السلام عليكم ورحمة الله،
جزاكم الله خيرا على إثارة هذا الموضوع.
لما رأيت نقاشكم في هذا الأمر، قلت في نفسي، ليس لها إلا محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله.
فلم يخيب الله ظني، ووجدته قد أفاض واستفاض - رحمه الله - في هذا الأمر بكلام مقنع جميل، مفتاحه: النسيء.
ولا أطيل عليكم؛ أترككم مع الشيخ:
ورمضان علم وليس منقولاً؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفَعلان من رمِض بكسر الميم إذا احترق؛ لأن الفَعَلان ، يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا ، وقيل هو منقول عن المصدر . ورمضان علَم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم؛ لأن نهاية العام عندهم هي انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم ، ألا ترى أن لَبيداً جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهراً سادساً إذ قال :
حَتَّى إذا سَلخا جُمادى سِتَّةً ... جَزْءاً فطال صيامُه وصيامها
ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة
لأن رمضان أول أشهر الحرارة بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران:
الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر
الثاني ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرُّطَب والتمر وشهراه شهرُ ربيع الأولُ وشهرُ ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصف لشهر ، ألا ترى أن العرب يقولون «الرطب شهري ربيع»
الثالث الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال حاتم :
في ليلةٍ من جمادَى ذاتتِ أَنْدَيةٍ = لاَ يُبصِرُ الكَلْبُ مِن ظَلْمَائِها الظُّنُبَا
لاَ يَنَبحُ الكلبُ فيها غيرَ واحِدَةٍ = حتَّى يَلُفَّ علَى خَيشُومِهِ الذَّنبَا
الرابع الربيع الثاني والثاني وصف للربيع وهذا هو وقت ظهور النَّور والكَمْأَةِ وشهراه رجبٌ وشعبان ، وهو فصل الدَّر والمطَر قال النابغة يذكر غَزَوات النعمان ابن الحارث :
وكانَتْ لَهْم رَبْعِيَّةٌ يَحْذَرُونَها ... إذا خَضْخَضَتْ ماءَ السماء القبائِلُ
وسَمَّوه الثاني لأنه يجيءُ بعد الربيع الأول في حساب السنة ، قال النابغة :
فإن يَهلك أبو قابُوسَ يَهلكْ ... رَبِيعُ الثَّانِ والبَلَدُ الحَرامُ
في رواية وراوي «ربيعُ الناس» ، وسموا كلا منهما ربيعاً لأنه وقت خصب
الفصل الخامس ، الصيف وهو مبدأ الحر وشهراه رمضان وشوال ، لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب .
السادس القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة .
وبعض القبائل تقسم السنة إِلى أربعة ، كل فصل له ثلاثة أشهر؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان ، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة ، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول ، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصفان لشهر لا لربيع وجمادى الأولى وجمادى الثانية .
ولما كانت أشهر العرب قمرية وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي تجيء بها الفصول تنقص أحد عشر يوماً وكسراً ، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر جعلوا للأشهر كبساً بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء .
وأسماء الشهور كلِّها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ثم وصفه بالأول والثاني؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول ، فالأول والثاني صفتان لشهر ، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحده مثل شجر الأراك ومدينة بغداد ، وبهذا يشعر كلام سيبويه والمحققين فمن قال : إنه لا يقال رمضان إلاّ بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدر ، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علماً فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في أبي هريرة فقد تكلف شططاً وخالف ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم " من صام ر مضان إيماناً واحتساباً " بنصب رمضان وإنما انجر إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في «أدب الكاتب» .
وإنما أضيف لفظ الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن الإيجاز المطلوب لهم يتقضي عدم ذكره إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم؛ لأنه لو قال رمضان لكان ظاهراً لا نصاً ، لا سيما مع تقدم قوله { أياماً } [ البقرة : 184 ] فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان .
فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفاً لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه ، ولما كان ذلك حلوله مكرراً في كل عام كان وجوب الصوم مكرراً في كل سنة إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ولأن ما أجري على الشهر من الصفات يحقق أن المراد منه جميعُ الأزمنة المسماةُ به طول الدهر .