بسم الله الرحمن الرحيم
وطلح منضود لا موز منضود
الطَّلْـحُ: شجرة حجازية جَناتها كجَناة السَّمُرَةِ، ولها شَوْك أَحْجَنُ ومنابتها بطون الأَودية؛ وهي أَعظَم العضاة شوكاً وأَصْلَبُها عُوداً وأَجودها صَمْغاً؛ الأَزهري: قال اللـيث: الطَّلْـحُ شجرُ أُمِّ غَيْلانَ ووصفه بهذه الصفة. وطلح منضود لا موز منضود
وقال: قال ابن شميل: الطَّلْـحُ شجرة طويلة لها ظل يستظل بها الناس والإِبل، وورقها قلـيل، ولها أغصان طوال عظام تنادي السماء من طولها، ولها شوك كثير من سلاء النخل، ولها ساق عظيمة لا تلتقـي علـيها يدا الرجل، تأْكل الإِبل منها أَكلاً كثـيراً، وهي أُم غَيْلاَنَ تنبت فـي الـجبل، الواحدة طَلْـحَةَ.
وقال أَبو حنـيفة: الطَّلْـح أَعظم العِضاه وأَكثره ورقاً وأَشدّه خُضْرة، وله شوك ضِخامٌ طِوالٌ وشوكه من أَقل الشوك أَذى، ولـيس لشوكته حرارة فـي الرِّجْل، وله بَرَمَةٌ طيبة الريح، ولـيس فـي العِضاه أَكثر صمغاً منه ولا أَضْخَمُ، ولا يَنْبُتُ الطَّلْـحُ إِلا بأَرض غلـيظة شديدة خِصبَة، واحدته طَلْـحة.
الأَزهري: قال أَبو إِسحاق فـي قوله تعالـى: (وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) الواقعة. جاء فـي التفسير أَنه شجر الـموز، قال: و الطَّلْـحُ شجر أُمِّ غَيْلان أَيضاً، قال: وجائز أَن يكون عنى به ذلك الشجر لأَن له نَوْراً طيب الرائحة جدّاً، فَخُوطِبُوا به ووُعِدُوا بما يحبون مثله؛ إِلا أَن فضله علـى ما فـي الدنـيا كفضل سائر ما فـي الـجنة علـى سائر ما فـي الدنـيا.
والطَّلْحِيَّةُ: للوَرَقَةِ من القِرْطاسِ، مُوَلَّدَةٌ.
الطلح : الطَّلْعُ، والمَوْزُ، والخالي الجَوْفِ من الطَّعامِ، والطلح بالتحريكِ: النِّعْمَةُ.
ابن فارس : ومن الباب الطَّلاحُ: ضِدُّ الصَّلاحِ. وكأنَّه من سوء الحال والهُزَال.
وهو طِلْحُ مالٍ: إزاؤُه. وطِلْحُ نِساءٍ: يَتْبَعُهُنَّ، فيعييه ويهزله هذا الاتباع.
الطلح والطليح؛ المهزول المجهود ، والطلح والطلاحة الإعياء والسقوط في السفر ، وطلِح إذا أضمره الكلال والإعياء، وقاتلهم حتى طلح؛ أي أعيا.
روى الأَزهري بسنده عن موسى بن طلـحة بن عبيد الله عن أَبـيه قال: سمانـي النبـيّ، يوم أُحد: طلـحة الـخَيْر، ويوم غزوة ذات العُشَيْرةِ: طلـحة الفَـيَّاض، ويوم حُنَـيْن: طلـحة الـجودِ.
اجتمعت في الطلح من الصفات الطيبة الحسنة ما لم تجتمع في الموز؛
- الطلح من الشجر العظام الذي يمتد طولا في السماء، ويستظل به لكبره، ولافتراش ورقه كمثل القرطاس ، وخضرته، وهذا يتناسب مع قوله تعالى : (وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) الواقعة.
...... والموز قصير الطول، ولا يصلح للعيش تحته والاستظلال بورقه.
- الطلح له ساق قوية وصلبة لا تحيط بها يدا الرجل، وهذا يتناسب مع صفة الجنة الدائمة،
...... وساق الموز ضعيفة، وعمرها قصير، وتزال بعد أخذ الثمر عنها ليتجدد غيرها ويحل محلها.
- شوك الطلح أقل الشوك أذى، وليس لشوكته حرارة في الرجل؛ وهذا يتناسب مع السدر الذي حضد شوكه في قوله تعالى (فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) الواقعة.
