محمد بن إبراهيم الحمد
New member
[align=center]هَلْ وكَمْ[/align]
[align=justify]جاء في مطلع معلقة عنترة المشهورة قوله:
[align=center]هل غادر الشعراء من متردَّم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم[/align]
ومعنى قوله: غادر: أي ترك, وأبقى.
ومعنى متردَّم: أي مُتَتبّعٌ مُصْلَحٌ, من تردَّمَ الكلامَ: إذا تَتَبَّعه وأصلَحه.
ومعنى البيت: ما ترك الشعراء قَبْلي شيئاً مِنْ صالح الكلام إلا وسبقوني إليه.
أي لم يَدَعوا لنا شيئاً من المعاني, وصالحِ القول؛ فهذا هو معنى الشطر، وهو الذي يعنينا من البيت.
وجاء في ديوان البارودي أن الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي _وكان إذ ذاك شاباً_ سأل باعثَ الشعرِ العربيِّ في العصر الحديث محمود سامي الباروديَّ شيئاً من شعره الجديد، فقال البارودي: إن عنترة بن شداد العبسي يقول:
[align=center]هل غادر الشعراء من متردَّم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم[/align]
وقد نَقَضْتُ هذه القصيدةَ بقولي:
[align=center]كَمْ غادرَ الشعراءُ مِنْ متردَّم *** ولربَّ تالٍ بذَّ شأْوَ مُقدَّمِ
في كل عصرٍ عبقريٌّ لا يَنِي *** يَفْرِي الفَرِيَّ بِكُلِّ قولٍ مُحْكمِ[/align]
إلى آخر ما قال في تلك القصيدة التي تبلغ ثلاثة وخمسين بيتاً .
ومعنى قوله "تالٍ": اسم فاعل من تلا, أي تَبِعَه، وجاء بعده.
ومعنى قوله "بذّ": أي غلب, والشأو: الغاية, والفَرْيُ: القطع.
ومعنى البيت عكس معنى البيت الأول؛ فبينما يرى عنترة أن الأوائل لم يدعوا مهيعاً في الشعر إلا سلكوه، ولم يتركوا لمن بعدهم شيئاً _ فإن الباروديَّ يرى أن الإبداع غير مقتصر على الأوائل؛ فليس للإبداع مكان ولا زمان؛ فربما جاء المتأخر بما لم تأت به الأوائل؛ فما دام العقل البشري يتحرك فالإبداع ممكن، والتجديد وارد؛ فانظر إلى تباين الرؤية، وانظر إلى عظمة اللغة؛ حيث تَغَيَّر معنى البيت تماماً بمجرد إبدال أداة استفهام بأخرى.
والمقصود مما مضى إيراده أن هذه النظرة للإبداع قديمة حديثة؛ فهناك من يرى أن الأوائل لم يدعوا شيئاً للمتأخرين.
وهناك من يرى الأخذ بالجديد فحسب، والتخلي عما شاده الأوائل, ومن هنا تنشأ المعركة بين القديم والجديد.
وهي _بلا شك_ معركة ما كان ينبغي لها أن تقوم؛ إذ الحكمة تقتضي _كما يقول ابن عاشور_ أن نَعْمَدَ إلى ما شاده الأوائل فَنُهَذِّبَهُ ونزيده, وحاشا أن نَنْقُضَهُ أو نُبيدَه, فأولوا الأحلام الراجحة يأخذون بما يظهر من جديد صالح, ولا ينكثون أيديهم من قديم نافع.
وما أضر _كما قيل_ من مقولة: ما ترك الأول للآخر شيئاً.
وأَجْمِل بالمقولة الأخرى التي تقول: كم ترك الأول للآخر.
ولعل من أوائل من أشاروا إلى هذا المعنى العلامة اللغوي أحمد بن فارس-رحمه الله-.
