محمود عبدالله إبراهيم نجا
New member
هل ذكر القُرآن خلق النبات قبل النور كما فعلت التوراة؟
قال كثير من العلماء أن كلمة (جميعاً) في آية البقرة (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو بكل شيء عليم)، تشمل كل ما في الأرض حتى النبات والحيوان، وأن العطف بثم في هذه الآية يشير لخلق الأرض قبل السماء وشبهوا ذلك بأبنية الدنيا نبني أسفلها قبل أعلاها. وربما شجعهم على هذا القول حديث التُربة في صحيح مُسلم، والذي قال فيه بخلق الشجر يوم الإثنين وخلق النور يوم الأربع.
ولكن هذا القول تسبب في زماننا في إشكال علمي لم ينتبه له السلف، فمعلوم أن خلق النجوم ومنها الشمس سابق لخلق الأرض، وأن النبات يحتاج لطاقة الشمس وتتابع الليل والنهار من أجل عملية البناء الضوئي، فكيف يمكن القول بخلق النبات على الأرض قبل خلق السماء بشمسها ونجومها وحدوث دورة تعاقب الليل والنهار؟!. وهل يُعقل أن القرآن لم يذكر أهمية ضوء الشمس وتتابع الليل والنهار لإنبات النبات؟!.
فأقول وبالله التوفيق، لا يُعقل أن يختم الله آية البقرة السابقة بقوله (والله بكل شيء عليم) ثم يخالف العلم اليقيني، فيجعل خلق النبات قبل خلق السماوات بشموسها وأجرامها، وقبل تتابع الليل والنهار، فحاجة النبات للشمس وتتابع الليل والنهار حقيقة علمية بل قانون لا سبيل لإنكاره. والقرآن قد ذكر هذه الحقيقة بوضوح شديد في أكثر من موضع، فوافق العلم في أهمية الضوء للنبات، ولذا فالخطأ ليس في القُرآن، ولكن في فهم بعض أهل العلم لآية البقرة، مع الأخذ في الإعتبار أن حديث التُربة في صحيح مسلم قد ضعفه كثير من أهل العلم وعلى رأسهم البخاري، فليس بحُجة لإثبات خلق النبات قبل النور (الضوء)، وإليكم التفصيل.
■ هل إتفق العلماء على خلق الأرض وما فيها قبل السماء؟
ينبغي أن ننتبه إلى أن آية البقرة (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء)، لم تُصرح بخلق الأرض قبل السماء المُزينة بالنجوم والكواكب، ولم تُصرح بخلق النبات والحيوان قبل ضوء الشمس بل هو فهم فهمه البعض من كلمة (جميعاً) ومن العطف بثم (ثم استوى الى السماء)، فظنوا أن هذه الآية تفيد ترتيب خلق الأرض والسماوات الكونية، ولكن هذا فهم البشر، وليس بصريح النص، ولا نجزم بأنه مُراد الله، فهو بحاجة لدليل وليس بدليل على مراد الله، فلو سألنا أصحاب هذا الرأي ما هي السماء في الآية، لقالوا السماء كل ما علاك فأظلك، فتحتمل أن تكون جو الأرض مثلما تحتمل أن تكون سماء الكون، والترجيح بين الفهمين بحاجة لأدلة واضحة، وهو ما لم يقُم به أصحاب هذا الرأي، ونفس الكلام يُقال عند الإستدلال بآية فُصلت (الذي خلق الأرض في يومين.......ثم استوى إلى السماء وهي دخان ......الآيات)، لإثبات خلق الأرض والنبات قبل خلق السماء والشمس.
ومن المعلوم أنه لم يحدث أن إتفق العلماء على القول بخلق الأرض قبل السماء، ولذا فأنا لستُ أول من يرفض القول بخلق الأرض والنبات والحيوان قبل خلق السماوات، فقد سبقني بعض أهل العلم وعلى رأسهم الطبري، وأبوحيان، والقرطبي، والطاهر ابن عاشور، فأرجو ألا يتهمني أحد بإتباع الهوى، وحب الظهور بمخالفة السلف، فقد خالفهم من هم أعلم مني. وبعد كثير بحث وتدبر لآيات الله أرى والعلم عند الله أن الرأي بتقديم خلق السماء على الأرض، والنبات على النور (الضوء)، هو الرأي الأكثر دقة، وله شواهد قوية، وما عملي في هذا المقال إلا الإنتصار لهذا الرأي بجمع ما تبين لي من أدلة جديدة لإزالة الإختلاف بين القُرآن والعلم.
