جاء في شفاء العليل لابن القيم
الباب الخامس عشر في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة والحائل بين الكافر وبين الإيمان وان ذلك مجعول للرب تعالى قال تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وقال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقال تعالى وقالوا قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم وقال كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وقال ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون وقال أفلا يتدبرون القآن أم على قلوب أقفالها وقال لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وقد دخل هذه الآيات ونحوها طائفتا القدرية والجبرية فحرفها القدرية بأنواع من التحريف المبطل لمعانيها وما أريد منها وزعمت الجبرية أن الله أكرهها على ذلك وقهرها عليه وأجبرها من غير فعل منها ولا إرادة ولا اختيار ولا كسب البتة بل حال بينها وبين الهدى ابتداء من غير ذنب ولا سبب من العبد يقتضي ذلك بل أمره وحال مع أمره بينه وين الهدى فلم ييسر إليه سبيلا ولا أعطاه عليه قدره ولا مكنه منه بوجه وأراد بعضهم بل أحب له الضلال والكفر والمعاصي ورضيه منه فهدى أهل السنة والحديث واتباع الرسول لما اختلف فيه هاتان الطائفتان من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
قالت القدرية لا يجوز حمل هذه الآيات على أنه منعهم من الإيمان وحال بينهم وبينه إذ يكون لهم الحجة على الله ويقولون كيف يأمرنا بأمر ثم يحول بيننا وبينه ويعاقبنا عليه وقد منعنا من فعله وكيف يكلفنا بأمر لا قدرة لنا عليه وهل هذا إلا بمثابة من أمر عبده بالدخول من باب ثم سد عليه الباب سدا محكما لا يمكنه الدخول معه البتة ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول وبمنزلة من أمره بالمشي إلى مكان ثم قيده بقيد لا يمكنه معه نقل قدمه ثم أخذ يعاقبه على ترك المشي وإذا كان هذا قبيحا في حق المخلوق الفقير المحتاج فكيف ينسب إلى الرب تعالى مع كمال غناه وعلمه وإحسانه ورحمته قالوا وقد كذب الله سبحانه الذين قالوا قلوبنا غلف وفي أكنة وأنها قد طبع عليها وذمهم على هذا القول فكيف ينسب إليه تعالى ولكن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بهداه الذي بعث به رسله حتى صار ذلك الإعراض والنفار كالاف والطبيعة والسجية أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وصار هذا وقرا في آذانهم وختما على قلوبهم وغشاوة على أعينهم فلا يخلص إليها الهدى وإنما أضاف الله تعالى ذلك إليه لأن هذه الصفة قد صارت في تمكنها وقوة ثباتها كالخلقة التي خلق عليها العبد قالوا ولهذا قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا
(1/85)
--------------------------------------------------------------------------------
يكسبون وقال بل طبع الله عليها بكفرهم وقال فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقال فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ولعمر الله أن الذي قاله هؤلاء حقه أكثر من باطله وصحيحه أكثر من سقيمه ولكن لم يوفوه حقه وعظموا الله من جهة وأخلوا بتعظيمه من جهة فعظموه بتنزيهه عن الظلم وخلاف الحكمة وأخلوا بتعظيمه من جهة التوحيد وكمال القدرة ونفوذ المشيئة والقرآن يدل على صحة ما قالوه في الران والطبع والختم من وجه وبطلانه من وجه وأما صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم وجزاء على كفرهم وأعراضهم عن الحق بعد أن عرفوه كما قال تعالى فلما أزاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وقال كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقال ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون وقال ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم وقد اعترف بعض القدرية بأن ذلك خلق الله سبحانه ولكنه عقوبة على كفرهم وإعراضهم السابق فإنه سبحانه يعاقب على الضلال المقدور بإضلال بعده ويثيب على الهدى بهدى بعده كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها ويثيب على الحسنة بحسنة مثلها وقال تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم وقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا آن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر ومن الفرقان الهدى الذي يفرق به بين الحق والباطل وقال في ضد ذلك فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا وقال في قلوبهم مرض فزادهم اله مرضا وقال ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء حق والقرآن دل عليه وهو موجب العدل والله سبحانه ماض في العبد حكمه عدل في عبده قضاؤه فإنه إذا دعى عبده إلى معرفته ومحبته وذكره وشكره فأبى العبد إلا إعراضا وكفرا قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره وصده عن الإيمان به وحال بين قلبه وبين قبول الهدى وذلك عدل منه فيه وتكون عقوبته بالختم والطبع والصد عن الإيمان كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار كما قال كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم أنهم لصالو الجحيم فحجابه عنهم إضلال لهم وصد عن رؤيتهم وكمال معرفته كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدها عن الإيمان وكذلك عقوبته لهم بصدهم عن السجود له يوم القيامة مع الساجدين هو جزاء امتناعهم من السجود له في الدنيا وكذلك عماهم عن الهدى في الآخرة عقوبة لهم على عماهم في الدنيا ولكن أسباب هذه الجرايم في الدنيا كانت مقدورة لهم واقعة باختيارهم وإرادتهم وفعلهم فإذا وقعت عقوبات لم تكن مقدورة بل قضاء جار عليهم ماض عدل فيهم وقال تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ومن ههنا ينفتح للعبد باب واسع عظيم النفع جدا في قضاء الله المعصية والكفر والفسوق على العبد وإن ذلك محض عدل فيه وليس المراد بالعدل ما يقوله الجبرية أنه الممكن فكل ما يمكن فعله بالعبد فهو عندهم عدل والظلم هو الممتنع لذاته فهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب الكلام في الأسباب والحكم ولاالمراد به ما تقوله القدرية النفاة أنه إنكار عموم قدرة الله ومشيئته على أفعال عباده وهدايتهم وإضلالهم وعموم مشيته لذلك وأن الأمر إليهم لا إليه وتأمل قول النبي صلى الله عليه و سلم ماض في حكمك عدل في قضائك كيف ذكر العبد في القضاء مع الحكم النافذ وفي ذلك رد لقول الطائفتين القدرة والجبرية فإن العدل الذي أثبتته القدرية مناف للتوحيد معطل
(1/86)
--------------------------------------------------------------------------------
لكمال قدرة الرب وعموم مشيئته والعدل الذي أثبته الجبرية مناف للحكمة والرحمة ولحقيقة العدل والعدل الذي هو اسمه وصفته ونعته سبحانه خارج عن هذا وهذا ولم يعرفه إلا الرسل واتباعهم ولهذا قال هود عليه الصلاة و السلام لقومه إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فأخبر عن عموم قدرته ونفوذ مشيئته وتصرفه في خلقه كيف شاء ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم وقال أبو إسحاق أي هو سبحانه وأن كانت قدرته تنالهم بما شاء فإنه لا يشاء إلا العدل وقال ابن الأنباري لما قال هو آخذ بناصيتها كان في معنى لا يخرج من قبضته وأنه قاهر بعظيم سلطانه لكل دابة فاتبع قوله أن ربي على صراط مستقيم قال وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا بحسن السيرة والعدل والإنصاف قالوا فلان على طريقة حسنة وليس ثم طريق ثم ذكر وجها آخر فقال لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل دابة أتبع هذا قوله أن ربي على صراط مستقيم أي لا تخفى عليه مشيئته ولا يعدل عنه هارب فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه كما قال إن ربك بالمرصاد
قلت فعلى هذا القول الأول يكون المراد أنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل ومجازات المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ولا يظلم مثقال ذرة ولا يعاقب أحدا بما لم يجنه ولا يهضمه ثواب ما عمله ولا يحمل عليه ذنب غيره ولا يأخذ أحدا بجريرة أحد ولا يكلف نفسا ما لا تطيقه فيكون من باب له الملك وله الحمد ومن باب ماض في حكمك عدل في قضاؤك ومن باب الحمد لله رب العالمين آي كما أنه رب العالمين المتصرف فيهم بقدرته ومشيئته فهو المحمود على هذا التصرف وله الحمد على جميعه وعلى القول الثاني المراد به التهديد والوعيد وأن مصير العباد إليه طريقهم عليه ولا يفوته منهم أحد كما قال تعالى قال هذا صراط على مستقيم قال الفراء يقول مرجعهم إلي فأجازيهم كقوله أن ربك لنا بالمرصاد قال وهذا كما تقول في الكلام طريقك علي وأنا على طريقك لمن أوعدته وكذلك قال الكلبي والكسائي ومثل قوله وعلى الله قصد السبيل على إحدى القولين في الآية وقال مجاهد الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه ومنها أي ومن السبيل ما هو جائر عن الحق ولو شاء لهداكم أجمعين فأخبر عن عموم مشيئته وأن طريق الحق عليه موصلة إليه فمن سلكها فإليه يصل ومن عدل عنها فإنه يضل عنه والمقصود أن هذه الآيات تتضمن عدل الرب تعالى وتوحيده والله يتصرف في خلقه بمكله وحمده وعدله وإحسانه فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وشرعه وقدره وثوابه وعقابه يقول الحق ويفعل العدل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل فهذا العدل والتوحيد الذين دل عليهما القرآن لا يتناقضان وأما توحيد أهل القدر والجبر وعدلهم فكل منهما يبطل الآخر ويناقضه
فصل ومن سلك من القدرية هذه الطريق فقد توسط بين الطائفتين لكنه يلزمه الرجوع إلى مثبت القدر قطعا وألا تناقض أبين تناقض فإنه إذا زعم أن الضلال والطبع والختم والقفل والوقر وما يحول بين العبد وببين الإيمان مخلوق لله وهو واقع بقدرته ومشيئته فقد أعطى أن أفعال العباد مخلوقة وأنها واقعة بمشيئته فلا فرق بين الفعل الابتدائي والفعل الجزائي إن كان هذا مقدور الله واقعا بمشيئته والآخر كذلك وإن لم يكن ذاك مقدورا ولا يصح دخوله تحت المشيئة فهذا كذلك والتفريق بين النوعين تناقض محض وقد حكى هذا التفريق عن بعض القدرية أبو القاسم الأنصاري في شرحه
(1/87)
--------------------------------------------------------------------------------
الإرشاد فقال ولقد اعترف بعض القدرية بأن الختم والطبع توابع غير أنها عقوبات من الله لأصحاب الجرائم قال وممن صار إلى هذا المذهب عبد الواحد بن زيد البصري وبكر ابن أخته قال وسبيل المعاقبين بذلك سبيل المعاقبين بالنار وهؤلاء قد بقي عليهم درجة واحدة وقد تحيزوا إلى أهل السنة والحديث