وإليك شيئاً من رسالة له كتبها لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب؛ لتستبين مذهبه في ذلك، وتَلْمَسَ أسلوبه الأدبي، تلك الرسالة التي يتناقلها بعض المؤلفين إلى يومنا هذا، ويرون فيها عزاءً لمن لا يَقْدُرُون الإنتاجَ العلمي والأدبي قَدْرَهُ، ولا يرون التَمَيُّزَ إلا للقديم؛ فابن فارس يُبَيِّن فيها أن الحَسَنَ الجيدَ لا يختص به أحد دون أحد، أو زمان دون زمان، وينكر تلك المقولة التي وقفت سداً منيعاً أمام كثير من المبدعين، ألا وهي قولهم: (ما ترك الأول للآخر شيئاً).
ويرشد إلى أن يوضع مكانها: (كم ترك الأول للآخر).
يقول -رحمه الله- في رسالته: "ألهمك الله الرشاد، وأصحبك السداد، وجنبك الخلاف، وحبَّب إليك الإنصاف.
وسبب دعائي بهذا لك إنكارُك على أبي الحسن محمد بن علي العِجْلي تأليفه كتاباً في الحماسة، وإعظامك ذلك.
ولعله لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده، وَيَرِد المنهل الذي يؤمه_ لاستدرك من جيد الشعر وَنقِيِّه، ومختاره ورضيِّه كثيراً مما فات المؤلف الأول؛ فماذا الإنكار؟ ولمه هذا الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادةَ المتقدم؟ ولمه تأخذ بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئاً، وتدع قول الآخر:
كم ترك الأول للآخر؟
وهل الدنيا إلا أزمان، ولكل زمان رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام، ونتائج العقول؟!
ومَنْ قَصَر الآداب على زمانٍ معلوم، ووقفها على وقت محدود؟ ولمه لا ينظر الآخر مثلما نظر الأول؛ حتى يؤلف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل مثل رأيه.
وما تقول الفقهاء في زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟ أَوَ ما علمت أن لكل قلب خاطراً، ولكل خاطر نتيجةً؟ ولِمَهْ جاز أن يقال بعد أبي تمام مثل شعره، ولم يَجُزْ أن يؤلف مثل تأليفه؟
ولمه حجَّرت واسعاً، وَحَظَرتَ مباحاً، وحرمت حلالاً، وسددت طريقاً مسلوكاً؟
وهل حبيبٌ(1) إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولمه جاز أن يعارض الفقهاء في مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، والنُّظَّار في موضوعاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شذَّ عنه في الأبواب التي شرعها فيه أمر لا يُدْرَكُ ولا يدرى قدره؟
ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير، ولذهب أدب غزير، ولضلت أفهام ثاقبة، ولَكَلَّت أَلْسُنٌ لسِنَةٌ، ولما توشَّى أحد بالخطابة، ولا سلك شِعْباً من شعاب البلاغة، وَلَمَجَّتِ الأسماع كل مردود مكرر، ولَلَفظت القلوب كل مُرَجَّع مُمَضَّغ، وحتَّام لا يُسْأَم:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي(2)
وإلى متى: صَفَحْنا عن بني ذهل(3)
ولِمَه أنكرت على العِجْليِّ معروفاً؟ واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبي تمام في زعمه أن في كتابه تكريراً وتصحيفاً، وإيطاءً وإقواءً(4)، ونقلاً لأبيات عن أبوابها إلى أبوابٍ لا تليق بها، ولا تصلح لها إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة، وأمور عليلة؟ ولمه رضيت لنا بغير الرضى؟ وهلا حثثت على إثارةِ ما غَيَّبَتْهُ الدهور، وتجديد ما أخلقته الأيام، وتدوين ما نَتَجَتْهُ خواطرُ هذا الدهر، وأفكار هذا العصر، على أن ذلك لو رامه رائمٌ لأتعبه، ولو فعله لقرأت ما لم ينحط عن درجة مَنْ قَبْلَه: مِنْ جدٍّ يروعك، وهزل يروقك، واستنباط يعجبك، ومزاحٍ يلهيك.
