هل يجوز أن يراد المعنى ونقيضه في آية واحدة؟

أبو عبد المعز

Active member
إنضم
20/04/2003
المشاركات
721
مستوى التفاعل
38
النقاط
28
هل يجوز أن يراد المعنى ونقيضه في آية واحدة؟

الدافع إلى هذا الاستشكال هو ثلاثة مواضع لاحظتها في سورة [يس ]:

1-

الموضع الأول في بداية السورة:

لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس : 6]

"ما " نافية، ولكن تحتمل أن تكون موصولية أو مصدرية ، وعلى تقدير الجمع بين المعنيين سيترتب الجمع بين الإثبات والنفي على موضع واحد !

بيانه :

إذا كانت "ما " نافية فسيكون التقدير: "لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم..."

إذا كانت "ما " موصولية سيكون التقدير:" لتنذر قوما الشيء الذي أنذره آباؤهم...." وهذا المعنى ممكن لأن فعل "أنذر" يتعدى إلى مفعولين (المنذر والمنذر به )ويأتي المنذر به مفعولا مباشرا بدون حرف الجر أو به، فيقال أنذره شيئا ، وأنذره بشيء ... كما في قوله تعالى:

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت : 13]

فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [الليل : 14]

فمعنى الآية على الموصولية : تنذر قوما بمثل ما أنذر به آباؤهم ، وعلى النافية : تنذر قوما لم ينذر آباؤهم...فكيف يتأتى الجمع بين النقيضين !

في الحقيقة الجمع ممكن بتوسيع أو تضييق معنى "الآباء" ، فآباؤهم الأقربون لم يأتهم نذيرقطعا لأنهم كانوا في فترة من الرسل وهي فترة طويلة قد حددت بأكثر من خمسة قرون( قال قتادة : كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة ; وقاله مقاتل والضحاك ووهب بن منبه....) فيكون من مقاصد الآية على هذا التأويل قطع الحجة التي يحتج بها الكفار في كل زمان ومكان :

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة : 170]

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [المائدة : 104]

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف : 28]

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [يونس : 78]

آباؤكم لم يأتهم نذير وقد يكون هذا لهم عذرا، أما أنتم فقد جاءكم نذير فلا عذرلكم، فإن الفارق في القياس لكبير! هكذا حاجج التنزيل أهل الكتاب من قبلهم:

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة : 19]

أما إذا قيدنا الآباء ب "الأولين" فلا بد أن يكونوا منذرين مصداقا لقوله تعالى :

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر : 24]

فيكون من مقاصد الآية على هذا التأويل : أن الله قد أقام حجته على العالمين فلا يعذب أحدا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد وصول الإنذارإليه.

فإذا صح الجمع بين التأويلين فقد ثبت أن القرآن قد حقق" اتساع المعنى" بوجه غريب حقا : بإثباته ونفيه معا!!
 
2-

الموضع الثاني:

لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس : 35]

"ما" تحتمل أن تكون (نافية ) وتحتمل أن تكون (موصولية)

فعلى النفي يكون المعنى لياكلوا من ثمرات لم يصنعوها بل وجدوها جاهزة ساهمت في إيجادها التربة والماء والشمس والريح وغيرها من المسخرات...

وعلى الوصل يكون المعنى لياكلوا من ثمرات طبيعية ومما عملته أيديهم منها بالطبخ والعصروالمزج والتحويل وغيرها من العمليات المنتجة (فمن معاني العمل الخلق الإيجاد كما جاء في السورة نفسها )

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس : 71]

والغريب في الأمر أن عمل الأيدي - مثبتا للناس أو منفيا عنهم - مناسب تماما للمقصد الحجاجي للآية:

ففي حالة نفي العمل تكون النعمة منظورا إليها من جهة الكيف : أَفَلَا يَشْكُرُونَ وما قاموا بأي جهد ولا تعب للحصول على النعمة...فقد جاءتهم ولم يذهبوا إليها ولم تكلفهم أي شيء.

وفي حالة إثبات العمل تكون النعمة منظورا إليها من جهة الكم فهي نوعان : نعمة طبيعية مجانية، ونعمة أخرى اصطناعية ، وما كان لهم أن يصنعوها لولا تعليم الله لهم وتوفير المادة الأولية...فلا يكون الزبيب إلا بعد العنب ولا يكون عصير التفاح إلا بعد جني التفاحة !!

أفلا يشكرون على ما لم يعملوا أبدا!

أفلا يشكرون على النعم الإضافية التي صنعوها ولكن انطلاقا من النعم الأصلية!

الحجة قائمة على التأويلين.

لعل في السورة موضعا ثالثا من هذا النوع في الاتساع الدلالي أترك للإخوة المتدبرين فرصة اكتشافه....
 
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم الاستاذ المحترم لو نظرنا إلى تفسير الامام الطبري رحمه الله تعالى :
(
القول في تأويل قوله تعالى : لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ) فقال بعضهم: معناه: لتنذر قومًا بما أنذر الله من قبلهم من آبائهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة في هذه الآية (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قال: قد أنذروا .
وقال آخرون: بل معنى ذلك لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم (1) .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قال بعضهم: لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم من إنذار الناس قبلهم. وقال بعضهم: لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم أي: هذه الأمة لم يأتهم نذير، حتى جاءهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
واختلف أهل العربية في معنى " ما " التي في قوله ( مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ) إذا وجِّهَ معنى الكلام إلى أن آباءهم قد كانوا أنذروا، ولم يُرد بها الجحد ؛ فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: إذا أريد به غير الجحد لتنذرهم الذي أُنذِر آباؤهم ( فَهُمْ غَافِلُونَ ) وقال: فدخول الفاء في هذا المعنى لا يجوز، والله أعلم ، قال: وهو على الجحد أحسن، فيكون معنى الكلام: إنك لمن المرسلين إلى قوم لم ينذر آباؤهم، لأنهم كانوا في الفترة .
وقال بعض نحويي الكوفة: إذا لم يُرد بما الجحد، فإن معنى الكلام: لتنذرهم بما أنذر آباؤهم، فتلقى الباء، فتكون " ما " في موضع نصب ( فَهُمْ غَافِلُونَ ) يقول: فهم غافلون عما الله فاعل: بأعدائه المشركين به، من إحلال نقمته، وسطوته بهم) .
قوله رحمه الله تعالى: ( فيكون معنى الكلام: إنك لمن المرسلين إلى قوم لم ينذر آباؤهم، لأنهم كانوا في الفترة ) .
أرى والله تعالى أعلم : أن على الباحثين الاهتمام بالصحيح من التفسير وترك الأقوال الضعيفة التي لم تثبت خاصة أن الدنيا قصيرة وليس لدى
الناس من الوقت لقراءة الكثير الكثير من الأقوال .
علماً أني أحترم كتابات الأستاذ أبو عبد المعز وجزاه الله تعالى خيرا .
 
عودة
أعلى