السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد أشكلت عليّ هذه الآية وأرجو من أساتذة التفسير بيانها مأجروين ... والآية هي : "وَأَهۡدِیَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ" .. من المعلوم أن "أَهۡدِیَكَ" فعل مضارع منصوب لأنه معطوف على ﴿تزكى﴾.. فهل المعنى هل لك إلى أن تزكي .. وهل لك أن أهديك ؟ هل مازالت جملة "وأهديك" استفهاما معناه العرض والتشويق كما في الآية التي قبلها، بمعنى هل لك رغبة في الهداية ؟ أتودُّ أن أهديك؟
قد قرأت في كل كتب التفاسير الموجودة في "الباحث القرآني" ولم أجد إجابة صريحة لسؤالي..
لذا أرجو من أساتذة التفسير ـ وفقهم الله ـ التكرم بالإجابة مع ذكر بعض المصادر إن وجدت ...
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
لعل السر في التعدية بـ (إلى)
تلميح إلى أنه ليس على طريق الهداية أصلاً
يقول د. فاضل السامرائي
الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية من دون حرف أن التعديةَ بالحرف تقال إذا لم يكن فيه ذلك فيصل بالهداية إليه، وإن التعدية من دون حرف تقال لمن يكون فيه ولمن لا يكون فيه، فتقول: هَدَيتهُ إلى الطريق وهديته للطريق لمن لا يكون في الطريق فتوصله إليه، وتقول: (هديته الطريق) لمن كان فيه فَتُبصِّرهُ به وتُبَيِّنهُ له، وتقوله أيضاً لمن لا يكون فيه فتوصله إليه.
قال تعالى على لسان إبراهيم، عليه السلام، قائلاً لأبيه: {فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: ٤٣] . وأبوه ليس في الصراط، بل هو بعيد عنه. وقال تعالى في المنافقين: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لأتيناهم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [النساء: ٦٦-٦٨] . والمنافقون ليسوا على الصراط.
وقال على لسان رسل الله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: ١٢] . وهم في الصراط. وقال مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [الفتح: ٢] . وهو سالك للصراط.
فتعديةُ الفعل بنفسه تقال لمن كان فيه أي في الصراط ولمن لم يكن فيه.
أما التعدية باللام وإلى فتكون لمن لم يكن فيه، وذلك نحو قوله تعالى على لسان الخصمين اللذين جاءا داود، عليه السلام، ليحكم بينهما: {فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط} [ص: ٢٢] . وقوله: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} [يونس: ٣٥] . أي: يوصل إليه.
جاء في تفسير ابن كثير: "وقد تُعدَّى الهداية بنفسها كما هنا: {اهدنا الصراط المستقيم} فتضمن معنى ألهمنا أو وَفِّقنا أو ارزقنا أو أعطنا {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: ١٠] أي: بيّنا له الخيرَ والشر".
وقد تُعدى بإلى كقوله تعالى: {اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: ١٢١] . {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} [الصافات: ٢٣] . وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة وكذلك قوله: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: ٥٢] .
وقد تعدى باللام كقول أهل الجنة: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا} [الأعراف: ٤٣] . أي وفَّقنا لهذا وجعلنا له أهلاً".
وفي اللسان: "هديته الطريق والبيت هداية، أي: عَرَّفته، لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقول: هديته إلى الطريق، وإلى الدار، حكاها الأخفش".
قال ابن بري: يقال: هديته الطريق بمعنى عرّفته فيعدى إلى مفعولين، ويقال: هديته إلى الطريق، وللطريق على معنى أرشدته إليها. فيعدى بحرف الجرِّ كأرشدت قال: ويقال: هديت له الطريق على معنى بَيَّنتُ له الطريق".
وفيه أيضاً أن "هديت لك في معنى (بينت لك) وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [السجدة: ٢٦] . قال أبو عمرو: أَوَ لم يُبَيِّنْ لهم".