وكان بقزوين رجل معروف بأبي حامد الضرير القزويني، حضر طعاماً وإلى جنبه رجل أكول، فأحس أبو حامد بجودة أكله فقال:
[align=center]وصاحب لي بطنه كالهاوية *** كأن في أمعائه معاوية(5)[/align]فانظر إلى وجازة هذا اللفظ، وجودة وقوع الأمعاء إلى جنب معاوية، وهل ضر ذلك أن لم يقله حماد عَجْرَد وأبو الشمقمق؟ وهل في إثبات ذلك عارٌ على مثبته، وفي تدوينه وصمة على مدوِّنه؟
وبقزوين رجل يعرف بابن الرياشي القزويني، نظر إلى حاكم من حكامها من أهل طبرستان مقبلاً، عليه عمامةٌ سوداءُ وطيلسان أزرقُ، وقميصٌ شديدُ البياض، وخفٌّ أحمرُ، وهو مع ذلك كله قصير على بِرَذَون أبلقَ هزيلِ الخَلْق، طويل الحلق، فقال حين نظر إليه:
[align=center]وحاكم جاء على أبلق *** كعقعقٍ جاء على لقلقِ[/align]
فلو شهدت هذا الحاكم على فرسه لشهدت للشاعر بصحة التشبيه، وجودة التمثيل، ولعلمت أنه لم يَقْصُرْ عن قول بشار:
[align=center]كأن مثار النقع فوق رؤوسهم *** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه[/align]
فما تقول لهذا، وهل يحسن ظلمه في إنكار إحسانه، وجحود تجويده؟
وأنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل، لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني وهو اليوم حي يرزق، وقد عاتب(6) بعض كتابها على حضوره طعاماً مرض منه:
[align=center]وُقِيتَ الردى وصروفَ العلل *** ولا عَرَفَتْ قدماك العلل
شكا المرض المجد لمَاَّ مَرِضْـ *** ـتَ فلما نهضت سليماً أبلّ
لك الذنب لا عتب إلا عليك *** لماذا أكلت طعام السِّفل[/align]
وأنشدني له في شاعر هو اليوم هناك يعرف بابن عمرو الأسدي، وقد رأيته فرأيت صفة وافقت الموصوف:
[align=center]وأصفر اللون أزرق الحدقة *** في كل ما يدعيه غير ثقةْ
كأنه مالك الحزين إذا *** همَّ بزرق وقد لوى عنقهْ
إن قمت في هجوه بقافيةٍ *** فكل شعر أقوله صدقةْ[/align]
وأنشدني عبدالله بن شاذان القاري، ليوسف بن حمويه من أهل قزوين؛ ويعرف بابن المنادى:
[align=center]إذا ما جئت أحمد مُسْتميحاً *** فلا يَغْرُرْكَ منظرُه الأنيقُ
له لطفٌ وليس لديه عرفٌ *** كبَارقةٍ تروقُ ولا تُريق
فما يَخْشى العدوُّ له وعيداً *** كما بالوعد لا يَثِقُ الصديقُ[/align]
ومدح رجلٌ بعض أمراء البصرة، ثم قال بعد ذلك _وقد رأى توانياً في أمره_ قصيدةً يقول فيها كأنه يجيب سائلاً:
[align=center]جوَّدت شعرَك في الأميـ *** ـرِ فكيفَ أمْرُك قلتُ: فاترْ[/align]
فكيفَ تقول لهذا؟ ومن أي وجه تأتي فتظلمه؟ وبأي شيء تعانده فتدفعه عن الإيجاز والدلالة على المراد بأقصر لفظٍ وأوجز كلام؟ وأنت الذي أنشدتني:
[align=center]سَدَّ الطريق على الزما *** نِ وقام في وجه القطوب[/align]
كما أنشدتني لبعض شُعراء الموصل:
[align=center]فدَيتك ما شِبْتُ عن كُبرةٍ *** وهذي سِنِيٌّ وهذا الحسابُ
