عبدالعزيز العمار
New member
عند النظر في المعنى اللغوي للفظة الغرابة نجد أن هذه المادة تدل على البعد والغموض، يدل على ذلك قول العرب: أغرب الرجل : أي صار غريباً، وقدح غريب: أي ليس من الشجر التي سائر القداح منها، ورجل غريب : ليس من القوم، والغريب : الغامض من الكلام(1 )، وفي المفردات: (( قيل لكل متباعد غريب، ولكل شيء فيما بين جنسه عديم النظير غريب )) (2 )، يؤكد ـ ذلك ـ أيضاًـ ما ورد في العمدة، وهو: أن (( وكل ما ورد في معنى غرب يفيد البعد، وإن أُضيف إلى الكلام أفاد الغموض، وعدم القرب إلى الذهن ))(3 )، ويُقال: غرَّب: بعُد، ورمى فأغرب: أي أبعد المرمى، وتكلم فأغرب: إذا جاء بغرائب الكلام ونوادره، وقد غمُضتْ هذه الكلمة فهي غريبة(4 )، فالغريب في اللغة ما خالف الشائع المألوف، وتباعد عنه . (5 )
وقد أشار الخطابي إلى هذه المعاني اللغوية قائلاً : (( الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد على الفهم،كما أن الغريب من الناس إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل، ومنه قولك: للرجل إذا نحيته وأقصيته: اغرب عني، أي ابعد ... ثم إن الغريب من الكلام يُقال به على وجهين: أحدهما: أنه يُراد به أنه بعيد المعنى غامضه، لا يتناوله الفهم إلاَّ عن بعد ومعاناة فكر، والوجه الآخر: أنه يُراد به كلام مَن بعُدتْ به الدار، ونأى به المحل من شواذ قبائل العرب، فإذا وقعتْ إلينا الكلمة من لغاتهم استغربناها، وإنما هي كلام القوم وبيانهم )) . (6 )
فهذه هي معاني هذه اللفظة، وتلك دلالاتها اللغوية، وعندما نتتبع ورود هذه اللفظة في كتب البلاغة نجد أنها تَرِدُ عند البلاغيين في معرض حديثهم عن فصاحة الألفاظ، فقد ذكروا أن فصاحة الألفاظ تكمن في خلوصها من تنافر الحروف، والغرابةِ، ومخالفةِ القياس اللغوي(7 )، ويقصدون بالغرابة - كما ذكر الخطيب-: (( أن تكون الكلمة وحشية، لا يظهر معناها، فيُحتاج في معرفته إلى أن يُنقَّر عنها في كتب اللغة المبسوطة )) (8 )، ثم جاء شُّراح التلخيص بعد الخطيب فذكروا الأسباب التي دعت إلى غرابتها، يقول التفتازاني: (( والغرابة : كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة الاستعمال )). (9 )، وثمة أسباب أخرى لغرابة الكلمة ذكروها البلاغيون في كتبهم (10)، وعند إنعام النظر في كلام البلاغيين عن الغرابة نجد أن حديثهم عنها يتلاءم تماماً مع معناها اللغوي، وينبثق عنه .
ويتضح من كلام البلاغيين عن الغرابة أنها صفة في اللفظة تَخلُّ بفصاحتها؛ لكونها غير ظاهرة المعنى، لم يتضح المراد منها؛ ولكونها غير مأنوسة الاستعمال كذلك .
ومن هنا فإن ألفاظ القرآن الكريم تُجلُّ - كلها - وتُنزَّه عن هذا الوصف المنافي للفصاحة، فألفاظ هذا الكتاب العظيم هي الغاية في الفصاحة، وفي الحدِّ الرفيع منه .
