) ... وقال ابن عباس رضي الله عنه : (أوفوا بالعقود) معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء ، قاله مجاهد وغيره .
وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما : العقود في الآية هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أن ونكاح أو غيره .
وقال ابن زيد وعبد الله بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة العهد وعقدة البيع وعقدة الحلف .
قال القاضي أبو محمد : وقد تنحصر إلى أقل من خمس ، وقال ابن جريج قوله تعالى : ( أوفوا بالعقود) قال : هي العقود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم .
وقال ابن شهاب : وقرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : هذا بيان من الله ورسوله ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) فكتب الآيات منها إلى قوله : (إن الله سريع الحساب ) ( المائدة : 4 ) .
قال القاضي أبو محمد : وأصوب ما يقال في تفسير هذه الآية أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول فيعمم لفظ المؤمنين جملة من مظهر الإيمان إن لم يبطنه وفي المؤمنين حقيقة ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع ) .
أقول : بيِّن من لفظ الآية أن لفظ ( العقود ) قد أُطلق ولم يقيد بنوع من أنواع العقد ، فكان كل مفسر يذهب في بيان لفظ (العقود) إلى مثال من أمثلة هذه العقود كما ذكر الغمام ابن عطية ، وليس مرادهم أن العقود في هذه الآية ما قاله الواحد منهم دونما سواه من العقود ، ولهذا كان ما ذهب إليه الإمام ابن عطية من أن لفظ العقود عامٌّ في كل ربط بقول موافق للحق والشرع هو مراد جميع من ذكر التمثيل .
2 ـ قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (الأنعام : 65)
قال ابن عطية : (( و( من فوقكم ومن تحت أرجلكم ) لفظ عام للمنطبقَيْن على الإنسان .
وقال السدي عن أبي مالك : ( من فوقكم ) : الرجم . ( ومن تحت أرجلكم ) : الخسف ، وقاله سعيد بن جبير ومجاهد .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : ( من فوقكم ) : ولاة الجور . ( ومن تحت أرجلكم ) : سفلة السوء وخدمة السوء .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه كلها أمثلة لا أنها هي المقصود ، إذ هذه وغيرها من القحوط والغرق وغير ذلك داخل في عموم اللفظ )) .
وفي قوله ـ رحمه الله ـ ( لا أنها مقصودة ) تنبيه مليح ؛ يحسن بطالب علم التفسير أن ينتبه له ؛ لئلا يقع ـ فيما سبق أن ذكرت ـ في وصمِ تفاسير السلف باختلاف التناقض ، وهو لمَّا يكتمل علمه في معرفة طريقتهم في التفسير .
3 ـ قوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (الأعراف : 33)
قال ابن عطية : (( وقوله : ( ما ظهر منها وما بطن ) يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء ، وهو لفظ عام في جميع الفواحش .
وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال : ( ما ظهر ) الطواف عرياناً ، والبواطن الزنى ، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال .
و ( ما ) بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل ، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو .
( والإثم ) أيضاً : لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم ، هذا قول الجمهور .
وقال بعض الناس : هي الخمر واحتج على ذلك بقوله الشاعر : [ الوافر ]
شربت الإثم حتى طار عقلي .........................
قال القاضي وأبو محمد : وهذا قول مردود ؛ لأن هذه السورة مكية ؛ ولم تعن الشريعة بتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد (أُحُدٍ) لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء ، وهي في أجوافهم ، وأيضاً فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق ، وإن صح فهو على حذف مضاف ، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } [ البقرة : 219 ] وهو في هذه الآية قد حرم ، فيأتي من هذا الخمر والإثم محرم فالخمر محرمة .
قال القاضي أبو محمد : ولكن لا يصح هذا لأن قوله { فيهما إثم } لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة ، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه ، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله { قل فيهما إثم } وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع ، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة )) .
أقول : في هذا النص وقفات :
أولها : إن جملة آية الأعراف هذه قد مضى شبيهها في سورة الأنعام في قوله تعالى ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الأنعام :151) ، والقول فيهما واحدٌ ؛ لأن السورتين مكيتان ، لكن الفرق بينهما أن آية الأنعام فيها النهي نهي عن قربان الفواحش .
ومن ثمَّ ، فإن كلام مفسري السلف عن الآيتين واحدٌ ، لذا يحسن أن نربط بينهما في قول ابن عطية ، ثم نخلص بنتيجة لذلك .
أما في سورة الأنعام ، فإن ابن عطية ـ رحمه الله ـ قد أغرب في حمل أقوال مفسري السلف على التخصيص ، قال : ((وقوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي ، و « ظهر وبطن » حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء ، وذهب بعض المفسرين إلى أن القصد بهذه الآية أشياء مخصصات ، فقال السدي وابن عباس : { ما ظهر } هو زنا الحوانيت الشهير ، و { ما بطن } هو متخذات الأخدان ، وكانوا يستقبحون الشهير وحده فحرم الله الجميع .