فصل وقالت طائفة منهم الكافر هو الذي طبع على قلب نفسه في الحقيقة وختم على قلبه والشيطان ايضا فعل ذلك ولكن لما كان الله سبحانه هو الذي أقدر العبد والشيطان على ذلك نسب الفعل إليه لإقراره للفاعل على ذلك لأنه هو الذي فعله
قال أهل السنة والعدل هذا الكلام فيه حق وباطل فلا يقبل مطلقا ولا يرد مطلقا فقولكم أن الله سبحانه أقدر الكافر والشيطان على الطبع والختم كلام باطل فإنه لم يقدره إلا على التزيين والوسوسة والدعوة إلى الكفر ولم يقدره على خلق ذلك في قلب العبد البتة وهو أقل من ذلك وأعجز وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهداية شيء وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء فمقدور الشيطان أن يدعو العبد إلى فعل الأسباب التي إذا فعلها ختم الله على قلبه وسمعه وطبع عليه كما يدعوه إلى الأسباب التي إذا فعلها عاقبه الله بالنار فعقابه بالنار كعقابه بالختم والطبع وأسباب العقاب فعله وتزيينها وتحسينها فعل الشيطان والجميع مخلوق لله
وأما ما في هذا الكلام من الحق فهو أن الله سبحانه أقدر العبد على الفعل الذي أوجب الطبع والختم على قلبه فلولا أقدار الله له على ذلك لم يفعله وهذا حق لكن القدرية لم توف هذا الموضوع حقه وقالت أقدره قدرة تصلح للضدين فكان فعل أحدهما باختياره ومشيئته التي لا تدخل تحت مقدور الرب وإن دخلت قدرته الصالحة لهما تحت مقدروه سبحانه فمشيئته واختياره وفعله غير واقع تحت مقدور الرب وهذا من أبطل الباطل فإن كل ما سواه تعالى مخلوق وله داخل تحت قدرته واقع بمشيئته ولو لم يشأ لم يكن
قلت القدرية لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى التذكر وكان ذلك مقارنا لا يراد الله سبحانه حجته عليهم أضيفت أفعالهم إلى الله لأن حدوثها إنما اتفق عند إيراد الحجة عليهم
قال أهل السنة هذا من أمحل المحال آن يضيف الرب إلى نفسه أمر ألا يضاف إليه البتة لمقارنته ما هو من فعله من المعلوم أن الضد يقارن الضد فالشر يقارن الخير والحق يقارن الباطل والصدق يقارن الكذب وهل يقال أن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان لمقارنتها ما يحبه من الإيمان والطاعة وأنه يحب إبليس لمقارنة وجوده لوجود الملائكة فإن قيل قد ينسب الشيء الى الشيء لمقارنته له وإن لم يكن له فيه تأثير كقوله تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهو يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ومعلوم أن السورة لم تحدث لهم زيادة رجس بل قارن زيادة رجسهم نزولها فنسب إليها قيل لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما وهما أحداث السورة الرجس والثاني مقارنته لنزولها بل ههنا أمر ثالث وهو أن السورة لما أنزلت اقتضى نزولها الإيمان بها والتصديق والإذعان لأوامرها ونواهيها والعمل بما فيها فوطن المؤمنون أنفسهم على ذلك فازدادوا إيمانا بسببها فنسبت زيادة الإيمان إليها إذ هي السبب في زيادته وكذب بها الكافرون وجحدوها وكذبوا من جاء بها ووطنوا أنفسهم على مخالفة ما تضمنته وإنكاره فازدادوا بذلك رجسا فنسب إليها إذ كان نزولها ووصولها إليهم هو السبب في تلك
(1/88)
--------------------------------------------------------------------------------
الزيادة فأين هذا من نسبة الأفعال القبيحة عندكم التي لا تجوز نسبتها إلى الله عند دعوتهم إلى الإيمان وتدبر آياته على أن أفعالهم القبيحة لا تنسب إلى الله سبحانه وإنما هي منسوبة إليهم والمنسوب إليه سبحانه أفعاله الحسنة الجميلة المتضمنة للغايات المحمودة والحكم المطلوبة والختم والطبع القفل والإضلال أفعال حسنة من الله وضعها في أليق المواضع بها إذ لا يليق بذلك المحل الخبيث غيرها والشرك والكفر والمعاصي والظلم أفعالهم القبيحة التي لا تنسب إلى الله فعلا وإن نسبت إليه خلقا فخلقها غيرها والخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول والقضاء غير المقضي والقدر غير المقدور وستمر بك هذه المسألة مستوفاة إن شاء الله في باب اجتماع الرضاء بالقضاء وسخط الكفر والفسوق والعصيان إن شاء الله
قالت القدرية لما بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى الإيمان لهم الا بالقسر والإلجاء ولم تقتض حكمته تعالى أن يقسرهم على الإيمان لئلا تزول حكمة التكليف عبر عن ترك الألجاء والقسر بالختم والطبع إعلاما لهم بأنهم انتهوا في الكفر والإعراض إلى حيث لا ينتهون عنه إلا بالقسر وتلك الغاية في وصف لجاجهم وتماديهم في الكفر
قال أهل السنة هذا كلام باطل فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم مشيئة الإيمان وإرادته ومحبته فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء بل إيمان اختيار وطاعة كما قال تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا وإيمان القسر والإلجاء لا يسمى إيمانا ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة ولا يسمى ذلك إيمانا لأنه عن الجاء واضطرار قال تعال ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمى هدى وكذلك قوله أفلم ييأس الذين امنواأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا فقولكم لم يبق طري إلى الإيمان إلا بالقسر باطل فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يرهم الله إياه وهو مشيئته وتوفيقه والهامة وإمالة قلوبهم إلى الهدى وإقامتها على الصراط المستقيم وذلك أمر لا يعجز عنه رب كل شيء ومليكه بل هو القادر عليه كقدرته على خلقه ذواتهم وصفاتهم ودرائهم ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم كما منع السفل خصائص العلو ومنع الحار خصائص البارد ومنع الخبيث خصائص الطيب ولا يقال فلم فعل هذا فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته ومن مقتضيات أسمائه وصفاته وهل يليق بحكمته أن يسوي بين الطيب والخبيث والحسن والقبيح والجيد والرديء ومن لوازم الربوبية خلق الزوجين وتنويع المخلوقات وأخلاقها
فقول القائل لم خلق الرديء والخبيث واللئيم سؤال جاهل بأسمائه وصفاته وملكه وربوبيته وهو سبحانه فرق بين خلقه أعظم تفريق وذلك من كمال قدرته وربوبيته فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن ومنه ما لا يقبل شيئا منه وبين ذلك درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الخلاق العليم وهدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له والقابل والمقبول والقبول كله مفعوله ومخلوقه وأثر فعله وخلقه وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية ولم يهتدوا إليه وبالله التوفيق
قالت القدرية الختم والطبع هو شهادته سبحانه عليهم بأنهم لا يؤمنون وعلى أسماعهم وعلى قلوبهم
قال أهل السنة هذا هو قولكم بأن الختم والطبع هو الإخبار عنهم بذلك وقد تقدم فساد هذا بما فيه كفاية وأنه لا يقال في لغة من لغات الأمم لمن أخبر عن غيره بأنه مطبوع على قلبه وأن عليه ختما أنه قد طبع على قلبه وختم عليه بل هذا كذب على اللغات وعلى القرآن وكذلك قول من قال أن ختمه على قلوبهم اطلاعه على ما فيها من الكفر وكذلك قول من قال أنه إحصاؤه
(1/89)
--------------------------------------------------------------------------------
عليهم حتى يجازيهم به وقول من قال أنه أعلامها بعلامة تعرفها بها الملائكة وقد بينا بطلان ذلك بما فيه كفاية
قالت القدرية لا يلزم من الطبع والختم والقفل آن تكون مانعة من الأيمان بل يجوز أن يجعل الله فيهم ذلك من غير آن يكون منعهم من الإيمان بل يكون ذلك من جنس الغفلة والبلادة والغشا في البصر فيورث ذلك إعراضا عن الحق وتعاميا عنه ولو أنعم النظر وتفكر وتدبر لما آثر على الإيمان غيره وهذا الذي قالوه يجوز آن يكون في أول الأمر فإذا تمكن واستحكم من القلب ورسخ فيه امتنع معه الإيمان ومع هذا فهو أثر فعله وإعراضه وغفلته وإيثاره وشهوته وكبره على الحق والهدى فلما تمكن فيه واستحكم صار صفة راسخة وطبعا وختما وقفلا ورانا فكان مبداه غير حائل بينهم وبين الإيمان والإيمان ممكن معه لو شاؤا لآمنوا مع مبادئ تلك الموانع فلما استحكمت لم يبق إلى الإيمان سبيل ونظير هذا أن العبد يستحسن ما يهواه فيميل إليه بعض الميل ففي هذه الحال يمكن صرف الداعية له إذ الأسباب لم تستحكم فإذا استمر على ميله واستدعى أسبابه واستمكنت لم يمكنه صرف قلبه عن الهوى والمحبة فيطبع على قلبه ويختم عليه فلا يبقى فيه محل لغير ما يهواه ويحبه وكان الانصراف مقدورا له في أول المر فلما تمكنت أسبابه لم يبق مقدورا له كما قال الشاعر ... تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يطق ... رأى لجة ظنها موجة ... فلما تمكن منها غرق ... فلو أنهم بادروا في مبدأ الأمر إلى مخالفة الأسباب الصادة عن الهدى لسهل عليهم ولما استعصى عليهم ولقدروا عليه ونظير ذلك المبادرة إلى إزالة العلة قبل استحكام أسبابها ولزومها للبدن لزوما لا ينفك منها فإذا استحكمت العلة وصارت كالجزء من البدن عز على الطبيب استنقاذ العليل منها ونظير ذلك المتوحل في حمأة فإنه ما لم يدخل تحتها فهو قادر على التخلص فإذا توسط معظمها عز عليه وعلى غيره انقاذه فمبادئ الأمور مقدورة للعبد فإذا استحكمت أسبابها وتمكنت لم يبق الأمر مقدور له فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه من أنفع الأشياء في باب القدر والله الموفق للصواب والله سبحانه جاعل ذلك كله وخالقه فيهم بأسباب منهم وتلك الأسباب قد تكون أمورا عدمية يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها فلا يشاء سبحانه أن يخلق للعبد أسباب الهدى فيبقى على العدم الأصلي وإن أراد من عبده الهداية فهي لا تحصل حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه فإذا لم يرد سبحانه من نفسه ذلك لم تحصل الهداية
فصل ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان بأن يفك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفل ذلك الختم والطابع والقفل ويهديه بعد ضلاله ويعلمه بعد جهله ويرشده بعد غيه ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر لم يمتنع آن يمحوها ويكتب عليه السعادة والإيمان وقرا قارئ عند عمر بن الخطاب افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وعنده شاب فقال اللهم عليها أقفالها ومفاتيحها بيدك لا يفتحها سواك فعرفها له عمر وزادته عنده خيرا وكان عمر يقول في دعائه اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت فالرب تعالى فعال لما يريد لا حجر عليه وقد ضل ههنا فريقان القدرية حيث زعمت أن ذلك ليس مقدورا للرب ولا يدخل تحت فعله إذ لو كان مقدورا له ومنعه العبد لناقض جوده ولطفه والجبرية حيث زعمت أنه سبحانه إذا قدر قدرا أو علم