ولكن هُجِرتُ فحَلَّ المشيبُ *** ولو قد وُصِلتُ لعاد الشبابُ[/align]
فلِمَ لم تخاصم هذين الرجلين في مزاحمتهما فحولة الشعراء وشياطين الإنس، ومَرَدة العالمَ في الشعر؟
وأنشدني أبو عبدالله المغلسي المراغي لنفسه:
[align=center]غداةَ تولت عِيسُهم فترحلوا *** بكيت على ترحالهم فعميتُ
فلا مُقلتِي أدّت حقوقَ وِدادهم *** ولا أنا عن عيني بذاك رضيتُ[/align]
وسمعت أبا الحسين السروجي يقول: كان عندنا طبيب يسمى النعمان، ويكنى أبا المنذر، فقال فيه صديقٌ لي:
[align=center]أقول لنعمانٍ وقد ساق طبُّه *** نفوساً نفيساتٍ إلى باطن الأرضِ
أبا منذر أفنيتَ فاستبقِ بعضَنا *** حنانيك بعضُ الشرِّ أهون من بعض(7)[/align]
إلى آخر ما قاله ابن فارس في رسالته الماتعة(8)؛ فرحمه الله، وأجزل مثوبته، وجزاه خير الجزاء كِفاءَ ما قدم للعلم والعربية.
وهكذا يتبين لنا بطلان المقولة المثبطة: "ما ترك الأول للآخر شيئاً".
وصحة المقولة المُنهضة: "كم ترك الأول للآخر".
***************************************
(1) يعني به: أبا تمام: حبيب بن أوس الطائي.
(2) يشير إلى قول القائل: لو كنت .... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
(3) يشير إلى قول الفِنْد الزماني:
صفحنا عن بني ذُهْلٍ *** وقلنا القوم إخوان
فلما صرَّح الشرُّ *** وأمسى وهو عريانُ
ولم يبقَ سوى العدوا *** نِ دناهم كما دانوا
وفي الشر نجاة حيـ *** ـن لا ينجيك إحسان
(4) الإيطاء والإقواء: مصطلحان عروضيان يعدان من عيوب القافية؛ فالإيطاء: هو إعادة كلمة الرَّوي بلفظها ومعناها بعد بيتين أو ثلاثة إلى سبعة أبيات؛ وهذا مما يدل على قلة إلمام الشاعر بمفردات اللغة؛ إذ عليه ألا يكرر ألفاظ القافية.
والإقواء: هو اختلاف حركة الروي المطلق من الضم إلى الكسر، كقول النابغة الذبياني:
زعم البوارحُ أن رِحْلَتنا غداً *** وبذاك خبرنا الغرابُ الأسودُ
لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً به *** إن كان تفريق الأحبة في غدِ
ولهذا يذكر أن النابغة لما نبه على هذا غيّر البيت إلى قوله:
.......................... *** وبذاك تنعاب الغرابِ الأسودِ
(5) المُعاوِية: الكَلْبَةُ التي تعاوي الكلاب وتنابحها، وبها سمي الرجل، وربما أراد بذلك معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه- فقد كان رجلاً أكولاً وقد قال فيه النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا أشبع الله بطنك"، وقد عدَّ الإمام مسلم هذه الدعوة من جملة مناقبه –رضي الله عنه- لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أيما مسلم جلدته، أو شتمته، أو ضربته، فاجعلها صلاة وزكاة عليه"، ثم أعقبه بحديث معاوية "لا أشبع الله بطنك".
(6) في الأصل: "عاب".
(7) البيت لطرفة في ديوانه 48.