وقد أشار إلى هذا الأمر وقرَّره ابن النقيب، فقد ذكر في مقدمة تفسيره الفنونَ التي تتعلق بفصاحة اللفظة، فكان أول ما ذكر ( التهذيب )، ثم بيَّن أن المراد به هو: (( تخليص الألفاظ من ثقل العجمية، وهُجْنة الحوشية، وفظاظة النَّبطية، وأن يُترك الكلام عذب المساق، حسن الاتساق، قريباً من فهم السامع، عذب المساغ في اللهوات والمسامع، يدخل الأذن بغير إذن، ويُتصور معناه في العقل بدقيق التدبر، ولطيف التفكر )) (11 )، ثم قال - بعد هذا -: (( والقرآن العظيم كله من أوله إلى آخره على هذه المثابة ... قد بسقتْ أشجاره، وعذُبت ثماره، واتسقتْ ألفاظه، واستحكمتْ معانيه، وحسُن رونقه، وعظُمتْ حلاوته وطلاوته، لا تملُّه الأسماع مع كثرة ترداده، ولا تنفر منه الطباع مع إبراقه وإرعاده، بل هو الذي أُحكمتْ آياته، وفُصِّلتْ وكمُلتْ في ألفاظه وحُصِّلتْ، وأُحكمتْ أحكامه وأُصِّلتْ، فهو كما قال الله - تعالى - :{ كتاب أُحكمتْ آياته ثم فُصِّلت...}[ هود : 1 ]، قد سلم من حوشي الألفاظ وَرَذْلها(12 )، وتخلص من فظاظة العجمية وثقلها، وكل كلمة منه حلَّتْ محلها، وقُرنتْ بمثلها )) . (13 )
ومن هنا فإني أرى عدم إطلاق هذا الوصف على ألفاظ القرآن الكريم؛ وذلك لِمَا لهذا الوصف (الغرابة) من إيحاء تُجَلُّ ألفاظ القرآن الكريم عنه وتُنزه، كما أن إيحاء هذه اللفظة ملازم لها لا ينفك عنها أبداً، مهما كان غرض من أطلق هذا الوصف على ألفاظ القرآن الكريم، ومراده منها .
فضلاً على أن غرابة الألفاظ من الأمور النسبية التي يتفاوت فيها علم الناس، فما يغرب عنا يقرب من غيرنا، وما نجهله نحن يعلمه سوانا، ويحيط به، ويستعمله في كلامه، ولو كان الجهل بالألفاظ ومدلولاتها عيباً مخلاً بفصاحتها لخرج شطر الكلام عن الفصاحة؛ وذلك لغلبة الجهل بها، وبعد الناس عن معانيها ودلالاتها (14 )، فمَن ذا يحكم إذن من الناس - والحالة هذه - على مدى وضوح هذه الألفاظ أو غموضها، وبُعْد معناها ؟!
ومن العجب أننا نطلق هذا الوصف (الغرابة) على الألفاظ بناءً على موقفنا نحن من معاني هذه الألفاظ قرباً وبعداً، جهلاً وعلماً، استعمالاً وتركاً، وحينما ندرك معنى تلك اللفظة، ونُحيط بها خُبْراً، ونُكثر من استعمالها تزول عنها الغرابة، وتصبح مأنوسة الاستعمال.
ومما يدعوني إلى رفض إطلاق هذا الوصف على ألفاظ القرآن الكريم ؛ أن في هذا الوصف منافاة لكثير من نعوت القرآن الكريم التي ذكرها الله في كتابه عن كتابه العظيم، فما أكثر الآيات التي جاءت مبينة أن هذا القرآن بيِّن لا يحتاج إلى بيان أو إيضاح، ومن ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - قوله:{ آلر تلك آيات الكتاب المبين } [ يوسف: 1 ] ، وقوله { آلر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } [ الحجر : 1 ] ، وقوله:{ وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } [ الشعراء : 192 - 195 ]، وقوله:{ طسم تلك آيات القرآن وكتاب مبين }[ النمل : 1 ] ، وقوله:{ ولقد أنزلنا إليكم آيات بينات } [ النور : 34 ]، وغيرها من الآيات التي تدل على أن هذا القرآن غاية في البيان والوضوح، فهو بيِّن - كما ذكر الله عنه في هذه الآيات - فكيف يحتاج هذا الكلام البيِّن إلى مَن يُبيِّنه ؟! إنه يُبين نفسَه بنفسه . (15 )
ولعل مما يؤيد هذا الرأي، ويُؤكد ما ذهبتُ إليه أن الله - سبحانه وتعالى - بيِّن أن هذا القرآن مُيسَّر في قوله { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } [ القمر : 17 - 22 - 32 - 40 ] فقد يسَّره - سبحانه وتعالى - لنا ، وسهَّله علينا رحمة منه بنا ، بل منَّ علينا بهذا التيسير، وتفضل به، فكيف بنا بعد هذا كله نتجاهل هذا الأمر ونتجاوزه ونصف بعض ألفاظه بالغرابة، وهي منافية للتيسير ومناقضة له، فهما وصفان متضادان متناقضان فيما بينهما، فكيف يكون هذان الوصفان المتناقضان المتضادان وصفين لموصوف واحد؟! فالغرابة لا تلتقي أبداً مع التيسير والبيان .