(1/90)
--------------------------------------------------------------------------------
شيئا فإنه لا يغيره بعد هذا ولا يتصرف فيه بخلاف ما قدره وعلمه والطائفتان حجرت على كل من لا يدخل تحت حجر أحد أصلا وجميع خلقه تحت حجره شرعا وقدرا وهذه المسألة من أكبر مسائل القدر وسيمر بك إن شاء الله في باب المحو والإثبات ما يشفيك فيها والمقصود انه مع الطبع والختم والقفل لو تعرض العبد أمكنه فك ذلك الختم والطابع وفتح ذلك القفل يفتحه من بيده مفاتيح كل شيء وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه وإن كان فك الختم وفتح القفل غير مقدور له كما آن شرب الدواء مقدور له وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور فإذا استحكم به المرض وصار صفة لازمة له لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء وإن كان غير مقدور له ولكن لما ألف العلة وساكنها ولم يحب زوالها ولا آثر ضدها عليها مع معرفته بما بينها وبين ضدها من التفاوت فقد سد على نفسه باب الشفاء بالكلية والله سبحانه يهدي عبده إذا كان ضالا وهو يحسب انه على هدى فإذا تبين له الهدى لم يعدل عنه لمحبته وملاءمته لنفسه فإذا عرف الهدى فلم يحبه ولم يرض به وآثر عليه الضلال مع تكرار تعريفه منفعة هذا وخيره ومضرة هذا وشره فقد سد على نفسه باب الهدى بالكلية فلو أنه في هذه الحال تعرض وافتقر إلى من بيده هداه وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه وأنه ان لم يهده الله فهو ضال وسأل الله أن يقبل بقلبه وأن يقيه شر نفسه وفقه وهداه بل لو علم الله منه كراهية لما هو عليه من الضلال وأنه مرض قاتل إن لم يشفه منه أهلكه لكانت كراهته وبغضه إياه مع كونه مبتلي به مكن أسباب الشفاء والهداية ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال محبته له ورضاه به وكراهته الهدى والحق فلو أن المطبوع على قلبه المختوم عليه كره ذلك ورغب إلى الله في فك ذلك عنه وفعل مقدوره لكان هداه أقرب شيء إليه ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة ذلك وسؤال الرب فكه وفتح قلبه
فصل فإن قيل فإذا جوزتم أن يكون الطبع والختم والقفل عقوبة وجزاء على الجرايم الإعراض والكفر السابق على فعل الجرائم
قيل هذا موضع يغلط فيه أكثر الناس ويظنون بالله سبحانه خلاف موجب أسمائه وصفاته والقرآن من أوله إلى آخره إنما يدل على أن الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الرب سبحانه بعبده من اول وهلة حين أمره بالإيمان آو بينه له وإنما فعله بعد تكرار الدعوة منه سبحانه والتأكيد في البيان والإرشاد وتكرار الإعراض منهم والمبالغة في الكفر والعناد فحينئذ يطبع على قلوبهم ويختم عليها فلا تقبل الهدى بعد ذلك والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع بل كان اختيارا فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية فتأمل هذا المعنى في قوله إن الذين كفروا سواء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ومعلوم أن هذا ليس حكما يعم جميع الكفار بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفارا قبل ذلك ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير وبعضهم بالطمس على أعينهم فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على الأعين وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة وقد يعاقب به إلى وقت ثم يعافي عبده ويهديه كما يعاقب بالعذاب كذلك
(1/91)
--------------------------------------------------------------------------------
فصل وههنا عدة أمور عاقب بها لكفار بمنعهم عن الإيمان وهي الختم والطبع والأكنة والغطاء والغلاف والحجاب والوقرة والغشاوه والران والغل والسد والقفل والصمم والبكم والعمي والصد والصرف والشد على القلب والضلال والإغفال والمرض وتقليب الأفئدة والحول بين المرء وقلبه وإزاغة القلوب والخذلان والأركاس والتثبيط والتزيين وعدم إرادة هداهم وتطهيرهم وإماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها فتبقى على الموت الأصلي وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية وجعل القلب قاسيا لا ينطبع فيه مثال الهدى وصورته وجعل الصدر ضيفا حرجا لا يقبل الإيمان وهذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب كالختم والطبع والقفل والأكنة والإغفال والمرض ونحوها ومنها ما يرجع إلى رسوله الموصل إليه الهدى كالصمم والوقر ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشا ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبكم النطقي وهو نتيجة البكم القلبي فإذا بكم القلب بكم اللسان ولا تصغ إلى قول من يقول أن هذه مجازات واستعارات فإنه قال بحسب مبلغه من العلم والفهم عن الله ورسوله وكان هذا القائل حقيقة الفعل عنده أن يكون من حديد والختم أن يكون بشمع أو طين والمرض أن يكون حمى ينافض أو قولنج أو غيرهما من أمراض البدن والموت هو مفارقة الروح للبدن ليس إلا والعمى ذهاب ضوء العين الذي تبصر به وهذه الفرقة من أغلظ الناس حجابا فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى محلها كانت بحسب تلك المحال فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل الباب إليه وكذلك الختم والطابع الذي عليه هو بالنسبة إليه كالختم والطابع الذي على الباب والصندوق ونحوهما وكذلك نسبة الصمم والعمى إلى الأذن والعين وكذلك موته وحياته نظير موت البدن وحياته بل هذه الأمور ألزم للقلب منها للبدن فلو قيل أنها حقيقة في ذلك مجاز في الأجسام المحسوسة لكان مثل قول هؤلاء وأقوى منه وكلاهما باطل فالعمى في الحقيقة والبكم والموت والقفل للقلب ثم قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور والمعنى أنه معظم العمى وأصله وهذا كقوله صلى الله عليه و سلم إنما الربا في السيئة وقوله إنما الماء من الماء وقوله ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس وقوله ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي لا يجد ما يعنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه وقوله ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ولم يرد نفي الاسم عن هذه المسميات إنما أراد أن هؤلاء أولى بهذه الأسماء وأحق ممن يسمونه بها فهكذا قوله لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقريب من هذا قوله ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله وباليوم الآخر الآية وعلى التقديرين فقد أثبت للقلب عمي حقيقة وهكذا جميع ما نسب إليه ولما كان القلب ملك الأعضاء وهي جنوده وهو الذي يحركها ويستعملها والإرادة والقوى والحركة الاختيارية تنبعث كانت هذه الأمثال أصلا وللأعضاء تبعا فلنذكر هذه الأمور مفصلة ومواقعها في القرآن فقد تقدم الختم قال الأزهري وأصله التغطية وختم البذر في الأرض إذ غطاه قال أبو إسحاق معنى ختم وطبع في اللغة واحد وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه فلا يدخله شيء كما قال تعالى أم على قلوب أقفالها وكذلك قوله طبع الله على قلوبهم قلت الختم والطبع يشتركان فيما ذكر ويفترقان في معنى آخر وهو أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة فهو تأثير لازم لا
(1/92)
--------------------------------------------------------------------------------
يفارق وأما الأكنة ففي قوله تعالى وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وهي جمع كنان كعنان وأعنة وأصله من الستر والتغطية ويقال كنة وأكنة وكنان بمعنى واحد بل بينهما فرق فأكنة إذا ستره وأخفاه كقوله تعالى أو أكننتم في أنفسكم وكنة إذا صانه وحفظه كقوله بيض مكنون ويشتركان في الستر والكنان ماأكن الشيء وستره وهو كالغلاف وقد أقروا على أنفسهم بذلك فقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فذكروا غطاء القلب وهي الأكنة وغطاء الأذن وهو الوقر وغطاء العين وهو الحجاب والمعنى لا نفقه كلامك ولا نسمعه ولا نراك والمعنى إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول ولا يراك قال ابن عباس قلوبنا في أكنة مثل الكنانة التي فيها السهام وقال مجاهد كجعبة النبل وقال مقاتل عليها غطاء فلا نفقه ما تقول
فصل وأما الغطاء فقال تعالى وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء من ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا وهذا يتضمن معنيين أحدهما أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله وأدلة توحيده وعجائب قدرته والثاني أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والاهتداء به وهذا الغطاء للقلب أولا ثم يسري منه إلى العين
فصل وأما الغلاف فقال تعالى وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم وقد اختلف في معنى قولهم قلوبنا غلف فقالت طائفة المعنى قلوبنا أوعية للحكمة والعلم فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به أو لا تحتاج إليك وعلى هذا فيكون غلف جمع غلاف والصحيح قول أكثر المفسرين أن المعنى قلوبنا لا تفقه ولا تفهم ما تقول وعلى هذا فهو جمع أغلف كأحمر وحمر وقال أبو عبيدة كل شيء في غلاف فهو أغلف كما يقال سيف أغلف وقوس أغلف ورجل أغلف غير مختون قال ابن عباس وقتادة ومجاهد على قلوبنا غشاوة فهي في أوعية فلا تعي ولا تفقه ما تقول وهذا هو الصواب في معنى الآية لتكرر نظائره في القرآن كقولهم قلوبنا في أكنة وقوله تعالى كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى ونظائر ذلك وأما قول من قال هي أوعية للحكمة فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة وليس له في القرآن نظير يحمل عليه ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم والحكمة فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل قلبي غلاف وقلوب المؤمنين العالمين غلف أي أوعية للعلم والغلاف قد يكون وعاء للجيد والرديء فلا يلزم من كون القلب غلافا أن يكون داخله العلم والحكمة وهذا ظاهر جدا فإن قيل فالإضراب ببل على هذا القول الذي قويتموه ما معناه وأما على القول الآخر فظاهر آي ليست قلوبكم محلا للعلم والحكمة بل مطبوع عليها قيل وجه الإضراب في غاية الظهور وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه فكيف تقوم به عليه الحجة وكأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف فهم معذورون في عدم الإيمان فاكذبهم الله وقال بل طبع الله عليها بكفرهم وفي الآية الأخرى بل لعنهم الله بكفرهم فاخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم وآثروه على الإيمان فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة والمعنى لم نخلق قلوبهم غلفا لا تعي ولا تفقه ثم نأمرهم بالإيمان وهم لا يفهمونه ولا يفقهونه بل اكتسبوا أعمالا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها
فصل وأما الحجاب ففي قوله تعالى حكاية عنهم ومن بيننا وبينك حجاب وقوله فإذا قرأت
(1/93)
--------------------------------------------------------------------------------
القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا على أصح القولين والمعنى جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به ويبينه قوله وجعلنا على قلوبهم أكنة آن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فأخبر سبحانه أن ذلك جعله فالحجاب يمنع رؤية الحق والأكنة تمنع من فهمه والوقر يمنع من سماعه وقال الكلبي الحجاب ههنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه ووصفه بكونه مستورا فقيل بمعنى ساتر وقيل على النسب أي ذو ستر والصحيح أنه على بابه أي مستورا عن الإبصار فلا يرى ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت والنسب في مفعول لم يشتق من فعله كمكان مهول أي ذي هول ورجل مرطوب أي ذي رطوبة فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل كمضروب ومجروح ومستور
فصل وأما الران فقد قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال أبو عبيدة غلب عليها والخمر ترين على عقل السكران والموت يرون على الميت فيذهب به ومن هذا حديث اسيفع جهينة وقول عمر فأصبح قدرين به أي غلب عليه وأحاط به الرين وقال أبو معاذ النحوي الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين والإقفال أشد من الطبع وهو أن يقفل على القلب وقال الفراء كثرت الذنوب والمعاصي منهم فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها وقال أبو إسحاق ران غطى يقال ران على قلبه الذنب يرين رينا أي غشيه قال والرين كالغشاء يغشى القلب ومثله الغين قلت أخطأ أبو إسحاق فألغين ألطف شيء وأرقه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنه ليغان على قلبي وأني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة وأما الرين والران فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها وقال مجاهد هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه فيموت القلب وقال مقاتل غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة وفي سنن النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال الترمذي هذا حديث صحيح وقال عبد الله بن مسعود كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم فكان سبب الران منهم وهو خلق الله فيهم فهو خالق السبب ومسببه لكن السبب باختيار العبد والمسبب خارج عن قدرته واختياره
فصل وأما الغل فقال تعالى لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون قال الفراء حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله وقال أبو عبيدة منعناهم عن الإيمان بموانع ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان فإن قيل فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب فكيف ذكر الغل الذي في العنق قيل لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب كقوله تعالى وكل إنسان ألزمناه
(1/94)
--------------------------------------------------------------------------------
طائره في عنقه ومن هذا قولهم انما في عنقك وهذا في عنقك ومن هذا قوله ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك شبه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق ومن هذا قال الفراء أنا جعلنا في أعناقهم أغلالا حبسناهم عن الإنفاق قال أبو إسحاق وإنما يقال للشيء اللازم هذا في عنق فلان أي لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق قال أبو علي هذا مثل قولهم طوقتك كذا وقلدتك كذا ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق قلت ومن هذا قولهم قلدت فلانا حكم كذا وكذا كأنك جعلته طوقا في عنقه وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها قال الحسن هي الشدائد التي كانت في العبادة كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وتتبع العروق من اللحم وقال ابن قتيبة هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى الله عليه و سلم وجعلها أغلا لأن التحريم يمنع كما يقبض الغل اليد وقوله فهي إلى الأذقان قالت طائفة الضمير يعود إلى الأيدي وإن لم تذكر لدلالة السياق عليها قالوا لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد ولذلك سمي جامعة وعلى هذا فالمعنى فأيديهم او فايمنهم مضمومة الى أذقانهم هذا قول الفراء والزجاج وقالت طائفة الضمير يرجع إلى الأغلال وهذا هو الظاهر وقوله فهي إلى الأذقان أي واصلة وملزوزة إليها فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن وقوله فهم مقمحون قال الفراء والزجاج المقمح هو الغاض بصره بعد رفع رأسه ومعنى الإقماح في اللغة رفع الرأس وغض البصر يقال أقمح البعير رأسه وقمح وقال الأصمعي بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب قال الأزهري لما غلت أيديهم إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل الرافعة رؤوسها انتهى فإن قيل فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والإيمان قيل أحسن وجه وأبينه فإن الغل إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها منع اليد عن التصرف والبطش فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن منع الرأس من تصويبه وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه لا يستطيع له حركة ثم أكد هذا المعنى والحبس بقوله وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا قال ابن عباس منعهم من الهدى لما سبق في علمه والسد الذي جعل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم ومثلها بأحسن تمثيل وأبلغه وذلك حال قوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم وضمت أيديهم إليها وجعلوا بين السدين لا يستطيعون النفوذ من بينمها وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة وجدت هذا المثل مطابقا له أتم مطابقة وانه قد حيل بينه وبين الإيمان كما حيل بين هذا وبين التصرف والله المستعان
فصل وأما القفل فقال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها قال ابن عباس يريد على قلوب هؤلاء أقفال وقال مقاتل يعني الطبع على القلب وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج الذي قد ضرب عليه قفل فإنه ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان والقرآن وتأمل تنكير القلب وتعريف الأقفال فإن تنكير القلوب يتضمن
(1/95)
--------------------------------------------------------------------------------
إرادة قلوب هؤلاء وقلوب من هم بهذه الصفة ولو قال أم على القلوب أقفالها لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة وفي قوله أقفالها بالتعريف نوع تأكيد فإنه لو قال اقفال لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الاسم فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها والله أعلم
فصل وأما الصمم والوقر ففي قوله صم بكم عمي وقوله أولئك الذين لعنهم الله فاصمهم وأعمى أبصارهم وقوله ولقد درأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يعقلون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل وأولئك هم الغافلون وقوله والذين لا يؤمنون بالآخرة في آذانهم وقر وهو عليهم عمي أولئك ينادون من مكان بعيد قال ابن عباس في آذانهم صمم عن استماع القرآن وهو عليهم عمي أعمى الله قلوبهم فلا يفقهون أولئك ينادون من مكان بعبد مثل البهيمة التي لا تفهم الادعاء ونداء وقال مجاهد بعيد من قلوبهم وقال الفراء تقول للرجل الذي لا يفهم كذلك أنت تنادي من مكان بعيد قال وجاء في التفسير كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون انتهى والمعنى أنهم لا يسمعمون ولا يفهمون كما أن من دعى من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم
فصل وأما البكم فقال تعالى صم بكم عمي والبكم جمع أبكم وهو الذي لا ينطق والبكم نوعان بكم القلب وبكم اللسان كما أن النطق نطقان نطق القلب ونطق اللسان وأشدهما بكم القلب كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن فوصفهم سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق ولا تنطق به ألسنتهم والعلم يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب من سمعه وبصره وقلبه وقد عليهم سدت هذه الأبواب الثلاثة فسد السمع بالصمم والبصر بالعمى اوالقلب بالبكم ونظيره قوله تعالى لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها وقد جمع سبحانه بين الثلاثة في قوله وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله فإذا أراد سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره وإذا أراد ضلالة أصمه وأعماه وأبكمه وبالله التوفيق
فصل وأما الغشاوة فهو غطاء العين كما قال تعالى وجعل على بصره غشاوة وهذا الغطاء سري اليها من غطاء القلب فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر فالعين مرآة القلب تظهر ما فيه وأنت إذا أبغضت رجلا بغضا شديدا أو أبغضت كلامه ومجالسته تجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته فتلك أثر البغض والإعراض عنه وغلظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة ولما عشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العشاء غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى
فصل وأما الصد فقال تعالى وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول حملا على زين وقرأ الباقون وصد بفتح الصاد ويحتمل وجهين أحدهما أعرض فيكون لازما والثاني يكون صد غيره فيكون متعديا والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في المياه الدنيا ربنا ليضلوا عن
(1/96)