وقال مجاهد { ما ظهر } هو نكاح حلائل الآباء ونحو ذلك ، و { ما بطن } هو الزنا إلى غير هذا من تخصيص لا تقوم عليه حجة ، بل هو دعوى مجردة )) .
وقال في تفسير آية سورة الأعراف : ((وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال : ( ما ظهر ) الطواف عرياناً ، والبواطن الزنى .
وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال )) .
وفي هذين الموضعين أمران :
الأول: أنه حَكَمَ في سورة الأنعام على تفسيرات السلف لما ظهر وبطن بأنها على سبيل التخصيص ، ثم تراه في سورة الأعراف بعدها يشير إلى أنها بالتمثيل ، مع حكمه على تفسير مجاهد بالتخصيص ، فهل هذا يُعدُّ استدراكًا منه على نفسه؟
وعباراتهم لم يظهر فيها خروجهم عن طريقتهم في التمثيل للفظ العام ، ولا أدري لماذا حكم في سورة الأنعام على أقوالهم بالتخصيص ، كما إن الذي يظهر من المروي عن مجاهد أنه لم ينصَّ على التخصيص ، ولعله أخذ هذا من أسلوب الطبري ـ الذي هو من أهم مصادر ابن عطية ـ في تعليقه على أحد أقوالهم في آية الأنعام ، فقد قال الطبري : (( وقد قيل : إنما قيل: لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن، لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنى بعضًا .
وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع، غير أن دليلَ الظاهرِ من التنزيل على النهي عن ظاهر كل فاحشة وباطنها، ولا خبر يقطع العذرَ بأنه عُنِيَ به بعضٌ دون جميع. وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن، إلا بحجة يجب التسليم لها )) .
وفي أسلوب روايته لخبر مجاهد في تفسير آية الأعراف ، قال الطبري : (( يقول تعالى ذكره لنبيه محمد: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت، ويحرمون أكل طيبات ما أحل الله لهم من رزقه: أيها القوم، إن الله لم يحرم ما تحرمونه، بل أحل ذلك لعباده المؤمنين وطيَّبه لهم، وإنما حرم ربِّي القبائح من الأشياء = وهي"الفواحش" ="ما ظهر منها"، فكان علانية ="وما بطن"، منها فكان سرًّا في خفاء .
وقد روي عن مجاهد في ذلك ما: حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله:(ما ظهر منها وما بطن)، قال:"ما ظهر منها"، طوافُ أهل الجاهلية عراة="وما بطن"، الزنى )) .
وعادة الطبري ـ إذا كان يوافق قول أهل التأويل ـ أن يقول : (( وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل )) ، أو عبارة نحوها ، وعدوله إلى هذه الصيغة تُشعر بأن قول مجاهد على الخصوص ، وهو مغاير لما اختاره من العموم ، والله أعلم .
ولا أدري ـ أيضًا ـ لماذا حمل الإمام ابن عطية كلام مجاهد على التخصيص ، ولم يحمله ـ على ما عوَّدنا وتعلَّمنا منه في مثل هذه الحال ـ على التمثيل ، خصوصًا أنه قال بعد ذلك : ((وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال )) ، فهل خرج كلام مجاهد عن التمثيل ؟!
لم يظهر لي خروج عبارة مجاهد عن طريقتهم في التعبير عن اللفظ العام بمثال ، والذي يدل على ذلك ـ أيضًا ـ أن ابن أبي حاتم روى بسنده ـ في آية سورة الأعراف ـ عن مجاهد تفسير مغايرًا ، قال : حدثنا أبي ، ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، ثنا قيس ، عن خصيف ، عن مجاهد : ( ما ظهر منها وما بطن ) ، فقوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) ، وقوله : ( وأن تجمعوا بين الأختين ) )) . وهو عند الطبري من طريق خصيف عن مجاهد في تفسير آية الأنعام : (( "ما ظهر"، جمعٌ بين الأختين، وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده ="وما بطن"، الزنى )) .
وهذا التغاير في الروايات الواردة عن مجاهد تدل على أن مجاهدًا يذهب إلى العموم في جملة ( ماظهر منها وما بطن ) ، لذا مثَّل في كل مرة بمثال مغاير للآخر ، والله أعلم .
وفي مثل هذا الحال يمكن أن يقع الاستفسار الآتي ؟
هل ما ذكره السلف من تفسيرات يدخل في معنى ( ما ظهر من الفواحش وما بطن ) ؟
والجواب : نعم .
