وانقضى الحج فماذا بعد الحج

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع إمداد
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

إمداد

New member
إنضم
05/07/2004
المشاركات
257
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة
لفضيلة الشيخ : صالح آل طالب

بتاريخ : 17- 12-1425هـ

وهي بعنوان : وانقضى الحج

الحمد لله، الحمد لله أسدى فضله وأولى، وأعظم خيره فنِعم المولى، له الحمد في الآخرة والأولى، توالت نعمه، وعظمت مِنَنُه، وعمَّ الخلائق بِرًا ونَولاً، خصَّنا بالإسلام ويسَّر حج البيت الحرام، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه وأستغفره، وأسأله المزيد من فضله والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من دعاه لبَّاه، ومن أخلص له العبادة نجَّاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله ومصطفاه، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

فاتقوا الله تعالى ـ أيها المسلمون ـ بفعلِ أوامرِه واجتنابِ نواهيه والحَذَر من سخَطِه وعِقابه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب:70، 71].

أمّا بعد: أيّها المؤمنون، حجّاجَ بيتِ الله الحرام، أيّامٌ معدودة مرَّت وليالٍ كالأحلام فرّت، تزاحَمت فيها الجموع، وسكِبَت فيها الدموع، كم فيها من توبةٍ ورجوع وإنابة وخضوع، يجلِّل ذلك كرمُ الله بمغفرةِ الذنوب وإجابة الدعاء وكشفِ الكروب، في الصحيحين أنّ النبي قال: ((من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسق رجَعَ كيومِ ولَدته أمُّه))، أي: نقِيًّا من الخطايا، وفي الصحيحين أيضًا أنّ النبيَّ قال: ((العمرةُ إلى العمرة كفّارة لما بينَهما، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). فيا ليتَ شِعري، مَنِ المُجاب مِنّا؟ ومَن المقبولُ فيُهنَّا؟

أيّها المسلِمون، ومعَ الثّقةِ بكرَمِ الله وعفوِه ورجائه وعطفِه إلاّ أنّ المسلم يسأل الله القبولَ ولا يغترّ بعمَله، بل يرجو ويخاف ويأمَل ويخشَى، وفي صِفات المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:57-61].

سألت عائشةُ رضي الله عنها رسولَ الله عن هذهِ الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ: أهُم الذين يشرَبون الخمرَ ويسرِقون؟ قال: ((لا يا بنتَ الصديق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا يُقبَل منهم، أولئك الذين يسارِعون في الخيراتِ)) رواه الترمذي بسند صحيح.

وهذه حقيقةُ التقوى أيها المسلمون، والتي ذكرَها الله تعالى في آخرِ آياتِ الحجِّ، حيث قال سبحانه: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ[الحج:37]، كما قال سبحانَه في الصّيام: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:183]. فهل نحقِّق التقوَى في حياتنا مستقبَلاً كنتيجةٍ تحصَّلنها مِنَ الحجِّ؟ عندما يؤدِّي الحاجّ نُسُكه بنظامٍ وانضباط، ملتزِمًا الحدودَ والمواقيت، ملتزِمًا بمكانِ وزمان كلِّ منسَك مِن مناسك الحجّ، مجتنِبًا المحظورات، صابرًا محتسِبًا وإن لحِقَته مشقة، راجِيًا بذلك ما عند الله، مدرِكًا أنّه يستطيع الاستغناءَ عن كثيرٍ من تَرَف الدّنيا، والتي رأى أنها غيرُ ضروريّة في الحجّ، وأنه يمكِن الاستغناءُ عنها. ومِن هذا الالتزامِ بالأماكِنِ والأوقات يعلَم أنّ الهوَى يُقيَّد بالشرع، وأنّ أحوالَ الحياة كأحوال الحج، يُسَار بها على مرادِ الله وليس العكس، وأنَّ التساهلَ في تجاوزِ هذه الحدود يُذهِب أثرَ هذا الالتزام.

