عبدالعزيز العمار
New member
[إلى الأخوة الفضلاء في هذا الملتقى المبارك؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فيسرني
أن أشارك بهذه المشاركة، ولها في نفسي مكانة سامقة، ومنزلة عالية؛ وذلك لسببين، الأولى: أنها تتحدث عن آيات الصيام، ونحن في شهر رمضان المبارك، وأدعوه – سبحانه – أن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يجعلنا ممن يصوم ويقوم إيماناً واحتساباً. الثاني: أن هذه المشاركة في البلاغة القرآنية، تلك البلاغة التي شرفتُ بالانتساب إليها، والانضواء تحت لوائها، وقد شغفت بها وتعلقت، وقد قضيت شطراً من عمري في القراءة فيها، وإنعام النظر في آيات هذا الكتاب العزيز تأملا وتدبراً؛ للوقوف عند درر بيانه، وفرائد فصاحته، بيد أن عجائب هذا الكتاب لا تنقضي، كما أن فيه مطمعاً للراغبين، ومنهلا للواردين، فإن نبعه لم ينضب ولن ينضب، فحيّّ هلا ثم أهلا فإن المستشرف عزيز والغاية نبيلة، والله من وراء القصد .
ﭽ يا أيها الذين آمنوا كُـتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ﴾
استُفتحتْ آيات الصيام بنداء المؤمنين في قوله ﴿ يا أيها الذين آمنو ﴾، وفي ذلك مزيد عناية بهم، وتشريف لهم بوصفهم بالإيمان، ومناداتهم به، كما أن في ذلك توطئة لأمرهم بالصيام، وتهيئة نفوسهم لتقبل هذه الأحكام، ومن ثَم العمل بها، فكأنه يقول لهم: لأنكم مؤمنون منقادون مسلمون، فقد أمرتكم بالصيام، وفرضته عليكم، ومن لوازم إيمانهم بربهم، وإذعانهم له قبولهم هذه الأحكام، والعمل بها، والرضا التام بها، ولذا فلسان حالهم يقول: سمعنا وأطعنا، ومن هنا جاء مناداتهم بالإيمان في هذا المقام إشارة إلى المعنى، ودلالة عليه، ولعل هذا هو السرّ في ورود النداء مع كثير من الأحكام الشرعية، كما تجلى ذلك في آيات القصاص، وفي غيرها من الأحكام الشرعية.
وفي إسناد الفعل ﴿ كُتب ﴾ إلى مالم يُسمَّ فاعله لطيفة مهمة، وإشارة بالغة في مقام الأمر والتكليف، فقد حُذف الفاعل؛ وذلك لأسرار بلاغية؛ وذلك للعلم به، وهو الله – سبحانه وتعالى -، فهو وحده الذي يكلف عباده، بيد أن ثمة سراً لطيفاً في مجيئه بهذه الصورة، وبيان ذلك: أن في هذه الآيات تكليفاً شاقاً على نفوس المؤمنين؛ وذلك أن فيه منعاً لهم من التمتع بملاذ الأكل والشرب، كما أن فيه منعاً لهم من التمتع بالنساء، فكان من البلاغة في ذلك ألاَّ تُنسب هذه التكاليف الشاقة إليه – سبحانه -، فهو أهل المغفرة والرحمة، ولعل هذا هو السرّ في مجيء لفظة ﴿ كُتب ﴾ بهذه الصيغة في كثير من التكاليف الشرعية، كما تجلى ذلك في آيات القصاص في قوله ﴿يا أيها الذين آمنوا كُـتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى...﴾ ، وكذلك في آيات الوصية في قوله ﴿ كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروفﯪ ...﴾، ومن العجيب في هذا الباب - وذلك سرٌّ من أسرار القرآن الكريم، ولطيفة من لطائف البيان كما يذكر ذلك أبو حيان الأندلسي (1 ) – مجيء لفظة " كَتَبَ " مبنية للمعلوم في سياق الامتنان والرحمة بالمؤمنين، ومن ذلك قوله ﴿ كَتبَ ربكم على نفسه الرحمة ...﴾(2 ) ، وقوله ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي...﴾(3 ) ، وقوله ﴿ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان...﴾(4 ) وغيرها من الآيات.
