أبومجاهدالعبيدي1
New member
- إنضم
- 02/04/2003
- المشاركات
- 1,760
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
- الإقامة
- السعودية
- الموقع الالكتروني
- www.tafsir.org
قال ابن القيم – رحمه الله - : ( قال تعالى : ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ ( الأنعام : 27-28 )
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية ، وما أوردوا ، فراجع أقوالهم تجدها لا تشفي عليلاً ، ولا تروي غليلاً .
ومعناها أجل وأعظم مما فسروا به ، ولم يتفطنوا لوجه الإضراب بـ"بل" ، ولا للأمر الذي بدا لهم وكانوا يخفونه ، وظنوا أن الذي بدا لهم العذاب ؛ فلما لم يروا ذلك ملتئماً مع قوله : ﴿ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ قدّروا مضافاً محذوفاً ، وهو : خبر ما كانوا يخفون من قبل([1]) ، فدخل عليهم أمر أخر لا جواب لهم عنه ، وهو أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم ، بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه . ولما علموا أن هذا وارد عليهم قالوا : إن القوم في بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوا وقالوا :﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾(الأنعام: من الآية23) ، فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذي أخفوه .
قال الواحدي : وعلى هذا أهل التفسير. ([2])
ولم يصنع أرباب هذا القول شيئاً ؛ فإن السياق ، والإضراب بـ"بل" ، والإخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وقولهم : "والله ربنا ما كنا مشركين " لا يلتئم بهذا الذي ذكروه ، فتأمله .
وقالت طائفة منهم الزجاج : بل بدا للأتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث .([3])
وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير ، وفيه من التكلف ما ليس بخاف .
وأجود من هذا ما فهمه المبرد من الآية ، قال : كأن كفرهم لم يكن بادياً لهم إذ خفيت عليهم مضرته .([4]) ومعنى كلامه : أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ، ووباله فكأنه كان خفياً عنهم لم تظهر لهم حقيقته ، فلما عاينوا العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره .
قال : وهذا كما تقول لمن كنت حدثته في أمر قبل : وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك ، وقد كان ظاهراً له قبل هذا .
ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذي كانوا ينادون به على رؤوس الأشهاد ويدعون إليه كل حاضر وباد ، بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم ، ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد ، وقَتْلَ النفوس ، والسعيَ في الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك لجهله بسوء عاقبته ، وخفائها عليه .
فمعنى الآية - والله أعلم بما أراد من كلامه - : أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها ، وعلموا أنهم داخلوها تمنّوا أنهم يردون إلى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ، ولا يكذبون رسله ؛ فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك ، وأنهم ليس في طبائعهم وسجاياهم الإيمان ، بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب ، وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله ، وأخبر أنهم كاذبون في زعمهم أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا .
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبيَّن معنى الإضراب بـ"بل" ، وتبين معنى الذي بدا لهم ، والذي كانوا يخفونه ، والحامل لهم على قولهم : ﴿ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ﴾ فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا في الدنيا على باطل ، وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ، ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم ، بل تواصوا بكتمانه ؛ فلم يكن الحامل لهم على تمني الرجوع والإيمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل ، فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه ، وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل ، وأن الرسل على الحق ، فعاينوا ذلك عياناً بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه ، فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالإيمان ، ولعادوا إلى الكفر والتكذيب ؛ فإنهم لم يتمنوا الإيمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل ، وإنما تمنوا لما عاينوا العذاب الذي لا طاقة لهم باحتماله . وهذا كمن كان يخفي محبة شخص ومعاشرته وهو يعلم أن حبه باطل ، وأن الرشد في عدوله عنه ، فقيل له : إن اطلع عليه وليه عاقبك ، وهو يعلم ذلك ويكابر ، ويقول : بل محبته ومعاشرته هي الصواب ، فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة ، تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك ، وفي قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاودة بعد معاينة العقوبة ، بل بعد أن مسته وأنهكته ، فظهر له عند العقوبة ما كان يخفي من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ، ولو رد لعاد لما نهى عنه .
وتأمل مطابقة الإضراب لهذا المعنى ، وهو نفي قولهم : إنا لو رددنا لآمنا وصدقنا ، لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق . أي : ليس كذلك ، بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه ، فلم يظهر لكم شيء لتكونوا عالمين به لتعذروا ، بل ظهر لكم ما كان معلوماً وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه . والله أعلم .)([5])
الدراسة :
ذكر ابن القيم في كلامه السابق أربعة أقوال في تفسير قول الله جل وعلا : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ غير القول الذي ذهب إليه ، وهي :
القول الأول : أن الذي بدا لهم : العذابُ . وتقدير الآية : بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون من قبل من أعمالهم السيئة في الدنيا .
