وقفات بلاغية مع آيات الصيام (2)

إنضم
19 مايو 2006
المشاركات
28
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
الرياض
السلام عليكم ورحمة الله فهذه الوقفة الثانية مع آيات الصيام للنظر في أسرارها البلاغية، ونكتها البيانية، والله أسال أن ينفع بها كل من قرأها، وأن يزيدنا تأملا وتدبرا لكتابه العزيز.
يقول الله تعالى :
﴿ أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذي يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾ وبعد أن ذكر – سبحانه – فرضية الصيام، شرع بعد ذلك في ذكر أحكامه وأيامه في قوله ﴿ أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذي يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾ وقد تمَّ التعبير عن شهر الصيام بقوله ﴿ أياما معدودات ﴾ وفي ذلك كثير من الأسرار البلاغية ، وبيان ذلك: أن المراد بالأيام المعدودة شهر رمضان كاملاً، كما بيّن ذلك ابن جرير الطبري (ت 310هـ) في تفسير هذه الآية، ورجحه على غيره من الأقوال (1 )، ولذا فإن قوله ﴿ معدودات ﴾ كناية عن القلة، يدل على ذلك معناها، إذ المراد بالمعدودات: المُحصيات، فهي الأيام التي تُعد ساعاتها، وتُحصر أوقاتها؛ لكونها مؤقتات بعدد معلوم؛ إذ يحصرهن العدد. ( 2)
وقد ورد وصف "معدودات" في القرآن كثيراً، وكان المراد به الكناية عن القلة، ومن ذلك قوله ﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات......﴾( 3)،وقوله ﴿ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة...﴾( 4)، وتتجلى بلاغة الكناية في آيات الصيام أن فيها تيسيراً وتخفيفاً على المكلفين؛ لكون هذا الشهر أياماً معدودات، وكأن المعنى أن الله – سبحانه وتعالى – يريد أن يقول لنا: (( إني رحمتُكم، وخففتُ عنكم؛ حين لم أفرض عليكم صيام الدهر كله، ولا صيام أكثره، ولو شئتُ لفعلت ذلك، ولكني رحمتُكم، وما أوجبتُ الصوم عليكم إلا في أيام قليلة )). ( 5)
تضمن نظم الآية كلها كثيراً من الأسرار البلاغية، وقد تمَّ توظيفها في بيان هذه الأحكام وإيضاحها، فقد تقدم متعلق خبر "كان" في قوله ﴿ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾ ، وفي هذا التقديم عناية بحال المخاطبين بهذه الأحكام، واهتمام بشأنهم، فقد جاءت هذه الآيات مفصلة أحكام الصيام المتعلقة بهؤلاء المكلفين، بل إن الصيام ما شُرع إلا رحمة بهم، وعناية بشأنهم، ومن هنا جاء التقديم إشارة إلى هذا المعنى، ودلالة عليه، فقد فُرض الصيام عليكم، وشُرعت الأحكام لكم، فأنتم مدار الأمر، ومحل الحكم، فلا غرو بعد هذا أن يُقدم الضمير المتعلق بهم؛ اهتماماً بشأنهم، وحفاوة بأمرهم.
كما ورد في الآية – أيضاً – تقديم المرض على السفر، وكأن في هذا إشارة إلى أن المرض من أكثر الأسباب الداعية إلى الفطر في رمضان بخلاف السفر، فقلة من يُنشأ السفر في رمضان، بل إن كثيراً من المسلمين من يؤجل سفره خلال شهر رمضان؛ بغية الصيام مع المسلمين، بخلاف المرض، فالناس أكثر عرضة له، وإصابة به من السفر، كما أنه لا خيار لهم في وقته ولا مدته، ولذا فقُدم ذكره في آيات الصيام لهذا الغرض، والله أعلم بأسرار كتابه.