فهذه هي التقوى التي يتربَّى عليها الحاجّ ويسير عليها في حياتِه حتى يلقَى اللهَ متعامِلاً بمقتَضاها مع أوامِرِ الله ونواهيه. وكما أنّ الحجَّ لا رفثَ فيه ولا فسوقَ ولا جدال، فإنّه تربِيَة وتهذيبٌ للسّلوك ليصبِحَ ذلك خلُقَه دائمًا، وليكونَ كما وصَفَ النبيّ : ((ليس المسلِم باللّعان ولا الطّعان ولا الفاحش البذيء)). هذه بعض معالمِ التقوى في الحجّ، فليستَحضِرها المسلمُ مع قولِ الله عزّ وجلّ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ[المائدة:27]، وليضَع نفسَه في الميزان.

أيّها المسلمون، حجاجَّ بيت الله العتيق، أما وقد وفَّقكم الله تعالى لمرضاته، ويسَّر لكم التعرّضَ لنفحاته، فاستقيموا على أمره، وليحذَرِ المسلم أن يلوِّثَ صحيفتَه البيضاء، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا[النحل:92]. وإنّ مِن أولى ما يوصَى به المسلم بعد التّقوى ما أوصَى به النبيّ سفيانَ رضي الله حينما قال: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدَك، قال: ((قل: آمنتُ بالله، ثمّ استقم)) رواه مسلم.

ومَع استقامةِ العبدِ فإنّه معرَّض للخَطَأ والتّقصير؛ لِذا قال الله عزّ وجلّ: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ[فصلت:6]، وإلى ذلك أشار الحديثُ الصحيح الذي رواه أحمد وابن ماجَه عن ثوبان رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((استقِيموا ولن تحصُوا، واعلَموا أنّ خيرَ أعمالكم الصلاة، ولا يحافِظ على الوضوءِ إلا مؤمِن))، وفي رواية لأحمد: ((سدِّدوا وقاربوا، ولا يحافظ على الوضوءِ إلا مؤمِن))، وفي الصحيحَين أنّ النبيّ قال: ((سدِّدوا وقارِبوا)). فالمطلوبُ مِنَ العبد الاستقامة وهي السّدادُ، فإن لم يحصُل سدادٌ ولا مقارَبَة، فهو مفرِّط مضيِّع.

أيّها الحاجّ الكرِيم، ما أجملَ أن تعودَ لأهلك ووطنِك بعدَ الحجّ بالخلُق الأكمَل والشِّيَم المرضيّة والسجايا الكريمة، حسَنَ التعامُل مع زوجِك وأولادك وأهلِ بيتك، طاهرَ الفؤاد، ناهِجًا الحقِّ والعدل والسّداد. إنَّ الحجَّ بكلِّ مناسكه قد زادَك معرفةً بالله، وذكَّرك بحقوقِه وخصائِصِ أُلوهيّتِه جلّ في علاه، وأنّه لا يستحقّ العبادةّ سواه، فهو الواحد الأحَد الذي تسلِم النّفسُ إليه ويوجِّه المؤمِن إليه، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[الأنعام:79]، فكيف يهون أن تصرِفَ حقًّا من حقوقِ الله إلى غيره كالدعاءِ والاستعانةِ والقَصد والنّذرِ؟! أين أثرُ الحجّ فيمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصّلاة مانعًا للزّكاة آكلاً للرِّبا والرّشا لا يبالي بأمرٍ أو نهي؟!

أيّها الحاجّ، الزَم طريقَ الاستقامة، وداوِم العملَ فلستَ بدارِ إقامة، واحذَرِ الرياءَ، فرُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، وربَّ عملٍ صغير تكبِّره النية. ليَكُن حجُّك أوّلَ فتوحِك وتباشيرَ فجرِك وإشراقَ صُبحك وبدايةَ مولدك، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر:99].

تقبَّلَ الله حجَّك وسعيك، وأعاد عليك وعلينا هذه الأيامَ المباركة أعوامًا عديدة وأزمنةً مديدة والأمّةُ المسلمة في عزّةٍ وكرامة وصلاحٍ واستقامة.