■ ما هو الترتيب الصحيح لخلق السماوات والأرض، وكيف نفهم معنى السماء المذكورة بعد الأرض في آية البقرة، وآية فُصلت؟
أرى من وجهة نظري القاصرة أن السماء المذكورة بعد الأرض في آية البقرة (خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء)، وفي آية فُصلت (خلق الأرض في يومين...... ثم استوى إلى السماء وهي دُخان.....الآيات)، هي السماء الجوية للأرض وليست السماء الكونية، فكل سبع سماوات في القُرآن تشير للسماء الكونية التي تحوي النجوم والكواكب، إلا في آية البقرة، وآية فُصلت فتُشيران للسماء الجوية للأرض (الغلاف الجوي) والتي نشأت بالفعل من دُخان الأرض، وقد سبق ناقشت ترتيب خلق السماوات والأرض، والمقصود بسماوات فُصلت الدُخانية والفرق بينها وبين سماوات النازعات المبنية في البحثين التاليين، فأرجو الإطلاع عليهما:
١. ترتيب خلق السماوات والأرض بين القُرآن والعلم، وبيان خطأ تفسير سماء فُصلت الدُخانية بالغبار الكوني.
٢. ما أدين لله به في سماء فصلت الدُخانية، وسماء النازعات المبنية.
■ هل حديث التُربة يُثبت خلق النبات قبل النور؟
يُعتبر حديث التُربة في صحيح مُسلم (خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة)، هو النص الوحيد في القُرآن والسُنة الذي صرح بخلق الأرض والنبات قبل ضوء الشموس، في مُشابهة واضحة لما ذكره سفر التكوين في التوراة (العهد القديم)، ولله الحمد لم يقُم المسلمون في زماننا برفض الحديث بحجة مخالفة متنه للعلم الحديث، فيتهمنا المخالفون بالتلاعب بعلم الحديث، فالحديث قد ضعفه كثير من قُدماء أهل العلم، ومنهم البخاري، ويحى إبن معين، وإبن تيمية، وغيرهم كثير، وقال أهل العلم هذا الحديث من رواية كعب الأحبار وألفاظه توافق ما عند اليهود، والنصارى الذين قالوا بخلق العشب والبقل والشجر قبل خلق الشمس والضوء.
■ إثبات أن القُرآن قال بخلق النبات بعد تعاقب الليل والنهار.
1. قال تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} الأعراف54.
والآية صريحة في أن الليل لم يُغشي النهار إلا بعد خلق السماوات والأرض، فالأرض لم تعرف تعاقب الليل والنهار إلا بعد بناء السماوات الكونية، وتسويتها على صورتها النهائية، ولذلك تفصيل في الدليل الربع.
2. قال تعالي {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }الجاثية5.
الآية فيها دليل على أهمية الليل والنهار لعملية الإنبات، فقد جعل الله إحياء الأرض بالرزق النازل من السماء، وقدم عليه ذكر عُنصر آخر لم يكن معلوم في زمن النبي صلي الله عليه و سلم، له أهمية خاصة في إحياء الأرض وإنبات النبات، وهو اختلاف الليل والنهار، قال الشوكاني في فتح القدير ( قوله { وما أنزل الله من السماء من رزق } معطوف على إختلاف الليل و النهار، والرزق المطر، ومنفعة رزق السماء للنبات معطوفة علي منفعة اختلاف الليل و النهار، و لا تتم إلا به، ولذا ربط الله بينهما (انتهى بإختصار).
3. ربما قال قائل لعل هذا الربط السابق بين تعاقب الليل والنهار هو من قبيل الصُدفة، ولعل الآية لم تقصد الربط بين اختلاف الليل و النهار و مسألة إنبات النبات !!!
فأقول وبالله التوفيق، لو كان صُدفة لما جاء في القرآن إلا مرة واحدة، ولكن هذا الربط تكرر أيضاً في آية البقرة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وبث فيها من كل دابة}.
فقدم الله في هذه الآية أيضاً ذكر إختلاف الليل والنهار على ذكر إنزال الماء وإحياء الأرض بعد موتها ثم بث الدواب، فبدون الشمس وتعاقب الليل والنهار لن يكون هناك إنبات، لحاجة النبات لعملية البناء ضوئي للحصول على الطاقة اللازمة لجميع عملياته الحيوية، وباقي دواب الأرض تعتمد على النبات كمصدر أساسي للطاقة حيث لا يستطيع الحيوان أخذ طاقته من الشمس مباشرة وهذا أمر معلوم في السلسلة الغذائية.