كما أن إطلاق وصف الغرابة على ألفاظ القرآن الكريم تناقض بيّنٌ مع كثير من الآيات التي جاءت بالأمر بتدبر القرآن، والنظر فيه، والإقبال عليه، ومن ذلك قوله: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [ محمد : 24 ] ، فأنى لنا أن نتدبر ألفاظاً قد غابت عنا معانيها، وغمُض علينا مرادها، والمقصود منها ؟! ولو كان الأمر كما يقولون لكان في هذا تحميل لنا ما لا نطيق، وتكليف لنا بما لا نستطيعه، ولا نقدر عليه .
وأحب أن أشير في هذا المقام إلى أن ما يذكره بعض العلماء من الشواهد على الغرابة كان من الأولى أن تُذكر تلك الآيات وتُدرس في مبحث ( ائتلاف اللفظ مع المعنى )؛ وذلك أن من أبرز الآيات التي تُذكر شاهداً للغرابة قوله تعالى: { قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين }[ يوسف : 85 ]، وقوله: { أفرأيتم اللاة والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى } [ النجم : 19 - 22 ] ،كان من الأولى أن تُذكر هذه الشواهد وغيرها في مبحث ( ائتلاف اللفظ مع المعنى ) لا في مبحث الغرابة، وهذا ما فعله ابن أبي الإصبع المصري في كتابه ( بديع القرآن ) (16 )، وقد فعله - أيضاً - الزركشي في كتابه ( البرهان ) (17 )، يقول ابن أبي الإصبع في بيان المراد من هذا المبحث ( ائتلاف اللفظ مع المعنى ) : (( وتلخيص هذه التسمية أن تكون ألفاظ المعنى المراد يلائم بعضها بعضاً ، ليس فيها لفظة نافرة عن أخواتها، غير لائقة بمكانها، كلها موصوف بحسن الجوار )) (18 )، ثم ذكر شاهداً على ذلك مبيناً أن من أمثلة هذا الباب قوله تعالى : { قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين } ، ثم بيَّن أن مجيء هذه الألفاظ بهذه الصورة كان اقتضاءً لحسن الوضع في النظم، فلا أعظم ولا أبلغ من أن تجاور كل لفظة اللفظةَ من جنسها؛ وذلك أن في هذا (( توخياً لحسن الجوار، ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع ، وتتناسب في النظم ... )) . (19 )
وهذا ما فعله الرافعي - أيضاً - ، وأشار إليه في قوله تعالى { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى } فقد بيَّن بلاغة لفظة { ضيزى }، ودلالة اختيارها في هذا المقام في التعبير عن هذا المعنى قائلاً: (( ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه، ولو أدرتَ اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها ؛ فإن السورة التي هي منها، وهي سورة النجم، مفصلة كلها على الياء، فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل، ثم هي في معرض الإنكار على العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام، وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله مع أولادهم البنات، فقال تعالى { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى } فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصوِّر في هيئة النطق بها الإنكارَ في الأولى، والتهكم في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنتْ في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدَّين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية )) . (20 )
والمتأمل في كلام الرافعي هذا يجد أنه يشير إلى ارتباط الألفاظ بالمعنى الذي جاءت لتحقيقه وبيانه، وهو المراد بائتلاف اللفظ مع المعنى، وأن ما يبدو في الظاهر من الألفاظ القرآنية غريباً فليس بغريب، بل هو في موضع عجيب من البلاغة، وفي مكنة مكينة من الفصاحة؛ لأن البلاغة أصلاً في سوق الألفاظ بحسب دواعي المقامات، وتطلب السياق لها .
