وقفات مع تفسير ابن عطية الأندلسي (2)

إنضم
15/04/2003
المشاركات
1,698
مستوى التفاعل
4
النقاط
38
رأيت أن أتتبع التفسير من أوله ، وأضع بعض الفوائد التي ذكرها ابن عطية ، مما يفيد المفسر حال الاطلاع عليها ؛ خصوصًا ما يكون فيها ارتباط بالتعليق على أقوال المفسرين ، ثم إن رأيت غيرها مفيدًا نقلته ، وأسأل الله أن يعينني على إتمام هذا المشروع ، إنه سميع مجيب .
أولاً : التمثيل للفظ العام
1 ـ في قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة : 3) .
قال ابن عطية : (( وقوله : ( بالغيب) قالت طائفة : معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا ، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا ويكفرون إذا غابوا . وقال آخرون : معناه يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع .
واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك ، فقالت فرقة : الغيب في هذه الآية هو الله عز وجل .
وقال آخرون : القضاء والقدر .
وقال آخرون : القرآن وما فيه من الغيوب .
وقال آخرون : الحشر والصراط والميزان والجنة والنار .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال لا تتعارض ، بل يقع الغيب على جميعها ، والغيب في اللغة : ما غاب عنك من أمر ، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله )) .
2 ـ (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة : 3)
قال ابن عطية : (( قال ابن عباس : (ينفقون) يؤتون الزكاة احتساباً لها .
قال غيره : الآية في النفقة في الجهاد .
قال الضحاك : هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر يُسْرهم .
قال ابن مسعود وابن عباس أيضاً : هي نفقة الرجل على أهله .
قال القاضي أبو محمد : والآية تعمّ الجميع . وهذه الأقوال تمثيل لا خلاف )) .


في هذه الأمثلة يقف ابن عطية موقف الفقيه بتفسير السلف ، العارف بطريقتهم في التعبير عن التفسير ، فاللفظ القرآني عامٌّ ، وعبارات السلف قد تُوهم ـ من لا يفهم طريقتهم ـ التخصيص ، لكن ابن عطية ينبهنا على أن هذا صدر منهم على سبيل التمثيل للفظ العام ، وليس على سبيل التخصيص ؛ لأن التخصيص لا يكون إلا بموجب له .
لذا إذا أخذت المثال الأول ، فقلت : هل الحشر والصراط والميزان والجنة والنار هي جميع الغيب ؟
فالجواب : لا .
وإذا قلت : هل في عبارات السلف ما يُشعر بأنهم أرادوا التخصيص ؟
فالجواب : لا .
إذن ، فإن مرادهم التمثيل للغيب بمثال يفهم منه السامع ( أو القارئ ) المراد بما تحتويه هذه اللفظة من المعنى أو الأنواع .
ويقع هاهنا سؤال يرد على الذِّهن ، وهو : لماذا اختار المفسر هذا المثال دون غيره ؟
والجواب : إن البحث والتنقيب عن هذا عسرٌ جدًّا ، وقد يكون ظاهرًا حينًا ، وقد يخفى في أحيانٍ كثيرة ، لكن لا بأس من تلمُّس أسباب اختيار هذه الأمثلة ، ومن إبداعات ابن عطية في هذا المقام ، وما ورد عنه في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )(آل عمران : 134) ، قال : (( وقال أبو العالية : (والعافين عن الناس ) ، يريد المماليك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن على جهة المثال ، إذ هم الخدمة ، فهم مذنبون كثيراً ، والقدرة عليهم متيسرة ، وإنفاذ العقوبة سهل ، فلذلك مثَّل هذا المفسر به ) .
وهذا ، وايم الله ، فقه تفسيريٌّ عالٍ ، فلا يفوتنَّك .
ولأقف بك مع مثال آخر يدلك على هذا الفقه التفسيري المتميِّز عند ابن عطية ، وستراه ـ إن شاء الله ـ يفك عنك شيئًا من مشكلات التفسير التي تمر بك وأنت تقرأ في تفسير السلف .
3 ـ في قوله تعالى : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (آل عمران 7)
قال ابن عطية : (( واختلفت عبارة المفسرين في تعيين المحكم والمتشابه المراد بهذه الآية ، فقال ابن عباس المحكمات هي قوله تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) ( الأنعام : 151 ) إلى ثلاثة آيات ، وقوله في بني إسرائيل : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) ( الإسراء : 23 ) وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات .
وقال ابن عباس أيضاً : المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وما يؤمن به ويعمل ، والمتشابه منسوخة ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به .
وقال ابن مسعود وغيره : المحكمات الناسخات ، والمتشابهات المنسوخات .
قال الفقيه الإمام : وهذا عندي على جهة التمثيل أي يوجد الإحكام في هذا والتشابه في هذا ، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات ، وقال بهذا القول قتادة والربيع والضحاك ، وقال مجاهد وعكرمة : المحكمات ما فيه الحلال والحرام ، وما سوى ذلك فهو متشابه يصدق بعضه بعضاً ، وذلك مثل قوله : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) ( البقرة : 26 ) وقوله : ( كذلك يجعل الله الرجس على الذني لا يؤمنون ) ( الأنعام : 125 ) .
قال الفقيه أبو محمد : وهذه الأقوال وما ضارعها يضعفها أن أهل الزيغ لا تعلق لهم بنوع مما ذكر دون سواه .
وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكمات هي التي فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه ، والمشتابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية .
وقال ابن زيد : المحكم ما أحكم فيه قصص الأنبياء والأمم وبين لمحمد وأمته ، والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور بعضها باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني ، وبعضه بعكس ذلك نحو قوله : ( حية تسعى )( طه : 20 ) و ( ثعبان مبين ) ( الأعراف : 107 ) ونحو : اسلك يدك ، وأدخل يدك .
وقالت جماعة من العلماء منهم جابر بن عبد الله بن رئاب وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري ، وغيرهما : المحكمات من آي القرآن ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه قال بعضهم : وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور .
قال القاضي رحمه الله : أما الغيوب التي تأتي فهي من المحكمات ، لأن ما يعلم البشر منها محدود وما لا يعلمونه وهو تحديد الوقت محدود أيضاً ، وأما أوائل السور فمن المتشابه لأنها معرضة للتأويلات ولذلك اتبعته اليهود وأرادوا أن يفهموا منه مدة أمة محمد عليه السلام ، وفي بعض هذه العبارات التي ذكرنا للعلماء اعتراضات ، وذلك أن التشابه الذي في هذه الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ به تعلق ، وفي بعض عبارات المفسرين تشابه لا يقتضي لأهل الزيغ تعلقاً )) .
تأمَّل ـ رحمني الله وإياك ـ كيف وقف ابن عطية من تفسيرين متغايرين وردا عن ابن عباس ، فجعل الأمر منه على سبيل المثال للمحكم والمتشابه ، ولو نظر بعض من ضعُف فهمه في طريقة السلف في تعبيرهم لأوصل الأمر إلى الحكم بالتناقض في أقوال ابن عباس ، وتلك ـ والله ـ بسبب جهلنا بطريقتهم في التفسير ، ولاشكَّ أن ذلك نقص في الأداة التفسيرية عندنا ، لكن من كمُلت عنده ـ كابن عطية ـ لم تشكل عليه مثل هذه الاختلافات ، بل حكم بها على أنها من قبيل التمثيل لما هو محكم وما هو متشابه ، لكنه لم يفته ـ رحمه الله تعالى ـ أن يعطيك ضابطًا فيما يدخل في مراد الآية ، فتراه ينبهك على أن بعض الأقوال لا يدخل في مراد الآية ؛ لأن (في بعض هذه العبارات التي ذكرنا للعلماء اعتراضات ، وذلك أن التشابه الذي في هذه الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ به تعلق ، وفي بعض عبارات المفسرين تشابه لا يقتضي لأهل الزيغ تعلقاً) .
وإلى مقال آخر إن شاء الله تعالى .
 