بارَك الله لي ولكُم في القرآن العظيم وسنة سيد المرسلين، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والهدى، وجنبنا مواطن الردى، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائرِ المسلمين والمسلِماتِ من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية:

الحمد لله وحدَه، نَصَر عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزَم الأحزابَ وحدَه، فلا شيءَ بعدَه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، جلّ عن النِّدّ وعن النظيرِ، وتنزَّه عن الصاحبةِ والولد، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11]، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحابتِه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى أيّها المسلمون، واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثةٍ بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ضَلالة في النّار، وعليكم بالجماعة، فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار، أعاذَنا الله وإيّاكم منها.

أيّها المؤمنون، بالاستغفارِ تُختَم الأعمال الكبار، وطوبى لمن وجَدَ في صحيفتِه استغفارًا كثيرًا، ومِن علامةِ قَبول الحسنة إتباعُها بالحسنة، لأن مَن قَبِلَه الله وقرَّبه وفَّقه للصّالحاتِ ووقَاه السيّئات، فاحرِص ـ رعاك الله ـ على حِفظِ عَمَلك وصيانة نفسِك، وسدِّدوا وقارِبوا، وأبشِروا وأمّلوا، والإخلاصُ والصوابُ عليهما مدارُ القبول.

جعَلَك الله بالجنّة فائزًا، ولأعلَى الدّرَجات حائزًا، وجَعَلنا وإيّاك ممّن تدعو لهم الملائكةُ بقولِ الله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[غافر:7-9].

هذا وصلّوا وسلِّموا على خير البرية وأزكى البشريّة وأفضل الرسل محمّدِ بنِ عبد الله، فمن صلى عليه صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلَى آل محمّد، كما صلّيتَ على إبراهيم وعلَى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيمَ في العالمين إنّك حميد مجيد...


بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة النبوية
لفضيلة الشيخ : صلاح البدير

بتاريخ : 15- 12-1424هـ

وهي بعنوان : ماذا بعد الحج


الحمد لله، الحمد لله الذي عمّت رحمته كل خير ووسعت، وتمّت نعمته على العباد وعظمت، نحمده على نعمٍ توالت علينا واتسعت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده حتى علت كلمة التوحيد وارتفعت، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ما ابتهلت الوفود بالمشاعر العظام ودعت.

أمّا بعد:

فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنَّ تقواه أربحُ بضاعة، واحذروا معصيتَه فقد خاب عبدٌ فرَّط في أمرِ الله وأضاعَه, يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].

أيّها المسلمون، إنَّ عبادةَ العبد لربّه هي رمزُ خضوعِه ودليلُ صدقِه وعنوان انقيادِه، شرفٌ ظاهر وعِزّ فاخِر. العبوديّة أشرفُ المقامات وأسمى الغايات وأعلى المراتب والدرجات.

أيّها المسلمون، في الأيّام القليلة الخالية قضى الحجّاج عبادةً من أعظم العبادات، وقربةً من أعظم القربات، تجرَّدوا لله من المخيط عند الميقات، وهلَّت دموعُ التّوبة في صعيدِ عرفات على الوجَنات، خجلاً من الهفَوات والعثَرات، وضجَّت بالافتِقار إلى الله كلّ الأصوات بجميع اللُّغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفةَ للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرَّفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلةٍ من أروع الرحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادوا بعدَ ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضلِه, قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ[يونس:58]، خيرٌ من الدنيا وأعراضِها وأغراضها التي ما هي إلا طَيف خيال، مصيره الزوالُ والارتحال، ومتاعٌ قليل، عرضةٌ للآفات، وصَدَف للفَوات. فهنيئًا للحجّاج حجُّهم، وللعُبَّاد عبادَتهم واجتهادهم، وهنيئًا لهم قولُ رسول الهدى فيما يرويه عن ربِّه جلّ وعلا: ((إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولة)) أخرجه البخاري.

حجّاجَ بيت الله الحرام، اشكُروا الله على ما أولاكم، واحمَدوه على ما حبَاكم وأعطاكم، تتابَع عليكم بِرّه، واتَّصل خيره، وعمَّ عطاؤه، وكمُلت فواضله، وتمّت نوافله, وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ[النحل:53], وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ[النحل:18].