(8) انظر يتيمة الدهر للثعالبي 2/214_418، ومقدمة المقاييس 1 / 15 _ 20.[/align]
[align=justify]جاء في مطلع معلقة عنترة المشهورة قوله:
[align=center]هل غادر الشعراء من متردَّم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم[/align]
ومعنى قوله: غادر: أي ترك, وأبقى.
ومعنى متردَّم: أي مُتَتبّعٌ مُصْلَحٌ, من تردَّمَ الكلامَ: إذا تَتَبَّعه وأصلَحه.
ومعنى البيت: ما ترك الشعراء قَبْلي شيئاً مِنْ صالح الكلام إلا وسبقوني إليه.
أي لم يَدَعوا لنا شيئاً من المعاني, وصالحِ القول؛ فهذا هو معنى الشطر، وهو الذي يعنينا من البيت.
وجاء في ديوان البارودي أن الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي _وكان إذ ذاك شاباً_ سأل باعثَ الشعرِ العربيِّ في العصر الحديث محمود سامي الباروديَّ شيئاً من شعره الجديد، فقال البارودي: إن عنترة بن شداد العبسي يقول:
[align=center]هل غادر الشعراء من متردَّم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم[/align]
وقد نَقَضْتُ هذه القصيدةَ بقولي:
[align=center]كَمْ غادرَ الشعراءُ مِنْ متردَّم *** ولربَّ تالٍ بذَّ شأْوَ مُقدَّمِ
في كل عصرٍ عبقريٌّ لا يَنِي *** يَفْرِي الفَرِيَّ بِكُلِّ قولٍ مُحْكمِ[/align]
إلى آخر ما قال في تلك القصيدة التي تبلغ ثلاثة وخمسين بيتاً .
ومعنى قوله "تالٍ": اسم فاعل من تلا, أي تَبِعَه، وجاء بعده.
ومعنى قوله "بذّ": أي غلب, والشأو: الغاية, والفَرْيُ: القطع.
ومعنى البيت عكس معنى البيت الأول؛ فبينما يرى عنترة أن الأوائل لم يدعوا مهيعاً في الشعر إلا سلكوه، ولم يتركوا لمن بعدهم شيئاً _ فإن الباروديَّ يرى أن الإبداع غير مقتصر على الأوائل؛ فليس للإبداع مكان ولا زمان؛ فربما جاء المتأخر بما لم تأت به الأوائل؛ فما دام العقل البشري يتحرك فالإبداع ممكن، والتجديد وارد؛ فانظر إلى تباين الرؤية، وانظر إلى عظمة اللغة؛ حيث تَغَيَّر معنى البيت تماماً بمجرد إبدال أداة استفهام بأخرى.
والمقصود مما مضى إيراده أن هذه النظرة للإبداع قديمة حديثة؛ فهناك من يرى أن الأوائل لم يدعوا شيئاً للمتأخرين.
وهناك من يرى الأخذ بالجديد فحسب، والتخلي عما شاده الأوائل, ومن هنا تنشأ المعركة بين القديم والجديد.
وهي _بلا شك_ معركة ما كان ينبغي لها أن تقوم؛ إذ الحكمة تقتضي _كما يقول ابن عاشور_ أن نَعْمَدَ إلى ما شاده الأوائل فَنُهَذِّبَهُ ونزيده, وحاشا أن نَنْقُضَهُ أو نُبيدَه, فأولوا الأحلام الراجحة يأخذون بما يظهر من جديد صالح, ولا ينكثون أيديهم من قديم نافع.
وما أضر _كما قيل_ من مقولة: ما ترك الأول للآخر شيئاً.
وأَجْمِل بالمقولة الأخرى التي تقول: كم ترك الأول للآخر.
ولعل من أوائل من أشاروا إلى هذا المعنى العلامة اللغوي أحمد بن فارس-رحمه الله-.
