حاول الشيخ عبدالقادر عودة في كتابه " التشريع الجنائي في الإسلام " استنباط حكمة ذلك، بعد مقدمات مطولة هذ نصها:
453 - عقوبة الرجم: الرجم عقوبة الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة، ومعنى الرجم القتل رمياً بالحجارة. ولم يرد في القرآن شئ عن الرجم، ولذلك أنكر الخوارج عقوية الرجم، ومذهبهم يقوم على جلد المحصن وغير المحصن والتسوية بينهما في العقوبة، وفيما عدا الخوارج فالإجماع منعقد على إقرار عقوبة الرجم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بها وأجمع أصحابه من بعده عليها. ومن الأحاديث المشهورة في هذا الباب: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثة: كفر بعد إيمان، وزناً بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس", وقد أثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر برجم ماعز والغامدية وصاحبة العسيف، فالرجم سنة فعلية وسنة قولية في وقت واحد.وقد وضعت عقوبة الرجم على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة الجلد للزاني غير المحصن, ولكن شددت عقوبة المحصن للإحصان؛ لأن الإحصان يصرف الشخص عادة عن التفكير في الزنا، فإن فكر فيه بعد ذلك فإنما يدل تفكيره فيه على قوة اشتهائه للذة المحرمة وشدة اندفاعه للاستمتاع بما يصحبها من نشوة, فوجب أن توضع له عقوبة فيها من قوة الألم وشدة العذاب ما فيها بحيث إذا فكر في هذه اللذة المحرمة وذكر معها العقوبة المقررة تغلب التفكير في الألم الذي يصيبه من العقوبة على التفكير في اللذة التي يصيبها من الجريمة.
ويستكبر البعض منا اليوم عقوبة الرجم على الزاني المحصن، وهو قول يقولونه بأفواههم ولا يؤمن به قلوبهم، ولو أن أحد هؤلاء وجد امرأته أو ابنته تزني واستطاع أن يقتلها ومن يزني بها لما تأخر عن ذلك. والشريعة الإسلامية قد سارت في هذه المسألة كما سارت في كل أحكامها على أدق المقاييس وأعدلها، فالزاني المحصن هو قبل كل شيء مثل سيئ لغيره من الرجال والنساء المحصنين وليس للمثل السيئ في الشريعة حق البقاء, والشريعة بعد ذلك تقوم على الفضيلة المطلقة وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، وهي توجب على الإنسان أن يجاهد شهوته ولا يستجيب لها إلا من طريق الحلال وهو الزواج، وأوجبت عليه إذا بلغ الباءة أن يتزوج حتى لا يعرض نفسه للفتنة أو يحملها ما لا تطيق, فإذا لم يتزوج وغلبته على عقله وعزيمته الشهوات فعقابه أن يجلد مائة جلدة، وشفيعه في هذه العقوبة الخفيفة تأخيره في الزواج الذي أدى به إلى الجريمة. أما إذا تزوج فأحصن فقد حرصت الشريعة أن لا تجعل له بعد الإحصان سبيلاً إلى الجريمة. فلم تجعل الزواج أبدياً حتى لا يقع في الخطيئة أحد الزوجين إذا فسد ما بينهما، وأباحت للزوجة أن تجعل العصمة في يدها وقت الزواج، كما أباحت لها أن تطلب الطلاق للغيبة والمرض والضرر والإعسار، وأباحت للزوج الطلاق في كل وقت وأحلت له أن يتزوج أكثر من واحدة على أن يعدل بينهن، وبهذا فتحت الشريعة للمحصن كل أبواب الحلال وأغلقت دونه باب الحرام, فكان عدلاً وقد انقطعت الأسباب التي تدعو للجريمة من ناحية العقل والطبع أن تنقطع المعاذير التي تدعو إلى تخفيف العقاب، وأن يؤخذ المحصن بالعقوبة التي لا يصلح غيرها لمن استعصى على الإصلاح.