حجّاجَ بيتِ الله الحرام، ظُنّوا بربِّكم كلَّ جميل، وأمِّلوا كلَّ خيرٍ جزيل، وقوّوا رجاءكم بالله في قبولِ حجِّكم ومحوِ ما سلف من ذنوبكم، فقد جاء في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي)) أخرجه الشيخان، وعن جابر رضي الله عنه أنّه سمع النبيَّ قبل موته بثلاثة أيّام يقول: ((لا يموتنَّ أحدكم إلاّ وهو يُحسن الظنَّ بالله عزّ وجلّ)) أخرجه مسلم.

أيّها المسلمون، يا مَن حجَجتم البيتَ العتيق، وجئتُم من كلِّ فجٍّ عميق، ولبّيتم من كلِّ طرف سَحيق، ها أنتم وقد كمُل حجكم وتمّ تفثكم، بعد أن وقفتم على هاتيكَ المشاعر، وأدّيتم تلك الشعائر، ها أنتم تتهيّؤون للرجوع إلى دياركم، فاحذَروا من العودة إلى التلوُّث بالمحرّمات والتلفُّع بالمعرّات والتِحاف المسَبَّات, وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـٰثًا[النحل: 92]، امرأةٌ حمقاءُ خرقاء ملتاثة العقل، تجهد صباحَ مساء في معالجة صوفها، حتى إذا صار خيطًا سويًّا ومحكَمًا قويًّا عادت عليه تحلُّ شُعيراته، وتنقُض محكماتِه، وتجعله بعد القوّة منكوثًا، وبعد الصّلاح محلولاً، ولم تجنِ من صنيعها إلاّ الإرهاقَ والمشاقّ، فإيّاكم أن تكونوا مثلَها، فتهدِموا ما بنَيتم، وتبدِّدوا ما جمَعتم، وتنقُضوا ما أحكمتم.

حجَّاج البيت العتيق، لقد فتَحتم في حياتِكم صفحةً بيضاء نقيّة، ولبستم بعد حجّكم ثيابًا طاهرة نقيّة، فحذارِ حذار من العودة إلى الأفعال المخزِية والمسالك المردِية والأعمال الشائنة، فما أحسنَ الحسنة تتبعُها الحسنة، وما أقبحَ السيئة بعدَ الحسنة.

أيّها المسلمون، إنّ للحجِّ المبرور أمارة ولقبوله منارة، سئل الحسنُ البصريّ رحمه الله تعالى: ما الحجّ المبرور؟ فقال: "أن تعودَ زاهدًا في الدّنيا، راغبًا في الآخرة". فليكن حجُّكم حاجزًا لكم عن مواقع الهلَكَة، ومانعًا لكم من المزالِق المتلِفة، وباعثًا لكم إلى المزيد من الخيرات وفِعل الصالحات. واعلموا أنّ المؤمن ليس له منتَهى من صالح العمَل إلاّ حلول الأجل.

أيّها المسلمون، ما أجملَ أن يعودَ الحاجُّ بعد حَجِّه إلى أهله ووطنِه بالخُلُق الأكمَل، والعقلِ الأرزَن، والوَقار الأرصَن، والعِرض الأصوَن، والشيَم المرضيّة، والسجايا الكريمة. ما أجملَ أن يعودَ الحاجّ بعد حجّه حَسنَ المعاملةِ لقِعاده، كريمَ المعاشرة لأولادِه، طاهرَ الفؤاد، ناهجًا منهجَ الحقّ والعدل والسّداد، المضمَر منه خيرٌ من المُظهَر، والخافي أجملُ من البادي. وإنّ من يعود بعد الحجّ بتلك الصفاتِ الجميلة هو حقًّا من استفاد من الحجّ وأسراره ودروسِه وآثاره.