وإليك شيئاً من رسالة له كتبها لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب؛ لتستبين مذهبه في ذلك، وتَلْمَسَ أسلوبه الأدبي، تلك الرسالة التي يتناقلها بعض المؤلفين إلى يومنا هذا، ويرون فيها عزاءً لمن لا يَقْدُرُون الإنتاجَ العلمي والأدبي قَدْرَهُ، ولا يرون التَمَيُّزَ إلا للقديم؛ فابن فارس يُبَيِّن فيها أن الحَسَنَ الجيدَ لا يختص به أحد دون أحد، أو زمان دون زمان، وينكر تلك المقولة التي وقفت سداً منيعاً أمام كثير من المبدعين، ألا وهي قولهم: (ما ترك الأول للآخر شيئاً).
ويرشد إلى أن يوضع مكانها: (كم ترك الأول للآخر).
يقول -رحمه الله- في رسالته: "ألهمك الله الرشاد، وأصحبك السداد، وجنبك الخلاف، وحبَّب إليك الإنصاف.
وسبب دعائي بهذا لك إنكارُك على أبي الحسن محمد بن علي العِجْلي تأليفه كتاباً في الحماسة، وإعظامك ذلك.
ولعله لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده، وَيَرِد المنهل الذي يؤمه_ لاستدرك من جيد الشعر وَنقِيِّه، ومختاره ورضيِّه كثيراً مما فات المؤلف الأول؛ فماذا الإنكار؟ ولمه هذا الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادةَ المتقدم؟ ولمه تأخذ بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئاً، وتدع قول الآخر:
كم ترك الأول للآخر؟
وهل الدنيا إلا أزمان، ولكل زمان رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام، ونتائج العقول؟!
ومَنْ قَصَر الآداب على زمانٍ معلوم، ووقفها على وقت محدود؟ ولمه لا ينظر الآخر مثلما نظر الأول؛ حتى يؤلف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل مثل رأيه.
وما تقول الفقهاء في زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟ أَوَ ما علمت أن لكل قلب خاطراً، ولكل خاطر نتيجةً؟ ولِمَهْ جاز أن يقال بعد أبي تمام مثل شعره، ولم يَجُزْ أن يؤلف مثل تأليفه؟
ولمه حجَّرت واسعاً، وَحَظَرتَ مباحاً، وحرمت حلالاً، وسددت طريقاً مسلوكاً؟
وهل حبيبٌ(1) إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولمه جاز أن يعارض الفقهاء في مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، والنُّظَّار في موضوعاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شذَّ عنه في الأبواب التي شرعها فيه أمر لا يُدْرَكُ ولا يدرى قدره؟
ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير، ولذهب أدب غزير، ولضلت أفهام ثاقبة، ولَكَلَّت أَلْسُنٌ لسِنَةٌ، ولما توشَّى أحد بالخطابة، ولا سلك شِعْباً من شعاب البلاغة، وَلَمَجَّتِ الأسماع كل مردود مكرر، ولَلَفظت القلوب كل مُرَجَّع مُمَضَّغ، وحتَّام لا يُسْأَم:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي(2)
وإلى متى: صَفَحْنا عن بني ذهل(3)
ولِمَه أنكرت على العِجْليِّ معروفاً؟ واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبي تمام في زعمه أن في كتابه تكريراً وتصحيفاً، وإيطاءً وإقواءً(4)، ونقلاً لأبيات عن أبوابها إلى أبوابٍ لا تليق بها، ولا تصلح لها إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة، وأمور عليلة؟ ولمه رضيت لنا بغير الرضى؟ وهلا حثثت على إثارةِ ما غَيَّبَتْهُ الدهور، وتجديد ما أخلقته الأيام، وتدوين ما نَتَجَتْهُ خواطرُ هذا الدهر، وأفكار هذا العصر، على أن ذلك لو رامه رائمٌ لأتعبه، ولو فعله لقرأت ما لم ينحط عن درجة مَنْ قَبْلَه: مِنْ جدٍّ يروعك، وهزل يروقك، واستنباط يعجبك، ومزاحٍ يلهيك.