وأخيراً : من أكبر الأسباب والدوافع التي جعلتني أذهب إلى هذا القول وآخذ به أن كثيراً من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن القرآن في بيان نعوته وأوصافه - وكلها نعوت جلال وكمال – كشفت ما تميز به القرآن الكريم من الهدى و البيان، وما أودع الله فيه من الوضوح والبرهان، مما جعل قلوب المؤمنين تتعلق به وتقبل عليه قراءة وتدبراً ، وحسبك شاهداً على ما أقول قوله - تعالى - : { ... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم }[ المائدة : 15 - 16]، وقوله: { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} [ النساء : 174 ] فأنى لكتاب وُصف بالنور والبيان، والهدى والبرهان أن يكون فيه ألفاظ تُوصف بالغرابة، وغموض المعنى، وبعد المراد منها وخفاؤه ؟! أبداً فإن هذا لا يكون ألبتة . والله أعلم . ( وأحب أن أشير في هذا المقام بأني لست بدعاً في هذا القول، كما أني لست منفردا فيه، فقد أفدت من علماء كثيرين أجلة، ولكني اطلعت على كلامهم، وكونت منه هذا الرأي، وهو خاص بي، ويمثل قناعة تامة لدي، وأتمنى من يطلع عليه ألا يبخل بذكر رأيه وموقفه من هذا المقال تأييداً أو تفنيداً)
__________________________________
(1 ) انظر : مادة : غرب لسان العرب .
(2) مفردات ألفاظ القرآن : مادة : غرب .
(3) العمدة في غريب القرآن : 13 ، لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي ، تحقيق يوسف بن عبدالرحمن الرعشلي ، مؤسسة الرسالة بيروت ، ط الأولى : 1974 .
(4) انظر : مادة : غرب أساس البلاغة :.
(5) انظر : لغة القرآن الكريم في جزء عم : 153 ، د . محمد أحمد نحلة ، دار النهضة العربية بيروت ، 1981 .
(6) غريب الحديث : 1 / 70 ، لأبي سليمان الخطابي ، تحقيق عبدالكريم إبراهيم العزياوي ، جامعة أم القرى ، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي ، 1402 ه- .
(7) انظر : الإيضاح : 1/ 13 ، للخطيب القزويني ، إحياء الكتب الإسلامية بيروت .
(8) المصدر السابق : 1 / 13 .
(9) مختصر التفتازاني على تلخيص المفتاح : 1/ 83 ، للعلامة سعد الدين التفتازاني ، نشر أدب الحوزة ، توزيع مكتبة دار الباز ، ضمن شروح التلخيص .
(10) للاستزادة في النظر في الأسباب التي دعت إلى غرابة الألفاظ ، انظر : شروح التلخيص : 1 / 83 ، وحاشية الدسوقي: 1 / 83 ، نشر أدب الحوزة ، توزيع مكتبة دار الباز ، ضمن شروح التلخيص .
(11) مقدمة تفسير ابن النقيب في علم البيان والمعاني والبديع وإعجاز القرآن : 453 ، لأبي عبدالله جمال الدين المقدسي ، الشهير بابن النقيب ، تحقيق : د. زكريا سعيد علي ، مكتبة الخانجي القاهرة ،ط الأولى : 1415 ه- .
(12) الرذل : الرديء من كل شيء .
(13) مقدمة ابن النقيب : 453 .
(14) انظر : حاشية الدسوقي : 1 / 83 .
(15) المعجزة الكبرى : 552 .
(16 انظر : بديع القرآن : 77 ، لأبن أبي الإصبع المصري ، تحقيق : حفني محمد شرف ، نهضة مصر للطباعة والتوزيع .
(17) انظر : البرهان في علوم القرآن : 3 / 378 .
(18) بديع القرآن : 77 .
(19) المصدر السابق : 78 .
(20) إعجاز القرآن : 230 .
فهذه هي معاني هذه اللفظة، وتلك دلالاتها اللغوية، وعندما نتتبع ورود هذه اللفظة في كتب البلاغة نجد أنها تَرِدُ عند البلاغيين في معرض حديثهم عن فصاحة الألفاظ، فقد ذكروا أن فصاحة الألفاظ تكمن في خلوصها من تنافر الحروف، والغرابةِ، ومخالفةِ القياس اللغوي(7 )، ويقصدون بالغرابة - كما ذكر الخطيب-: (( أن تكون الكلمة وحشية، لا يظهر معناها، فيُحتاج في معرفته إلى أن يُنقَّر عنها في كتب اللغة المبسوطة )) (8 )، ثم جاء شُّراح التلخيص بعد الخطيب فذكروا الأسباب التي دعت إلى غرابتها، يقول التفتازاني: (( والغرابة : كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة الاستعمال )). (9 )، وثمة أسباب أخرى لغرابة الكلمة ذكروها البلاغيون في كتبهم (10)، وعند إنعام النظر في كلام البلاغيين عن الغرابة نجد أن حديثهم عنها يتلاءم تماماً مع معناها اللغوي، وينبثق عنه .