فإذا كانت تدخل ، فكيف نتعامل معها بأسلوب علمي يبرز أقوالهم وينبه على العموم ؟
فالجواب : ما دام ما قاله السلف من الأمثلة صحيحًا غير مدفوع ، فإننا نذكر العموم ، ثم نذكر مثالاً له من أقوالهم ، فنقول : ولا تقربوا الظاهرَ من الأشياء المحرّمة عليكم، التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها؛ كنكاح زوجات الأب ، والباطنَ منها الذي تأتونه سرًّا في خفاء لا تجاهرون به؛ كالزني الذي تأتونه سرًّا ، فإن كل ذلك حرام .
فائدة تتعلق بالتفسير بالمثال : الأصل عندهم التعبير عن العموم بالمثال
لقد استفدت من كلام ابن عطية وغيره في موضوع ( التفسير بالمثال ) قاعدة استنبطتُها من تطبيقاتهم ، وهي : أن الأصل في تعبيرات السلف عن العموم ـ التي قد يُفهم منها تخصيص العموم ـ أنها على التمثيل ، إلا إذا وردت قرينة في النصِّ تفيد بأن مرادهم التخصيص .
ثانيها : تفسير الإثم بالخمر ، قال الإمام ابن عطية : (( والإثم ) أيضاً : لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم ، هذا قول الجمهور .
وقال بعض الناس : هي الخمر ... )) .
نسب الثعلبي في تفسيره ( الكشف والبيان ) هذا القول إلى الحسن البصري ، وزاد ابن الجوزي نسبته إلى عطاء ، ونسبه ناس عن الاخفش ؛ كما ذكر ابن فارس في مادة ( أ ث م ) من كتابه ( مقاييس اللغة ) .
ولو ثبتت نسبته إلى الحسن البصري لكان قولاً يُعتدُّ به في اللغة ؛ لأن الحسن ممن تُحكى عنه اللغة ، لكن تتابع كلام العلماء على إنكار هذا المعنى ، وتنبيههم على أن البيوت المستشهد بها مصنوعة(1) يُضعف أن يكون معنًى لغويًّا معتبرًا .
وتوجيه إطلاق مسمى الإثم على الخمر ـ لو صحَّت هذه التسمية في اللغة ـ كما ذكر ابن فارس في مادة ( أ ث م ) من كتابه (مقاييس اللغة) ، قال : (( فإنْ كان هذا صحيحاً ، فهو القياس ؛ لأنّها تُوقِع صاحبها في الإثم )) ، ويكون هذا من باب تسمية الشيء بنتيجته ومآله .
وفي هذا الموضوع تنبيهات :
التنبيهالأول : إن رواية هذا التفسير عن الحسن البصري لم ترد ـ حسبما اطلعت عليه ـ إلا عند الثعلبي ( ت : 427 ) ، وروايته عن الحسن البصري من طريق عمرو بن عبيد ، وهي رواية غير موثوق بها ؛ لأن عمرًا متهمًا في روايته هذا التفسير عن الحسن البصري ، فقد ورد في أخبار القضاة لوكيع في ترجمة عباد بن منصور الناجي الإسناد الآتي : ((حدثني الأحوص محمد بن الهيثم، قال: حدثنا أبو بكر بن الأسود، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عباد بن منصور، قال: نظرت في تفسير لعمرو بن عبيد، عن الحسن، فقلت: ليس هذا تفسير الحسن، فقال: أشياء زدناها نذكر بها أصحابنا)).
ولم يورد الثعلبي في أسانيده في أول كتابه ( الكشف والبيان عن الحسن البصري غير هذه الرواية .
التنبيه الثاني : إن توارد كلمة العلماء على إنكار هذا المعنى اللغوي للفظة حجة في الإنكار ؛ إذ لو كان لهذا المعنى وجه في العربية لقال به من كلامه معتمد أو نقله حجة ، وعمل العلماء في هذا الإنكار مقدَّم على وروده عمَّن حُكي عنهم .
التنبيه الثالث : مما يزيد الاعتماد على حجية عمل العلماء كون المروي والمنقول بلا إسناد ، وإنما هو حكاية عمَّن حُكي عنه ( الحسن وعطاء والأخفش ) ، وكون الأشعار المعتمد عليها قد حكم عليها العلماء بالصُّنع ، فليست ما يصلح للاحتجاج .
وهكذا مقام ما يروى بلا إسناد ، فإنه ليس بحجة مطلقًا ، وإن ذُكر بصيغة التمريض ( يُروى ، حُكي ... ) فإن مقامه أقلَّ من أن يُستأنس به ، وحكايته في كتب التفسير لا تعني الاعتماد عليه ، وإنما هو في مرتبة متأخرة في درجة الاعتضاد به ، وإذا ذُكر مع الأقوال الصحيحة ، فليس فيه قيمة بذاته ، وإنما أعلى أحواله التنبيه على أنه وافق قولاً معتبرًا ، وليس حال هذا التفسير في هذا المثال من هذا الجنس .