- الطلح له برمة طيب الرائحة. والأكل يزيد طيبًا كلما كان له رائحة طيبة.
- الطلح يدل على اللين والهزال والإعياء ، والضمور وهو طعام سهل لين على الإبل نافع لها، وهذا يتناسب مع نضج الفاكهة وصلاحها للتناول في الأكل مباشرة ، وصلاحه لأن ينضد لأنه يضمر مع نضجه؛ (وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) الواقعة.
...... أما الموز فثمره صلب، ولا يؤكل حتى يعد بالتخمير في مكان حار ليلين ويصبح صالحًا للأكل، وإذا نضد على بعضه فسد، ويسيل ماؤه، فلا بد من تمايزه عن بعضه بعدما يتم تجهيزه للأكل خلاف الطلح.
- الطلح من الطعام ما لا جوف له، باطنه كظاهره، وهذا يعني أنه ليس له قشر يرمى ويبعد، وليس له كذلك بذر في باطنه يلقى ويرمى، وليس في الجنة ما يعد قمامة ولا زبالة، فليس في الجنة غير الطيب من الطعام ، وليس فيها ما لا ينتفع به.
...... أما الموز؛ فلبه الذي يؤكل، ويرمى بقشره.
من ذلك يتبين لنا بلاغة القرآن في ذكر الطلح بدلا من ذكر الموز؛ وإن جعل الطلح اسمًا آخر للموز.
فانظر كيف اجتمع في الطلح محاسن الموز المعد للأكل، وخضرة ورق شجره وافتراشها؛ الصالح ليعمل ظلا في الجنة،
وخلص من عيوب ثمر الموز، وعيوب شجره الذي لا يناسب صفة أشجار الجنة وثمرها المنضود.
ونتقل إلى وقفات ولمسات بيانية أخرى في سورة الواقعة؛ وهي سورة أحبها، وقد شرعت في تأليف كتاب قبل سنوات بعنوان "سورة الواقعة سورة أحبها" لكن تلف الهاردسك فأضاع علي ما كتب، ولم أكن قد حفظت له نسخة قبل التلف...
في سورة الواقعة تحدث الله تعالى عن طائفتين من أهل الجنة؛ هما:
المقربون السابقون ومكانهم في أعلى الجنة.
وأصحاب اليمين ومكانهم في الجنة ابتداء من أسفلها باتجاه أعلاها.
وأسفل الجنة هو الأقرب إلى النار لموقعه بعد السور الذي يضرب بين الجنة والنار.
ولذلك كان من أهل هذه الجنة من يستطيع أن يكلم أهل النار، ويكلمه أهلها، كما بينت ذلك سورة الأعراف.
وفيها الذي ذكر الله تعالى قصته في سورة الصافات؛ (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) الصافات.
ومثل هذا الذي كان له قرين وصاحب في الدنيا كمثل هذا الهالك في النار؛ لا يتوقع له أن يكون له منزلة عالية في الجنة. لذلك كان في مكان استطاع رؤية قرينه؛ وحمد الله انه لم يكن معه؛ (قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) الصافات.
فناسب منزلة أصحاب اليمين من الجنة، وأنها الأدنى إلى النار أن يذكر نوعين من النبات الذي ينبت في المناطق الحارة، ولهما ثمر كثير يتناسب مع كثرة أهل اليمين، وأهل اليمين من اسم يفيد أنهم نالوا الجنة بجهد ومشقة حتى استطاعوا أن يكونوا من أهلها.
فقال تعالى : (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) الواقعة.
ولما كان ذكر هذه الأشجار يستحضر ذكره سطوع الشمس، وشدة الحر، والحاجة إلى الظل؛ لأنهما من الأشجار الحارة؛ ذكر تعالى بعدها : (وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) الواقعة.
وتخفيف الحر يحتاج كذلك إلى ترطيب الجو برش الأرض بالماء؛ فقال بعدها: (وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) الواقعة.
ولو بقيت أنهار الجنة متفقة في أسفلها كتدفقها في أعلاها؛ لفاضت على أهل النار، فكان ذكر سكب الماء بدل ذكر الأنهار أنسب لمكانة هذا المكان من الجنة.
ولما كان توفر المياه السطحية في الجنة بكثرة، وهو الأنفع للنبات لتخلله بين جذورها، ومع وجود شدة الحرارة؛ فإن إنتاج النبات للفاكهة يكون أكثر؛ لحاجة النبات للماء والحرارة؛ فقال تعالى: (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ(32) الواقعة.
