د. محمد بن جميل المطري
New member
هل من خصائص النبي محمد عليه الصلاة والسلام أنه لا يورَث دون غيره من الأنبياء؟
قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، وقال سبحانه حاكيًا قول زكريا عليه الصلاة والسلام: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5، 6].
في تفسير هاتين الآيتين قولان مشهوران للعلماء:
القول الأول: أن الميراث هنا عام يشمل ميراث المال وميراث النبوة والعلم، وكذا ميراث المُلك في قصة سليمان، وهو قول مقاتل بن سليمان وأكثر المفسرين كما نسبه إليهم ابن عطية، ورجحه ابن جرير الطبري، ومال إليه ابن عطية في تفسير آية سورة النمل، ورجحه ابن عاشور، وصرح بأن من خصائص النبي محمد عليه الصلاة والسلام أنه لا يورث دون غيره من الأنبياء فإنهم يورثون لظاهر الآيتين. ينظر: تفسير مقاتل بن سليمان (2/ 620) و (3/ 299)، تفسير ابن جرير (15/ 455 ، 457) و (18/ 24)، المحرر الوجيز لابن عطية (4/ 5، 253)، التحرير والتنوير لابن عاشور (16/ 66، 67).
القول الثاني: أن الميراث هنا خاص، وهو ميراث النبوة والعلم دون المال، وهو قول مجاهد والحسن البصري والسدي، ورجحه الزجاج والواحدي والسمعاني وأبو بكر بن العربي وابن الجوزي والقرطبي وابن كثير والشنقيطي في أضواء البيان ، ومال إليه ابن عطية في تفسير آية سورة مريم، وابن عاشور في تفسير آية سورة النمل، وبعض هؤلاء ذكروا في تفسير آية النمل في قصة سليمان أنه ورث من أبيه داود العلم والمُلك، وليس ميراث المُلك من ميراث المال الذي يختص بالورثة. ينظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (3/ 320)، التفسير الوسيط للواحدي (3/ 176)، تفسير السمعاني (4/ 81)، المحرر الوجيز لابن عطية (4/ 4، 5)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 471)، زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (3/ 118)، تفسير القرطبي (11/ 78) و (13/ 164)، تفسير ابن كثير (6/ 182)، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (3/ 363 - 365)، التحرير والتنوير لابن عاشور (19/ 235).
وسبب الخلاف ورود حديث: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة))، لكن هذا الحديث أكثر الرواة رووه بلفظ: ((لا نورث ما تركنا صدقة))، هكذا لفظ الحديث في صحيح البخاري، وفي رواية البخاري في متن الحديث بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد بقوله: (نحن) نفسه، فروى بعض الرواة هذا الحديث بالمعنى الذي فهمه فقال: (إنا معاشر الأنبياء)، وهذه الزيادة لا تصح كما سيأتي بيانه.
قال شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري في تفسير آية النمل (18/ 24): "يقول تعالى ذكره: وورث سليمان أباه داود العلم الذي كان آتاه الله في حياته، والمُلك الذي كان خصه به على سائر قومه، فجعله له بعد أبيه داود دون سائر ولد أبيه".
وقال ابن جرير في تفسير آية مريم (15/ 455 ، 457): "يقول: وإني خفت بني عمي وعصبتي {من ورائي} يقول: من بعدي أن يرثوني. وقوله: {فهب لي من لدنك وليا} يقول: فارزقني من عندك ولدًا وارثًا ومعينًا. وقوله: {يرثني ويرث من آل يعقوب} يقول: يرثني من بعد وفاتي مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، وذلك أن زكريا كان من ولد يعقوب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل".
وقال النحاس في إعراب القرآن (3/ 5): "وراثة المال لا يمتنع، وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا نورث ما تركنا صدقة))، وهذا لا حجة فيه؛ لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجميع".
وقال ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز في تفسير آية النمل (4/ 253): "الأنبياء لا تورث أموالهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة))، ويحتمل قوله عليه السلام: ((إنا معشر الأنبياء لا نورث)) أن يريد به أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم وإن كان فيهم من وُرِث ماله كزكرياء على أشهر الأقوال فيه، وهذا كما تقول: إنا معشر المسلمين إنما شغلنا العبادة، فالمراد أن ذلك فيه فعل الأكثر، ومنه ما حكى سيبويه: إنا معشر العرب أقرى الناس لضيف".
وقال ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز في تفسير آية مريم (4/ 5): "اختلف الناس في المعنى الذي من أجله خاف الموالي، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق من ذلك، ... وقالت فرقة: إنما كان مواليه مهملين للدين، فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين بعده، حكى هذا القول الزجاج، وفيه: أنه لا يجوز أن يسأل زكريا من يرث ماله؛ إذ الأنبياء لا تورث، وهذا يؤيده قول النبي عليه السلام: ((إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة))، ويوهنه ذكر العاقر، والأكثر من المفسرين على أنه أراد وراثة المال، ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا معشر الأنبياء لا نورث)) أن لا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم فتأمله، والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة، ألا ترى أنه إنما طلب وليا، ولم يخصص ولدًا، فبلغه الله أمله على أكمل الوجوه، وقال أبو صالح وغيره: قوله: {يرثني} يريد المال، وقوله: {ويرث من آل يعقوب} يريد العلم والنبوة". وقول ابن عطية في آخر كلامه: إنما طلب وليًا ولم يخصص ولدًا فيه نظر، فقد قال الله تعالى في سورة آل عمران: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38].