ثالثها : إذا ثبت أن الإثم ليس اسمًا للخمر ، فهل يصح أن يكون الخمر مما يدخل في معنى الآية ؟
لو قال قائل بأنها هي المقصود الأول بالخمر ، فإنه يجاب عليه باعتراض الإمام ابن عطية حين قال : ((وهذا قول مردود ؛ لأن هذه السورة مكية ؛ ولم تعن الشريعة بتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد (أُحُدٍ) لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء ، وهي في أجوافهم )) .
لكن إن قال : إن لفظة ( الإثم ) تشمل الخمر ، فيقال له نعم ؛ لأن الخمر يتسبب عنها الوقوع في الإثم ، كما مرَّ من تبيه ابن فارس على هذا المعنى ، مع أنه يحسن ملاحظة ما ذكره الإمام ابن عطية في هذا المقام من قوله : ((وإن صح فهو على حذف مضاف ، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } [ البقرة : 219 ] وهو في هذه الآية قد حرم ، فيأتي من هذا الخمر والإثم محرم فالخمر محرمة .
قال القاضي أبو محمد : ولكن لا يصح هذا لأن قوله { فيهما إثم } لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة ، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه ، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله { قل فيهما إثم } وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع ، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة )) .
وإذا حملنا الآية عليها ، فإننا نكون قد حملنا قرآن مكيًّا على حَدَثٍ مدني ، وهذا جائز من باب التفسير والاستدلال ، لا من باب النزول أو أن المراد الأولي لهذا القرآن المكي هو ذاك الحدث المدني ، ولهذا أمثلة في التفسير ، أذكر منها :
ما ورد في تفسير قوله تعالى : (قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى ) ، فقد فقد روى الطبري بسنده عن أبي العالية الأثر الآتي : عن أبي خلدة، قال: دخلت على أبي العالية، فقال لي: (( إذا غَدَوت غدًا إلى العيد فمرّ بي، قال: فمررت به، فقال: هل طَعِمت شيئا ؟ قلت: نعم، قال: أَفَضْت على نفسك من الماء؟ قلت: نعم، قال: فأخبرني ما فعلت بزكاتك؟ قلت: قد وجَّهتها، قال: إنما أردتك لهذا، ثم قرأ:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) وقال: إن أهل المدينة لا يَرَونَ صدقة أفضل منها ومن سِقَاية الماء )) .
وقد ورد عن جمع من السلف حمل هذه الآيات على زكاة الفطر وصلاة العيد بعدها . ( ينظر : الدر المنثور ) .
والآيات مكية ، ولم يكن ثمَّت زكاة فطر ولا صلاة عيد ، وإنما كانتا في المدينة ، قال ابن الجوزي ـ في زاد المسير ـ : ((... فإن هذه السورة مكية بلا خلاف ، ولم يكن بمكة زكاة ، ولا عيد )) .
وهذا الاعتراض متَّجه إذا كان القصد من القول بأنها هي المرادة أولاً ، وأنها بشأنها نزلت ، لكن إذا قلت : بأن الآية على العموم ، وأن مما يدخل في هذا العموم زكاة الفطر وصلاة العيد اللتان حدثتا بعد نزول هذه الآية = كان لهذا القول وجه صحيح في التفسير .
ومن هنا يحسن أن نتأمل هذه القاعدة ، وهي : أن باب التفسير أوسع من باب أسباب النُّزول ، كما أن باب الاستدلال أوسع من باب التفسير ، وإذا كنت على خُبرٍ من هذا لم يضق بك الحال من مثل هذه الأمثلة التي يُحمل فيها القرآن المكي على الحدث المدني ، بل لو نُزِّل على حدثٍ وقع بعد انتهاء الوحي ، مادام يوافق السياق ، والله الموفق .
ـــــــــــ
(1) جاء في ( زاد المسير) لابن الجوزي : (( وفي الإثم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الذنب الذي لا يوجب الحدَّ ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، والفرَّاء .
والثاني : المعاصي كلها ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه الخمر ، قاله الحسن ، وعطاء . قال ابن الانباري : أنشدنا رجل في مجلس ثعلب بحضرته ، وزعم أن أبا عبيدة أنشده :
نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواع جِهَاراً ... وَنَرى المُتْكَ بيننا مُسْتَعَاراً
فقال أبو العباس : لا أعرفه ، ولا أعرف الإثم : الخمر ، في كلام العرب . وأنشدنا رجل آخر :
شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإثْمُ تَذْهَبُ بالعُقُولِ
قال أبو بكر : وما هذا البيت معروفاً أيضا في شعر من يحتج بشعره ، وما رأيت أحدا من أصحاب الغريب أدخل الإثم في أسماء الخمر ، ولا سمَّتها العرب بذلك في جاهلية ولا إسلام .
فان قيل : إن الخمر تدخل تحت الإثم ، فصواب ، لا لأنه اسم لها )) .