ولما كانت المناطق الباردة تنتج الفاكهة في فصول محددة وقصيرة، نجد أن المناطق الحارة إذا توفرت فيها المياه؛ تنتج أكثر من محصول في العام؛ وتصلح فيها الزراعة طوال العام، فذكر تعالى في صفة هذه الفاكهة أنها : (لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) الواقعة. أي لا تنقطع؛ فهي متوفرة بصفة دائمة، ولا يمنع منها أحد لكثرتها، فهي تزيد عن كفاية أصحاب الجنة، وخاصة أصحاب هذه المنزلة من الجنة.
مع أن عموم الجنة لا حر فيها ولا برد؛ فقال تعالى: (وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) الإنسان. لباس من حرير خفيف، يناسب مكان ظليل، لا شمس فيه ولا زمهرير.
ولكن ما يأتي على ذكره في سورة الواقعة يناسب كل فئة ممن ذكر فيها.
ولما كانت المناطق الحارة من مسببات الهياج الجنسي؛ ويرضى الرجال فيها بنساء هن دون ما يتطلعون، ويقبلون بهن على دنو منزلتهن في الجمال؛ فإن الله تعالى ذكر صورة لأزواج أهل هذه الفئة من أصحاب الجنة، ومدحهن بما لم يذكر مثله في سورة أخرى، ولك أن تتخيل بعد ذلك كيف تكون أزواج المقربين؟!؛ فقال تعالى: (وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (40) الواقعة.
فوصفهن بـ "فرش" يناسب عدم نوم أهل الجنة عمومًا، إلا لسبب واحد. فكيف بمن اتصفت جنته بدفء لا برد يخلفه؟!
ووصف هذه الفرش بأنها "مرفوعة" يناسب ما سبق ذكر؛ (وماء مسكوب) يجب الترفع عنه.
ووصفهن بكمال إنشائهن (إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء)، يناسب رفع التوهم بدنو منزلتهن، فقد كانت العناية بهن كبيرة لجعلهن على ما هن عليه.
ووصفهن "أبكارًا" يناسب أيضًا رفع الوهم بالرضا بالثيب دون البكر، فكانت لهم الدرجة الأعلى.
ووصفهن "عربًا" أي متحببات لأزواجهن؛ أي يحببن الحديث معهم؛ ويرفع ذلك الوهم بأن الحرارة تعمل على تضييق الصدر، فيقصر صاحب الكلام كلامه، ولا يطنب وينبسط فيه.
ووصفهن " أترابًا" ومادة "ترب" التي منها التراب؛ الذي جاء اسمه من صغر جزيئاته وكثرتها، والتصاقها وقرب بعضها من بعض؛ وهذا يجعل هذا الوصف يناسب أمورًا عديدة؛
- أنهن صغيرات في السن، والرغبة في صغيرة السن أكثر من الكبيرة.
- وأنهن صغيرات في الجسم، فالجمال يعظم مع صغر الجسم؛ فتصغر لذلك التقاطيع المرغوبة في المرأة.
- وأنهن كثيرات العدد؛ وهذا يتناسب مع كثرة عدد أهل اليمين اللواتي هن لهم.
- وأنهن يتقربن من أزواجهن، ويلتصقن بهم، محبات غير نافرات، ولا مبتعدات.
ومع كل هذا الوصف المشوق الحالم لأصحاب اليمين؛
فاجعل همتك عالية، واسأل الله تعالى الفردوس الأعلى مع المقربين؛ الذي حض على سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم.
فإني أسمع كثير من الناس يدعون الله تعالى أن يجعلهم من أصحاب اليمين، وهم لا يدرون أنهم يسألون الله المنازل الأدنى في الجنة.
وأعجب من ذلك أن يسأل المرء الله تعالى أن يدخله الجنة ولو خلف الباب، وهو لا يدري أن من خلف الباب هم آخر من يدخل الجنة بعد العذاب!!
ولتكن همة الأخوات المؤمنات عالية أيضًا، فعطاء الله في الأعلى؛ أمتع وأعلى لكلا الجنسين... وهن أعلى منزلة من الحور العين في كل منزلة من منازل الجنة.
نسأل الله تعالى أن يعفو عنا، ويغفر لنا، ويحاسبنا حسابًا يسيرًا، ويدخلنا الجنة سريعًا، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، إن كان غفورًا رحيمًا، وبنا سميعًا بصيرًا.
والله تعالى أعلم.
أبو مُسْلم/ عبد المجيد العرابلي