الثاني : أن المراد : ظهر لهم جزاء ما كانوا يخفونه من الشرك يوم القيامة عندما يقولون – كما أخبر الله عنهم - : ﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ .
الثالث : قول الزجاج : بل بدا للأتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث والنشور .
والقول الرابع : قول المبرد : بدا لهم وبالُ عقائدهم وأعمالهم ، وسوءُ عاقبتها ؛ وذلك لأن كفرهم ما كان بادياً ظاهراً لهم ؛ لأن مضار كفرهم كانت خفية ، فلما ظهرت يوم القيامة لا جرم قال الله تعالى: ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ .
وقد حكم ابن القيم على الأقوال الثلاثة الأولى بما يدل على عدم قبوله لها ، فذكر أن القائلين بالقولين الأول والثاني لم يصنعوا شيئاً ، وحكم على القول الثالث بالتكلف . ثم ذكر أن قول المبرد أجود منه ، إلا أنه لم يرتضه كذلك .
وهذه الأقوال التي ردها ابن القيم قبلها أكثر أئمة التفسير ، ووافقه على ردها طائفة قليلة منهم ، وهذا تفصيل يبين الإجمال :
اقتصر ابن جرير على تفسير الآية بالقول الأول ، وذكر أنه قول أهل التأويل ، وأسنده إلى كلٍ من السدي ، وقتادة .([6])
وسلك ابن عطية مسلك التفصيل في بيان معنى الآية ، فقال في أول تفسيره لها : ( هذا الكلام يتضمن أنهم كانوا يخفون شيئاً ما في الدنيا ، فظهر لهم يوم القيامة ، أو ظهر لهم وباله وعاقبته ؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .) ثم بدأ في ذكر الأقوال في ذلك .
ومما قرره من نتائج :
· أن القول بأن الآية نزلت في شأن المنافقين قول لا تستقيم معه الآية في سياقها ، وفي حمل الآية عليه تكلف .
· يصح أن يكون مقصد الآية الإخبار عن هول ما لقوه ، والتعظيم لما شقوا به؛ فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغير ذلك . فكيف الظن - على هذا - بما كانوا يعلنون من كفر ونحوه .
· يصح أن يقدر الشيء الذي كانوا يخفونه في الدنيا : نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأقواله ؛ وذلك أنهم كانوا يخفون ذلك في الدنيا بأن يُحقِّروه عند من يرد عليهم ، ويصفوه بغير صفته ، ويتلقوا الناس على الطرق فيقولون لهم : هو ساحر ، هو يفرق بين الأقارب ؛ يريدون بذلك إخفاء أمره وإبطاله . فمعنى هذه الآية على هذا : بل بدا لهم يوم القيامة ما كانوا يخفونه في الدنيا من أمرك ، وصدقك ، وتحذيرك ، وإخبارك بعقاب من كفر .
· على قول الزجاج يكون الضميران في الآية ليسا لشيء واحد .([7])
وكذلك الرازي ؛ ذكر خمسة أقوال في معنى الآية : الثاني والثالث والرابع من الأقوال التي ذكرها ابن القيم رحمه الله ، والرابع : أنها في المنافقين ، والخامس : أنها في أهل الكتاب ، أي : بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحدِ نبوّة الرسول ، ونعته ، وصفته في الكتب ، والبشارةِ به ، وما كانوا يحرفونه من التوراة مما يدل على ذلك.
ولم يتعقب شيئاً منها بشيء ؛ غير أنه نص بعد ذكره لها على أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة ، وأن المقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة ، وانهتكت أستارهم . وهو معنى قول الله تعالى : ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾ (الطارق: 9) . ([8])
ولم يزد القرطبي على ما ذكره كل من ابن عطية ، والرازي ؛ إلا أنه لما ذكر قول من قال : إن المراد بالآية المنافقون علّله بقوله : ( لأن اسم الكفر مشتمل عليهم ، فعاد الضمير على بعض المذكورين .) ثم نقل قول النحاس – تعليقاً على هذا القول -: وهذا من الكلام العذب الفصيح ([9]). ولم يذكر هو شيئاً يدل على اختيار أو ترجيح ([10]).