1 ـ قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (المائدة : 1)
قال ابن عطية : (( وفسرالناس لفظ « العقود » بالعهود . وذكر بعضهم من العقود أشياء على جهة المثال فمن ذلك قول قتادة ( أوفوا بالعقود ) معناه بعهد الجاهلية . روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام )) ... وقال ابن عباس رضي الله عنه : (أوفوا بالعقود) معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء ، قاله مجاهد وغيره .
وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما : العقود في الآية هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أن ونكاح أو غيره .
وقال ابن زيد وعبد الله بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة العهد وعقدة البيع وعقدة الحلف .
قال القاضي أبو محمد : وقد تنحصر إلى أقل من خمس ، وقال ابن جريج قوله تعالى : ( أوفوا بالعقود) قال : هي العقود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم .
وقال ابن شهاب : وقرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : هذا بيان من الله ورسوله ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) فكتب الآيات منها إلى قوله : (إن الله سريع الحساب ) ( المائدة : 4 ) .
قال القاضي أبو محمد : وأصوب ما يقال في تفسير هذه الآية أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول فيعمم لفظ المؤمنين جملة من مظهر الإيمان إن لم يبطنه وفي المؤمنين حقيقة ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع ) .
أقول : بيِّن من لفظ الآية أن لفظ ( العقود ) قد أُطلق ولم يقيد بنوع من أنواع العقد ، فكان كل مفسر يذهب في بيان لفظ (العقود) إلى مثال من أمثلة هذه العقود كما ذكر الغمام ابن عطية ، وليس مرادهم أن العقود في هذه الآية ما قاله الواحد منهم دونما سواه من العقود ، ولهذا كان ما ذهب إليه الإمام ابن عطية من أن لفظ العقود عامٌّ في كل ربط بقول موافق للحق والشرع هو مراد جميع من ذكر التمثيل .
2 ـ قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (الأنعام : 65)
قال ابن عطية : (( و( من فوقكم ومن تحت أرجلكم ) لفظ عام للمنطبقَيْن على الإنسان .
وقال السدي عن أبي مالك : ( من فوقكم ) : الرجم . ( ومن تحت أرجلكم ) : الخسف ، وقاله سعيد بن جبير ومجاهد .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : ( من فوقكم ) : ولاة الجور . ( ومن تحت أرجلكم ) : سفلة السوء وخدمة السوء .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه كلها أمثلة لا أنها هي المقصود ، إذ هذه وغيرها من القحوط والغرق وغير ذلك داخل في عموم اللفظ )) .
وفي قوله ـ رحمه الله ـ ( لا أنها مقصودة ) تنبيه مليح ؛ يحسن بطالب علم التفسير أن ينتبه له ؛ لئلا يقع ـ فيما سبق أن ذكرت ـ في وصمِ تفاسير السلف باختلاف التناقض ، وهو لمَّا يكتمل علمه في معرفة طريقتهم في التفسير .
3 ـ قوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (الأعراف : 33)
قال ابن عطية : (( وقوله : ( ما ظهر منها وما بطن ) يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء ، وهو لفظ عام في جميع الفواحش .
وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال : ( ما ظهر ) الطواف عرياناً ، والبواطن الزنى ، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال .
و ( ما ) بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل ، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو .
( والإثم ) أيضاً : لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم ، هذا قول الجمهور .
وقال بعض الناس : هي الخمر واحتج على ذلك بقوله الشاعر : [ الوافر ]
شربت الإثم حتى طار عقلي .........................
قال القاضي وأبو محمد : وهذا قول مردود ؛ لأن هذه السورة مكية ؛ ولم تعن الشريعة بتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد (أُحُدٍ) لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء ، وهي في أجوافهم ، وأيضاً فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق ، وإن صح فهو على حذف مضاف ، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } [ البقرة : 219 ] وهو في هذه الآية قد حرم ، فيأتي من هذا الخمر والإثم محرم فالخمر محرمة .
قال القاضي أبو محمد : ولكن لا يصح هذا لأن قوله { فيهما إثم } لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة ، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه ، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله { قل فيهما إثم } وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع ، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة )) .
أقول : في هذا النص وقفات :
أولها : إن جملة آية الأعراف هذه قد مضى شبيهها في سورة الأنعام في قوله تعالى ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الأنعام :151) ، والقول فيهما واحدٌ ؛ لأن السورتين مكيتان ، لكن الفرق بينهما أن آية الأنعام فيها النهي نهي عن قربان الفواحش .
ومن ثمَّ ، فإن كلام مفسري السلف عن الآيتين واحدٌ ، لذا يحسن أن نربط بينهما في قول ابن عطية ، ثم نخلص بنتيجة لذلك .
أما في سورة الأنعام ، فإن ابن عطية ـ رحمه الله ـ قد أغرب في حمل أقوال مفسري السلف على التخصيص ، قال : ((وقوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي ، و « ظهر وبطن » حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء ، وذهب بعض المفسرين إلى أن القصد بهذه الآية أشياء مخصصات ، فقال السدي وابن عباس : { ما ظهر } هو زنا الحوانيت الشهير ، و { ما بطن } هو متخذات الأخدان ، وكانوا يستقبحون الشهير وحده فحرم الله الجميع .