وفي قوله ﴿ أو على سفر ﴾ استعارة تبعية بالحروف، ففي حرف الجر "على" – بدلالته على الاستعلاء - استعارة تبعية، فقد استُعير الاستعلاء لمن تَلَبَّس بالسفر، وتمكن منه تمكن الراكب بمركوبه، يتصرف فيه كيف يشاء، ويوجهه أنى أراد، وقد دُلَّ على هذه الاستعارة بالحرف الدال على الاستعلاء، وتكمن بلاغة هذه الاستعارة أن فيها دلالة على أن المسافر قد تمكن من سفره، وقد عزم عليه، بل قطع فيه شوطاً، كما أن فيه إشارة إلى أنه عازم على إتمام سفره، والمضي فيه. (6)
وفي هذه الاستعارة إشارة إلى أنه لا يكفي إرادة السفر لكي يُباح له الفطر، بل لا بد من الشروع فيه، ولذا ذكر بعض الفقهاء أن المسافر لا يحل له الفطر في نهار رمضان إذا أراد السفر إلا إذا فارق بيوت قريته ونحوها( 7)، وفي هذه الاستعارة إشارة إلى هذا المعنى، ومن هنا يتجلى بلاغة الاستعارة وأهميتها في هذا المقام، فقد وُظفت دلالتها في بيان أحكام السفر.
ومن أجل الاستعارة ودلالتها في هذا السياق فقد آثر النظم القرآني المغايرة بين قوله ﴿مريضا ﴾ وقوله ﴿ أو على سفر ﴾ ولو تمت المراعاة اللفظية بينهما لقيل:(أو مسافراً)، وذلك أن قوله ﴿ أو على سفر ﴾ في محل نصب معطوف على خبر كان، والتقدير: أو كان مسافراً. ( 8)
كما تضمن قوله ﴿ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾ حذفاً لطيفاً، بل هو من روائع الحذف وبدائعه، وبيان ذلك: أن بين الشرط وجوابه محذوفاً لا يستقيم الكلام إلاَّ به، والتقدير: (فأفطر فعدة من أيام أخر)، فحُذف قوله "فأفطر"؛ وذلك ثقة بظهوره، وذلك أن المعنى لا يستقيم إلا بهذا التقدير، ونظير هذا الحذف في كتاب الله قوله – تعالى - ﴿ فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾ (9 ) أي فضرب البحر فانفلق، ومعلوم أن البحر لم ينفلق إلاَّ بعد ضربه، ولذا حُذف لظهوره، وكذلك الشأن في آية الصيام، فإن الصائم لن يقضي من شهر رمضان إلاَّ إذا أفطر منه، وتتجلى بلاغة الحذف أن فيه إيجازاً، وقد أدى هذا الإيجاز إلى تلاحم الكلام وترابطه، كما أن فيه صيانة له من الترهل والإطالة فيما لا طائل له، كيف وقد اتضح المراد، وتبين المقصود.
كما أن ثمة حذفاً آخر في الآية، وذلك أن قوله ﴿ فعدة ﴾ مرفوعة بالابتداء، فخبرها محذوف، والتقدير: فعليه عدة( 10)، وفي هذا التقدير إشارة إلى وجوب العدة، بدلالة حرف الجر "على" على الاستعلاء، وفي هذا الحذف تعجيل بالحكم الشرعي المنوط بمن أفطر في نهار رمضان لمرض أو سفر، ومن هنا تتجلى بلاغة الحذف في هذا السياق، ومنه يتجلى ارتباطه بآيات الصيام، فقد تمَّ توظيفها توظيفاً بليغاً في بيان هذه الأحكام وإظهارها.
وفي قوله ﴿طعام مسكين ﴾ مجاز مرسل، باعتبار ما سيكون، فليس هو طعاماً للمسكين قبل تملُّكه، وحصوله عليه، ولكن أُضيف الطعام إليه باعتبار ما سيؤول إليه، تتجلى بلاغة المجاز في آيات الصيام، وفي هذا المقام أن فيه إشارة إلى أن هذه الفدية – وهي الإطعام – أمر محقق، واجبة على من أفطر، فكأن هذا الطعام قد خرج من يده، ومِنْ مُلْكِه، وصار في مُلْك المسكين؛ لأنه حق من حقوقه.
وثمة قراءة أخرى لكلمة "مسكين" فقد قُرئت بالجمع "مساكين"( 11)، وفي هذه القراءة إشارة لطيفة متعلقة بالفدية، فقد جاءت مجموعة مقابلة للفظة "يطيقونه" فقابل الجمع بالجمع، وبيان ذلك: أن الذين يطيقونه جماعة، وكل واحد منهم يلزمه مسكين، فجاء الجمع إشارة إلى هذا المعنى(12 )،وهو معنى حسن، وإشارة لطيفة تضمنتها لفظة " مساكين" حين جاءت جمعاً.