ويتضح من كلام البلاغيين عن الغرابة أنها صفة في اللفظة تَخلُّ بفصاحتها؛ لكونها غير ظاهرة المعنى، لم يتضح المراد منها؛ ولكونها غير مأنوسة الاستعمال كذلك .
ومن هنا فإن ألفاظ القرآن الكريم تُجلُّ - كلها - وتُنزَّه عن هذا الوصف المنافي للفصاحة، فألفاظ هذا الكتاب العظيم هي الغاية في الفصاحة، وفي الحدِّ الرفيع منه .
وقد أشار إلى هذا الأمر وقرَّره ابن النقيب، فقد ذكر في مقدمة تفسيره الفنونَ التي تتعلق بفصاحة اللفظة، فكان أول ما ذكر ( التهذيب )، ثم بيَّن أن المراد به هو: (( تخليص الألفاظ من ثقل العجمية، وهُجْنة الحوشية، وفظاظة النَّبطية، وأن يُترك الكلام عذب المساق، حسن الاتساق، قريباً من فهم السامع، عذب المساغ في اللهوات والمسامع، يدخل الأذن بغير إذن، ويُتصور معناه في العقل بدقيق التدبر، ولطيف التفكر )) (11 )، ثم قال - بعد هذا -: (( والقرآن العظيم كله من أوله إلى آخره على هذه المثابة ... قد بسقتْ أشجاره، وعذُبت ثماره، واتسقتْ ألفاظه، واستحكمتْ معانيه، وحسُن رونقه، وعظُمتْ حلاوته وطلاوته، لا تملُّه الأسماع مع كثرة ترداده، ولا تنفر منه الطباع مع إبراقه وإرعاده، بل هو الذي أُحكمتْ آياته، وفُصِّلتْ وكمُلتْ في ألفاظه وحُصِّلتْ، وأُحكمتْ أحكامه وأُصِّلتْ، فهو كما قال الله - تعالى - :{ كتاب أُحكمتْ آياته ثم فُصِّلت...}[ هود : 1 ]، قد سلم من حوشي الألفاظ وَرَذْلها(12 )، وتخلص من فظاظة العجمية وثقلها، وكل كلمة منه حلَّتْ محلها، وقُرنتْ بمثلها )) . (13 )
ومن هنا فإني أرى عدم إطلاق هذا الوصف على ألفاظ القرآن الكريم؛ وذلك لِمَا لهذا الوصف (الغرابة) من إيحاء تُجَلُّ ألفاظ القرآن الكريم عنه وتُنزه، كما أن إيحاء هذه اللفظة ملازم لها لا ينفك عنها أبداً، مهما كان غرض من أطلق هذا الوصف على ألفاظ القرآن الكريم، ومراده منها .
فضلاً على أن غرابة الألفاظ من الأمور النسبية التي يتفاوت فيها علم الناس، فما يغرب عنا يقرب من غيرنا، وما نجهله نحن يعلمه سوانا، ويحيط به، ويستعمله في كلامه، ولو كان الجهل بالألفاظ ومدلولاتها عيباً مخلاً بفصاحتها لخرج شطر الكلام عن الفصاحة؛ وذلك لغلبة الجهل بها، وبعد الناس عن معانيها ودلالاتها (14 )، فمَن ذا يحكم إذن من الناس - والحالة هذه - على مدى وضوح هذه الألفاظ أو غموضها، وبُعْد معناها ؟!
ومن العجب أننا نطلق هذا الوصف (الغرابة) على الألفاظ بناءً على موقفنا نحن من معاني هذه الألفاظ قرباً وبعداً، جهلاً وعلماً، استعمالاً وتركاً، وحينما ندرك معنى تلك اللفظة، ونُحيط بها خُبْراً، ونُكثر من استعمالها تزول عنها الغرابة، وتصبح مأنوسة الاستعمال.