--------------------------------------------------------------------------------
سبيلك ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما فهذا الشد على القلب هو الصد والمنع ولهذا قال ابن عباس يريدا منعها والمعنى قسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان وهذ ا مطابق لما في التوراة إن الله سبحانه قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسى قلبه فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر وهذا الشد والتقسية من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه جعله عقوبة لهم على كفرهم واعراضهم كعقوبته لهم بالمصائب ولهذا كان محمودا عليه فهو حسن منه وأقبح شيء منهم فإنه عدل منه وحكمة وهو ظلم منهم وسفه فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غنى عليم يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما والمقضى المقدر يكون ظلما وجورا وسفها وهو فعل جاهل ظالم سفيه
فصل وأما الصرف فقال تعالى وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره لأنهم ليسوا أهلا له فالمحل غير صالح ولا قابل فإن صلاحية المحل بشيئين حسن فهم وحسن قصد وهؤلاء قلوبهم لا تفقه وقصودهم سيئة وقد صرح سبحانه بهذا في قوله ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به والمؤمنون لم يحصل لهم ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص وهو الكبر والتولي والإعراض فالأول مانع من الفهم والثاني مانع من الإنقياد والإذعان فإفهام سيئة وقصود ردية وهذه نسخة الضلال وعلم الشقاء كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح وقصد صالح والله المستعان وتأمل قوله سبحانه ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو عادة عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول فلم ينلهم الإقبال والإذعان فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه فلا يمكنه من الإقبال عليه ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبة بأن جعله داعيا إلى كل معصية فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها صغيرها وكبيرها وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق فمن عقاب السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فإن قيل فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى فإنى يصرفون وأنى يؤفكون وقال فما لهم عن التذكرة معرضين فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين فكيف ينفي ذلك عليهم قيل هم دائرون بين عدله وحجته عليهم فمكنهم وفتح لهم الباب ونهج لهم الطريق وهيأ لهم الأسباب فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ودعاهم على السنة رسلة وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر والنافع والضار وأسباب
(1/97)
--------------------------------------------------------------------------------
الردي وأسباب الفلاح وجعل لهم أسماعا وأبصارا فآثروا الهوى على التقوى واستحبوا العمى على الهدى وقالوا معصيتك آثر عندنا من طاعتك والشرك أحب إلينا من توحيدك وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم وانصرفت عن طاعته ومحبته فهذا عدله فيهم وتلك حجته عليهم فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياره فسده عليهم اضطرارا فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوه ومكنهم فيما ارتضوه وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون فلا أقبح من فعلهم ولا أحسن من فعله ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة ولأنشأهم على غير هذه النشأة ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل والنور والظلمة والنافع والضار والطيب والخبيث والملائكة والشياطين والشاء والذياب ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له فبعضها بطباعها وبعضها بإرادتها ومشيئتها وكل ذلك جار على وفق حكمته وهو موجب حمده ومقتضى كماله المقدس وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما أن هو إلا كنقرة عصفور من البحر
فصل وأما الإغفال فقال تعالى ولا تطع من أغفلنا قبله عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا سئل أبو العباس ثعلب عن قوله أغفلنا قلبه عن ذكرنا فقال جعلناه غافلا قال ويكون في الكلام أغفلته سميته غافلا ووجدته غافلا قلت الغفل الشيء الفارغ والأرض الغفل التي لا علامة بها والكتاب الغفل الذي لا شكل عليه فأغفلناه تركناه غفلا عن الذكر فارغا منه فهو ابقاء له على العدم الأصلي لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر فبقي غافلا فالغفلة وصفه والإغفال فعل الله فيه بمشيئته وعدم مشيئته لتذكره فكل منهما مقتض لغفلته فإذا لم يشأ له التذ كر لم يتذكر وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر فإن قيل فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها أم إلى مشيئته لوقوعها قيل القرآن قد نطق بهذا وبهذا قال تعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وقال ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ومن يرد أن يضله فإن قيل فكيف يكون عدم السبب المقتضى موجبا للأثر إن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجبه فيبقى على العدم الأصلي فإذا أضيف إليه كان من باب إضافة الشيء إلى دليله فعدم السبب دليل على عدم المسبب وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك وأما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه وتفريطه في أمره قال مجاهد كان أمره فرطا أي ضياعا وقال قتادة أضاع أكبر الضيعة وقال السدة هلاكا وقال أبو الهيثم أمر فرط أي متهاون به مضيع والتفريط تقديم العجز قال أبو اسحاق من قدم العجز في أمر إضاعه وأهلكه قال الليث الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقول كل أمر فلان فرط قال الفراء فرطا متروكا يفرط فيما لا ينبغي التفريط فيه واتبع مالا ينبغي اتباعه وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه
فصل وأما المرض فقال تعالى في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقال فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقال ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ومرض القلب خروج عن صحته واعتداله فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له مؤثرا له على غيره فمرضه إما بالشك فيه وإما بإيثار غيره عليه فمرض
(1/98)
--------------------------------------------------------------------------------
المنافقين مرض شك وريب ومرض العصاة مرض غي وشهوة وقد سمى الله سبحانه كلا منهما مرضا قال ابن الأنباري أصل المرض في اللغة الفساد مرض فلان فسد جسمه وتغيرت حاله ومرضت بالمرض تغيرت وفسدت قالت ليلى الأخيلية ... إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها ... وقال آخر ... ألم تر أن الأرض أضحت مريضة ... لفقد الحسين والبلاد اقشعرت ... والمرض يدور على أربعة أشياء فساد وضعف ونقصان وظلمة ومنه مرض الرجل في الأمر إذا ضعف فيه ولم يبالغ وعين مريضة النظر أي فاترة ضعيفة وريح مريضة إذا هب هبوبها كما قال ... راحت لأربعك الرياح مريضة ... أي لينة ضعيفة حتى لا يعفى أثرها وقال ابن الأعرابي أصل المرض النقصان ومنه بدن مريض أي ناقص القوة وقلب مريض ناقص الدين ومرض في حاجتي إذا نقصت حركته وقال الأزهري عن المنذري عن بعض أصحابه المرض أظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها قال والمرض الظلمة وأنشد ... وليلة مرضت من كل ناحية ... فما يضيء لها شمس ولا قمر ... هذا أصله في اللغة ثم الشك والجهل والحيرة والضلال وإرادة الغي وشهوة الفجور في القلب تعود إلى هذه الأمور الأربعة فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض فيعاقبه الله بزيادة المرض لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها
فصل وأما تقليب الأفئدة فقال تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون وهذا عطف على أنها إذا جاءت لا يؤمنون أي نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون واختلف في قوله كما لم يؤمنوا به أول مرة فقال كثير من المفسرين المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة قال ابن عباس في رواية عطاء عنه ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي قال وهذا كقوله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وقال آخرون المعنى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم وهذ معنى حسن فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التلعيل كقوله وأحسن كما أحسن الله إليك وقوله كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم والذ ي حسن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر والتقليب تحويل الشيء من وجه إلى وجه وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية ووصولهم إليها كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم لأنهم رأوها عيانا وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها فإذا لم يؤمنوا كان تقليبا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول أن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك وروى الترمذي من حديث أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول يا مقلب
(1/99)
--------------------------------------------------------------------------------
القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء قال هذا حديث حسن وروى حماد عن أيوب وهشام ويعلي بن زياد عن الحسن قال قالت عائشة رضي الله تعالى عنها دعوة كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر أن يدعو بها يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله دعوة كثيرا ما تدعو بها قال إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه وقوله ونذرهم في طغيانهم يعمهون قال ابن عباس أخذلهم وأدعهم في ضلالهم يتمادون