وأما من قرأ "مسكين" بالإفراد ففيها – أيضاً – معنى لطيف آخر، وهو الإشارة إلى أن المعنى: على كل واحد طعام مسكين واحد لكل يوم أفطره ( 13)، فالمسكين يقابل اليوم الذي تمَّ الفطر فيه، وقد أشار ابن عطية إلى هذا الإفراد و بلاغته، يقول: (( فإن قلت: كيف أفردوا المساكين، والمعنى على الكثرة؛ لأن الذين يطيقونه جمع، وكل واحد منهم يلزمه مسكين، فكان الوجه أن يُجمعوا، كما جُمع المطيقون؟ فالجواب: إن الإفراد حسن؛ لأنه يُفهم بالمعنى أن لكل واحد مسكيناً، ونظير هذا قوله – تعالى - ﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ﴾( 14)، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم، بل لكل واحد ثمانون )). (15 )
وقوله ﴿ فمن تطوع خيرا فهو خير له ﴾ من إيجاز قِصَر، فقد حوت هذه الألفاظ القليلة كثيراً من المعاني التي يتعذر حصرها، والوقوف عليها، كما أن فيها كثيراً من الأحكام المتعلقة بالصيام، والإفطار، والفدية، وقد تمَّ التعبير عنها واحتواؤها بهذه الألفاظ القليلة، وقد أشار الإمام الطبري (ت 310هـ) في تفسيره إلى هذا الإيجاز، يقول – بعد أن ذكر كثيراً من الأقوال والأحكام التي تضمنتها -: (( والصواب من القول: أن الله – تعالى ذكره – عمَّ بقوله ﴿ فمن تطوع خيرا ﴾ فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض، فجمعُ الصوم مع الفدية من تطوع الخير، وزيادة مسكين على جزاء الفدية من تطوع الخير، وزيادة المسكين على قدر قوت يومه من تطوع الخير... لأن كل ذلك من تطوع الخير، ونوافل الفضل )). ( 16)
كما أن قوله ﴿ فهو خير ﴾ من إيجاز القِصَر – كذلك - فقد حوت لفظة "خير" كثيراً من المعاني التي يتعذر حصرها، والإحاطة بها، وإنما نعدُّ منها ولا نعددها، فقد حوت الخير المطلق، فهو وعد من الرب الكريم أن من فعل خيراً فإن له مقابل ذلك خيراً عظيماً، وحسبك بخير صادر من رب كريم! كيف وقد ذُكر في سياق الجزاء والثواب، فهو – سبحانه – أهل الكرم والجود، يداه سحاء، ولذا فيتعذر على الفكر حصر هذه الخير، والوقوف عليه، وإنما نعدد منه، وإلا فإن فضل الله لا يحصيه العدد، ولا يحيط به الحصر .
ثم ختم – سبحانه – الآية بالحث على الصيام في قوله ﴿ وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾، والمعنى: أن فاعلموا ذلك أيها المؤمنون، وصوموا، فهو خير لكم. ( 17)
وقد اجتمعا نوعا الإيجاز في قوله ﴿ خير لكم ﴾؛ وذلك أن فيها حذفاً وقِصَراً، فتقدير المحذوف: خير لكم من الإطعام، وقد حُذف؛ لوضوحه؛ لدلالة المقام عليه( 18)، فقد ذُكر ذلك في سياق المفاضلة بين الصيام والإفطار، فذكر – سبحانه – أن الصيام خير من الإفطار، وفي ذلك حثٌّ على الصيام، وحضٌّ عليه.
كما أن في لفظة "خير" إيجاز قصر؛ وذلك لاشتمالها على كثير من المعاني، وبيان ذلك أن الصيام خير من الإفطار في كل شيء، هكذا وردت في القرآن الكريم مطلقة دون تقييد، وقد أفاد هذا التقييد الإطلاق والعموم، فهو خير في كل شيء ديناً ودنياً، ومن ذا يحصر مصالح الصيام الدنيوية؟ ومن ذا الذي يحصر مصالحه – كذلك – ومنافعه الآخروية؟ ولذا جاء الإجاز ليشمل هذه كله بأقصر الألفاظ، بل بكلمة واحدة، فتأمل بلاغة القرآن وإعجازه.
