والعصر .. وقيمة الوقت ..

علي جاسم

New member
إنضم
01/03/2005
المشاركات
66
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } [العصر: 1، 2]​

والعصر .. فما العصر ؟؟! .
قال ابن عباس هو الدهر .. وقيل هو الليل والنهار ..
وقال آخرون هو ساعة من ساعات النهار, وقال غيرهم هو العشي ..
أقوال تختلف نوعا من الاختلاف, وتتفق كل الاتفاق أن العصر هو الزمن أو هو بعض الزمن. لكن زبدة المعنى تتركز في ربط الوقت بالخسارة, وقد زاد النص القرآني جلاء هذا المعنى حين جسّم الخسارة حتى كأنها ظرف والإنسان فيه[1] فلم يقل مثلا "إن الإنسان ليخسر" بل قال {لفي خسر} وفي ذلك إشارة دقيقة لقيمة الوقت في حياة المسلم, وأن الخسارة في الحقيقة هي الخسارة في وقت المسلم وساعات عمره, فهو والوقت كفرسي رهان إن لم يغلبه هو غلبه الوقت, وويل للمسلم إذا غلبه الوقت ..!.
ما يخسره الإنسان لا بد أن يترك فراغا, وهذا الفراغ –أي فراغ- يمكن أن يردم نوعا من الردم .. إلا الوقت!! فإن دقيقة من العمر تمضي لهي صحيفة من صحائف الأعمال تطوى بما فيها طي السجل, وليس تفتح إلى يوم الدين, فانظر على ماذا طويت تلك الدقيقة ..؟؟.
وقد وعى السلف هذه القضية الدقيقة, فكان أحدهم لو يباع وقتٌ بالذهب ابتاعه بالذهب, لإيمانه أن الوقت أغلى في رصيد الآخرة من الذهب, فكانوا كما قــيل فيهم فــرسان في النهار رهبان في الليل ..
وهذا داوود الطائي كان يشرب الفتيت ولا يأكل الخبز!! فقيل له في ذلك, فقال: بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية ..
وأطال جماعة القعود عند معروف الكرخي, فقال: إن ملك الشمس لا يفتر من سوقها أفما تريدون القيام ؟! .
وهذا عامر بن عبد قيس قال له رجل قف أكلمك قال: فأمسك الشمس ..!!
أولئك السلف فاطوِ صحيفتهم المشرقة وانشر لفافة الخلف فماذا ترى ..؟؟!
ترى العجب العجاب من واقع المسلمين اليوم, أمة علّـمها كتاب ربها وسنة نبيها أن الوقت أثمن ما يملكه الإنسان في هذه الحياة, فإذا هم وأزهد ما لديهم الوقت, وأهون ما عندهم ساعات العمر, وتلك لو تنبه المسلمون كبيرة لا تقل عن السرقة والزنا وشهادة الزور, فهم اليوم ينفقون الساعات الطوال من عمرهم على التافه المرذول مما هو من سقط المتاع أو مما هو دون ذلك, فقل معي "واحر قلباه على أعمارٍ تذهب هباء, كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف" ..
فهذا مسلم أدمن جلوس المقهى –وما أكثرهم اليوم- يقعد منه مقعدا للسمع واللهو, يبدد ساعات عمره لا يزيد فيها على البطالة والعبث الضائع, فإن كلّ وملّ ترك جلساءه وراح يقلب النظر في المارة على حيد الطريق, وألقى حبل الخاطر على غاربه فسرح يهيم في كل فجٍ وواد, وأمته –لو تنبه- أحوج للدقيقة من عمره يبذلها لها, فأين هو –لا أين-من أمته, أين هو من فقه{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } [العصر: 1، 2] وما مثل هذا الصنف في أمته إلا كَمَثَلِ الجبان إذا التقى الجمعان, فهو مصيبة في نفسه أن به معاني الذل والصغار, وهو مصيبة على رهطه أنه مبتدأ الهزيمة والانكسار ..
* * *
وانظر لهذا النديّ .. يجمع كناسة من المسلمين, يسمرون ليلهم وليس إلا اللهو التافه والعبث الفارغ, يضيعون ساعات عمرهم حتى العشاء بل أدنى من ثلثي الليل ونصفه, وي!! كأنهم فرغوا من أمر الآخرة واتخذوا عند الرحمن عهدا أن لهم الجنة, فراحوا يحرقون أعمارهم في اللهو واللعب وما بينهم وبين الجنة إلا أن يموتوا !.. أولئك لا تراهم إلا عالة على الأمة, بل هم أرضة بشرية تنخر جسم الأمة, لا يكونون من معدنها إلا كالصدأ يـخرج من الحديد ثم لا يـأكل غير الحديد ..