ومما يدعوني إلى رفض إطلاق هذا الوصف على ألفاظ القرآن الكريم ؛ أن في هذا الوصف منافاة لكثير من نعوت القرآن الكريم التي ذكرها الله في كتابه عن كتابه العظيم، فما أكثر الآيات التي جاءت مبينة أن هذا القرآن بيِّن لا يحتاج إلى بيان أو إيضاح، ومن ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - قوله:{ آلر تلك آيات الكتاب المبين } [ يوسف: 1 ] ، وقوله { آلر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } [ الحجر : 1 ] ، وقوله:{ وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } [ الشعراء : 192 - 195 ]، وقوله:{ طسم تلك آيات القرآن وكتاب مبين }[ النمل : 1 ] ، وقوله:{ ولقد أنزلنا إليكم آيات بينات } [ النور : 34 ]، وغيرها من الآيات التي تدل على أن هذا القرآن غاية في البيان والوضوح، فهو بيِّن - كما ذكر الله عنه في هذه الآيات - فكيف يحتاج هذا الكلام البيِّن إلى مَن يُبيِّنه ؟! إنه يُبين نفسَه بنفسه . (15 )
ولعل مما يؤيد هذا الرأي، ويُؤكد ما ذهبتُ إليه أن الله - سبحانه وتعالى - بيِّن أن هذا القرآن مُيسَّر في قوله { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } [ القمر : 17 - 22 - 32 - 40 ] فقد يسَّره - سبحانه وتعالى - لنا ، وسهَّله علينا رحمة منه بنا ، بل منَّ علينا بهذا التيسير، وتفضل به، فكيف بنا بعد هذا كله نتجاهل هذا الأمر ونتجاوزه ونصف بعض ألفاظه بالغرابة، وهي منافية للتيسير ومناقضة له، فهما وصفان متضادان متناقضان فيما بينهما، فكيف يكون هذان الوصفان المتناقضان المتضادان وصفين لموصوف واحد؟! فالغرابة لا تلتقي أبداً مع التيسير والبيان .
كما أن إطلاق وصف الغرابة على ألفاظ القرآن الكريم تناقض بيّنٌ مع كثير من الآيات التي جاءت بالأمر بتدبر القرآن، والنظر فيه، والإقبال عليه، ومن ذلك قوله: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [ محمد : 24 ] ، فأنى لنا أن نتدبر ألفاظاً قد غابت عنا معانيها، وغمُض علينا مرادها، والمقصود منها ؟! ولو كان الأمر كما يقولون لكان في هذا تحميل لنا ما لا نطيق، وتكليف لنا بما لا نستطيعه، ولا نقدر عليه .
وأحب أن أشير في هذا المقام إلى أن ما يذكره بعض العلماء من الشواهد على الغرابة كان من الأولى أن تُذكر تلك الآيات وتُدرس في مبحث ( ائتلاف اللفظ مع المعنى )؛ وذلك أن من أبرز الآيات التي تُذكر شاهداً للغرابة قوله تعالى: { قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين }[ يوسف : 85 ]، وقوله: { أفرأيتم اللاة والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى } [ النجم : 19 - 22 ] ،كان من الأولى أن تُذكر هذه الشواهد وغيرها في مبحث ( ائتلاف اللفظ مع المعنى ) لا في مبحث الغرابة، وهذا ما فعله ابن أبي الإصبع المصري في كتابه ( بديع القرآن ) (16 )، وقد فعله - أيضاً - الزركشي في كتابه ( البرهان ) (17 )، يقول ابن أبي الإصبع في بيان المراد من هذا المبحث ( ائتلاف اللفظ مع المعنى ) : (( وتلخيص هذه التسمية أن تكون ألفاظ المعنى المراد يلائم بعضها بعضاً ، ليس فيها لفظة نافرة عن أخواتها، غير لائقة بمكانها، كلها موصوف بحسن الجوار )) (18 )، ثم ذكر شاهداً على ذلك مبيناً أن من أمثلة هذا الباب قوله تعالى : { قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين } ، ثم بيَّن أن مجيء هذه الألفاظ بهذه الصورة كان اقتضاءً لحسن الوضع في النظم، فلا أعظم ولا أبلغ من أن تجاور كل لفظة اللفظةَ من جنسها؛ وذلك أن في هذا (( توخياً لحسن الجوار، ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع ، وتتناسب في النظم ... )) . (19 )
وهذا ما فعله الرافعي - أيضاً - ، وأشار إليه في قوله تعالى { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى } فقد بيَّن بلاغة لفظة { ضيزى }، ودلالة اختيارها في هذا المقام في التعبير عن هذا المعنى قائلاً: (( ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه، ولو أدرتَ اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها ؛ فإن السورة التي هي منها، وهي سورة النجم، مفصلة كلها على الياء، فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل، ثم هي في معرض الإنكار على العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام، وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله مع أولادهم البنات، فقال تعالى { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى } فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصوِّر في هيئة النطق بها الإنكارَ في الأولى، والتهكم في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنتْ في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدَّين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية )) . (20 )
والمتأمل في كلام الرافعي هذا يجد أنه يشير إلى ارتباط الألفاظ بالمعنى الذي جاءت لتحقيقه وبيانه، وهو المراد بائتلاف اللفظ مع المعنى، وأن ما يبدو في الظاهر من الألفاظ القرآنية غريباً فليس بغريب، بل هو في موضع عجيب من البلاغة، وفي مكنة مكينة من الفصاحة؛ لأن البلاغة أصلاً في سوق الألفاظ بحسب دواعي المقامات، وتطلب السياق لها .