وفي تقدم الجار والمجرور " عليكم" على كلمة " الصيام" في قوله ﴿ كُتب عليكم الصيام ﴾ في ذلك إشارة إلى الاهتمام بأمر المؤمنين، ومزيد عناية بهم وحفاوة؛ وذلك أن الأمر يخصهم، فهم المأمورون بالصيام، فهم الذين قد كُلفوا بذلك، وهم الذين ناداهم ربهم في هذا السياق، كما أن في تأخير لفظة "الصيام" تشويقاً لها، فستظل نفوس المؤمنين مترقبة لها، منتظرة الأمر، فيأتي الأمر بعد ترقب وتشوق، وحينها يستقر الأمر في وجدانها، وتعتنقه أتم اعتناق، وتقوم به على الوجه المطلوب منها في الأداء.
وقد تضمن قوله ﴿ كُتب عليكم ﴾ اِلإيجاب القاطع، والدلالة النصية بفرضية الصيام على المؤمنين، ففي لفظة "كُتب" الإشارة إلى الوجوب، وذلك أن معنى ﴿ كُتب عليكم ﴾ أي فُرض عليكم، وذلك هو معنى الكلمة في القرآن الكريم حيثما وقعت فيه كما يذكر ذلك الفراء . (5 )
وقد أكد هذا المعنى وأظهره حرف الجر "على" – بدلالته على الاستعلاء – في قوله ﴿ عليكم ﴾؛ وذلك أن فيه (( دليلاً على وجوب هيمنة هذا الحكم على الأمة المسلمة، وعدم التسامح فيه، والتهاون في تنفيذه )) . ( 6 )
جاء التشبيه في قوله ﴿ كما كُتب على الذين من قبلكم ﴾ تأكيداً للوجوب، ومتمماً له، وبيان ذلك: أن فيه الإشارة إلى أن الصيام فريضة قديمة، كتبها الله على الأنبياء والأمم من قبلنا جميعاً، وما أخلى الله أمة من الأمم السابقة من إيجابه عليهم، ولم يكن فرض الصيام على هذه الأمة وحدها(7 )، وفي هذا إشارة إلى أن الأمة الإسلامية امتداد للأمم المؤمنة التي سبقتها، فهي تسير على خطاها، وتقتفي أثرها، وتلتزم بما التزمت به، ولهذا فهاهو الصوم يُفرض عليها كما فُرض على الذين من قبلها، وهذه الأمة خير الأمم فلا غرو أن يُفرض عليها، ولا غرو أن تقوم به خير قيام.
وإن كان المعنى الذي وقع عليه التشبيه هو: مدة الصيام فقط دون غيره، كما يذكر ذلك الطبري، ويرجحه على غيره، فقد ذكر في تفسيره (( أن التشبيه إنما وقع على الوقت؛ وذلك أن من كان قبلنا إنما فُرض عليه صوم شهر رمضان مثل الذي فُرض علينا سواء )). (8 )
وقد دلَّ التشبيه على أهمية الصيام، ففيه الإشارة إلى عِظم الصيام، وما تضمنه من الحِكَم والمصالح، تشهد بذلك العقول السليمة، والفطر المستقيمة، ولذا شرعه الله، وفرضه عليهم؛ رحمة بهم وإحساناً(9 )، وفي ذلك دلالة على أن الصوم ركن ركين في كل دين، فهو من أقوى العبادات، كما أنه وسيلة مهمة في تهذيب النفس وإصلاحها، ولذا فرضه الله علينا، وعلى الأمم السابقة، كما أن فيه إشارة إلى وحدة الدين في مصدره، وفي أصوله ومقاصده، وفي هذا تأكيد لفرضية الصيام، وترغيب فيه . (10 )
وقد أشار الطاهر بن عاشور إلى أغراض التشبيه في قوله ﴿ كما كُتب على الذين من قبلكم ﴾ وبيّن مقاصده وحِكمه، وذكر (( أغراضاً ثلاثة تضمنها التشبيه:
أحدها: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها، فقد شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل الإسلام، وشرعها للمسلمين؛ وذلك يقتضي اطراد صلاحها، ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة؛ كي لا يتميز بها من كان قبلهم.
الغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم.
الغرض الثالث: إثارة العزائم؛ للقيام بهذه الفريضة؛ حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض؛ بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة )). (11 )
وسيظل في هذا التشبيه ﴿ كما كُتب على الذين من قبلكم ﴾ مزيداً لمن يتأمله، وينعم النظر فيه، كما أن فيه إشارة مهمة في هذا السياق ستأتي الإشارة إليها في موضع آخر من آيات الصيام أتركها لذلك المقام؛ لأنها به ألصق وأعلق.
ثم بيّن – سبحانه – في خاتمة الآية الغاية من فرضية الصيام في قوله ﴿ لعلكم تتقون ﴾ و" لعل" هنا للترجي، وهو ترجٍ في حق العباد، فموضعه هنا المخاطبون لا المتكلم، فهم المأمورون بالصيام، وهم الذين يترقبون بصيامهم منزلة التقوى. (12 )
كما أنه يُهوِّن لذائذ الدنيا ويصغرها في عين الصائم؛ لكونه يحدُّ من شهوة البطن والفرج، فمن هان عليه هذان الأمران خفت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحرمات والفواحش، وكان ذلك سبباً في امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتلك هي التقوى، وهي الغاية من فرضية الصيام. (13 )
حُذف متعلق " تتقون " في قوله ﴿ لعلكم تتقون ﴾ فلم تُذكر الأمور التي يتقيها المسلمون بصيامهم، وثمة سرٌّ لطيف وراء هذا الحذف، وهو إرادة العموم، فالمراد بذلك: أن يتقوا كل شيء من شأنه أن يقربهم من سخط مولاهم عليهم، وهي كثيرة لا حصر لها، ولو ذُكر متعلق " تتقون " لانحصر الذهن في المذكور، وهذا لا يصح، ولذا فإن الغرض من هذا الحذف هو: أن تذهب النفس في تقديره كل مذهب، لكي تحذر كل المحظورات وتتجنبها، وتبتعد عنها كل البعد، ولا تواقعها، وتلك هي التقوى الذي جُعل الصوم سبباً موصلاً إليها.
إذن فالغرض من الصيام تحقيق التقوى بنص القرآن الكريم، فالمسلم من خلال صيامه يجعل بينه وبين سخط الله وعذابه وقاية؛ لِما فيه من قهر النفس، وقمع الهوى، ولذا فهو من أكبر الأسباب الرادعة عن مواقعة السوء، والوقوع في الفحشاء. (14 )
وللشيخ عبدالرحمن السعدي كلام نفيس أشار فيه إلى بلاغة هذا الحذف، وبيّن أنه طريقة من طرق التعبير القرآني، وقاعدة من قواعده التي يسير عليها، فذكر أن من بلاغة القرآن الكريم أنه يحذف متعلق المعمول، ذكر ذلك في كتابه " القواعد الحسان لتفسير القرآن"، ذكر فيه سبعين قاعدة من قواعد القرآن الكريم، وذكر هذه القاعدة، وجعلها الرابعة عشرة، وفي تقديمها علىغيرها؛ إشارة إلى أهميتها، وأنه من القواعد الأساسية في تعبير القرآن عن مقاصده، يقول: (( حذف متعلق المعمول فيه يفيد تعميم المعنى المناسب له، وهذه قاعدة مفيدة جداً متى اعتبرها الإنسان في الآيات القرآنية أكسبته فوائد جليلة؛ وذلك أن الفعل وما هو معناه متى قُيِّد بشيء تقيد به، فإذا أطلقه الله –تعالى -، وحذف المتعلق كان القصد من ذلك: التعميم، ويكون الحذف هنا أحسن، وأفيد كثيراً من التصريح بالمتعلقات، وأجمع للمعاني النافعة )). (15 )
وساق لذلك كثيراً من الشواهد، وكان مما ذكره من الشواهد: آية الصوم التي معنا، وهي قوله:
ﭽ يا أيها الذين آمنوا كُـتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ﴾ فأشار إلى بلاغة حذف المتعلق في قوله ﴿ لعلكم تتقون ﴾ فبين حكمته وأسراره قائلاً: (( يفيد كل ما قيل في حكمة الصيام، أي لعلكم تتقون المحارم عموماً، ولعلكم تتقون ماحرم الله للصائمين من قول الزور، والعمل به، ومن كل الأحوال السيئة والخبيثة، وتتقون وتتجنبون المفطرات، والممنوعات، ولعلكم تتصفون بصفة التقوى، وتحصلون على ما يقيكم مما تكرهون، وتتخلقون بأخلاقها )). (16 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي والتعليقات:
(1 ) انظر: البحر المحيط: 2/35 .