4. واليكم الدليل الفصل على أن اخراج نبات الأرض لم يتم إلا بعد خلق الليل والنهار، وخلق السماوات بأجرامها، وذلك في سورة النازعات (ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا).
والآيات صريحة في أن خلق الليل سبق خلق النهار، وأن الأرض لم تعرف تعاقب الليل والنهار إلا بعد إتمام بناء السماوات الكونية، وتسويتها على صورتها النهائية، وإخراج ضُحاها (ضُحى شموسها ونجومها) وذلك بعد أن أغطش الله ليلها، فالظلمة هي الأصل في الكون، والنهار أمر عارض عند تعرض الأرض لضُحى السماء، وأحد أنواع ضحى السماء هو ضحى الشمس التي تخص أرضنا، قال الله (والشمس وضحاها). ولعل السبب في تقديم ذكر الليل على النهار في القرآن يعود لأسبقية إغطاش ليل السماء قبل خلق ضُحاها كما ذكرت آيات النازعات، والله أعلم. ثم صرحت هذه الآيات بدحو الأرض بعد إخراج ضُحى السماء، ودحو الأرض بنص الآية هو إخراج ماءها ومرعاها، ومرعاها هو النبات الذي ترعى عليه الحيوانات ويأكله الإنسان.
■ كيف نفهم آية البقرة (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) إذا لم يكن بها خلق النبات والحيوان؟؟؟
حين نريد تفسير آية البقرة (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى الى السماء)، فلابد أن نعلم بأن ألفاظها المُجملة تم تفصيلها في آيات سورة فُصلت (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).
وعند مُقابلة فهم آيات فُصلت بآية البقرة سيتبين لنا الآتي:
1. خلق الأرض في يومين في آيات فُصلت، هي مرحلة تسبق خلق ما في الأرض جميعاً في آية البقرة.
2. خلق الله للرواسي والأقوات في آيات فُصلت، يقابل خلق ما في الأرض جميعاً في آية البقرة.
3. استواء الله للسماء وهي دخان فقضاهن سبع سماوات في آيات فُصلت، يقابل استواء الله للسماء فسواهن سبع سماوات في آية البقرة.
وعليه فمعنى (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) في آية البقرة يفسره خلق الرواسي والأقوات في آيات فُصلت، فبدون الرواسي والأقوات لن يكون هناك وجود لنبات، أو حيوان، أو إنسان، فقشرة الأرض الترابية، وجبالها هي أقوات النبات، وبالتبعية تكون قوت للحيوان، والإنسان.
فقول الله (خلق لكم ما في الأرض جميعا)، يعني خلق جميع عناصر الأرض والغلاف الجوي التي تصلح لخلق وإنبات النبات، وخلق ومعيشة الحيوان، وخلق ومعيشة الإنسان، فكأن الله خلق لنا جميع ما في الأرض باعتبار خلق قوت كل شيء سوف يحيا عليها. ويؤكد صحة هذا الفهم ما رأيناه من خلق النبات (المرعى) وبث الدواب بعد إكتمال خلق السماء المبنية في أكثر من موضع في القرآن، وبذلك يستقيم الجمع بين كافة آيات القرآن دون حدوث تعارض، والله أعلم.
■ خلاصة ما سبق
مما سبق يتبين لنا أن القُرآن خالف التوراة في ذكر ترتيب خلق النبات والنور (الضوء)، ووافق العلم الحديث في ذكر خلق النبات بعد ضوء الشمس، وفي ذكر أهمية تعاقب الليل والنهار لعملية الإنبات. ولا يمكن لأي عقل مهما أوتي من الذكاء، وقوة الملاحظة في زمن نزول القُرآن أن يربط هذا الربط الدقيق بين إختلاف الليل والنهار، وإحياء الأرض، إلا أن يكون نبياً يتلقى الوحي من الله العليم الخبير، فهذا الربط يحتاج إلي بحث علمي دقيق، ولا يمكن لبشر أن يقوم به في زمن نزول القُرآن، ولذا وجب علي كل منصف أن يُقر بأن هذا القُرآن هو تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العُلى.
اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك، وما كان من خطأ أو سهوٍ، أو زلل، أو نسيان، فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.
