هل يخالف جمهورُ العلماء جمهورَ الصحابة ؟

إنضم
12/03/2004
المشاركات
126
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
جدة
[align=justify]
بسم الله الرحمن الرحيم . هذا مقال في الفصلِ بين قوليْ إمامين من أئمة الإسلام : الإمام النووي رحمه الله والإمام ابن القيم رحمه الله ، وهما معروفان بالعلم الراسخ والفقه في الدين ، وأقوالهما معتبرةٌ ولها وزنها لدى عامة العلماء . وابن القيم حينما تطرَّق لمسألة رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم في كتابه (زاد المعاد 1/52) قال : (وهي مسألةُ خلافٍ بين السَّلفِ والخلفِ ، وإن كان جمهورُ الصحابة بل كلُّهم مع عائشة كما حكاهُ عثمان بن سعيدٍ الدارمي إجماعاً للصحابة) .

وبهذا تبين لنا أن جمهورَ الصحابة ذهبوا إلى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم لم يرَ ربَّه ليلة الإسراء . وقد وردَ النصُّ عن عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين أنها قالتْ : (من حدَّثك أن محمداً رأى ربَّه فقد كذبَ ثم قرأتْ : (لا تُدْرِكُه الأبصارُ وهو يدركُ الأبصارَ ..) – (وما كان لبشرٍ أن يكلِّمه الله إلا وحياً أو من وراءِ حجابٍ ..) الآية .

بينما نجد الإمام النوويَّ رحمه الله يقرِّر خلاف ذلك فيقول في (بستان العارفين 92) : (وقد اختلف الصحابة في رؤية النبيِّ صلى الله عليه ربهُ سبحانه وتعالى في الإسراء ، والمختار عند الأكثرين أو الكثيرين أنه رأى ، وهو قول ابن عباسٍ) ، وقد أوضح هذا التقرير أكثرَ في (شرح صحيح مسلمٍ 1/384) بعدما نقل عن صاحب التَّحريرِ [وهو الإمام محمد بن إسماعيل الأصبهاني] : (فالحاصلُ أنَّ الرَّاجحُ عند أكثرِ العلماء أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رأَى ربَّه بعينيْ رأسِه ليلةَ الإسراءِ لحديثِ ابنِ عباسٍ وغيرِه مما تقدَّم ، وإثباتُ هذا لا يأخذُونهُ إلاَّ بالسماعِ من رسول اللهِ ؛ هذا لا ينبغى أن يتشكَّك فيه ، ثُم إنَّ عائشةَ رضى الله عنها لم تنفِ الرُّؤيةَ بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولو كان معها فيه حديثٌ لذكرَتْهُ ، وإنَّما اعتمدَتْ الاستنباطَ من الآيات وسنوضِّحُ الجوابَ عنها : فأما احتجاجُ عائشةَ بقول الله تعالى لا تدركُه الأبصارُ فجوابُه ظاهرٌ فإنَّ الادراكَ هُوَ الإحاطةُ والله تعالى لا يُحاطُ به ، وإذَا ورد النصُّ بنفْيِ الإحاطةِ لا يلزمُ منه نفيُ الرؤيةِ بغير إحاطةٍ ... وأما احتجاجها رضيَ الله عنها بقول الله تعالى :(وما كان لبشرٍ أن يُكلمه الله إلاَّ وحياً ..) الآية فالجواب عنه من أوجه : أحدها : أنه لا يَلزم من الرؤيةِ وجودُ الكلامِ حالَ الرؤية فيجوزُ وجودُ الرؤية من غيرِ كلامٍ ، الثاني : أنه عامٌّ مخصوص بما تقدَّم من الأدلة . الثالث : ما قاله بعض العلماء : إن المراد بالوحيِ الكلام من غير واسطةٍ . وهذا الذى قاله هذا القائل وإن كان محتمِلاً ولكنَّ الجمهورَ على أن المراد بالوحيِ هنا الإلهامُ والرؤيةُ في المنام وكلاهما يسمَّى وحياً . وأما قوله تعالى (أو من وراءِ حجابٍ ..) فقال الواحديُّ وغيرُه : معناه غير مجاهرٍ لهم بالكلام بل يسمعونَ كلامَه سبحانه وتعالى من حيث لا يرونه ، وليس المرادُ أن هناك حجاباً يفصِلُ موضعاً من موضعٍ ، ويدلُّ على تحديدِ المحجوبِ فهوَ بمنزلةِ ما يُسمعُ من وراءِ الحجابِ حيثُ لم يرَ المتكلِّمُ والله أعلم) .