(2) الأنعام: 54 .
(3) المجادلة: 21 .
(4) المجادلة: 22 .
(5) انظر: معاني القرآن: 1/110، للفراء.
(6) تأملات في سورة البقرة: 2/973 .
(7) انظر: الكشاف: 1/334، و: التفسير الكبير: 5/95 .
(8) جامع البيان: 2/156 .
(9) انظر: محاسن التأويل: 3/414.
(10) انظر: تفسير القرآن الحكيم: 2/143 .
(11) التحرير والتنوير: 2/157 .
(12) انظر: معاني القرآن: 1/252، للزجاج، و: تفسير القرآن الحكيم: 2/143 .
(13) انظر: التفسير الكبير: 5/60، و:تيسير الكريم الرحمن: 1/143 .
(14) انظر: محاسن التأويل: 1/149 .
(15) القواعد الحسان لتفسير القرآن: 46 .
(16) المصدر السابق: 47 .[/font]
أن أشارك بهذه المشاركة، ولها في نفسي مكانة سامقة، ومنزلة عالية؛ وذلك لسببين، الأولى: أنها تتحدث عن آيات الصيام، ونحن في شهر رمضان المبارك، وأدعوه – سبحانه – أن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يجعلنا ممن يصوم ويقوم إيماناً واحتساباً. الثاني: أن هذه المشاركة في البلاغة القرآنية، تلك البلاغة التي شرفتُ بالانتساب إليها، والانضواء تحت لوائها، وقد شغفت بها وتعلقت، وقد قضيت شطراً من عمري في القراءة فيها، وإنعام النظر في آيات هذا الكتاب العزيز تأملا وتدبراً؛ للوقوف عند درر بيانه، وفرائد فصاحته، بيد أن عجائب هذا الكتاب لا تنقضي، كما أن فيه مطمعاً للراغبين، ومنهلا للواردين، فإن نبعه لم ينضب ولن ينضب، فحيّّ هلا ثم أهلا فإن المستشرف عزيز والغاية نبيلة، والله من وراء القصد .
ﭽ يا أيها الذين آمنوا كُـتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ﴾
استُفتحتْ آيات الصيام بنداء المؤمنين في قوله ﴿ يا أيها الذين آمنو ﴾، وفي ذلك مزيد عناية بهم، وتشريف لهم بوصفهم بالإيمان، ومناداتهم به، كما أن في ذلك توطئة لأمرهم بالصيام، وتهيئة نفوسهم لتقبل هذه الأحكام، ومن ثَم العمل بها، فكأنه يقول لهم: لأنكم مؤمنون منقادون مسلمون، فقد أمرتكم بالصيام، وفرضته عليكم، ومن لوازم إيمانهم بربهم، وإذعانهم له قبولهم هذه الأحكام، والعمل بها، والرضا التام بها، ولذا فلسان حالهم يقول: سمعنا وأطعنا، ومن هنا جاء مناداتهم بالإيمان في هذا المقام إشارة إلى المعنى، ودلالة عليه، ولعل هذا هو السرّ في ورود النداء مع كثير من الأحكام الشرعية، كما تجلى ذلك في آيات القصاص، وفي غيرها من الأحكام الشرعية.