فعلى هذا يكون: (هداه الطريق) بمعنى عرّفه الطريق، و (هداه إلى الطريق وللطريق) بمعنى أرشده إليه، ويقال: (هداه للطريق) بمعنى بيّنه له أيضاً.
ويبدو أن الهداية على مراتب، فالبعيدُ الضالُّ عن الطريق، يحتاج إلى هادٍ يدلّه على الطريق، ويوصله إليه، فهنا نستعمل (يهدي إلى) أي: يوصل إلى ويرشد إلى.
والذي يصل إلى الطريق يحتاج إلى هادٍ يعرّفه بأحوال الطريق ومراحلها، وما فيها من مخاوف وأماكن الهلكة والأمن ويعرّفه بما يحتاجه السالك في هذه الطريق، وهنا نستعمل (هداه الطريق) .
أما اللام فإنها تستعمل في اللغة للتعليل، أي: لبيان الغاية من الحدث، وقد تستعمل لانتهاء الغاية أيضاً كأن تقول (جئتُ لطلبِ العلم) أي إنَّ طَلَبَ العلم غاية المجيء وعِلَّته، و (جئت للدار) بمعنى: جئت إليها.
وقد تستعمل اللام مع الهداية لبيان الغاية من الحدث، فسالك السبيل يريد الوصول إلى غاية وليس الطريق غاية في نفسه، فيؤتى باللام عند هذه الغاية فيقال: (هداه لكذا) أي: أبلغه لها، فكانت غاية سلوكه وسيره.
والإنسان محتاج إلى هذه الهدايات كلها، فإن ضلَّ احتاج من يهديه إلى الطريق، وإن وصل احتاج مَنْ يُعرّفهُ بالطريق، وإن سلك احتاج الوصول إلى الهدف، وألاّ ينقطع في الطريق، وإن قطع الطريق، احتاج إلى من يبلغه غايته، وأن ينيله مرامه ويهديه له.
وعند ذلك يقول كما قال أصحاب الجنة، بعد أن قطعوا الطريق وبلغوا مرادهم {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا} [الأعراف: ٤٣] . أي: وفقنا لهذا في خاتمة المطاف، وهي خاتمة الهدايات.
ولذا لم نجد استعمال (هدى) مُعَدَّى باللام في القرآن الكريم مع السبيل أو الصراط فلا تجد مثل (هداه لصراط مستقيم) أو (هداه لسبيل مستبين) لأن الصراط ليس هو الغاية؛ بل هو طريقٌ يُوصِلُ إلى الغاية فهو مطلوب لغيره فيقال: هداه إلى الصراط وهداه الصراط. قال تعالى: {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: ١٧] . فجعل الإيمان غاية، ذلك أن الإيمان من الأمن، وهو استقرار النفس وطمأنينتها، وأكثر ما يرهق الإنسان فَقْدُ أمنه النفسي فبلوغه غاية من أعظم الغايات.
وقال: {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: ٣٥] . وقال: {إِنَّ هاذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: ٩] . وقال: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا} [الأعراف: ٤٣] . وقال: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} [النور: ٣٥] . ولم يَرِدْ ذِكْرٌ للسبيل أو نحوه مع اللام كما ترى بل هذه كلها غايات، فالإيمان والحق والتي هي أقوم والنورُ والجنة، كلها غاياتٌ مُرادةٌ مطلوبة، وقد استعملت اللام معها.
والملاحظ أيضاً أن هذه الهداية، وهي الهداية للغاية والانتهاء إليها اختصَّها اللهُ لنفسه أو لقرآنه، فلم يستعمل (هدى لكذا) إلاّ له سبحانه أو لكتابه فهو المبلغ للغايات بخلاف هداه كذا أو هداه إلى كذا، فقد استعمله له ولغيره، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: ٥٢] . وقال: {فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: ٤٣] .
وقد تقول: لكن القرآن استعمل تعبيرين أحياناً في سياق واحد، مما يدل على أنهما بمعنى واحد، وذلك نحو قوله تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: ١٥-١٦] .
