هل يمكن أن يَزِلَّ عباد الرحمن فيقعوا في الكبائر؟

د محمد الجبالي

Well-known member
إنضم
24/12/2014
المشاركات
400
مستوى التفاعل
48
النقاط
28
الإقامة
مصر
عباد الرحمن
هل يمكن أن يَزِلَّ عباد الرحمن فيقعوا في الكبائر؟
إن الناظر المتأمل في آيات سورة الفرقان التي تناولت خصال عباد الرحمن يجد أنها قد جَمَعَت الدِّين كله والدنيا معه، وتعالوا معي نبحث عن جواب سؤالنا ذلك، ونتأمل خصال عباد الرحمن آية آية:
  1. بدأت آيات عباد الرحمن بأعظم الخصال واكرمها، إنها التواضع وكريم الأخلاق، اسمع لربك: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)}. وتلك الخصلة وحدها كفيلة بأن ترقى بالمؤمن إلى أقرب المنازل من النبي ﷺ في الجنة، قال ﷺ: "إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا"، وفي حديث آخر صحيح: " إنّ المؤمِنَ لَيُدركُ بحُسنِ خُلقِه دَرجةَ الصَّائمِ القائمِ".
  1. ثم انتقلت الآيات من حال عباد الرحمن مع الخلق إلى حالهم مع الخالق في ليلهم، إنها تعبد وقيام وتهجد، قال ربنا عنهم: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)}.
  1. وهم على ما هم عليه من حسن الحال مع الخلق والخالق فهم في خشية ووجل من ربهم ومن عذابه، فيتضرعون لله رهبة: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)}.
  1. ثم يخبرنا الله عز وجل بقيمة خُلُقِية عظيمة لعباد الرحمن، إنها الْقَوَامُ والاعتدال في كل أمورهم، وفي كل أحوالهم، فلا إفراط ولا تفريط، قال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}، فإن قال البعض ذكرت الآية الاعتدال في النفقة فقط، ولم يذكر فيها كل أحوالهم، قلت: إنها واحدة تدل على غيرها، فإن كان حالهم في النفقة الاعتدال، فإن ذلك مثال لغيره من الأحوال.
  1. ثم تنقلنا الآيات إلى محل السؤال الذي بدأنا به بحثنا هذا: هل يمكن أن يَزِلَّ عباد الرحمن فيقعوا في الكبائر؟
إنهم - عباد الرحمن - لا شك يقعون في صغائر الذنوب، ويفعلون السيئات، لكن هذه السيئات يُكَفِّرُها الحسنات والطاعات، أما الكبائر فإنها تحتاج لشيء آخر، اسمع لربك الرحمن الرحيم: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}، إن من خصال عباد الرحمن التي يَلْقَوْنَ الله بها أنهم لا يشركون، ولا يقتلون النفس بغير حق، ولا يزنون، لأن مَنْ يَلْقَ الله بشيء مِنْ ذلك يَلْقَ عذابا أليما مُضَاعَفاً مًخَلَّداً.
ثم يأتي جواب سؤالنا أعلاه في هذا الاستثناء: { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}، إن الاستثناء يُوحِي أنَّ بعضهم قد يَزِلُّ، فيقع في بعض ما تَقَدَّمَ من الكبائر، لكنهم يَؤُوبون سريعا، ويتوبون من قريب، ويعودون نادمين خالصين مخلصين، فيقبلهم ربهم، ويتوب عليهم، وليس هذا فقط، بل إن ربهم الرحمن يُكَافِئُهم بأنْ يُبَدِّلَ سيئاتهم تلك حسنات، ثم يُبَشِّرُهُم الله ويُبَشِّرُنا بِبِشَارَةٍ أُخْرَى عظيمة: { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}. فاللهم يارحمن يارحيم ياعفو ياتواب ياكريم لك الحمد.
  1. ثم تنقلنا الآيات إلى خَصْلَةٍ أخرى خطيرة هي بعض خصال المؤمنين، ومن يتخلى عنها منهم فقد تخلى عن إيمانه، إنها الصدق في القول والشهادة، فإن المؤمن لا يكذب، إن عباد الرحمن يلتزمون الصدق التزاما، ويعرضون عن اللغو والعبث وفحش القول، وليس هذا فقط، إنهم لا يتركون الكذب فقط، بل إنهم لا يشهدون مجالس الكذب، لا يشهدون مجلسا يقع فيه شهادة زور، ولا تقبل قلوبهم أن يشهدوا مجلس زور أو كذب أو مجلس لغو وعبث وفحش، لأنهم يعلمون أنهم إنْ شهدوا ذلك ولم يدفعوه، ولم يُنْكِروه كانوا شركاء في الإثم، اسمع لربك: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)}.
  1. ثم يخبرنا ربنا عنهم: إنهم ليسوا كهؤلاء الغافلين عن آيات الله، لا، إن آيات الله حين تمر على قلوب عباد الرحمن لا تمر عليها مُرُوراً عابِرا، ولا تَـمْضِي عنها مُضِيًّا سريعا، بل إنها تَقَرُّ في قلوبهم قَرًّا، آيات الله في قرآنه، وآيات الله في الكون وفي خلقه تنزل على قلوبهم فتقع فيها وقوع الناظرين المتأملين المعتبرين الفاقهين العاملين، تلك حال عباد الرحمن مع آيات الله، وفي الآية تعريض بالغافلين الذين تمر آيات الله على قلوبهم صُمًّا عنها عُمْيًا، قال ربنا: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)}.
  1. إن عباد الرحمن ليسوا رهبانا قائمين في صوامعهم منقطعين للعبادة، وليسوا غارقين في مَلَذَّات الدنيا غافلين عن آخرتهم، إنهم بين هذا وذاك، إنهم يتناكحون، ويتناسلون، ويَرْعَوْنَ أُسَرَهُم، ويَسْعَوْنَ في الأرض كما أمرهم ربهم، يأخذون من دنياهم، ويتمتعون فيها بما أحل الله، وينصرفون عما حرم، ومع ذلك هم أيضا طلاب آخرة عاملين لها مجتهدين، اسمع لربك ماذا قال عنهم في ذلك: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)}.
  1. ثم يختم ربنا الحديث عنهم بِـمَوْعُودِه لهم، ويخبرنا بما أَعَدَّ لهم، لقد أَعَدَّ لهم الدرجات العليا في الجنة، إنها الغُرْفَةُ يُجْزَوْنَ بها، والغرفة ليست واحدة، إنها اسم جنس عام، إنها غرفات، قال رب العزة: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}، فكل منهم يُـجْزَى الْغُرْفَة، في أعلَى منازل الجنة، ذلك بما صبروا على مَشَاقِّ الطاعات، وعذاب الصبر عن الشهوات، فَيَرْتَقُون تلك الغُرَف تَتَلَقَّاهم الملائكة مسلمين عليهم، مبشرين لهم مهنئين، إن الملائكة تنتظرهم وتتلقاهم مُـحَيِّين مُهَنِّئِين، اسمع لربك: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)}.
والله أعلم
د. محمد الجبالي
 
عودة
أعلى