وفي إسناد الفعل ﴿ كُتب ﴾ إلى مالم يُسمَّ فاعله لطيفة مهمة، وإشارة بالغة في مقام الأمر والتكليف، فقد حُذف الفاعل؛ وذلك لأسرار بلاغية؛ وذلك للعلم به، وهو الله – سبحانه وتعالى -، فهو وحده الذي يكلف عباده، بيد أن ثمة سراً لطيفاً في مجيئه بهذه الصورة، وبيان ذلك: أن في هذه الآيات تكليفاً شاقاً على نفوس المؤمنين؛ وذلك أن فيه منعاً لهم من التمتع بملاذ الأكل والشرب، كما أن فيه منعاً لهم من التمتع بالنساء، فكان من البلاغة في ذلك ألاَّ تُنسب هذه التكاليف الشاقة إليه – سبحانه -، فهو أهل المغفرة والرحمة، ولعل هذا هو السرّ في مجيء لفظة ﴿ كُتب ﴾ بهذه الصيغة في كثير من التكاليف الشرعية، كما تجلى ذلك في آيات القصاص في قوله ﴿يا أيها الذين آمنوا كُـتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى...﴾ ، وكذلك في آيات الوصية في قوله ﴿ كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروفﯪ ...﴾، ومن العجيب في هذا الباب - وذلك سرٌّ من أسرار القرآن الكريم، ولطيفة من لطائف البيان كما يذكر ذلك أبو حيان الأندلسي (1 ) – مجيء لفظة " كَتَبَ " مبنية للمعلوم في سياق الامتنان والرحمة بالمؤمنين، ومن ذلك قوله ﴿ كَتبَ ربكم على نفسه الرحمة ...﴾(2 ) ، وقوله ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي...﴾(3 ) ، وقوله ﴿ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان...﴾(4 ) وغيرها من الآيات.
وفي تقدم الجار والمجرور " عليكم" على كلمة " الصيام" في قوله ﴿ كُتب عليكم الصيام ﴾ في ذلك إشارة إلى الاهتمام بأمر المؤمنين، ومزيد عناية بهم وحفاوة؛ وذلك أن الأمر يخصهم، فهم المأمورون بالصيام، فهم الذين قد كُلفوا بذلك، وهم الذين ناداهم ربهم في هذا السياق، كما أن في تأخير لفظة "الصيام" تشويقاً لها، فستظل نفوس المؤمنين مترقبة لها، منتظرة الأمر، فيأتي الأمر بعد ترقب وتشوق، وحينها يستقر الأمر في وجدانها، وتعتنقه أتم اعتناق، وتقوم به على الوجه المطلوب منها في الأداء.
وقد تضمن قوله ﴿ كُتب عليكم ﴾ اِلإيجاب القاطع، والدلالة النصية بفرضية الصيام على المؤمنين، ففي لفظة "كُتب" الإشارة إلى الوجوب، وذلك أن معنى ﴿ كُتب عليكم ﴾ أي فُرض عليكم، وذلك هو معنى الكلمة في القرآن الكريم حيثما وقعت فيه كما يذكر ذلك الفراء . (5 )
وقد أكد هذا المعنى وأظهره حرف الجر "على" – بدلالته على الاستعلاء – في قوله ﴿ عليكم ﴾؛ وذلك أن فيه (( دليلاً على وجوب هيمنة هذا الحكم على الأمة المسلمة، وعدم التسامح فيه، والتهاون في تنفيذه )) . ( 6 )
جاء التشبيه في قوله ﴿ كما كُتب على الذين من قبلكم ﴾ تأكيداً للوجوب، ومتمماً له، وبيان ذلك: أن فيه الإشارة إلى أن الصيام فريضة قديمة، كتبها الله على الأنبياء والأمم من قبلنا جميعاً، وما أخلى الله أمة من الأمم السابقة من إيجابه عليهم، ولم يكن فرض الصيام على هذه الأمة وحدها(7 )، وفي هذا إشارة إلى أن الأمة الإسلامية امتداد للأمم المؤمنة التي سبقتها، فهي تسير على خطاها، وتقتفي أثرها، وتلتزم بما التزمت به، ولهذا فهاهو الصوم يُفرض عليها كما فُرض على الذين من قبلها، وهذه الأمة خير الأمم فلا غرو أن يُفرض عليها، ولا غرو أن تقوم به خير قيام.