الحمد لله ، وبعد ..

جزاكم الله خيراً ونفع بكم .

دررٌ ، وصيدٌ ثمين ، فلا حرمنا خيركم وفضلكم أيها الشيخ المفيد .

وفي انتظار فضل علمكم .
 
جزاكم الله خيراً وأحسن إليكم
وأسأل الله تعالى أن يعينكم على الإتمام وأن ينفع به ويبارك فيه
فهو عمل مهم جداً يدرك فوائده من عانى البحث في التفسير بالجمع والتحرير
وقيامكم به يُضفي عليه أهمية خاصة لما عُرف عنكم من حسن النظر وجودة التحرير

ورحم الله ابن عطية رحمة واسعة ورفع درجته
فهو من الأئمة المفسرين المقتدى بهم، وجمع هذه الدرر من أقواله وتسليط الضوء عليها بالشرح والبيان والتحرير من أنفع الأشياء لطالب علم التفسير ذلك أنها تعطيه دروساً تطبيقية في علم التفسير يستقيها من مدرسة إمام مفسِّر مشهود له بالتقدم والإمامة في هذا الشأن، يهتدي بها إلى النظر بعمق في أقوال المفسرين، نظراً يدرك به مآخذ الأقوال، ومَنَازِعَ الاعتراضات عليها، وطرق الجمع والترجيح وتنزيل الأقوال منازلها اللائقة بها، مما يفتح للطالب مشرَع الفهم الصحيح لكتاب الله عز وجل.

نفع الله بكم وبارك في جهودكم ورفع منزلتكم.
 