ولا أعرف والله متى عرف المجتمع المسلم أندية الضرار هذه أو متى عرف ما يسمى بالمقاهي..؟؟ حيث تذهب أعمار المسلمين هباء تذروه الساعات, وحيث اللغو الفارغ واللغط الحرام, ومتى كان لدى المسلم فيض من وقته, وزيادة في ساعات عمره ينفقها ثمّ غير مأسوف عليها ..؟؟ إن دل ذلك على شيء إنما يدل على ابتعاد المسلمين عن روح الدين وجوهره, وإلا فالمسلم حق إسلامٍ مؤمن في قرارة نفسه أن أنفاسه بله ساعاته محسوبة عليه في الدنيا ومسئول عنها في الآخرة..
إن الإسلام لا يعرف ما يسمى اليوم بالفراغ, فراغ الوقت الذي يصيب المرء أول ما يصيبه بتفاهة المضمون, لينتهي به آخر الأمر لضرب من ضروب الجنون, ذاك أن وقت المسلم ممتلئ كله إما بشأن من الدنيا أو بأمر الآخرة, وليس بين شأن الدنيا والآخرة متنفس لساعة أو بضع ساعة ..
إن فراغ الوقت الذي يعيشه المسلم اليوم, شيء غريب على الحس الإسلامي الأصيل, وغريب أيضا على المجتمع المسلم, فالإسلام كله جدّ وكله حركة وسعي, ليس فيه فائض من الساعات ملؤها الملل والسآمة والضجر, يحار المسلم كيف ينفقها, فيلجأ إلى اللهو والعبث أو الـبطالة الفارغة, ليس في الإسلام ذلك وما ينبغي أن يكون ذلك ..
إن خسارة ساعة من عمر مسلمٍ لهي خسارة لا في رصيده هو فحسب, بل خسارة في رصيد الأمة ..!! علم ذلك من علمه وجهله من جهله, ذاك وهي ساعة, فكيف إذا كانت خسارة ساعات العمر هي الطابع العام للمجتمع المسلم .؟؟! والأمة إن لا تنهض بأبناءها لن تنهض بغيرهم, وكيف يكن المسلمون تكن طبيعة الأمة, فإن كان المسلم مضياعا لعمره متلافا لساعاته فأمته على ذلك ضائعة أو هي -على أقرب تقدير - صائرة إلى ضياع .
إن على المسلم أن يعلم أن أمته لم تزل مذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وحتى يومها هذا, لم تزل تخوض معتركا في داخلها وآخر خارجها, معترك التأسيس والبناء والتنظيم في الداخل, وفي الخارج معترك المحافظة على هذا البناء وهذا النظام أن تناله معاول الهدم والتخريب, ومقياس السبق في هذا المعترك هو الوقت, فكلما حبلت ساعات الأمة بالحركة والسعي والجدّ كلما قويت الأمة وحفظت بنيانها وكذلك كانت إبان عصر النبوة, وكلما أخلدت الأمة إلى اللهو والبطالة والعبث, وتبديد العمر بغير نفع كلما كانت أوهى بنيانا وأضعف أساسا كهيئتها اليوم, ولعلك لو جئت تبحث أسباب انحطاط المسلمين هذا العصر وتأخرهم عن ركب الحضارة لما وجدت داء فتك بالأمة أشد من هذا الداء ..
فيا أيها المسلم إن ساعات عمرك أثمن ما تملك أنت وأثمن ما تملك أمتك, فإن كنت شحيحا بالدينار والدرهم لا تنفقهما إلا في حقهما, وكان لا يخرج الدينار منك لغيرك إلا وفي قلبك حرقة عليه, فما أحراك أن تبخل في ساعات عمرك, ما أحراك أن تحترق أسى عليها, فلا تمر بك ساعة إلا وقد أودعتها من الخير والنفع ما يعود على أمتك في الدنيا نهضة وبنيانا, ويعود عليك في الآخرة مغفرة من الله ورضوانا ..
وخذها كلمة من غير فقيه "إن الليل والنهار يعملان فيك .. فاعمل فيهما" ..

[1] هذه طريقة القرآن في تجسيم المعاني , ومن ذلك قوله تعالى {خلق الإنسان من عجل} وقوله عز وجل {وجاءته إحداهما تمشي على استحياء} ..
 
أفضل مافسرت به السورة هو تفسير الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله
 
عودة
أعلى