وإن كان المعنى الذي وقع عليه التشبيه هو: مدة الصيام فقط دون غيره، كما يذكر ذلك الطبري، ويرجحه على غيره، فقد ذكر في تفسيره (( أن التشبيه إنما وقع على الوقت؛ وذلك أن من كان قبلنا إنما فُرض عليه صوم شهر رمضان مثل الذي فُرض علينا سواء )). (8 )
وقد دلَّ التشبيه على أهمية الصيام، ففيه الإشارة إلى عِظم الصيام، وما تضمنه من الحِكَم والمصالح، تشهد بذلك العقول السليمة، والفطر المستقيمة، ولذا شرعه الله، وفرضه عليهم؛ رحمة بهم وإحساناً(9 )، وفي ذلك دلالة على أن الصوم ركن ركين في كل دين، فهو من أقوى العبادات، كما أنه وسيلة مهمة في تهذيب النفس وإصلاحها، ولذا فرضه الله علينا، وعلى الأمم السابقة، كما أن فيه إشارة إلى وحدة الدين في مصدره، وفي أصوله ومقاصده، وفي هذا تأكيد لفرضية الصيام، وترغيب فيه . (10 )
وقد أشار الطاهر بن عاشور إلى أغراض التشبيه في قوله ﴿ كما كُتب على الذين من قبلكم ﴾ وبيّن مقاصده وحِكمه، وذكر (( أغراضاً ثلاثة تضمنها التشبيه:
أحدها: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها، فقد شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل الإسلام، وشرعها للمسلمين؛ وذلك يقتضي اطراد صلاحها، ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة؛ كي لا يتميز بها من كان قبلهم.
الغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم.
الغرض الثالث: إثارة العزائم؛ للقيام بهذه الفريضة؛ حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض؛ بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة )). (11 )
وسيظل في هذا التشبيه ﴿ كما كُتب على الذين من قبلكم ﴾ مزيداً لمن يتأمله، وينعم النظر فيه، كما أن فيه إشارة مهمة في هذا السياق ستأتي الإشارة إليها في موضع آخر من آيات الصيام أتركها لذلك المقام؛ لأنها به ألصق وأعلق.
ثم بيّن – سبحانه – في خاتمة الآية الغاية من فرضية الصيام في قوله ﴿ لعلكم تتقون ﴾ و" لعل" هنا للترجي، وهو ترجٍ في حق العباد، فموضعه هنا المخاطبون لا المتكلم، فهم المأمورون بالصيام، وهم الذين يترقبون بصيامهم منزلة التقوى. (12 )
كما أنه يُهوِّن لذائذ الدنيا ويصغرها في عين الصائم؛ لكونه يحدُّ من شهوة البطن والفرج، فمن هان عليه هذان الأمران خفت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحرمات والفواحش، وكان ذلك سبباً في امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتلك هي التقوى، وهي الغاية من فرضية الصيام. (13 )
حُذف متعلق " تتقون " في قوله ﴿ لعلكم تتقون ﴾ فلم تُذكر الأمور التي يتقيها المسلمون بصيامهم، وثمة سرٌّ لطيف وراء هذا الحذف، وهو إرادة العموم، فالمراد بذلك: أن يتقوا كل شيء من شأنه أن يقربهم من سخط مولاهم عليهم، وهي كثيرة لا حصر لها، ولو ذُكر متعلق " تتقون " لانحصر الذهن في المذكور، وهذا لا يصح، ولذا فإن الغرض من هذا الحذف هو: أن تذهب النفس في تقديره كل مذهب، لكي تحذر كل المحظورات وتتجنبها، وتبتعد عنها كل البعد، ولا تواقعها، وتلك هي التقوى الذي جُعل الصوم سبباً موصلاً إليها.
