بسم الله الرحمن الرحيم
يشتهر في كتب علوم القرآن أن حديث الأحرف السبعة متواتر ، وينقلون عن الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى أنه نص على تواتر هذا الحديث ، قال الإمام ابن الجزري رحمه الله تعالى في النشر (1/21) : " وقد نص الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - على أن هذا الحديث تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم " .
[وانظر : الإتقان للسيوطي ، ونظم المتناثر للكتاني الحديث رقم (197) ] .
والظاهر - والله أعلم - أن هذا خطأ في فهم كلام الإمام أبي عبيد ، إذ مصطلح " المتواتر " و " الآحاد " لم يكن معروفاً في طبقته ، وقد ذكر بعض أهل العلم أن أول من أدخل هذا المصطلح على أهل الحديث هو الخطيب البغدادي رحمه الله .
ونصُّ الحافظ أبي عبيد رحمه الله في كتاب فضائل القرآن له ص339-340 بعد أن روى الحديث من أكثر من طريق : " قد تواترت هذه الأحاديث كلُّها على الأحرف السبعة إلا حديثاً واحداً يروى عن سمرة حدثني عفان ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نزل القرآن على ثلاثة أحرف " .
قال أبوعبيد : ولا نرى المحفوظ إلا السبعة، لأنها المشهورة" .
قلت : فمقصوده بالتواتر هنا ليس التواتر الاصطلاحي ، وإنما يعني تواتراً لغوياً معناه تتابع هذه الطرق كلها على كون الأحرف سبعة ، بإزاء طريق واحد جاء فيه أن الأحرف ثلاثة .
ويكون فهم ابن الجزري وغيره لكلام أبي عبيد من باب فهم كلام الأئمة المتقدمين بالاصطلاحات الحادثة ، والله تعالى أعلم .
وللفائدة أيضا : قال الشيح حاتم العوني - وفقه الله - ، إذ تكلم عن استخدام المحدّثين لـ(التواتر) بالمعنى اللغوي :
" أمّا عن دعوى ذكر الحاكم للمتواتر = فدعوى غير صحيحة ؛ فإنه لم يذكره في (معرفة علوم الحديث) في نوع من أنواع علومه ، ولم يَعْرِضْ له ببيانه أو ذكره بالمعنى المتعارف عليه عند الأصوليين . إنما كان يرد في كلامه لفظُ (التواتر) واشتقاقات هذا اللفظ على المعنى اللغوي للكملة ، كما يتّضح من سياق كلامه الذي ورد فيه ذلك اللفظ. ومثل هذا الاستخدام لكلمة (المتواتر) - على المعنى اللغوي - يرد أيضا في كلام مَن قَبل الحاكم؛ كأبي جعفر الطحاوي (أحمد بن محمد بن سلامة المصري الحنفي، المتوفى سنة 321ﻫ)، وقبلهما وجدته في كلام الإمام البخاري، والإمام مسلم، وغيرهم.
وأما ابن حزم وابن عبد البر = فكلاهما من علماء القرن الخامس ، مثل الخطيب البغدادي ، فلا يصح التعقُّب بهما على ابن الصلاح ؛ لأنه لا دليل على سَبْقِهما للخطيب في ذلك . وإن سبقاه فلا فائدةَ من ذلك ؛ لأن مقصود ابن الصلاح أن (المتواتر) ليس من مصطلحات سلفِ المحدّثين .
ثم إن ابن حزم إنما ذكر (المتواتر) في (الإحكام في أصول الأحكام) ، وهو كتاب في أصول الفقه ، لا في علوم الحديث . وابن الصلاح إنما ذكر أن الخطيب أوّل من أدخل هذا التقسيم في علوم الحديث ، فلا تعقُّب عليه من هذا الوجه أيضا .
ونحوه ابن عبد البر ؛ إذ ليس له كتابٌ مُفرد في علوم الحديث أصلاً !
فثبت بهذا أن مِن أوائل مَن أدخل هذا التقسيم في علوم الحديث هو الخطيب البغدادي !! ولا داعي للمشاحَة في هذا القدر الثابت . وقد نصّ الأئمةُ كما رأيتَ : أن الخطيب أخذ هذا التقسيم من كُتب أصول الفقه ، وأنه تبَعٌ للأصوليين في ذلك " .
[ ( المنهج المقترح لفهم المصطلح ) للشيخ حاتم العوني / 93 - 94 ] .
بارك الله فيكم شيخنا وجزاكم خيرا .
هل يقصد فضيلتكم أن أبا عبيد ربما كان قد فصّل القول في حديث الأحرف السبعة في كتابه المفقود في (القراءات) بأكثر مما ذكر في كتابيه (فضائل القرآن) و (غريب الحديث) ؟
فقد وقف بعض أهل العلم على كتابه في القراءات - ومنهم الطبري والداني والسخاوي وربما أبو شامة أيضا - ولم ينقلوا عنه في مسألة الأحرف غير ما وجدنا في كتابيه هذين .