فاتضح من كلامه أن جمهور العلماء ذهبوا إلى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه ليلة الإسراء ، وقد خالفوا بذلك جمهور الصحابة . والمراد بجمهور العلماء : العلماء المتأخرين ، ويدلُّ على ذلك كلام النووي 1/384 معلِّقاً على قول ابن مسعودٍ رضي الله عنه في قوله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى) : (رأى جبريلَ لهُ ستُّمِائةِ جناحٍ) هذا الذى قالَه عبد الله رضى الله عنه هو مذهبُه في هذه الآية ، وذهب الجمهورُ من المفسرين إلى أنَّ المرادَ أنَّه رأى ربَّه سبحانه وتعالى) فالمراد بجمهور المفسرين المخالفين لقول ابن مسعودٍ وغيره من الصحابة : المتأخرون . ويفهم هذا أكثر من كلام الحافظ ابن كثيرٍ في تفسيره 4/319 : (وقد تقدَّم أن ابن عباسٍ رضي الله عنهُ كان يُثبتُ الرؤيةَ ليلةَ الإسراءِ ويستشهدُ بهذه الآيةِ وتابعه جماعةٌ من السلفِ والخلفِ ، وقد خالفه جماعاتٌ من الصحابةِ رضي الله عنه والتابعين وغيرِهم) .
إلاَّ أن الحافظ ابن كثير رحمه الله نبَّه على أمورٍ تتعلَّق بالمسألة كافيةٍ لردِّ كلام النووي السابق وهي كما يلي :
1- أنه لم يَرِدْ نقلٌ صحيحٌ عن النبيِّ صلى الله عليه في إثبات الرؤية . قال ابن كثيرٍ 4/321 : (وقوله تعالى :(لقد رأى من آياتِ ربِّه الكبرى) كقوله (لنريهُ من آياتنا ...) أي الدالةُ على قدرتنا وعظمتنا . وبهاتين الآيتين استدلَّ من ذهبَ من أهل السنَّة أن الرُّؤيةَ تلك الليلة لم تقعْ لأنَّه قال : (لقد رأى من آيات ربِّه الكبرى) ولو كان رأى ربَّه لأَخبرَ بذلكَ ولقال ذلك للنَّاسِ) . وهذا جواب سديدٌ من الإمام ابن كثير رحمه الله . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربَّه لكان ذلك أعظم أمرٍ حصل له في تلك الليلةِ ولكان قد أخبر بذلك أصحابَه رضي الله عنه .
2- إن جمهورَ السلفِ من الصحابة والتابعين قد خالفوا ابن عباسٍ في إثبات الرؤية . ويفهم هذا من عبارته الأولى .
3- إن من أثبت الرؤية البصريةَ ليس له مستندٌ ، ولا يصح في ذلك شيءٌ عن الصحابةِ ولا عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما . قال في 4/317 : (وقوله تعالى : (ما كَذبَ الفؤادُ ما رأى - أفتمارونَهُ على ما يرى) قال مسلمٌ حدثنا سعيدٌ وعثمانُ حدثنا وكيعٌ حدثنا الأعمشُ عن زيادِ بنِ حصينٍ عن أبي العاليةِ عن ابن عباسٍ (ما كذب الفؤاد ما رأى - ولقد رآه نزلةً أخرى) قال : رآه بفؤادِهِ مرَّتين . وكذا رواه سماكٌ عن عِكرمةَ عن ابن عباسٍ مثلَه ، وكذا قال أبو صالحٍ والسُّدي وغيرُهما أنه رآه بفؤاده مرتين . وقد خالَفَهُ ابن مسعودٍ وغيرُه . وفي روايةٍ عنه أنه أطلَق الرؤيةَ وهي محمولةٌ على المقيَّدة بالفؤادِ . ومن روى عنه بالبصرِ فقد أغربَ فإنه لا يصحُّ في ذلك شيءٌ عن الصَّحابة رضي الله عنه . وقولُ البغويِّ في تفسيره : وذهب جماعةٌ إلى أنه رآه بعينهِ ؛ وهو قول أنسٍ والحسن وعكرمة فيه نظرٌ والله أعلم) .

وبعد هذا التفصيل السريع أقول : إنه إذا خالف العلماء المتأخرون جماهيرَ السلف فالمعول على قول السلف ، وخاصة إذا كانت المخالفة في العقيدة أو في الغيبيات . ودعْ عنكَ قولَ من يقول : "إن مذهبَ السلفِ أسْلَم ومذهب الخلفِ أحْكَم" ، وقد تأثر بهذه المقولة كثيرٌ من العلماء المتأخرين . ولعلي أوضِّحُ هذا التأثُّرَ بشيء من التفصيل فيما بعد إن شاء الله تعالى . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
[/align]
 
هل يخالف جمهورُ العلماء جمهورَ السلف (2)

هل يخالف جمهورُ العلماء جمهورَ السلف (2)

[align=justify]
هذا إكمالٌ للمقال السابق بعنوان "هل يخالف جمهورُ العلماء جمهورَ الصحابة" ، فوعدت القراءَ هناك بتوضيح ما يتعلق بتلك المقولة وكيف تأثر العلماء بها .