وقال ابن كثير في تفسيره (6/ 182) مرجحًا القول الثاني: "قوله: {وورث سليمان داود} أي: في الملك والنبوة، وليس المراد وراثة المال؛ إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود؛ فإن الأنبياء لا تورث أموالهم، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة))".
والحديث المذكور رواه أحمد (9972) من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَئُونَةِ عَامِلِي، وَنَفَقَةِ نِسَائِي، صَدَقَةٌ))، وأكثر الرواة رووه بلفظ: ((لا نورث)) من غير ذكر الأنبياء، منهم مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة كما في موطأ مالك (2/ 993) ومن طريقه البخاري (2776) ومسلم (1760)، ورواه مسلم (1761) من طريق الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: ((لا نورث ما تركنا صدقة))، وسيأتي أن سفيان بن عيينة رواه أيضًا كما رواه وكيع، والظاهر – والله أعلم - أن وكيعًا وسفيان بن عيينة رويا الحديث بالمعنى، ووهِما في ذكر الأنبياء في أول هذا الحديث، فلا أعلم من ذكر الأنبياء في أول هذا الحديث غيرهما بإسناد متصل، وقد جاء هذا الحديث من رواية غير واحد من الصحابة وليس فيه ذكر الأنبياء، وفي صحيح البخاري (3094) عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص وعلي والعباس: (أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا نورث ما تركنا صدقة)) يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؟ فقالوا: قد قال ذلك)، وقوله: يريد نفسه يحتمل أنه من قول عمر أو أحد الرواة، قال ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (4/ 195): "قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا نورث ما تركنا فهو صدقة)) رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد". وقال السيوطي في الخصائص الكبرى (2/ 436): "باب اختصاصه صلى الله عليه وسلم بأنه لا يورث"، وذكر حديث: ((لا نورث ما تركنا صدقة))، ثم قال: "حكى القاضي عياض عن الحسن البصري أنه قال: هذه الخِصِّيصَة مختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم بخلاف سائر الأنبياء فإنهم يورثون؛ لقوله تعالى: {وورث سليمان داود}، وقول زكريا: {رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب}، وعلى هذا فتضم هذه إلى الخصائص التي امتاز بها عن الأنبياء"، ثم رد السيوطي على كلام القاضي عياض، ورجح أن جميع الأنبياء لا يورثون، واستدل بالحديث الذي رواه النسائي في السنن الكبرى (6275): ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث))، ثم قال السيوطي: "والجواب عن الآيتين أن المراد فيهما إرث النبوة والعلم، وقد روى ابن ماجه عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن العلماء هم ورثة الأنبياء، لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر))"، قلت: الحديث الذي رواه النسائي في الكبرى هو من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان، وهو نفس الحديث الذي رواه البخاري (3094) ومسلم (1757) من طريق مالك وشعيب وعُقيل ومعمر كلهم عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان من غير ذكر الأنبياء، وقد رواه النسائي نفسه من طريق أخرى من غير ذكر الأنبياء (6274)، وأما حديث أبي الدرداء فقد رواه ابن ماجه (223) كما ذكر السيوطي، ورواه الترمذي (2682) وضعفه، قال الترمذي: "لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل"، وكذا ضعفه الدارقطني في العلل (6/ 216) وقال: "عاصم بن رجاء ومن فوقه إلى أبي الدرداء ضعفاء، ولا يثبت. ورواه الأوزاعي عن كثير بن قيس عن يزيد بن سمرة عن أبي الدرداء وليس بمحفوظ"، وينظر: التلخيص الحبير لابن حجر (3/ 219)، والأجوبة المرضية فيما سئل السخاوي عنه من الأحاديث النبوية (2/ 728 - 730) مهم جدًا.
ومما يجدر التنبيه عليه أن البخاري ومسلمًا رويا حديث الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان من عدة طرق بطوله، وحين ذكرا طريق سفيان بن عيينة لم يسوقا الحديث بطوله، وإنما اقتصرا على بعض المتن مما ليس فيه الزيادة المذكورة، وهذا يدل على إمامتهما في الحديث، فلم يذكرا الحديث بطوله من رواية سفيان بن عيينة أو من رواية وكيع وهما من شيوخ شيوخهما لكونهما وهما في الحديث بذكر زيادة: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث)، والله أعلم. ينظر: صحيح البخاري حديث رقم (2904) وصحيح مسلم حديث رقم (1757).
وفي موطأ الإمام مالك (2/ 993): عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين، أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر الصديق فيسألنه ميراثهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لهن عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نورث ما تركنا فهو صدقة))؟
ورواه البخاري (6730) قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، ورواه مسلم (1758) قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، فذكره. والله الموفق.
هذا ما أحببت كتابته ليستفيد منه من شاء الله من عباده، وليعلم القارئ سبب خلاف العلماء في تفسير بعض الآيات، وأثر تصحيح الحديث أو تأويله في ترجيح بعض الأقوال على بعض، وبيان خطأ بعض الرواة في رواية الحديث بالمعنى، والقولان في تفسير الآيتين محتملان، ولو صحت الزيادة المذكورة في الحديث لكان القول الثاني هو الراجح بلا تردد، ومن العلم عدم الجزم في مقام الاحتمال، والله أعلم بكتابه وعباده.