فصل وأما إزاغة القلوب فقال تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقال عن عباده المؤمنين أنهم سألوه ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وأصل الزيغ الميل ومنه زاغت الشمس إذا مالت فأزاغه القلب إمالته وزيغه ميله عن الهدى إلى الضلال والزيغ يوصف به القلب والبصر كما قال تعالى وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وقال قتادة ومقاتل شخصت فرقا وهذا تقريب للمعنى فإن الشخوص غير الزيغ وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا يطرق ومنه شخص بصر الميت ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه وشخصت بالنظر إلى الأحزاب وقال الكلبي مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم وقال الفراء زاغت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيرة تنظر إليه قلت القلب إذا امتلأ رعبا شغله ذلك عن ملاحظة ما سوى المخوف فزاغ البصر عن الوقوع عليه وهو مقابلة
فصل وأما الخذلان فقال تعالى إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وأصل الخذلان الترك والتخلية ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها خذول قال محمد بن إسحاق في هذه الآية إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك وإن يخذلك فلن ينصرك الناس أي لا تترك أمري للناس وارفض الناس لأمري والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها بل يصنع له ويلطف به ويعينه ويدفع عنه ويكلأه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه فمن خلى بينه وبين نفسه هلك كل الهلاك ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه و سلم يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس فإن تولاه الله لم ظفر به عدوه وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة فإن قيل فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه قيل لعمر الله إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها وقد رآها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي
(1/100)
--------------------------------------------------------------------------------
الذئاب قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة سمعت ابن أبي الدنيا يقول أن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن حمد بن سعيد القطان ثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه أن قوما كانوا في سفر فكان فهم رجل يمر بالطائر فيقول أتدرون ما تقول هؤلاء فيقولون لا فيقول تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو فقال أتدرون ما تقول هذه الشاة قلنا لا قال تقول للسخلة إلحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان قال فانتهينا إلى الراعي فقلنا له ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا قال نعم ولدت سخلة عام أول فأكلها الذئب بهذا المكان ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو ويحنو عنقه إليها فقال أتدرون ما يقول هذا البعير قلنا لا قال فانه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه قال فانتهينا إليهم فقلنا يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وأنه في سنامه قال فأناخوا البعير وحطوا عنه فإذا هو كما قال فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت وقد حذر الله سبحانه آدم من ذئبه مرة بعد مره وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه ويبيت معه ويصبح وقال الشيطان لما قضى الأمر آن الله عدوكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أني كفرت بما أشركتموني من قبل أن الظالمين لهم عذاب أليم
فصل وأما الأركاس فقال تعالى فمالكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له شبيلا قال الفراء أركسهم ردهم إلى الكفر وقال أبو عبيدة يقال ركست الشيء وأركسته لغتان إذا رددته والركس قلب الشيء على رأسه أورد أوله على آخره والارتكاس الارتداد قال أمية ... فاركسوا في حميم النار إنهم ... كانوا عصاة وقالوا الإفك الزورا ... ومن هذا يقال للروث الركس لأنه رد إلى حال النجاسة ولهذا المعنى سمي رجيعا والركس والنكس والمركوس والمنكوس بمعنى واحد قال الزجاج أركسهم نكسهم وردهم والمعنى أنه ردهم إلى حكم الكفار من الذل والصغار وأخبر سبحانه عن حكمه وقضائه فيهم وعدله وإن كان أركاسه كان بسبب كسبهم وأعمالهم كما قال بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فهذا توحيده وهذا عدله لا ما تقوله القدرية المعطلة من أن التوحيد إنكار الصفات والعدل والتكذيب بالقدر
فصل وأما التثبيط فقال تعالى ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين والتثبيط رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله قال ابن عباس يريد خذلهم وكسلهم عن الخروج وقال في رواية أخرى حبسهم قال مقاتل واوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد فقال إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فلما تركوا الإيمان به بلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه ولم يريدوا الخروج في طاعة الله ولم يستعدوا له ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه فإن من لم يرفع به وبرسوله أو كتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب
(1/101)
--------------------------------------------------------------------------------
خلقه إليه وأكرمهم عليه ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها بل بدلها كفرا فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم فقال لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا و الخبال الفساد و الاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف قال ابن عباس ما زادوكم الا خبالا عجزا و جبنا يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم و تعظيمهم في صدورهم ثم قال ولا وضعوا خلالكم أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد قال ابن عباس يريد ضعفوا شجاعتكم يعني بالتفريق بينهم لتفريق الكلمة فيجبنوا عن العدو وقال الحسن لا وضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين وقال الكلبي ساروا بينكم يبغونكم العيب قال لبيد ... أرانا موضعين لختم عيب ... وسحر بالطعام وبالشراب ... أي مسرعين ومنه قول عمر بن أبي ربيعة ... تبا لهن بالعرفان لما عرفني ... وقلن أمرؤ باغ أكل وأوضعا ... أي اسرع حتى كلت مطيته يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم قال قتادة وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم وقال ابن إسحاق وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم ومعناه على هذا القول وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم قلت فتضمن سماعين معنى مستجيبين وقال مجاهد وابن زيد والكلبي المعنى وفيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم أي جواسيس والقول هو الأول كما قال تعالى سماعون للكذب أي قابلون له ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين فان النافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها وأرصد بينهم عيونا له فالقول قول قتادة وابن إسحاق أعلم فإن قيل انبعاثهم إلى طاعته طاعة له فكيف يكرهها وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له فكيف يعاقبهم عليه قيل هذا سؤال له شأن وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح وكل ممكن فهو جائز عليه ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم بل هم منعوا أنفسهم وثبطوها عن الخروج وفعلوا ما لا يريد ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله قالوا وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غيره أن يكره هو سبحانه انبعاثهم فإنه أمرهم به قالوا وكيف يأمرهم بما يكرهه ولا يخفى على من نور الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القرآن فالجواب الصحيح أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره واتباعا لرسوله صلى الله عليه و سلم ونصرة له وللمؤمنين وأحب لك منهم ورضيه لهم دينا وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا
(1/102)
--------------------------------------------------------------------------------
الوجه بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه فكان مكروها له من هذا الوجه ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم وهذا الخروج المكروه له ضدان أحدهما الخروج المرضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه والثاني التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذاالضد فيقول للسائل قعودهم مبغوض له ولكن ههنا أمران مكروهان له سبحانه وأحدهما أكره له من الآخر لأنه أعظم مفسدة فإن قعودهم مكروه له وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه فإن مفسدة قعودهم تختص بهم ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين فتأمل هذا لموضع فإن قلت فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه وهو الذي خرج عليه المؤمنون قلت قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله وعند غيرأهله فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله وليس كل محل يصلح لذلك ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته فإن قلت وعلى ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة قلت يأباه كمال ربوبيته وملكه وظهور آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له فإنه يحب أن يذكر ويشكر ويضاع ويوحد ويعبد ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان وهو محبته لجهاز أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم وتخصيصهم بفضله وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ولو تناهوا في العلم والمعرفة إلى الإحاطة بها ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر
فصل وأما التزيين فقال تعالى وكذلك زينا لكل أمة عملهم وقال أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وقال وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فأضاف التزيين إليه منه سبحانه خلقا ومشيئة وحذف فاعله تارة ونسبة إلى سببه ومن أجراه على يده تارة وهذا التزيين سبحانه حسن إذ هو ابتلاء واختبار بعيد ليتميز المطيع منهم من العاصي والمؤمن من الكافر كما قال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم احسن عملا وهو من الشيطان قبيح وأيضا فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته وإيثار سيء العمل على حسنه فإنه لا بد أن يعرفه سبحانه الشيء من الحسن فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه زينه سبحانه له وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحا وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه فربما رآه حسنا عقوبة له فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه وهو حجة الله عليه فإذا تمادى في غيه وظلمه ذهب