وأخيراً : من أكبر الأسباب والدوافع التي جعلتني أذهب إلى هذا القول وآخذ به أن كثيراً من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن القرآن في بيان نعوته وأوصافه - وكلها نعوت جلال وكمال – كشفت ما تميز به القرآن الكريم من الهدى و البيان، وما أودع الله فيه من الوضوح والبرهان، مما جعل قلوب المؤمنين تتعلق به وتقبل عليه قراءة وتدبراً ، وحسبك شاهداً على ما أقول قوله - تعالى - : { ... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم }[ المائدة : 15 - 16]، وقوله: { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} [ النساء : 174 ] فأنى لكتاب وُصف بالنور والبيان، والهدى والبرهان أن يكون فيه ألفاظ تُوصف بالغرابة، وغموض المعنى، وبعد المراد منها وخفاؤه ؟! أبداً فإن هذا لا يكون ألبتة . والله أعلم . ( وأحب أن أشير في هذا المقام بأني لست بدعاً في هذا القول، كما أني لست منفردا فيه، فقد أفدت من علماء كثيرين أجلة، ولكني اطلعت على كلامهم، وكونت منه هذا الرأي، وهو خاص بي، ويمثل قناعة تامة لدي، وأتمنى من يطلع عليه ألا يبخل بذكر رأيه وموقفه من هذا المقال تأييداً أو تفنيداً)
__________________________________
(1 ) انظر : مادة : غرب لسان العرب .
(2) مفردات ألفاظ القرآن : مادة : غرب .
(3) العمدة في غريب القرآن : 13 ، لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي ، تحقيق يوسف بن عبدالرحمن الرعشلي ، مؤسسة الرسالة بيروت ، ط الأولى : 1974 .
(4) انظر : مادة : غرب أساس البلاغة :.
(5) انظر : لغة القرآن الكريم في جزء عم : 153 ، د . محمد أحمد نحلة ، دار النهضة العربية بيروت ، 1981 .
(6) غريب الحديث : 1 / 70 ، لأبي سليمان الخطابي ، تحقيق عبدالكريم إبراهيم العزياوي ، جامعة أم القرى ، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي ، 1402 ه- .
(7) انظر : الإيضاح : 1/ 13 ، للخطيب القزويني ، إحياء الكتب الإسلامية بيروت .
(8) المصدر السابق : 1 / 13 .
(9) مختصر التفتازاني على تلخيص المفتاح : 1/ 83 ، للعلامة سعد الدين التفتازاني ، نشر أدب الحوزة ، توزيع مكتبة دار الباز ، ضمن شروح التلخيص .
(10) للاستزادة في النظر في الأسباب التي دعت إلى غرابة الألفاظ ، انظر : شروح التلخيص : 1 / 83 ، وحاشية الدسوقي: 1 / 83 ، نشر أدب الحوزة ، توزيع مكتبة دار الباز ، ضمن شروح التلخيص .
(11) مقدمة تفسير ابن النقيب في علم البيان والمعاني والبديع وإعجاز القرآن : 453 ، لأبي عبدالله جمال الدين المقدسي ، الشهير بابن النقيب ، تحقيق : د. زكريا سعيد علي ، مكتبة الخانجي القاهرة ،ط الأولى : 1415 ه- .
(12) الرذل : الرديء من كل شيء .
(13) مقدمة ابن النقيب : 453 .
(14) انظر : حاشية الدسوقي : 1 / 83 .
(15) المعجزة الكبرى : 552 .
(16 انظر : بديع القرآن : 77 ، لأبن أبي الإصبع المصري ، تحقيق : حفني محمد شرف ، نهضة مصر للطباعة والتوزيع .
(17) انظر : البرهان في علوم القرآن : 3 / 378 .
(18) بديع القرآن : 77 .
(19) المصدر السابق : 78 .
(20) إعجاز القرآن : 230 .