أيّها المسلمون، إنّ الحاجَّ منذ أن يُلبِّي وحتى يقضي حجَّه وينتهي فإنّ كلَّ أعمال حجِّه ومناسكه تعرِّفه بالله، تذكّره بحقوقِه وخصائص ألوهيَّته جلّ في علاه، وأنّه لا يستحقّ العبادةَ سواه، تعرِّفه وتذكِّره بأنّ الله هو الأحَد الذي تُسلَم النفس إليه، ويوجَّه الوجهُ إليه، وأنّه الصمَد الذي له وحدَه تصمد الخلائقُ في طلب الحاجات والعِياذ من المكروهات والاستغاثة عند الكربات، فكيف يهون على الحاجّ بعد ذلك أن يصرفَ حقًّا من حقوق الله من الدعاء والاستغاثةِ والاستعانَة والذّبح والنّذر إلى غيره؟! وأيُّ حجٍّ لمن عادَ بعد حجّه يفعل شيئًا من ذلك الشِّرك الصريح والعمَل القبيح؟!

أيّها المسلمون، أيُّ حجٍّ لمن عاد بعد حجِّه يأتي المشعوِذين والسّحرة، ويصدِّق أصحابَ الأبراج والتنجيم وأهل الطِّيَرة، ويتبرّك بالأشجار، ويتمسَّح بالأحجار، ويُعلِّق التمائم والحروز؟! أيُّ حجٍّ لمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصّلاة، مانعًا للزّكاة، آكلاً للرِّبا والرّشا، متعاطيًا للمخدِّرات والمسكرات، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام؟!

حجاجَ البيت العتيق، يا من امتنَعتم عن محظوراتِ الإحرام أثناءَ حج بيت الله الحرام، إنّ هناك محظوراتٍ على الدوام وطولَ الدّهر والأعوام، فاحذَروا إتيانها وقربانها، يقول جلّ في علاه: تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ[البقرة: 229].

أيّها المسلمون، من لبَّى لله في الحجّ مستجيبًا لندائه كيفَ يلبِّي بعدَ ذلك لدعوةٍ أو مبدأ أو مذهَب أو نداءٍ يناهض دينَ الله الذي لا يُقبَل من أحد دين سواه؟! من لبِّى لله في الحجّ كيف يتحاكم بعد ذلك إلى غير شريعتِه، أو ينقاد لغير حكمِه، أو يرضى بغير رسالته؟! من لبَّى لله في الحجّ فليلبِّ له في كلّ مكان وزمان بالاستجابة لأمره أنَّى توجَّهت ركائبه، وحيث استقلَّت مضاربُه، لا يتردَّد في ذلك ولا يتخيَّر، ولا يتمنّع ولا يضجَر، وإنما يذِلّ ويخضع ويطيع ويسمَع.

يا عبدَ الله، يا مَن غابت عنه شمسُ هذه الأيّام ولم يقضِها إلا في المعاصي والآثام، يا من ذهبت عليه مواسمُ الخيرات والرّحمات وهو منشغلٌ بالملاهي والمنكَرات، أما رأيتَ قوافل الحجّاج والمعتمرين والعابدين؟! أما رأيتَ تجرُّدَ المحرمِين وأكفَّ الرّاغبين ودموعَ التائبين؟! أما سمعتَ صوتَ الملبّين المكبِّرين المهلّلين؟! فما لك قد مرّت عليك خيرُ أيام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُدَّ عليك الوثاق؟!

يا من راح في المعاصي وغَدا، يقول: سأتوبُ اليومَ أو غدا، يا مَن أصبحَ قلبه في الهوى مبدَّدًا، وأمسَى بالجهل جلمدًا، وبالشهوات محبوسًا مقيَّدًا، تذكَّر ليلةً تبيتُ في القبر منفرِدًا، وبادِر بالمتابِ ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك فائتًا قبلَ أن لا تُقالَ العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، واعلَم أنَّ الله يبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل، ويبسط يدَه بالليل ليتوب مسيءُ النهار.

ويا من تقلَّبتَ في أنواعِ العبادة، الزَم طريقَ الاستقامة، وداوِم العملَ فلست بدار إقامة، واحذَر الإدلاء والرّياء فرُبّ عملٍ صغير تعظِّمه النّية، ورُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، يقول بعض السلف: "من سرّه أن يكمُل له عمله فليحسِن نيته".