(1/103)
--------------------------------------------------------------------------------
ذلك النور فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم ومع هذا فحجة الله قائمة عليه بالرسالة وبالتعريف الأول فتزيين الرب تعالى عدل وعقوبته حكمة وتزيين الشيطان إغواء وظلم وهو السبب الخارج عن العبد والسبب الداخل فيه حبه وبغضه وإعراضه والرب سبحانه خالق الجميع والجميع واقع بمشيئته وقدرته ولو شاء لهدى خلقه أجمعين والمعصوم من عصمه الله والمخذول من خذله الله ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين
فصل
وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته فكما قال تعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وقال ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده كما أن مشيئته تستلزم وجوده فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ امتنع وجوده وقد أخبر سبحانه أن العباد لا يشاؤن إلا بعد مشيئته ولا يفعلون شيئا إلا بعد مشيئته فقال وما تشاؤن إلا أن يشاء الله وقال وما يذكرون إلا أن يشاء الله فإن قيل فهل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله قيل إن أريد بكونه مقدورا سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من الفعل وصحة أعضائه ووجوده قواه وتمكينه من أسباب الفعل وتهيئة طريق فعله وفتح الطريق له فنعم هو مقدور بهذا الاعتبار وأن أريد بكونه مقدورا القدرة المقارنة للفعل وهي الموجبة له التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل فليس بمقدور بهذا الاعتبار وتقرير ذلك أن القدرة نوعان قدرة مصححة وهي قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآله وهي مناط التكليف وهذه متقدمة على الفعل غير موجبة له وقدرة مقارنة للفعل مستلزمة له لا يتخلف الفعل عنها وهذه ليست شرطا في التكليف فلا يتوقف صحته وحسنه عليها فايمان من لم يشأ الله إيمانه وطاعة من لم يشأ طاعته مقدور بالاعتبار الأول غير مقدور بالاعتبار الثاني وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يطاق كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى فإذا قيل هل خلق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان أم لم يخلق له قدرة قيل خلق له قدرة ومصححه متقدمة على الفعل هي مناط الأمر والنهي ولم يخلق له قدرة موجبة للفعل مستلزمة له لا يتخلف عنها فهذه فضله يؤتيه من يشاء وتلك عدلة التي تقوم بها حجته على عبده فإن قيل فهل يمكنه الفعل ولم يخلق له هذه القدرة قيل هذا هو السؤال السابق بعينه وقد عرفت جوابه وبالله التوفيق
فصل وأما أماتة قلوبهم ففي قوله إنك لا تسمع الموتى وقوله أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقوله لينذر من كان حيا وقوله وما أنت بمسمع من في القبور فوصف الكافر بأنه ميت وأنه بمنزلة أصحاب القبور وذلك أن القلب الحي هو الذي يعرف الحق ويقبله ويحبه ويؤثره على غيره فإذا مات القلب لم يبق فيه إحساس ولا تمييز بين الحق والباطل ولا إرادة للحق وكراهة للباطل بمنزلة الجسد الميت الذي لا يحس بلذة الطعام والشراب وألم فقدهما وكذلك وصف سبحانه كتابه ووحيه بأنه روح لحصول حياة القلب به فيكون القلب حيا ويزداد حياة بروح الوحي فيحصل له حياة على حياة ونور على نور نور الوحي على نور الفطرة قال يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وقال وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فجعله روحا لما يحصل
(1/104)
--------------------------------------------------------------------------------
به من الحياة ونورا لما يحصل به من الهدى والإضاءة وذلك نور وحياة زائدة على نور الفطرة وحياتها فهو نور على نور وحياة على حياة ولهذا يضرب سبحانه لمن عدم ذلك مثلا بمستوقد النار التي ذهب عنه ضوؤها وبصاحب الصيب الذي كان حظه منه الصواعق والظلمات والرعد والبرق فلا استنار بما أوقد من النار ولا حيي بما في الصيب من الماء ولذلك ضرب هذين المثلين في سورة الرعد لمن استجاب له فحصل على الحياة والنور ولمن لم يستجب له وكان حظه الموت والظلمة فأخبر عمن أمسك عنه نوره بأنه في الظلمة ليس له من نفسه نور فقال تعالى الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكوة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ثم ذكر من أمسك عنه هذا النور ولم يجعله له فقال والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور وفي المسند من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله وقال تعالى والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وهذه الظلمات ضد الأنوار التي يتقلب فيها المؤمن فإن نور الإيمان في قلبه ومدخله نور ومخرجه نور وعلمه نور ومشيته من الناس نور وكلامه نور ومصيره إلى نور والكافر بالضد
ولما كان النور من أسمائه الحسنى وصفاته كان دينه نورا ورسوله نورا وكلامه نور وداره نورا يتلألأ والنور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين ويجري على ألسنتهم ويظهر على وجوههم وكذلك لما كان الإيمان واسمه المؤمن لم يعطه إلا أحب خلقه إليه وكذلك الإحسان صفته وهو المحسن ويحب المحسنين وهو صابر يحب الصابرين شاكر يحب الشاكرين عفو يحب أهل العفو حي يحب أهل الحياء ستير يحب أهل الستر قوى يحب أهل القوة من المؤمنين عليم يحب أهل العلم من عباده جواد يحب أهل الجود جميل يحب المتجملين بر يحب الأبرار رحيم يحب الرحماء عدل يحب أهل العدل رشيد يحب أهل الرشد وهو الذي جعل من يحبه من خلقه كذلك وأعطاه من هذه الصفات ما شاء وأمسكها عمن يبغضه وجعله على أضدادها فهذا عدله وذاك فضله والله ذو الفضل العظيم
فصل وأما جعله القلب قاسيا فقال تعالى فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به والقسوة الشدة والصلابة في كل شيء يقال حجر قاس وأرض قاسية لا تنبت شيئا قال ابن عباس قاسية عن الإيمان وقال الحسن طبع عليها والقلوب ثلاثة قلب قاس وهو اليابس الصلب الذي لا يقبل صورة الحق ولا تنطبع فيه وضده القلب اللين المتماسك وهو السليم من المرض الذي يقبل صورة الحق بلينه ويحفظه بتماسكه بخلاف المريض الذي لا يحفظ ما ينطبع فيه لميعانه ورخاوته كالمائع الذي إذا طبعت فيه الشيء قبل صورته بما فيه من اللين ولكن رخاوته تمنعه من حفظها فخير القلب الصلب الصافي اللين فهو يرى الحق بصفائه ويقبله بلينه
(1/105)
--------------------------------------------------------------------------------
ويحفظه بصلابته وفي المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها وقد ذكر سبحانه أنواع القلوب في قوله ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وأن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم فذكر القلب المريض وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق والقلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ولا تنطبع فيه فهذان القلبان شقيان معذبان ثم ذكر القلب المخبت المطمئن إليه وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به قال الكلبي فتخبت له قلوبهم فترق للقرآن قلوبهم وقد بين سبحانه الأخبات ووصف المخبتين في قوله وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون فذكر للمخبتين أربع علامات وجل قلوبهم عند ذكره والوجل خوف مقرون بهيبة ومحبة وصبرهم على أقداره وإتيانهم بالصلاة قائمة الأركان ظاهرا وباطنا وإحسانهم إلى عباده بالإنفاق مما آتاهم وهذا إنما يتأتى للقلب المخبت قال ابن عباس المخبتين المتواضعين وقال مجاهد المطمئنين إلى الله وقال الأخفش الخاشعين وقال ابن جرير الخاضعين قال الزجاج اشتقاقه من الخبت وهو المنخفض من الأرض وكل مخبت متواضع فالأخبات سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله
فإن قيل كان معناه التواضع والخشوع فكيف عدى بالي في قوله واخبتوا إلى ربهم قيل ضمن معنى أنابوا واطمأنوا وتابوا وهذه عبارات السلف في هذا الموضع والمقصود أن القلب المخبت ضد القاسي والمريض وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتا إليه وبعضها قاسيا وجعل للقسوة آثارا واللأخبات آثارا فمن آثاره القسوة تحريف الكلم عن مواضعه وذلك من سوء الفهم وسوء القصد وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب ومنها نسيان ما ذكر به وهو ترك ماأمر به علما وعملا ومن آثار الأخبات وجل القلوب لذكره سبحانه والصبر على أقداره والأخلاص في عبوديته والإحسان إلى خلقه
فصل وأما تضييق الصدر وجعله حرجا لا يقبل الإيمان فقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء والحرج هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة جميعهم يقال رجل حرج وحرج أي ضيق الصدر قال الشاعر ... لا حرج حرج الصدر ولا عنيف ... وقال عبيد بن عمير قرأ ابن عباس هذه الآية فقال هل هنا أحد من بني بكر قال رجل نعم قال ما الحرجة فيكم قالوا الوادي الكثير الشجر الذي لا طريق فيه فقال ابن عباس كذلك قلب الكافر وقرأ عمر بن الخطاب الآية فقال ايتوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيا فأتوه به فقال عمر يا فتى ما الحرجة فيكم فقال الشجرة تحدق بها الأشجار الكثيرة فلا تصل إليها راعية ولا وحشية فقال عمر كذلك قلب الكافر لا يصل اليه شيء من الخير قال ابن عباس يجعل صدره ضيقا حرجا إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وان ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك ولما كان القلب محلا للمعرفة والعلم والمحبة والإنابة وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها فإذا أراد الله هداية عبد وسع صدره وشرحه فدخلت فيه وسكنته وإذا أراد ضلاله ضيق صدره وأحرجه فلم يجد محلا يدخل فيه فيعدل عنه ولا يساكنه وكل إناء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق إلا القلب اللين فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسح
(1/106)
--------------------------------------------------------------------------------