ولو أن هؤلاء الذين يجزعون من قتل الزاني رجعوا إلى الواقع لاستقام لهم الأمر ولعملوا أن الشريعة الإسلامية حين أوجبت قتل الزاني المحصن لم تأت بشيء يخالف مألوف الناس، فنحن الآن تحت حكم القانون وهو يعاقب على الزنا بالحبس إذا كان أحد الزانيين محصناً، فإذا لم يكن أحدهما محصناً فلا عقاب ما لم يكن إكراه، هذا هو حكم القانون، فهل رضي الناس حكم القانون؟ إنهم لم يرضوه ولن يرضوه بل إنهم حين رفضوا حكم القانون القائم مرغمين أقبلوا على عقوبة الشريعة المعطلة مختارين، فهم يقتصون من الزاني محصناً وغير محصن بالقتل، وهم ينفذون القتل بوسائل لا يبلغ الرجم بعض ما يصاحبها من العذاب، فهم يغرقون الزاني ويحرقونه ويقطعون أوصاله ويهشمون عظامه ويمثلون به أبشع تمثيل, وأقلهم جرأة على القتل يكتفي بالسم يدسه لمن أوجب عليه زناه، ولو أحصينا جرائم القتل التي تقع بسبب الزنا لبلغت نصف جرائم القتل جميعاً، فإذا كان هذا هو الواقع فما الذي نخشاه من عقوبة الرجم؟
إن الأخذ بها لن يكون إلا اعترافاً بالواقع، والاعتراف بالواقع شجاعة وفضيلة، ولا أظننا بالرغم مما وصلنا إليه من تدهور نكره الإقرار بالحق أو نخشى الاعتراف بالواقع المحسوس.
ويخشى البعض أن يكون في عقوبة الرجم شئ من القسوة, ولمثل هؤلاء نقول: إن الرجم هو القتل لا غير, وإن قوانين العالم كل تبيح القتل عقوبة لبعض الجرائم، ولا فرق بين من يقتل شنقاً أو ضرباً بالفأس أو صعقاً بالكهرباء أو رجماً بالحجارة أو رمياً بالرصاص، فكل هؤلاء يقتل ولكن وسائل القتل هي التي فيها الاختلاف، ولا فرق في النتيجة بين الرمي بالحجارة والرمي بالرصاص، ومن كان يظن أن الموت في كل الأحوال فهو في ظنه على خطأ مبين؛ لأن الرصاص قد لا يصيب مقتلاً من القتيل فيتأخر موته؛ ولأن الحجارة قد تصيب المقتل وتسرع بالموت أكثر مما يسرع به الرصاص، فرماة الرصاص عددهم محدود وطلقاتهم معدودة، أما رماة الحجارة فعددهم غير محدود وعليهم أن يرموا الزاني حتى يموت، ومن استطاع أن يتصور مائة أو مئات يقذفون شخصاً في مقاتله بالأحجار استطاع أن يتصور أنه يموت بأسهل وأسرع مما يموت قتيل الرصاص.
ولقد دلت التجارب على أن حبل المشنقة لا يزهق الروح في بعض الأحوال, وأنه لا يزهقها بالسرعة اللازمة في كثير من الأحوال، كما دلت التجارب على أن ضرب الفأس الواحدة قد لا يكفي لقطع الرقبة ليس هو أسهل الطرق للموت، كذلك فإن التسميم بالغاز أو الصعق بالكهرباء يبطئ بالموت أحياناً أكثر مما يبطئ به الشنق أو الرصاص.
وأخيراً فإن التفكير في هذه المسألة بالذات تفكير لا يتفق مع طبيعة العقاب, فالموت إذا تجرد من الألم والعذاب كان من أتفه العقوبات، وأكثر الناس اليوم إذا اتجه تفكيرهم للموت فكروا فيما يصحبه من ألم وعذاب، فهم لا يخافون الموت في ذاته وإنما يخافون العذاب الذي يصحب الموت، وإذا كان العذاب لا قيمة له مع المحكوم عليه بالموت فإن قيمته يجب أن تظل محفوظة للزجر والتخويف، وليس من مصلحة المجتمع في شئ أن يفهم أفراده أن العقوبة هينة لينة لا يؤلم ولا تدعو للخوف، وقد بلغت آية الزنا الغاية في إبراز هذا المعنى حيث جاء بها: {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّه} ، وحيث جاء بها: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ، ذلك أن الرأفة بالمجرمين تشجيع على الإجرام، والعذاب الذي يصحب العقوبة هو الذي يؤدب من أجرم ويزجر من لم يجرم.