فقال: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} فَعدَّى الفِعْلَ بنفسه إلى {سُبُلَ السلام} ثم قال: {وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فعدَّاه بالحرف (إلى) مما يدل على أنهما بمعنى واحد.
ونحو قوله: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: ٣٥] .
فعداه مرة بإلى ومرة باللام فقال: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} فعدّاه بإلى ثم قال: {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} فعداه باللام، ثم قال: {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} فجعلها بمعنى واحد.
والحق أنها ليست بمعنى واحد، وأن هناك ما يقتضي هذا الاختلاف، فبالنسبة إلى الآية الأولى وهي قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فإن الذي اتَّبعَ رضوانَ الله ليس ضالاً ولا مبتعداً عن الصراط بل هو فيه، فهو محتاج إذن إلى مَنْ يهديه الطريق ويعرّفه إياه، وليس محتاجاً إلى من يوصله إليه، وأما الذي في الظلمات فيحتاج إلى من يخرجه منها ويدلّه على الطريق ويوصله إليه فهو ليس في الطريق الصحيح ولذا قال: {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: يوصلهم إليه.
فاقتضى كل موضع التعبير الذي ورد فيه.
فاقتضى الأمر بالنِّسبة إلى الآية الثانية، وهي قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: ٣٥] . فإن الشركاء لا يستطيعون الدلالة على الحق والإرشاد إليه أصلاً. ولكن الله يهدي إلى الحق وللحق، فالله يرشد إليه ثم يوصلك إلى المنتهى ويُبلِّغك المراد فهو لا يكتفي بأن يقول لك إنّ الطريق من هنا بل يعرّفك به ويوصلك إلى طلبتك، إنك قد تسأل شخصاً عن الطريق فيرشدك إليه ويقول لك: الطريق من هنا، أو ذلك هو الطريق، ولكنه لا يعرف مراحل الطريق ولا يدري ما فيه بَلْه إيصالكَ إلى المنتهى وتنويلك المبتغى، فآلهتهم لا تهدي إلى الحق، أي: لا تُرشد إليه لأنها لا تعرف أين هو بَلْه التعريفَ به والإيصال إلى خاتمته لحين تنويل المراد.
إن الله سبحانه وتعالى لا يهدي إلى الحق فقط، بل يعرّفك إياه ويبيّنه لك، ويبلّغك إياه، وأما شركاؤهم فلا يدرون الحق أين هو؟ وفرقٌ بعيد بين الحالين فشركاؤهم لا يعرفون مبتدأ الطريق، والله يوصلك إلى الخاتمة ويبلغك المراد.
فالفرق واضح بين التعبيرين.
ونعود إلى قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} فقد عَدَّى فِعْلَ الهداية بنفسه، ولم يُعَدِّهِ بالحرف وذلك ليجمع عدة معانٍ في آن واحد، ذلك أن التعديةَ من دون حرفٍ تُقالُ لمن يكون فيه ولمن لا يكون فيه، فهنا نطلب الهداية لمن كان في الطريق فيعرّفه به ويبصّره بشأنه، ولمن ضل وانحرف من المؤمنين عن الجادّة فيرده إلى الجادة فشمل القسمين.
ولما كان هؤلاء من الموحدين الحامدين لله كان المعنى علاوةً على ما مَرَّ طلب استمرار الهداية على الطريق المستقيم، والتثبيت على الهدى والزيادة فيه كما قال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: ١٧] . "فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهدى ورسوخه فيها، وتبصره وازدياده منها واستمراره عليها".
فيكون معنى {١٦٤٩;هْدِنَا الصراط المستقيم} عرِّفنا الطريقَ الحق وردّنا إليه ردّاً جميلاً إذا ما ضللنا أو انحرفنا، وثَبِّتنا على الهدى وزِدْنا هدى.
جاء في (البحر المحيط) : ومضمون هذه الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق مَنْ أنعم الله عليهم، لأن مَن صَدَر منه حمد الله وأخبر بأنه يعبده ويستعينه، فقد حصلت له الهداية، لكن يسأل دوامها واستمرارها".