وهذا من آيات قدرة الرب تعالى وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم إذا دخل النور قلبه انفسح وانشرح قالوا فما علامة ذلك يا رسول الله قال الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله فشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى وتضييقه من أسباب الضلال كما ان شرحه من أجل النعم وتضييقه من أعظم النقم فالمؤمن منشرح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها وإذا قوى الإيمان وخالطت بشاشته القلوب كان على مكارهها اشرح صدرا منه على شهوتها ومحابها فإذا فارقها كان انفساح روحه والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له فإنها سجن المؤمن فإذا بعثه الله يوم القيامة رأى من انشرح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله اليه فشرح الصدر كما انه سبب الهداية فهو أصل كل نعمة وأساس كل خير وقد سأل كليم الرحمن موسى بن عمران ربه أن يشرح له صدره لما علم انه لا يتمكن من يبلغ رسالته والقيام بأعبائها الا إذا شرح له صدره وقد عدد سبحانه من نعمه على خاتم أنبيائه ورسله شرح صدره له وأخبر عن اتباعه انه شرح صدورهم للإسلام فان قلت فما الأسباب التي تشرح الصدور والتي تضيقه قلت السبب الذي يشرح الصدر النور الذي يقذفه الله فيه فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه وإذا فقد ذلك النور أظلم وتضايق فان قلت فهل يمكن اكتساب هذا النور أم هو وهبي قلت هو وهبي وكسبي واكتسابه أيضا مجرد موهبة من الله تعالى فالأمر كله لله والحمد كله له والخير كله بيديه وليس مع العبد من نفسه شيء البته بل الله واهب الأسباب ومسبباتها وجاعلها أسبابا ومانحها من يشاء ومانعها من يشاء إذا أراد بعبده خيرا وفقه لاستفراغ وسعه وبذل جهده في الرغبة والرهبة اليه فانهما مادتا التوفيق فبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق فان قلت فالرغبة والرهبة بيده لا بيد العبد قلت نعم والله وهما مجرد فضله ومنته وانما يجعلهما في المحل الذي يليق بهما ويحبسهما عمن لا يصلح لهما فان قلت فما ذنب من لا يصلح قلت أكثر ذنوبه انه لا يصلح لان صلاحيته بما اختاره لنفسه وآثره واحبه من الضلال وألغى على بصيرة من أمره فآثر هواه على حق ربه ومرضاته واستحب العمى على الهدى وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم وجحدا لهيئته والشرك به والسعي في مساخطه أحب اليه من شكره وتوحيده والسعي في مرضاته فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه وأي ذنب فوق هذا فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمن هذا شأنه كان قد عدل فيه وانسدت عليه أبواب الهداية وطرق الرشاد فاظلم قلبه فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه فلو جاءته كل آية لم تزده الإ ضلال وكفرا وإذا تأمل من شرح الله صدره للإسلام والإيمان هذه الآية وما تضمنته من أسرار التوحيد والعذر والعدل وعظمة شأن الربوبية صار لقلبه عبودية أخرى ومعرفة خاصة وعلم انه عبد من كل وجه وبكل اعتبار وان الرب تعالى رب كل شيء وملكيه من الأعيان والصفات والأفعال والأمر كله بيده والحمد كله له وأزمة الأمور بيده ومرجعها كلها اليه ولهذه الآية شأن فوق عقولنا وأجل من إفهامنا وأعظم مما قال فيها المتكملون الذين ظلموها معناها وأنفسهم كانوا يظلمون تالله لقد غلظ عنها حجابهم وكثفت عنها إفهامهم ومنعتهم من الوصول إلى المراد بها أصولهم التي أصلوها وقواعدهم التي أسسوها فإنها تضمنت إثبات التوحيد والعدل الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه العدل الذي يقوله معطلو الصفات ونفاه القدر
(1/107)
--------------------------------------------------------------------------------
وتضمنت إثبات الحكمة والقدرة والشرع والقدر والسبب والحكم والذنب والعقوبة ففتحت للقلب الصحيح بابا واسعا من معرفة الرب تعالى بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله وحكمته في شرعه وقدره وعدله في عقابه وفضله في ثوابه وتضمنت كمال توحيده وربوبيته وقيوميته وإلهيته وان مصادر الأمور كلها عن محض إرادته ومردها إلى كمال حكمته وان المهدى من خصه الله بهدايته وشرح صدره لدينه وشريعته وان الضال من جعل صدره ضيقا حرجا عن معرفته ومحبته كأنما يتصاعد في السماء وليس ذلك في قدرته وان ذلك عدل في عقوبته لمن لم يقدره حق قدره وجحد كمال ربويته وكفر بنعمته وآثر عبادة الشيطان على عبوديته فسد عليه باب توفيقه وهدايته وفتح عليه أبواب غيه وضلاله فضاق صدره وقسا قلبه وتعطلت من عبودية ربها جوارحه وامتلأت بالظلمة جوانحه والذنب له حيث أعرض عن الإيمان واستبدل به الكفر والفسوق والعصيان ورضى بموالاة الشيطان وهانت عليه معاداة الرحمن فلا يحدث نفسه بالرجوع إلى مولاه ولا يعزم يوما على إقلاعه عن هواه قد ضاد الله في أمره بحب ما يبغضه وببغض ما يحبه ويوالي من يعاديه ويعادي من يواليه يغضب إذا رضى الرب يرضى إذا غضب هذا وهو يتقلب في إحسانه ويسكن في داره ويتغذى برزقه ويتقوى على معاصيه بنعمه فمن أعدل منه سبحانه عما يصفه به الجاهلون والظالمون إذا جعل الوحي على أمثال هذا من الذين لا يؤمنون
فصل واذا شرح الله صدر عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه أراه في ضوء ذلك النور حقائق الأسماء والصفات التي تضل فيها معرفة العبد إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر وأراه في ضوء ذلك النور حقائق الإيمان وحقائق العبودية وما يصححها وما يفسدها وتفاوت معرفة الأسماء والصفات والإيمان والإخلاص وأحكام العبودية بحسب تفاوتهم في هذا النور قال تعالى أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به فيكشف لقلب المؤمن في ضوء ذلك النور عن حقيقة المثل الأعلى مستويا على عرش الإيمان في قلب العبد المؤمن فيشهد بقلبه ربا عظيما قاهرا قادرا أكبر من كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله السماوات السبع قبضة إحدى يديه والأرضون السبع قبضة اليد الأخرى يمسك السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع والثرى على أصبع ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك فالسماوات السبع في كفه كخردلة في كف العبد يحيط ولا يحاط به ويحصر خلقه ولا يحصرونه ويدركهم ولا يدركونه لو ان الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفا واحد ما أحاطوا به سبحانه ثم يشهده في علمه فوق كل عليم وفي قدرته فوق كل قدير وفي جوده فوق كل جواد وفي رحمته فوق كل رحيم وفي جماله فوق كل جميل حتى لو كان جمال الخلائق كلهم على شخص واحد منهم ثم أعطى الخلق كلهم مثل ذلك الجمال لكانت نسبتة إلى جمال الرب سبحانه دون نسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس ولو اجتمعت قوى الخلائق على شخص واحد منهم ثم أعطى كل منهم مثل تلك القوة لكانت نسبتها إلى قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إلى حملة العرش ولو كان جودهم على رجل واحد وكل الخلائق على ذلك الجود لكانت نسبتة إلى جوده دون نسبة قطرة إلى
(1/108)
--------------------------------------------------------------------------------
البحر وكذلك علم الخلائق إذا نسبة إلى علمه كان كنقرة عصفور من البحر وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبصره وارادته فلو فرض البحر المحيط بالأرض مداد تحيط به سبعة أبحر وجميع أشجار الأرض شيئا بعد شيء أقلام لفني ذلك المداد والأقلام ولا تفنى كلماته ولا تنفد فهو أكبر في علمه من كل عالم وفي قدرته من كل قادر وفي وجوده من كل جواد وفي غناه من كل غنى وفي علوه من كل عال وفي رحمته من كل رحيم استوى على عرشه واستولى على خلقه متفرد بتدبير مملكته فلا قبض ولا بسط ولا منع ولا ضلال ولا سعادة ولا شقاوة ولا موت ولا حياة ولا نفع ولا ضر إلا بيده لا مالك غيره ولا مدبر سواه لا يستقل أحد معه بملك مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا له شركة في ملكها ولا يحتاج إلى وزير ولا ظهير ولا معين ولا يغيب فيخلفه غيره ولا يعي فيعينة سواه ولا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه الا من بعد إذنه لمن شاء وفيمن شاء فهو أول مشاهد المعرفة ثم يترقى منه إلى مشهد فوقه لا يتم إلا به وهو مشهد الإلهية فيشهده سبحانه متجليا في كماله بأمره ونهيه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه وفضله في ثوابه فيشهد ربا قيوما متكلما آمرا ناهيا يحب ويبغض ويرضى ويغضب قد أرسل رسله وأنزل كتبه وأقام على عباده الحجة البالغة وأتم عليهم نعمته السابغة يهدى من يشاء منه نعمة وفضلا ويضل من يشاء حكمة منه وعدلا ينزل إليهم أوامره وتعرض عليه أعمالهم لم يخلقهم عبثا ولم يتركهم سدى بل أمره جار عليهم في حركاتهم وسكناتهم وظواهرهم وبواطنهم فلله عليهم حكم وأمر في كل تحريكة وتسكينة ولحظة ولفظة وينكشف له في هذا النور عدله وحكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وبره في شرعه واحكامه وأنها أحكام رب رحيم محسن لطيف حكيم قد بهرت حكمته العقول وأقرت بها الفطر وشهدت لمنزلها بالوحدانية ولمن جاء بها بالرسالة والنبوة وينكشف له في ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال وتنزيهه سبحانه عن النقص والمثال وان كل كمال في الوجود فمعطيه وخالقه أحق به وأولى وكل نقص وعيب فهو سبحانه منزه متعال عنه وينكشف له في ضوء هذا النور حقائق المعاد واليوم الآخر وما أخبر به الرسول عنه حتى كأنه يشاهده عيانا وكأنه يخبر عن الله واسمائه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده إخبار من كأنه قد رأى وعاين وشاهد ما أخبر به فمن أراد سبحانه هدايته شرح صدره لهذا فاتسع له وانفسح ومن أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج لا يجد فيه مسلكا ولا منفذا والله الموفق المعين وهذا الباب يكفي اللبيب في معرفة القدر والحكمة ويطلعه على العدل والتوحيد الذي تضمنهما قوله شهد الله أنه لا إله هو والملائكة وألو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ان الدين عند الله الإسلام الباب السادس عشر فيما جاء في السنة من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو منفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم قال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد حدثنا علي بن عبد الله ثنا مروان بن معاوية ثنا أبو مالك
انظر هذا الرابط
http://islamport.com/d/3/qym/1/25/177.html?zoom_highlightsub=%DE%DD%E1+%E6%CE%CA%E3