إن كثيراً من العلماء المتأخرين الذين درسوا المذهب الأشعري ونشؤوا عليه قد تأثروا بهذه المقولة المتداولة في عصرهم "مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم" . ونتيجة هذا التأثر أصبحوا يردُّون كثيراً من أقوال السلف إذا وجدوها متعارضةً مع أقوالهم . ويتضح هذا الأمر بضرب بعض الأمثلة على ذلك ، وفيما يلي مثالان لعالِمين من مشاهير العلماء المتأخرين :
1- الإمام النووي : تعرَّض الإمام النووي لمسألة شدِّ الرحال لزيارة قبور الصالحين في (شرح صحيح مسلم 9/468) فقال : (واختلفَ العلماءُ في شدِّ الرحال وإعمالِ المطىِّ إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبورِ الصالحينَ وإلى المواضع الفاضلةِ ونحوِ ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجُويني من أصحابنا : هو حرامٌ وهو الذي أشار القاضي عِياض إلى اختياره ، والصحيحُ عندَ أصحابنا ؛ وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره ، قالوا : والمراد أن الفضلية التامةَ إنما هي في شدِّ الرحال إلى هذه الثلاثة خاصةً والله أعلم) . فانظر كيف رُدَّ قول أبي محمد الجويني مع أن قوله موافق لظاهر النص ولِما عليه السلف . والمراد بالمحققين في كلام النووي : متأخروا الشافعية ممن تأثروا بالأشعرية والصوفية . أما المتقدمون من أصحاب الشافعي وغيرهم لا تكاد تجدُ لهم أقوالاً مخالفة لفهم السلف مثل هذا . وقد يقع بعض من يقرأ هذا الكلام في شرح صحيح مسلم في حيرةٍ : كيف يخالف شيخ الإسلام ابن تيمية أقوال الجماهير(1) والمحققين من أهل العلم ، ثمَّ هل جمهور العلماء على جواز شدِّ الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين . نقول له : على رِسلك يا أخي فابن تيمية(2) أخذ بقول السلف والمذكور في شرح مسلمٍ رأيُ المتـأخرين من الخلف .
2- العلامة تقيُّ الدين السبكي : للسبكيِّ رسالة لطيفة في شرح حديث الفطرة(3) : "ما من مولودٍ إلا ويولد على الفطرة ..." فنقل السبكي في الرسالة أقوال العلماء في معنى الفطرة فذكر منها في صفحة 18 : أن المراد بالفطرة الطبع السليم المتهيِّء لقبول الدين ، قال : وهو الذي نختاره وعليه أكثر العلماء . ثم ذكر القول الثاني والثالث(4) حتى أتى إلى الرابع فقال : أن الفطرة : الإسلامُ ، ونُسب هذا القول إلى أبي هريرة والزهريِّ وكافة السلف .

فيُصدم القارئ بهذا التصرف من السبكي! كيف يجرؤ على مخالفة قول كافة السلف ، وكيف يخالف جمهورُ العلماء أي المتأخرون جمهورَ السلف ؟! ومن هنا يتبين للقارئ مدى تأثر هؤلاء المتأخرين بهذه المقولة ولماذا أكثر علماء السنة كابن تيمية في الرد على مقالاتهم وآرائهم الفاسدة وأثْبتوا أن قول السلف أسلم وأحكم وأعلم . وأختِمُ هذا المقال بقول الحافظ ابن رجب الحنبلي في (فضل علم السلف على الخلف 40) : (ولقد ابتلينا بجهلةٍ من الناس يعتقدون في بعض من توسَّع في القولِ من المتأخرين أنه أعلمُ ممن تقدَّم ، فمنهم من يظنُّ في شخصٍ أنه أعلم من كل من تقدَّم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله ، ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء والمشهورين المتبوعين ... فإن هؤلاء كلهم أقلُّ كلاماً ممن جاء بعدهم ، وهذا انتقاصٌ عظيمٌ بالسلف الصالح وإساءة ظنٍّ بهم ونسبةٌ لهم إلى الجهل وقصور العلم ولا حول ولا قوةَ إلا بالله) ونقل عن عمرَ بن عبدالعزيز في موضعٍ آخر(5) : (خذوا من الرَّأيِ ما يوافقُ من كان قبلكم فإنهم كانوا أعلم منكم) .
--------------------------------------------------
1- ذكر النووي في موضع آخر أن هذا هو قول الجمهور (شرح صحيح مسلم 9/517) .
2- ولا أعلم أحداً في عصره أعلم منه بأقوال السلف من الصحابة والتابعين وأصحاب القرون المفضلة يقول الحافظ في (الدرر الكامنة 1/145) : (وصارَ عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف) .
3- طبعة دار الصحابة للتراث بطنطا بتحقيق محمد السيِّد أبو عمه .
4- والقول الثاني هو : الفطرة هي معرفة الله والثالث : الفطرة هي ما قضى الله عليهم من السعادة والشقاوة .
5- في صفحة 32 . [/align]
 
عودة
أعلى