وكان بقزوين رجل معروف بأبي حامد الضرير القزويني، حضر طعاماً وإلى جنبه رجل أكول، فأحس أبو حامد بجودة أكله فقال:
[align=center]وصاحب لي بطنه كالهاوية *** كأن في أمعائه معاوية(5)[/align]فانظر إلى وجازة هذا اللفظ، وجودة وقوع الأمعاء إلى جنب معاوية، وهل ضر ذلك أن لم يقله حماد عَجْرَد وأبو الشمقمق؟ وهل في إثبات ذلك عارٌ على مثبته، وفي تدوينه وصمة على مدوِّنه؟
وبقزوين رجل يعرف بابن الرياشي القزويني، نظر إلى حاكم من حكامها من أهل طبرستان مقبلاً، عليه عمامةٌ سوداءُ وطيلسان أزرقُ، وقميصٌ شديدُ البياض، وخفٌّ أحمرُ، وهو مع ذلك كله قصير على بِرَذَون أبلقَ هزيلِ الخَلْق، طويل الحلق، فقال حين نظر إليه:
[align=center]وحاكم جاء على أبلق *** كعقعقٍ جاء على لقلقِ[/align]
فلو شهدت هذا الحاكم على فرسه لشهدت للشاعر بصحة التشبيه، وجودة التمثيل، ولعلمت أنه لم يَقْصُرْ عن قول بشار:
[align=center]كأن مثار النقع فوق رؤوسهم *** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه[/align]
فما تقول لهذا، وهل يحسن ظلمه في إنكار إحسانه، وجحود تجويده؟
وأنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل، لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني وهو اليوم حي يرزق، وقد عاتب(6) بعض كتابها على حضوره طعاماً مرض منه:
[align=center]وُقِيتَ الردى وصروفَ العلل *** ولا عَرَفَتْ قدماك العلل
شكا المرض المجد لمَاَّ مَرِضْـ *** ـتَ فلما نهضت سليماً أبلّ
لك الذنب لا عتب إلا عليك *** لماذا أكلت طعام السِّفل[/align]
وأنشدني له في شاعر هو اليوم هناك يعرف بابن عمرو الأسدي، وقد رأيته فرأيت صفة وافقت الموصوف:
[align=center]وأصفر اللون أزرق الحدقة *** في كل ما يدعيه غير ثقةْ
كأنه مالك الحزين إذا *** همَّ بزرق وقد لوى عنقهْ
إن قمت في هجوه بقافيةٍ *** فكل شعر أقوله صدقةْ[/align]
وأنشدني عبدالله بن شاذان القاري، ليوسف بن حمويه من أهل قزوين؛ ويعرف بابن المنادى:
[align=center]إذا ما جئت أحمد مُسْتميحاً *** فلا يَغْرُرْكَ منظرُه الأنيقُ
له لطفٌ وليس لديه عرفٌ *** كبَارقةٍ تروقُ ولا تُريق
فما يَخْشى العدوُّ له وعيداً *** كما بالوعد لا يَثِقُ الصديقُ[/align]
ومدح رجلٌ بعض أمراء البصرة، ثم قال بعد ذلك _وقد رأى توانياً في أمره_ قصيدةً يقول فيها كأنه يجيب سائلاً:
[align=center]جوَّدت شعرَك في الأميـ *** ـرِ فكيفَ أمْرُك قلتُ: فاترْ[/align]
فكيفَ تقول لهذا؟ ومن أي وجه تأتي فتظلمه؟ وبأي شيء تعانده فتدفعه عن الإيجاز والدلالة على المراد بأقصر لفظٍ وأوجز كلام؟ وأنت الذي أنشدتني:
[align=center]سَدَّ الطريق على الزما *** نِ وقام في وجه القطوب[/align]
كما أنشدتني لبعض شُعراء الموصل:
[align=center]فدَيتك ما شِبْتُ عن كُبرةٍ *** وهذي سِنِيٌّ وهذا الحسابُ