وقال مجاهد { ما ظهر } هو نكاح حلائل الآباء ونحو ذلك ، و { ما بطن } هو الزنا إلى غير هذا من تخصيص لا تقوم عليه حجة ، بل هو دعوى مجردة )) .
وقال في تفسير آية سورة الأعراف : ((وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال : ( ما ظهر ) الطواف عرياناً ، والبواطن الزنى .
وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال )) .
وفي هذين الموضعين أمران :
الأول: أنه حَكَمَ في سورة الأنعام على تفسيرات السلف لما ظهر وبطن بأنها على سبيل التخصيص ، ثم تراه في سورة الأعراف بعدها يشير إلى أنها بالتمثيل ، مع حكمه على تفسير مجاهد بالتخصيص ، فهل هذا يُعدُّ استدراكًا منه على نفسه؟
وعباراتهم لم يظهر فيها خروجهم عن طريقتهم في التمثيل للفظ العام ، ولا أدري لماذا حكم في سورة الأنعام على أقوالهم بالتخصيص ، كما إن الذي يظهر من المروي عن مجاهد أنه لم ينصَّ على التخصيص ، ولعله أخذ هذا من أسلوب الطبري ـ الذي هو من أهم مصادر ابن عطية ـ في تعليقه على أحد أقوالهم في آية الأنعام ، فقد قال الطبري : (( وقد قيل : إنما قيل: لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن، لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنى بعضًا .
وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع، غير أن دليلَ الظاهرِ من التنزيل على النهي عن ظاهر كل فاحشة وباطنها، ولا خبر يقطع العذرَ بأنه عُنِيَ به بعضٌ دون جميع. وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن، إلا بحجة يجب التسليم لها )) .
وفي أسلوب روايته لخبر مجاهد في تفسير آية الأعراف ، قال الطبري : (( يقول تعالى ذكره لنبيه محمد: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت، ويحرمون أكل طيبات ما أحل الله لهم من رزقه: أيها القوم، إن الله لم يحرم ما تحرمونه، بل أحل ذلك لعباده المؤمنين وطيَّبه لهم، وإنما حرم ربِّي القبائح من الأشياء = وهي"الفواحش" ="ما ظهر منها"، فكان علانية ="وما بطن"، منها فكان سرًّا في خفاء .
وقد روي عن مجاهد في ذلك ما: حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله:(ما ظهر منها وما بطن)، قال:"ما ظهر منها"، طوافُ أهل الجاهلية عراة="وما بطن"، الزنى )) .
وعادة الطبري ـ إذا كان يوافق قول أهل التأويل ـ أن يقول : (( وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل )) ، أو عبارة نحوها ، وعدوله إلى هذه الصيغة تُشعر بأن قول مجاهد على الخصوص ، وهو مغاير لما اختاره من العموم ، والله أعلم .
ولا أدري ـ أيضًا ـ لماذا حمل الإمام ابن عطية كلام مجاهد على التخصيص ، ولم يحمله ـ على ما عوَّدنا وتعلَّمنا منه في مثل هذه الحال ـ على التمثيل ، خصوصًا أنه قال بعد ذلك : ((وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال )) ، فهل خرج كلام مجاهد عن التمثيل ؟!
لم يظهر لي خروج عبارة مجاهد عن طريقتهم في التعبير عن اللفظ العام بمثال ، والذي يدل على ذلك ـ أيضًا ـ أن ابن أبي حاتم روى بسنده ـ في آية سورة الأعراف ـ عن مجاهد تفسير مغايرًا ، قال : حدثنا أبي ، ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، ثنا قيس ، عن خصيف ، عن مجاهد : ( ما ظهر منها وما بطن ) ، فقوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) ، وقوله : ( وأن تجمعوا بين الأختين ) )) . وهو عند الطبري من طريق خصيف عن مجاهد في تفسير آية الأنعام : (( "ما ظهر"، جمعٌ بين الأختين، وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده ="وما بطن"، الزنى )) .
وهذا التغاير في الروايات الواردة عن مجاهد تدل على أن مجاهدًا يذهب إلى العموم في جملة ( ماظهر منها وما بطن ) ، لذا مثَّل في كل مرة بمثال مغاير للآخر ، والله أعلم .
وفي مثل هذا الحال يمكن أن يقع الاستفسار الآتي ؟
هل ما ذكره السلف من تفسيرات يدخل في معنى ( ما ظهر من الفواحش وما بطن ) ؟
والجواب : نعم .