[align=center]ا

لحمد لله

جزاك الله خيرا أخي الكريم

درر ثمينة

وهذه أبيات لها بعض التعلق بما تفضلتم به

قال الناظم.......ثامنا الكلام على اختلاف السلف في التفسير






[align=center]وغالب المنقول مما يؤثــــــر
عنهم من الخلاف فيما فســــروا

خلاف الاسم و المسمى واحــــد
كما يقال صارم مُهنــــــــد

أو ذكر أوصاف الذي قد بينوا
تنوعت اوصافهم وأحسنــوا

أو ذكر فرد م العموم مــثـلا
وليس حصرا قد وفى واكتمـلا

أو لازم اللفظ ومقتضـــــاه
وقول تربه له ضاهــــــاه

ورب آية تلوها فــُــسِّــــرت
بأوجه كسُـكـِــرت و سُـكـِّـرت

كل بما قرأها يـــــــُــؤوِّل
إذن على قرآنه المعـــــــوَّل[/align]
 
وفقك الله

أخي المجلسي الشنقيطي

هلا بينت لنا ناظم هذه الأبيات المفيدة، وجزاك الله خيرا.

وجزى الله خيرا شيخنا الفاضل مساعدا الطيار حفظه الله.
 
الحمد لله

أخي الكريم أبا مالك

هكذا نقلت الابيات و ليس في المصدر المنقول عنه اسم ناظمها فاعذرني على التقصير.
 
أشكر الإخوة الذين عقبوا على الموضوع ، وبمناسبة ما طرحه الأخ المجلسي الشنقيطي ، فإنه نظم للاخنلاف الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في ( مقدمة في أصول التفسير ) ، وسآتي ـ إن شاء الله ـ في مقال لاحق بذكر من استفاد من اين عطية في فكرة ( التفسير بالمثال ) .
 
ومما يدخل في هذا الباب ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ) الآية
قال رحمه الله (الحال المشار إليها بهذه الآية فقالت فرقة هي الأكثر هي حال مكة في وقت بداءة الإسلام والناس الذين يخاف تخطفهم كفار مكة والمأوى على هذا التأويل المدينة والأنصار والتأييد بالنصر وقعة بدر وما أنجز معها في وقتها و " الطيبات " الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به وقالت فرقة الحال المشار إليها هي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر والناس الذين يخاف تخطفهم على هذا عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخوف من بعضهم والمأوى على هذا والتأييد بالنصر هو الإمداد بالملائكة والتغليب على العدو و " الطيبات " الغنيمة
قال القاضي أبو محمد وهذان قولان يناسبان وقت نزول الآية لأنها نزلت عقب بدر وقال وهب بن منبه وقتادة الحال المشار إليها هي حال العرب قاطبة فإنها كانت أعرى الناس أجساما وأجوعهم بطونا وأقلهم حالا ونعما والناس الذين يخاف تخطفهم على هذا التأويل فارس والروم والمأوى على هذا هو النبوءة والشريعة والتأييد بالنصر هو فتح البلاد وغلبة الروم و " الطيبات " هي نعم المآكل والمشارب والملابس
قال القاضي أبو محمد وهذا التأويل يرده أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل
ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب في هذه الآية في آخر زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإن تمثل أحد بهذه الآية لحالة العرب فتمثله صحيح وأما أن تكون حالة العرب هي سبب الآية فبعيد لما ذكرناه
 
وقال وهب بن منبه وقتادة : الحال المشار إليها هي حال العرب قاطبة فإنها كانت أعرى الناس أجساما وأجوعهم بطونا وأقلهم حالا ونعما والناس الذين يخاف تخطفهم على هذا التأويل فارس والروم والمأوى على هذا هو النبوءة والشريعة
جزاكم الله خيراً على ذكر هذا التأويل ، إذاً :
((فآواكم)) لما تستنصرون به وتجتمعون ، وهو الإٍسلام
وفي قوله تعالى : ((وأيدكم بنصره)) بشارة ؛ لأن تأييد الله بالنصر مستمرٌّ ، وهذا ما يتضمنه اسم (النصير) لله سبحانه .
فلا يصح الاعتراض على هذا التأويل بأنه تم نصرهم وقتها في بدر فقط ،
فتأييد الله سبحانه لا ينضب طالما أنّ المؤمنين مستقيمون على الطريقة .
 
شكر الله لك أخي (حمد) ورعاك
وبالنسبة لما ذكرت فلا يخفى عليك أن هناك فرقا كبيرا بين تفسير النص وبين تنزيل النص على الواقع ، فتفسير النص بيان معناه في ضوء ما احتف به من مناسبات وأحوال ، وأما تنزيل النص على الواقع فشيء ءاخر غير التفسير ، ولذا فتضعيف المفسرين لمثل تلك التنزيلات إنما هو تضعيف لها من جهة أن تكون تفسيرا للآية لا نفيا لصحتها بإطلاق ، وترجيحهم معنى بعينه راجع لما احتف به من أحوال وملابسات ، والله أعلم .
ومما يفيد في هذا الباب :
الاستشهاد بالآيات في غير ما نزلت فيه وتَنْـزِيلِ آياتِ الكُفَّارِ عَلَى المُؤْمِنِين
النصوص الشرعية بين الفهم والتنزيل
وفقك الله ورعاك
 
ممكن استفسار دكتور مساعد الطيار عن معنى فقه الحال في تفسير ابن عطية ، كيف تناول الإمام هئا الموضوع ، وهل تناول فقه المعاملات والعبادات فيه . ممكن التوضيح وبارك الله فيك .
 
عودة
أعلى