كما أن قوله ﴿ وأن تصوموا خير لكم ﴾ التفات من الغيبة في قوله ﴿وعلى الذي يطيقونه) إلى الخطاب في قوله ﴿ وأن تصوموا خير لكم﴾ ، وقد جاء الالتفات في هذا السياق متوافقاً أتم التوافق مع مضمون الآية ومحتواها، وكأن المقام قد حتم هذا الالتفات وأوجبه، وذلك أن في الخطاب مزيداً من الاهتمام، والعناية بالمخاطبين، كما أنه مظهرٌ من مظاهر الحفاوة، والرعاية بهم، فرفعةً لشأنهم، وإعلاءً من قدرهم توجه – سبحانه – بالخطاب إليهم، كما أن فيه تهويناً عليهم لأمر الصيام مشاقه، فقد أنستهم لذة المناجاة هذه المشاق كلها، وهوَّنتها عليهم. (19 )
كما أن الانتقال من أسلوب إلى آخر إشارة إلى أن هاهنا معنى عظيماً يستحق لفت الأنظار إليه، ويستحق – كذلك – تنشيط العقول، وتحريك الأفهام؛ للوقوف عنده واستيعابه، ولذا نرى أن المعنى الذي تمَّ فيه الالتفات من الأهمية بمكان، وهو تفضيل الصيام على الإطعام، والحث على الصيام، بل إن هذا الأمر مدار هذه الآيات وموضوعها، ومن هنا جاء الالتفات في هذا الموضع للإشارة إليها.
وقوله ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ إتمام للحث على الصيام، والترغيب فيه، يتجلى ذلك من خلال حذف متعلق الفعل "تعلمون"، فقد حُذف لوضوحه، ودلالة السياق عليه( 20)، والتقدير: إن كنتم تعلمون فضيلة الصيام وفوائده التي بسببها فُضِّل الصيام على الإفطار، ومن ثم كان الحث عليه ( 21)، كما أن هذا الحذف هو الأبلغ والمتوافق مع فضائل الصيام وفوائده التي لا حصر لها.
وفي مجيء أداة الشرط "إنْ" دون "إذا" دلالة في هذا المقام، فهاتان الأداتان وإن كانتا من أدوات الشرط إلا أن لكل واحدة دلالة تدل عليها، ومقاماً تأتي فيه دون الأخرى، فتأتي "إن" في الأمور المشكوك في وقوعها، المحتمل حدوثها، بخلاف "إذا" فتأتي في الأمور المتيقن وقوعها، المجزوم حدوثها، وقد جاءت أداة الشرط "إنْ" هنا إشارة إلى أن علم المخاطبين بالصيام، وتفضيله على الإطعام غير متحقق لدى كل المخاطبين، كما أن حكمته وفائدته قد تكون خافية لدى بعضهم. ( 22)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( ) جامع البيان: 3/159 .
(2) انظر: المصدر السابق: 3/160 .
(3) البقرة: 80 .
(4) يوسف: 20 .
(5) التفسير الكبير: 5/63 .
(6) انظر: حاشية زادة على تفسير البيضاوي: 1/491 .
(7) انظر: حاشية الروض المربع: 3/376 .
(8) انظر: إملاء ما منَّ به الرحمن: 1/80، و: التفسير الكبير: 5/64 .
(9) الشعراء: 63 .
(0 ) انظر: معاني القرآن: 1/252، للزجاج .
(1 ) انظر: إملاء ما منَّ به الرحمن: 1/81 .
(2 ) انظر: التفسير الكبير: 5/70 .
(3 ) انظر: المصدر السابق: 5/70 .
(4 ) النور: 4 .
(5 ) المحرر الوجيز:1/252 .
(6 ) جامع البيان: 3/186 .
(7 ) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 2/194 .
(8 ) انظر: معاني القرآن:1/112، للفراء .
(9 ) انظر: روح المعاني: 2/59 .
(20) انظر: إرشاد العقل السليم: 1/119 .
(21) انظر: محاسن التأويل: 3/423 .
(22) انظر: التحرير والتنوير: 2/168 .
 
أن بين الشرط وجوابه محذوفاً لا يستقيم الكلام إلاَّ به، والتقدير: (فأفطر فعدة من أيام أخر
إن قدرت محذوفا- فأفطر- إذن فإن الصوم والفطرعلي التخيير في حال المرض والسفر والأمر ليس كذلك
 
عودة
أعلى