ولكن هُجِرتُ فحَلَّ المشيبُ *** ولو قد وُصِلتُ لعاد الشبابُ[/align]
فلِمَ لم تخاصم هذين الرجلين في مزاحمتهما فحولة الشعراء وشياطين الإنس، ومَرَدة العالمَ في الشعر؟
وأنشدني أبو عبدالله المغلسي المراغي لنفسه:
[align=center]غداةَ تولت عِيسُهم فترحلوا *** بكيت على ترحالهم فعميتُ
فلا مُقلتِي أدّت حقوقَ وِدادهم *** ولا أنا عن عيني بذاك رضيتُ[/align]
وسمعت أبا الحسين السروجي يقول: كان عندنا طبيب يسمى النعمان، ويكنى أبا المنذر، فقال فيه صديقٌ لي:
[align=center]أقول لنعمانٍ وقد ساق طبُّه *** نفوساً نفيساتٍ إلى باطن الأرضِ
أبا منذر أفنيتَ فاستبقِ بعضَنا *** حنانيك بعضُ الشرِّ أهون من بعض(7)[/align]
إلى آخر ما قاله ابن فارس في رسالته الماتعة(8)؛ فرحمه الله، وأجزل مثوبته، وجزاه خير الجزاء كِفاءَ ما قدم للعلم والعربية.
وهكذا يتبين لنا بطلان المقولة المثبطة: "ما ترك الأول للآخر شيئاً".
وصحة المقولة المُنهضة: "كم ترك الأول للآخر".
***************************************
(1) يعني به: أبا تمام: حبيب بن أوس الطائي.
(2) يشير إلى قول القائل: لو كنت .... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
(3) يشير إلى قول الفِنْد الزماني:
صفحنا عن بني ذُهْلٍ *** وقلنا القوم إخوان
فلما صرَّح الشرُّ *** وأمسى وهو عريانُ
ولم يبقَ سوى العدوا *** نِ دناهم كما دانوا
وفي الشر نجاة حيـ *** ـن لا ينجيك إحسان
(4) الإيطاء والإقواء: مصطلحان عروضيان يعدان من عيوب القافية؛ فالإيطاء: هو إعادة كلمة الرَّوي بلفظها ومعناها بعد بيتين أو ثلاثة إلى سبعة أبيات؛ وهذا مما يدل على قلة إلمام الشاعر بمفردات اللغة؛ إذ عليه ألا يكرر ألفاظ القافية.
والإقواء: هو اختلاف حركة الروي المطلق من الضم إلى الكسر، كقول النابغة الذبياني:
زعم البوارحُ أن رِحْلَتنا غداً *** وبذاك خبرنا الغرابُ الأسودُ
لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً به *** إن كان تفريق الأحبة في غدِ
ولهذا يذكر أن النابغة لما نبه على هذا غيّر البيت إلى قوله:
.......................... *** وبذاك تنعاب الغرابِ الأسودِ
(5) المُعاوِية: الكَلْبَةُ التي تعاوي الكلاب وتنابحها، وبها سمي الرجل، وربما أراد بذلك معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه- فقد كان رجلاً أكولاً وقد قال فيه النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا أشبع الله بطنك"، وقد عدَّ الإمام مسلم هذه الدعوة من جملة مناقبه –رضي الله عنه- لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أيما مسلم جلدته، أو شتمته، أو ضربته، فاجعلها صلاة وزكاة عليه"، ثم أعقبه بحديث معاوية "لا أشبع الله بطنك".
(6) في الأصل: "عاب".
(7) البيت لطرفة في ديوانه 48.
(8) انظر يتيمة الدهر للثعالبي 2/214_418، ومقدمة المقاييس 1 / 15 _ 20.[/align]