الحديث عن المناسبات بين الآيات والسور حديث ماتع يبهج الخاطر ويكشف عن الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم .
ولكن لكل علم قواعده ،فهل هناك بحث علمي حول:قواعد معرفة المناسبات بين السور والآيات وضوابط القول بها؛لأنه يوجد من العلماء رحمهم الله من يردّ هذا العلم ويرى أنه من التكلف كالشوكاني .
فهل للقائلين بالمناسبات ضوابط وقواعد في معرفتها،أم هي نتيجة الدربة في البلاغة القرآنية ومعرفة أوجه ربط العرب كلامها ببعض.
حياكم الله أخي الكريم الأستاذ محمد وأحيط حضرتكم علما بأن هذا الموضوع تمت مناقشته في هذا الملتقى الكريم منذ عام تقريباً ، ولكن ما كان لكم أن تطرحو هذا الموضوع دون أن يجد آذانا صاغية تسدد وتقارب على طريق العلم وطلب المعرفة ودونكم ما تيسر للإجابة على سؤالكم :
مما لاشك فيه أن المناسبة علم له ضوابطه التقعيدية وثقافته اللغوية التفسيرية ، ولا عليك من قول العلامة الشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ الذي أنكر علم المناسبة وعده من قبيل التمحل وإلزام ما لم يلزم ، والربط غير المبرر بين أجزاء القرآن الكريم الذي هو معجز سواء علينا أتلمسنا ربطه أم لم نفعل .
وقد بين العلماء وعلى رأسهم الحافظ السيوطي ـ رحمه الله ـ أن علم المناسبة أفرده أجلة من العلماء كانوا أحق به وأهله، وقد أدلى بدلوه فيه فألف كتابه نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، وذكر من سبقه إلى ذلك من السادة العلماء .
من وجهة نظري أن ما طرحتَه يا أخانا الكريم أصبت فيه من أنه على المتكلم في المناسبة الدراية بعلوم البلاغة والعربية وعادات العرب في مراعات المناسبة في كلامهم ، وأشفع ذلك بضرورة التفكر في السابق واللاحق دون النظر في كتب التفسير ، ثم اتباع ذلك بالنظر فيما قاله أهل التفسير ـ خاصة من يهتم بالمناسبة ـ كالفخر وأبي حيان والآلوسي والبقاعي وغيرهم .
والمهم عدم التعسف في إيجاد مناسبة بل لابد من مزيد من الدرس لمزيد من الربط بين الآيات أولها بآخرها ، وأخرها بأول ما بعدها ، وأولها بآخر ما قبلها ، والسور أولها بآخر ما قبلها وآخرها باول ما بعدها ......وهكذا دواليك .
ودونك ما تفضل به الحافظ في الإتقان فهم بحارنا ومن نغترف منهم:
قال بعض المتأخرين: الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هوأنك تنظر: 1ـ الغرض الذي سيقت له السورة، 2ـ وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، 3ـ وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، 4ـ وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها. فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، فإذا عقلته تبين لك وجه النظم مفصلاً بين كل آية وآية في كل سورة انتهى
ثم قال ـ رحمه الله تعالى ـ : والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أومستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم، وهكذا فأي السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له أه. ومرجعها في الآيات ونحوها إلى معنى رابط بينها عام أوخاص عقلي أوحسي أوخيالي أوغير ذلك من أنواع العلاقات أوالتلازم الذهين، كالسبب والمسبب والعلة والمعلوم والنظيرين والضدين ونحوهم. وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء. فنقول ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلق الكلم بعضه ببعض وعدم تمامه بالأولى فواضح، وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على وجه التأكيد أوالتفسير أوالاعتراض أوالبدل، وهذا القسم لا كلام فيه. وإما أن لا يظهر الارتباط بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى وأنها خلاف النوع المبدوء به، فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشركة في الحكم أولاً، فإن كانت معطوفة فلا بد أن يكون بينهما جهة جامعة على ما سبق تقسيمه كقوله تعالى يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرف فيها } وقوله (والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} للتضاد بين القبض والبسط والولوج والخروج والنزول والعروج، وشبه التضاد بين السماء والأرض.
ومما الكلام فيه التضاد ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب والرغبة بعد الرهبة، وقد جرت عادة القرآن إذا ذكر أحكاماً ذكر بعدها وعداً ووعيداً ليكون باعثاً على العمل بما سبق ثم يذكر آيات توحيد وتنزيه ليعلم عظم الآمر والناهي.
وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة تجده كذلك، وإن لم تكن معطوفة فلا بد من دعامة تؤذن باتصال الكلام، وهي قرائن معنوية تؤذن بالربط، وله أسباب:
أحدها: التنظير، فإن إلحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء كقوله (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. عقب قوله أولئك هم المؤمنون حقاً فإنه تعالى أمر رسوله أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير أوللقتال وهم له كارهون، والقصد أن كراهتهم لما فعله من قسمة الغنائم ككراهتهم للخروج، وقد تبين في الخروج الخير من الظفر والنصر والغنيمة وعز الإسلام، فكذا يكون فيما فعله في القسمة فليطيعوا ما أمروا به ويتركوا هوى أنفسهم.
الثاني: المضادة كقوله في سورة البقرة إن الذين كفروا سواء عليهم) الآية، فإن أول السورة كان حديثاً عن القرآن وأن من شأنه الهداية للقوم الموصوفين بالإيمان فلما أكمل وصف المؤمنين عقب بحديث الكافرين، فبينهما جامع وهمي ويسمى بالتضاد من هذا الوجه، وحكمته التشويق والثبوت على الأول كما قيل وبضدها تتبين الأشياء
الثالث: الاستطراد كقوله تعالى يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوي ذلك خير قال الزمخشري: هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدوالسوات وخصف الورق عليهما إظهاراً للمنة في ما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى، وقد خرجت على الاستطراد.
والله الموفق والمستعان