فإذا كانت تدخل ، فكيف نتعامل معها بأسلوب علمي يبرز أقوالهم وينبه على العموم ؟
فالجواب : ما دام ما قاله السلف من الأمثلة صحيحًا غير مدفوع ، فإننا نذكر العموم ، ثم نذكر مثالاً له من أقوالهم ، فنقول : ولا تقربوا الظاهرَ من الأشياء المحرّمة عليكم، التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها؛ كنكاح زوجات الأب ، والباطنَ منها الذي تأتونه سرًّا في خفاء لا تجاهرون به؛ كالزني الذي تأتونه سرًّا ، فإن كل ذلك حرام .
فائدة تتعلق بالتفسير بالمثال : الأصل عندهم التعبير عن العموم بالمثال
لقد استفدت من كلام ابن عطية وغيره في موضوع ( التفسير بالمثال ) قاعدة استنبطتُها من تطبيقاتهم ، وهي : أن الأصل في تعبيرات السلف عن العموم ـ التي قد يُفهم منها تخصيص العموم ـ أنها على التمثيل ، إلا إذا وردت قرينة في النصِّ تفيد بأن مرادهم التخصيص .
ثانيها : تفسير الإثم بالخمر ، قال الإمام ابن عطية : (( والإثم ) أيضاً : لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم ، هذا قول الجمهور .
وقال بعض الناس : هي الخمر ... )) .
نسب الثعلبي في تفسيره ( الكشف والبيان ) هذا القول إلى الحسن البصري ، وزاد ابن الجوزي نسبته إلى عطاء ، ونسبه ناس عن الاخفش ؛ كما ذكر ابن فارس في مادة ( أ ث م ) من كتابه ( مقاييس اللغة ) .
ولو ثبتت نسبته إلى الحسن البصري لكان قولاً يُعتدُّ به في اللغة ؛ لأن الحسن ممن تُحكى عنه اللغة ، لكن تتابع كلام العلماء على إنكار هذا المعنى ، وتنبيههم على أن البيوت المستشهد بها مصنوعة(1) يُضعف أن يكون معنًى لغويًّا معتبرًا .
وتوجيه إطلاق مسمى الإثم على الخمر ـ لو صحَّت هذه التسمية في اللغة ـ كما ذكر ابن فارس في مادة ( أ ث م ) من كتابه (مقاييس اللغة) ، قال : (( فإنْ كان هذا صحيحاً ، فهو القياس ؛ لأنّها تُوقِع صاحبها في الإثم )) ، ويكون هذا من باب تسمية الشيء بنتيجته ومآله .
وفي هذا الموضوع تنبيهات :
التنبيهالأول : إن رواية هذا التفسير عن الحسن البصري لم ترد ـ حسبما اطلعت عليه ـ إلا عند الثعلبي ( ت : 427 ) ، وروايته عن الحسن البصري من طريق عمرو بن عبيد ، وهي رواية غير موثوق بها ؛ لأن عمرًا متهمًا في روايته هذا التفسير عن الحسن البصري ، فقد ورد في أخبار القضاة لوكيع في ترجمة عباد بن منصور الناجي الإسناد الآتي : ((حدثني الأحوص محمد بن الهيثم، قال: حدثنا أبو بكر بن الأسود، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عباد بن منصور، قال: نظرت في تفسير لعمرو بن عبيد، عن الحسن، فقلت: ليس هذا تفسير الحسن، فقال: أشياء زدناها نذكر بها أصحابنا)).
ولم يورد الثعلبي في أسانيده في أول كتابه ( الكشف والبيان عن الحسن البصري غير هذه الرواية .
التنبيه الثاني : إن توارد كلمة العلماء على إنكار هذا المعنى اللغوي للفظة حجة في الإنكار ؛ إذ لو كان لهذا المعنى وجه في العربية لقال به من كلامه معتمد أو نقله حجة ، وعمل العلماء في هذا الإنكار مقدَّم على وروده عمَّن حُكي عنهم .
التنبيه الثالث : مما يزيد الاعتماد على حجية عمل العلماء كون المروي والمنقول بلا إسناد ، وإنما هو حكاية عمَّن حُكي عنه ( الحسن وعطاء والأخفش ) ، وكون الأشعار المعتمد عليها قد حكم عليها العلماء بالصُّنع ، فليست ما يصلح للاحتجاج .
وهكذا مقام ما يروى بلا إسناد ، فإنه ليس بحجة مطلقًا ، وإن ذُكر بصيغة التمريض ( يُروى ، حُكي ... ) فإن مقامه أقلَّ من أن يُستأنس به ، وحكايته في كتب التفسير لا تعني الاعتماد عليه ، وإنما هو في مرتبة متأخرة في درجة الاعتضاد به ، وإذا ذُكر مع الأقوال الصحيحة ، فليس فيه قيمة بذاته ، وإنما أعلى أحواله التنبيه على أنه وافق قولاً معتبرًا ، وليس حال هذا التفسير في هذا المثال من هذا الجنس .