د. محمود عبدالله نجا
كلية طب، جامعة المنصورة، مصر
قال كثير من العلماء أن كلمة (جميعاً) في آية البقرة (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو بكل شيء عليم)، تشمل كل ما في الأرض حتى النبات والحيوان، وأن العطف بثم في هذه الآية يشير لخلق الأرض قبل السماء وشبهوا ذلك بأبنية الدنيا نبني أسفلها قبل أعلاها. وربما شجعهم على هذا القول حديث التُربة في صحيح مُسلم، والذي قال فيه بخلق الشجر يوم الإثنين وخلق النور يوم الأربع.
ولكن هذا القول تسبب في زماننا في إشكال علمي لم ينتبه له السلف، فمعلوم أن خلق النجوم ومنها الشمس سابق لخلق الأرض، وأن النبات يحتاج لطاقة الشمس وتتابع الليل والنهار من أجل عملية البناء الضوئي، فكيف يمكن القول بخلق النبات على الأرض قبل خلق السماء بشمسها ونجومها وحدوث دورة تعاقب الليل والنهار؟!. وهل يُعقل أن القرآن لم يذكر أهمية ضوء الشمس وتتابع الليل والنهار لإنبات النبات؟!.
فأقول وبالله التوفيق، لا يُعقل أن يختم الله آية البقرة السابقة بقوله (والله بكل شيء عليم) ثم يخالف العلم اليقيني، فيجعل خلق النبات قبل خلق السماوات بشموسها وأجرامها، وقبل تتابع الليل والنهار، فحاجة النبات للشمس وتتابع الليل والنهار حقيقة علمية بل قانون لا سبيل لإنكاره. والقرآن قد ذكر هذه الحقيقة بوضوح شديد في أكثر من موضع، فوافق العلم في أهمية الضوء للنبات، ولذا فالخطأ ليس في القُرآن، ولكن في فهم بعض أهل العلم لآية البقرة، مع الأخذ في الإعتبار أن حديث التُربة في صحيح مسلم قد ضعفه كثير من أهل العلم وعلى رأسهم البخاري، فليس بحُجة لإثبات خلق النبات قبل النور (الضوء)، وإليكم التفصيل.
■ هل إتفق العلماء على خلق الأرض وما فيها قبل السماء؟
ينبغي أن ننتبه إلى أن آية البقرة (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء)، لم تُصرح بخلق الأرض قبل السماء المُزينة بالنجوم والكواكب، ولم تُصرح بخلق النبات والحيوان قبل ضوء الشمس بل هو فهم فهمه البعض من كلمة (جميعاً) ومن العطف بثم (ثم استوى الى السماء)، فظنوا أن هذه الآية تفيد ترتيب خلق الأرض والسماوات الكونية، ولكن هذا فهم البشر، وليس بصريح النص، ولا نجزم بأنه مُراد الله، فهو بحاجة لدليل وليس بدليل على مراد الله، فلو سألنا أصحاب هذا الرأي ما هي السماء في الآية، لقالوا السماء كل ما علاك فأظلك، فتحتمل أن تكون جو الأرض مثلما تحتمل أن تكون سماء الكون، والترجيح بين الفهمين بحاجة لأدلة واضحة، وهو ما لم يقُم به أصحاب هذا الرأي، ونفس الكلام يُقال عند الإستدلال بآية فُصلت (الذي خلق الأرض في يومين.......ثم استوى إلى السماء وهي دخان ......الآيات)، لإثبات خلق الأرض والنبات قبل خلق السماء والشمس.
ومن المعلوم أنه لم يحدث أن إتفق العلماء على القول بخلق الأرض قبل السماء، ولذا فأنا لستُ أول من يرفض القول بخلق الأرض والنبات والحيوان قبل خلق السماوات، فقد سبقني بعض أهل العلم وعلى رأسهم الطبري، وأبوحيان، والقرطبي، والطاهر ابن عاشور، فأرجو ألا يتهمني أحد بإتباع الهوى، وحب الظهور بمخالفة السلف، فقد خالفهم من هم أعلم مني. وبعد كثير بحث وتدبر لآيات الله أرى والعلم عند الله أن الرأي بتقديم خلق السماء على الأرض، والنبات على النور (الضوء)، هو الرأي الأكثر دقة، وله شواهد قوية، وما عملي في هذا المقال إلا الإنتصار لهذا الرأي بجمع ما تبين لي من أدلة جديدة لإزالة الإختلاف بين القُرآن والعلم.