إذن فالغرض من الصيام تحقيق التقوى بنص القرآن الكريم، فالمسلم من خلال صيامه يجعل بينه وبين سخط الله وعذابه وقاية؛ لِما فيه من قهر النفس، وقمع الهوى، ولذا فهو من أكبر الأسباب الرادعة عن مواقعة السوء، والوقوع في الفحشاء. (14 )
وللشيخ عبدالرحمن السعدي كلام نفيس أشار فيه إلى بلاغة هذا الحذف، وبيّن أنه طريقة من طرق التعبير القرآني، وقاعدة من قواعده التي يسير عليها، فذكر أن من بلاغة القرآن الكريم أنه يحذف متعلق المعمول، ذكر ذلك في كتابه " القواعد الحسان لتفسير القرآن"، ذكر فيه سبعين قاعدة من قواعد القرآن الكريم، وذكر هذه القاعدة، وجعلها الرابعة عشرة، وفي تقديمها علىغيرها؛ إشارة إلى أهميتها، وأنه من القواعد الأساسية في تعبير القرآن عن مقاصده، يقول: (( حذف متعلق المعمول فيه يفيد تعميم المعنى المناسب له، وهذه قاعدة مفيدة جداً متى اعتبرها الإنسان في الآيات القرآنية أكسبته فوائد جليلة؛ وذلك أن الفعل وما هو معناه متى قُيِّد بشيء تقيد به، فإذا أطلقه الله –تعالى -، وحذف المتعلق كان القصد من ذلك: التعميم، ويكون الحذف هنا أحسن، وأفيد كثيراً من التصريح بالمتعلقات، وأجمع للمعاني النافعة )). (15 )
وساق لذلك كثيراً من الشواهد، وكان مما ذكره من الشواهد: آية الصوم التي معنا، وهي قوله:
ﭽ يا أيها الذين آمنوا كُـتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ﴾ فأشار إلى بلاغة حذف المتعلق في قوله ﴿ لعلكم تتقون ﴾ فبين حكمته وأسراره قائلاً: (( يفيد كل ما قيل في حكمة الصيام، أي لعلكم تتقون المحارم عموماً، ولعلكم تتقون ماحرم الله للصائمين من قول الزور، والعمل به، ومن كل الأحوال السيئة والخبيثة، وتتقون وتتجنبون المفطرات، والممنوعات، ولعلكم تتصفون بصفة التقوى، وتحصلون على ما يقيكم مما تكرهون، وتتخلقون بأخلاقها )). (16 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي والتعليقات:
(1 ) انظر: البحر المحيط: 2/35 .
(2) الأنعام: 54 .
(3) المجادلة: 21 .
(4) المجادلة: 22 .
(5) انظر: معاني القرآن: 1/110، للفراء.
(6) تأملات في سورة البقرة: 2/973 .
(7) انظر: الكشاف: 1/334، و: التفسير الكبير: 5/95 .
(8) جامع البيان: 2/156 .
(9) انظر: محاسن التأويل: 3/414.
(10) انظر: تفسير القرآن الحكيم: 2/143 .
(11) التحرير والتنوير: 2/157 .
(12) انظر: معاني القرآن: 1/252، للزجاج، و: تفسير القرآن الحكيم: 2/143 .
(13) انظر: التفسير الكبير: 5/60، و:تيسير الكريم الرحمن: 1/143 .
(14) انظر: محاسن التأويل: 1/149 .
(15) القواعد الحسان لتفسير القرآن: 46 .
(16) المصدر السابق: 47 .[/font]