وكن على خوفٍ ووجَل من عدَم قبولِ العمل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله عن هذه الآية: وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ[المؤمنون:60]، فقلتُ: أهُم الذين يشرَبون الخمر ويسرِقون؟ فقال رسول الله : ((لا يا بنتَ الصديق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا تقبَل منهم، أُوْلَـئِكَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ وَهُمْ لَهَا سَـٰبِقُونَ[المؤمنون:61])) أخرجه الترمذي.

فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ في كلّ حين، وتذكَّروا قولَ الحقِّ في الكتاب المبين: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ[المائدة:27].

بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي آوى مَن إلى لُطفه أوى، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له داوى بإنعامِه من يئس من أسقامه الدّوا، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، من اتّبعه كان على الخير والهدى، ومَن عصاه كان في الغواية والردى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ زاد، وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، واعلموا أن الدنيا مضمار سباق، سبَق قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخَابوا، فرحِم الله عبدًا نظر فتفكَّر، وتفكَّر فاعتَبر، وأبَصر فصَبر، ولا يصبِر على الحقّ إلاّ من عرف فضلَه، ورجا عاقبته، إِنَّ ٱلْعَـٰقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ[هود:49].

عباد الله، أنتم في الدنيا أغراضُ المنايا، وأوطان البلايا، أنتم الأخلافُ بعد الأسلاف، وستكونون الأسلافَ قبل الأخلاف، فاغتنِموا زمنَكم، وجاهدوا أنفسَكم، فإنّ المجاهدة بضاعة العُبَّاد ورأسُ مال الزُهَّاد ومدارُ صلاح النفوس، وسدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا.

أيّها المسلمون، يا مَن قضَيتم حجَّكم، وأنعَم الله عليكم بالوصول إلى المدينة النبوية طابةَ المستطابة، تذكّروا وأنتم تَطؤون هذه الأرضَ المباركة أنها الأرضُ التي وطِئتها أكرمُ قدمين، والبلدة التي عاش عليها سيّد الثقلين نبيّنا محمّد . فاللهَ اللهَ في تعلُّم سنّته، ومعرفة سيرته، والسّير على طريقته، واتّباع هديه، واقتفاء منهجه، ولن يتحقَّقَ لكم ذلكَ الهدف المنشود إلا بالاستعانة الإله المعبود, وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرٰطٍ مّسْتَقِيمٍ[آل عمران:101].

حجَّاجَ بيتِ الله العتيق، ليكُن حجّكم أولَ فتوحِكم، وتباشيرَ فجركم، وإشراق صبحكم، وبدايةَ مولدِكم، وعنوانَ صدق إرادتِكم، تقبَّل الله حجَّكم وسعيَكم، وأعاد الله علينا وعليكم هذه الأيّام المباركة أعوامًا عديدة وأزمنةً مديدة، والأمّة الإسلامية في عزّة وكرامة ونصرٍ وتمكين ورفعة وسؤدَد.

اللهمَّ تقبَّل من الحجّاج حجَّهم، اللهمّ تقبّل من الحجّاج حجَّهم وسعيَهم، اللهمّ اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهمّ تقبّل مساعيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم بلّغهم من الآمال منتهاها، ومِنَ الخيرات أقصاها، اللهمّ اجعل سفرهم سعيدًا، وعودَهم إلى بلادهم حميدًا، اللهمّ هوِّن عليهم الأسفار، اللهم آمنهم من جميع الأخطار، اللهمّ احفَظهم من كلّ ما يؤذيهم، وأبعِد عنهم كلَّ ما يضنيهم، اللهمّ واجعل دَربهم دربَ السلامة والأمان والراحةِ والاطمئنان، اللهمّ وأعدهم إلى أوطانهم وأهليهم وذويهم ومحبِّيهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وتقبّل منهم إنّك أنت السميع العليم، واغفر لهم إنك أنت الغفور الرحيم...
 
عودة
أعلى