■ ما هو الترتيب الصحيح لخلق السماوات والأرض، وكيف نفهم معنى السماء المذكورة بعد الأرض في آية البقرة، وآية فُصلت؟
أرى من وجهة نظري القاصرة أن السماء المذكورة بعد الأرض في آية البقرة (خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء)، وفي آية فُصلت (خلق الأرض في يومين...... ثم استوى إلى السماء وهي دُخان.....الآيات)، هي السماء الجوية للأرض وليست السماء الكونية، فكل سبع سماوات في القُرآن تشير للسماء الكونية التي تحوي النجوم والكواكب، إلا في آية البقرة، وآية فُصلت فتُشيران للسماء الجوية للأرض (الغلاف الجوي) والتي نشأت بالفعل من دُخان الأرض، وقد سبق ناقشت ترتيب خلق السماوات والأرض، والمقصود بسماوات فُصلت الدُخانية والفرق بينها وبين سماوات النازعات المبنية في البحثين التاليين، فأرجو الإطلاع عليهما:
١. ترتيب خلق السماوات والأرض بين القُرآن والعلم، وبيان خطأ تفسير سماء فُصلت الدُخانية بالغبار الكوني.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com
٢. ما أدين لله به في سماء فصلت الدُخانية، وسماء النازعات المبنية.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com
■ هل حديث التُربة يُثبت خلق النبات قبل النور؟
يُعتبر حديث التُربة في صحيح مُسلم (خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة)، هو النص الوحيد في القُرآن والسُنة الذي صرح بخلق الأرض والنبات قبل ضوء الشموس، في مُشابهة واضحة لما ذكره سفر التكوين في التوراة (العهد القديم)، ولله الحمد لم يقُم المسلمون في زماننا برفض الحديث بحجة مخالفة متنه للعلم الحديث، فيتهمنا المخالفون بالتلاعب بعلم الحديث، فالحديث قد ضعفه كثير من قُدماء أهل العلم، ومنهم البخاري، ويحى إبن معين، وإبن تيمية، وغيرهم كثير، وقال أهل العلم هذا الحديث من رواية كعب الأحبار وألفاظه توافق ما عند اليهود، والنصارى الذين قالوا بخلق العشب والبقل والشجر قبل خلق الشمس والضوء.
■ إثبات أن القُرآن قال بخلق النبات بعد تعاقب الليل والنهار.
1. قال تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} الأعراف54.
والآية صريحة في أن الليل لم يُغشي النهار إلا بعد خلق السماوات والأرض، فالأرض لم تعرف تعاقب الليل والنهار إلا بعد بناء السماوات الكونية، وتسويتها على صورتها النهائية، ولذلك تفصيل في الدليل الربع.
2. قال تعالي {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }الجاثية5.
الآية فيها دليل على أهمية الليل والنهار لعملية الإنبات، فقد جعل الله إحياء الأرض بالرزق النازل من السماء، وقدم عليه ذكر عُنصر آخر لم يكن معلوم في زمن النبي صلي الله عليه و سلم، له أهمية خاصة في إحياء الأرض وإنبات النبات، وهو اختلاف الليل والنهار، قال الشوكاني في فتح القدير ( قوله { وما أنزل الله من السماء من رزق } معطوف على إختلاف الليل و النهار، والرزق المطر، ومنفعة رزق السماء للنبات معطوفة علي منفعة اختلاف الليل و النهار، و لا تتم إلا به، ولذا ربط الله بينهما (انتهى بإختصار).
3. ربما قال قائل لعل هذا الربط السابق بين تعاقب الليل والنهار هو من قبيل الصُدفة، ولعل الآية لم تقصد الربط بين اختلاف الليل و النهار و مسألة إنبات النبات !!!
فأقول وبالله التوفيق، لو كان صُدفة لما جاء في القرآن إلا مرة واحدة، ولكن هذا الربط تكرر أيضاً في آية البقرة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وبث فيها من كل دابة}.
فقدم الله في هذه الآية أيضاً ذكر إختلاف الليل والنهار على ذكر إنزال الماء وإحياء الأرض بعد موتها ثم بث الدواب، فبدون الشمس وتعاقب الليل والنهار لن يكون هناك إنبات، لحاجة النبات لعملية البناء ضوئي للحصول على الطاقة اللازمة لجميع عملياته الحيوية، وباقي دواب الأرض تعتمد على النبات كمصدر أساسي للطاقة حيث لا يستطيع الحيوان أخذ طاقته من الشمس مباشرة وهذا أمر معلوم في السلسلة الغذائية.