ثالثها : إذا ثبت أن الإثم ليس اسمًا للخمر ، فهل يصح أن يكون الخمر مما يدخل في معنى الآية ؟
لو قال قائل بأنها هي المقصود الأول بالخمر ، فإنه يجاب عليه باعتراض الإمام ابن عطية حين قال : ((وهذا قول مردود ؛ لأن هذه السورة مكية ؛ ولم تعن الشريعة بتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد (أُحُدٍ) لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء ، وهي في أجوافهم )) .
لكن إن قال : إن لفظة ( الإثم ) تشمل الخمر ، فيقال له نعم ؛ لأن الخمر يتسبب عنها الوقوع في الإثم ، كما مرَّ من تبيه ابن فارس على هذا المعنى ، مع أنه يحسن ملاحظة ما ذكره الإمام ابن عطية في هذا المقام من قوله : ((وإن صح فهو على حذف مضاف ، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } [ البقرة : 219 ] وهو في هذه الآية قد حرم ، فيأتي من هذا الخمر والإثم محرم فالخمر محرمة .
قال القاضي أبو محمد : ولكن لا يصح هذا لأن قوله { فيهما إثم } لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة ، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه ، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله { قل فيهما إثم } وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع ، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة )) .
وإذا حملنا الآية عليها ، فإننا نكون قد حملنا قرآن مكيًّا على حَدَثٍ مدني ، وهذا جائز من باب التفسير والاستدلال ، لا من باب النزول أو أن المراد الأولي لهذا القرآن المكي هو ذاك الحدث المدني ، ولهذا أمثلة في التفسير ، أذكر منها :
ما ورد في تفسير قوله تعالى : (قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى ) ، فقد فقد روى الطبري بسنده عن أبي العالية الأثر الآتي : عن أبي خلدة، قال: دخلت على أبي العالية، فقال لي: (( إذا غَدَوت غدًا إلى العيد فمرّ بي، قال: فمررت به، فقال: هل طَعِمت شيئا ؟ قلت: نعم، قال: أَفَضْت على نفسك من الماء؟ قلت: نعم، قال: فأخبرني ما فعلت بزكاتك؟ قلت: قد وجَّهتها، قال: إنما أردتك لهذا، ثم قرأ:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) وقال: إن أهل المدينة لا يَرَونَ صدقة أفضل منها ومن سِقَاية الماء )) .
وقد ورد عن جمع من السلف حمل هذه الآيات على زكاة الفطر وصلاة العيد بعدها . ( ينظر : الدر المنثور ) .
والآيات مكية ، ولم يكن ثمَّت زكاة فطر ولا صلاة عيد ، وإنما كانتا في المدينة ، قال ابن الجوزي ـ في زاد المسير ـ : ((... فإن هذه السورة مكية بلا خلاف ، ولم يكن بمكة زكاة ، ولا عيد )) .
وهذا الاعتراض متَّجه إذا كان القصد من القول بأنها هي المرادة أولاً ، وأنها بشأنها نزلت ، لكن إذا قلت : بأن الآية على العموم ، وأن مما يدخل في هذا العموم زكاة الفطر وصلاة العيد اللتان حدثتا بعد نزول هذه الآية = كان لهذا القول وجه صحيح في التفسير .
ومن هنا يحسن أن نتأمل هذه القاعدة ، وهي : أن باب التفسير أوسع من باب أسباب النُّزول ، كما أن باب الاستدلال أوسع من باب التفسير ، وإذا كنت على خُبرٍ من هذا لم يضق بك الحال من مثل هذه الأمثلة التي يُحمل فيها القرآن المكي على الحدث المدني ، بل لو نُزِّل على حدثٍ وقع بعد انتهاء الوحي ، مادام يوافق السياق ، والله الموفق .
ـــــــــــ
(1) جاء في ( زاد المسير) لابن الجوزي : (( وفي الإثم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الذنب الذي لا يوجب الحدَّ ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، والفرَّاء .
والثاني : المعاصي كلها ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه الخمر ، قاله الحسن ، وعطاء . قال ابن الانباري : أنشدنا رجل في مجلس ثعلب بحضرته ، وزعم أن أبا عبيدة أنشده :
نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواع جِهَاراً ... وَنَرى المُتْكَ بيننا مُسْتَعَاراً
فقال أبو العباس : لا أعرفه ، ولا أعرف الإثم : الخمر ، في كلام العرب . وأنشدنا رجل آخر :
شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإثْمُ تَذْهَبُ بالعُقُولِ
قال أبو بكر : وما هذا البيت معروفاً أيضا في شعر من يحتج بشعره ، وما رأيت أحدا من أصحاب الغريب أدخل الإثم في أسماء الخمر ، ولا سمَّتها العرب بذلك في جاهلية ولا إسلام .
فان قيل : إن الخمر تدخل تحت الإثم ، فصواب ، لا لأنه اسم لها )) .