إلا أن يكون فضيلتكم أراد ذكره لتواتر القراءات . والكلام ليس في ذلك . والله أعلم .
جزاكما الله خيراً .
الاحتمال الذي ذكره الدكتور عبد الرحمن من وجود كلام للحافظ بشأن هذا الحديث في كتاب القراءات لأبي عبيد خطر ببالي ، ووددت لو راجعت الكتاب ، لكنني لم أجده ..
أما النص الموجود في فضائل القرآن فهو قطعاً لا يريد به التواتر الاصطلاحي ، وفهم الكلام في سياقه دون حمله على عرف حادث كاف بالقطع بذلك .
وكذلك احتمال أن يكون في كلام أبي عبيد استعمال لمصطلح المتواتر - بتفصيلاته وأحكامه المعروفة لدى المتكلمين - ، احتمال غير وارد .
وبمناسبة ذكرك أخي حسين بن محمد لكلام الدكتور حاتم العوني ، فالحاكم أيضاً نقل عنه الكتاني في نظم المتناثر أنه قال بتواتر هذا الحديث ، لكنني لم أعثر على كلام له في تواتر هذا الحديث لا في معرفة علوم الحديث ولا في المستدرك .
الاحتمال الذي ذكره الدكتور عبد الرحمن من وجود كلام للحافظ بشأن هذا الحديث في كتاب القراءات لأبي عبيد خطر ببالي ، ووددت لو راجعت الكتاب ، لكنني لم أجده ..
هذا احتمال بعيد ؛ لِما ذكرتُه في مشاركة سابقة ، ولأن من لوازم مذهب أبي عبيد رحمه الله في الأحرف السبعة أن تكون عن القراءات بمعزل ، وإن لم يصرح بذلك كما فعل الطبري رحمه الله ؛ إذ الأحرف عند أبي عبيد هي لغات متفرقة في القرآن ، كما لا يخفى . وإن كان في مذهبه هذا تناقض بيّنه الطبري ، وعليه مآخذ ذكرها جمع من أهل العلم .
وبمناسبة ذكرك أخي حسين بن محمد لكلام الدكتور حاتم العوني ، فالحاكم أيضاً نقل عنه الكتاني في نظم المتناثر أنه قال بتواتر هذا الحديث ، لكنني لم أعثر على كلام له في تواتر هذا الحديث لا في معرفة علوم الحديث ولا في المستدرك .
عزاه الكتاني للزرقاني المالكي (ت 1122 ﻫ) في شرحه على موطأ مالك ؛ إذ قال رحمه الله :
" وأما حديث سمرة رفعه ( أنزل القرآن على ثلاثة أحرف ) رواه الحاكم ؛ قائلا : تواترت الأخبار بالسبعة إلا في هذا الحديث .
فقال أبو شامة : يحتمل أن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف ، كجذوة والرهب ، أو أراد : أنزل ابتداء على ثلاثة أحرف ثم زيد إلى سبعة توسعة على العباد " [ شرح الزرقاني على الموطأ ، 1 / 362 ، ط المطبعة الخيرية ] .
والظاهر أنه نقل ذلك عن (البرهان) للزركشي ، أو عمن نقل عنه ؛ إذ قال رحمه الله :
" وأما ما رواه الحاكم في المستدرك عن سمُرة يرفعه : ( أنزل القرآن على ثلاثة أحرف ) ، فقال أبو عبيد : تواترت الأخبار بالسبعة إلا هذا الحديث .
قال أبو شامة : يحتمل أن يكونَ معناه : إن بعضَه أنزل على ثلاثة أحرف ، كجَذوة والرهب والصدفين ؛ فيقرأ كلُّ واحد على ثلاثة أوجه في هذه القراءة المشهورة . أو أراد أنزل ابتداءً على ثلاثة ، ثم زيد إلى سبعة . ومعنى جميع ذلك أنه نزل منه ما يُقرأ على حرفين ، وعلى ثلاثة وأكثر ، إلى سبعة أحرف ، توسعةً على العباد ، باعتبار اختلاف اللغات والألفاظ المترادفة وما يقارب معناها " [ ( البرهان في علوم القرآن ) للزركشي ، 1 / 211 ، مكتبة دار التراث ] .
وكثير من كلام الزرقاني المالكي في هذي المسألة - وبترتيب إيراده - منقول عن الزركشي بتصرف لمن تأمل .
فظهر أن الخطأ في العزو راجع لسقط في كتاب الزرقاني ، ولعل ذلك راجع أيضا لسقط أو تحريف بالأصل الذي نقل عنه، أو أن يكون هو الذي وهم أو أخطأ عند النقل. والله أعلم.