4. واليكم الدليل الفصل على أن اخراج نبات الأرض لم يتم إلا بعد خلق الليل والنهار، وخلق السماوات بأجرامها، وذلك في سورة النازعات (ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا).
والآيات صريحة في أن خلق الليل سبق خلق النهار، وأن الأرض لم تعرف تعاقب الليل والنهار إلا بعد إتمام بناء السماوات الكونية، وتسويتها على صورتها النهائية، وإخراج ضُحاها (ضُحى شموسها ونجومها) وذلك بعد أن أغطش الله ليلها، فالظلمة هي الأصل في الكون، والنهار أمر عارض عند تعرض الأرض لضُحى السماء، وأحد أنواع ضحى السماء هو ضحى الشمس التي تخص أرضنا، قال الله (والشمس وضحاها). ولعل السبب في تقديم ذكر الليل على النهار في القرآن يعود لأسبقية إغطاش ليل السماء قبل خلق ضُحاها كما ذكرت آيات النازعات، والله أعلم. ثم صرحت هذه الآيات بدحو الأرض بعد إخراج ضُحى السماء، ودحو الأرض بنص الآية هو إخراج ماءها ومرعاها، ومرعاها هو النبات الذي ترعى عليه الحيوانات ويأكله الإنسان.
■ كيف نفهم آية البقرة (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) إذا لم يكن بها خلق النبات والحيوان؟؟؟
حين نريد تفسير آية البقرة (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى الى السماء)، فلابد أن نعلم بأن ألفاظها المُجملة تم تفصيلها في آيات سورة فُصلت (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).
وعند مُقابلة فهم آيات فُصلت بآية البقرة سيتبين لنا الآتي:
1. خلق الأرض في يومين في آيات فُصلت، هي مرحلة تسبق خلق ما في الأرض جميعاً في آية البقرة.
2. خلق الله للرواسي والأقوات في آيات فُصلت، يقابل خلق ما في الأرض جميعاً في آية البقرة.
3. استواء الله للسماء وهي دخان فقضاهن سبع سماوات في آيات فُصلت، يقابل استواء الله للسماء فسواهن سبع سماوات في آية البقرة.
وعليه فمعنى (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) في آية البقرة يفسره خلق الرواسي والأقوات في آيات فُصلت، فبدون الرواسي والأقوات لن يكون هناك وجود لنبات، أو حيوان، أو إنسان، فقشرة الأرض الترابية، وجبالها هي أقوات النبات، وبالتبعية تكون قوت للحيوان، والإنسان.
فقول الله (خلق لكم ما في الأرض جميعا)، يعني خلق جميع عناصر الأرض والغلاف الجوي التي تصلح لخلق وإنبات النبات، وخلق ومعيشة الحيوان، وخلق ومعيشة الإنسان، فكأن الله خلق لنا جميع ما في الأرض باعتبار خلق قوت كل شيء سوف يحيا عليها. ويؤكد صحة هذا الفهم ما رأيناه من خلق النبات (المرعى) وبث الدواب بعد إكتمال خلق السماء المبنية في أكثر من موضع في القرآن، وبذلك يستقيم الجمع بين كافة آيات القرآن دون حدوث تعارض، والله أعلم.
■ خلاصة ما سبق
مما سبق يتبين لنا أن القُرآن خالف التوراة في ذكر ترتيب خلق النبات والنور (الضوء)، ووافق العلم الحديث في ذكر خلق النبات بعد ضوء الشمس، وفي ذكر أهمية تعاقب الليل والنهار لعملية الإنبات. ولا يمكن لأي عقل مهما أوتي من الذكاء، وقوة الملاحظة في زمن نزول القُرآن أن يربط هذا الربط الدقيق بين إختلاف الليل والنهار، وإحياء الأرض، إلا أن يكون نبياً يتلقى الوحي من الله العليم الخبير، فهذا الربط يحتاج إلي بحث علمي دقيق، ولا يمكن لبشر أن يقوم به في زمن نزول القُرآن، ولذا وجب علي كل منصف أن يُقر بأن هذا القُرآن هو تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العُلى.
اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك، وما كان من خطأ أو سهوٍ، أو زلل، أو نسيان، فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.
د. محمود عبدالله نجا
كلية طب، جامعة المنصورة، مصر