وجاء أبوحيان ليستوعب كل الأقوال السابقة - مع زيادة إيضاح وتفصيل - ، ويضيف إليها أقوالاً أخرى ؛ كل ذلك بدون أن يذكر ترجيحاً أو اختياراً .([11])
وذكر ابن كثير ثلاثة أقوال في معنى الآية ، كل واحد منها محتمل:
الأول : بل ظهر لهم ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر ، والتكذيب ، والمعاندة ، وإن أنكروها في الدنيا ، أو في الآخرة كما قال قبله بيسير : ﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾ (الأنعام:23-24) .
الثاني : ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا ، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه ، كقوله - مخبراً عن موسى أنه قال لفرعون - : ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ ..﴾ الآية (الإسراء: من الآية102) ، وقوله تعالى - مخبراً عن فرعون وقومه - : ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾(النمل: من الآية14) . وهذا هو القول الذي قرره ابن القيم ، ورجحه .
والثالث : يحتمل أن الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس ، ويبطنون الكفر ويكون هذا إخباراً عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار ، وهم المنافقون حين يعاينون العذاب ، يظهر لهم حينئذ غبُّ ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق .
وبعد ذكره لهذه الأقوال الثلاثة بيّن معنى الإضراب بـ"بل" بقوله : ( وأما معنى الإضراب في قوله : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان ، بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه جزاء على ما كانوا عليه من الكفر ؛ فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار .) وقد فسّر ما بدا لهم في كلامه هذا بالعذاب الذي هو عاقبة كفرهم ؛ فصار هذا كالإيضاح للقول الأول الذي ذكره ، فظهور ما كانوا يخفون من الكفر والتكذيب والمعاندة في الدنيا يراد به : ظهور جزائه وعاقبته .
ولم يصرح -كسابقيه - بترجيح أو اختيار لأيّ من هذه الأقوال .([12])
وأما ابن عاشور ففسّر الآية بتفسير قريب من تفسير ابن القيم ، إلا أنه قرره بطريقة أخرى حيث قال : ( ولمّا قوبل : ﴿ بَدَا لَهُمْ ﴾ في هذه الآية بقوله : ﴿ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ ﴾ علمنا أنّ البَداء هو ظهور أمر في أنفسهم كانوا يخفونه في الدنيا ، أي : خطر لهم حينئذٍ ذلك الخاطر الذي كانوا يخفونه ، أي الذي كان يبدو لهم ، أي يخطر ببالهم وقوعه فلا يُعلنون به ، فبدا لهم الآن ، فأعلنوا به وصرّحوا مُعترفين به .
ففي الكلام احتباك ([13])، وتقديره : بل بدا لهم ما كان يبدو لهم في الدنيا فأظهروه الآن وكانوا يخفونه ؛ وذلك أنّهم كانوا يخطر لهم الإيمان لما يرون من دلائله ، أو من نصر المؤمنين فيصدّهم عنه العناد والحرص على استبقاء السيادة والأنفة من الاعتراف بفضل الرسول وبسبق المؤمنين إلى الخيرات قبلهم ، وفيهم ضعفاء القوم وعبيدهم .... وهذا التفسير يغني عن الاحتمالات التي تحيّر فيها المفسّرون وهي لا تلائم نظم الآية ، فبعضها يساعده صدرُها وبعضها يساعدُه عجزها ، وليس فيها ما يساعده جميعها. ) ([14])
وبعد هذا العرض لأقوال هؤلاء الأئمة يتبين أنهم انقسموا إلى فريقين في تفسيرهم لهذا الموضع من كلام الله عز وجل :
الفريق الأول : اقتصر أصحابه على تفسير الآية ، وذكرِ الأقوال التي تحتملها – كل حسب طريقته - ، من دون ترجيح أو اختيار . وهذا الفريق يمثله أكثر أئمة التفسير .
والفريق الثاني : فسّر الآية بقولٍ رأى أنه الصواب ، ثم حكم على الأقوال الأخرى بالضعف أو ذكر أنها لا تصلح لتفسير الآية لسبب من الأسباب التي ظهرت له . ويمثّل هذا الفريق ابن القيم ، وابن عاشور -كما هو ظاهر من تفسيرهم للآية - .
وممن سلك طريقة أصحاب الفريق الثاني : أبو السعود ؛ فقد ذكر أن الذي بدا لهؤلاء هو : النار ، وأن المراد بإخفائها : تكذيبهم بها.
وهذا نص كلامه – مع اختصار - : ( ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ إضراب عما ينبىء عنه التمني من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها ، أي : ليس ذلك عن عزيمة صادقة ناشئة عن رغبة في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به ، بل لأنه ظهر لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من الداهية الدهياء ، وظنوا أنهم مواقعوها ؛ فلخوفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا .
والمراد بها : النار التي وقفوا عليها ؛ إذ هي التي سيق الكلام لتهويل أمرها ، والتعجيب من فظاعة حال الموقوفين عليها .
وبإخفائها : تكذيبهم بها ؛ فإن التكذيب بالشيء كفر به وإخفاء له لا محالة ....
هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الكريم .)
ثم ذكر أن الأقوال التي ذكرها المفسرون في تفسير الآية لا تخلو من اعتساف واختلال ، وأنه لا سبيل إلى شيء منها هنا .
قال : ( فبعد الإغضاء عما في كل منها من الاعتساف والاختلال ، لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً ؛ لما عرفت من أن سوق النظم الشريف لتهويل أمر النار ، وتفظيع حال أهلها وقد ذُكر وقوفهم عليها ، وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحبط به الوصف ، ورُتب عليه تمنيهم المذكور بالفاء القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها ؛ فإسقاط النار بعد ذلك من تلك السببية - وهي في نفسها أدهى الدواهي ، وأزجر الزواجر -وإسنادها إلى شيء من الأمور المذكورة - التي دونها في الهول والزجر ، مع عدم جريان ذكرها ثمة - أمرٌ يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله .) ثم خص أحد هذه الأقوال برد خاص ، فقال : ( وأما ما قيل من أن المراد : جزاء ما كانوا يخفون ؛ فمن قبيل دخول البيوت من ظهورها وأبوابها مفتوحة ؛ فتأمل . )([15])
وللقاسمي - رحمه الله- تعليق على ما قاله أبو السعود يصلح مضمونه أن يكون تعليقاً على أقوال أصحاب الفريق الثاني ؛ فقد قال : ( لا ريب في بلاغة ما قرره ونفاسته ، لولا تكلفه حمل الإخفاء على ما ذكره ، مما هو غير ظاهر فيه ، وليس له نظائر في التنزيل الكريم ؛ فمجازيته حينئذ من قبيل المعمى([16]) . وفي الوجوه الأول إبقاؤه على حقيقته بلا تكلف ، وشموله لها غير بعيد ؛ لأن في كل منها ما يؤيده ...
غاية الأمر أن ما قرره وجه منها بديع ، وأما كونه المراد لا غير ؛ فدونه خرط القتاد([17]) – والله أعلم بأسرار كتابه - .)([18])
وتعليقاً على تضعيف ابن القيم للأقوال التي ذكرها يقال :
القول الذي أشار – رحمه الله – إلى ضعفه ، وإلى أنه لا ينبغي تفسير الآية به – وهو أن المعنى : بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون – لا ينبغي تضعيفه ، ولا وجه لرده ؛ لأنه قد ورد ما يدل عليه في كتاب الله تبارك وتعالى ، وذلك في قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ (الزمر: 47-48)
( فقوله هنا : ﴿ وَبَدَا لَهُمْ ﴾ أي : ظهر لهم سيئات ما كسبوا ، أي جزاء سيئاتهم التي اكتسبوها في الدنيا ؛ فالظاهر أنه أطلق السيئات هنا مراداً بها جزاؤها . ونظيره من القرآن قوله تعالى : ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ (الشورى: من الآية40) .)([19])
وأكثر ما يقال عنه : إنه خلاف الأولى ؛ لأنه يحتاج إلى تقدير محذوف ، والأصل عدم الحذف .
وقول ابن القيم – متعقباً القائلين بأن الذي كانوا يخفونه هو ذنوبهم - : ( فدخل عليهم أمر أخر لا جواب لهم عنه ، وهو أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم ، بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه .) غير مسلّم ؛ لأن الذنوب أعم من الكفر ، فللكفار ذنوب كثيرة كانوا يخفونها ، منها ما هو كفر ، ومنها دون ذلك . وقد دلت نصوص قرآنية على أن الجوارح تشهد عليهم يوم القيامة ، وينطقها الله U لتخبر بما فعلوه مما أخفوه ، وظنوا أن الله – سبحانه – لا يعلمه . قال تعالى : ﴿
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ( فصلت : 19-22 ) .
ثم إن الأمر كما ذكر ابن عطية : إن مقصد الآية الإخبار عن هول ما لقوه ، والتعظيم لما شقوا به ؛ فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغير ذلك . فكيف الظن - على هذا - بما كانوا يعلنون من كفر ونحوه ؟!.
وأما تضعيفه لقول الزجاج فصحيح ؛ لأن الضميرين في الآية – على هذا القول - ليسا لشيء واحد ، وهذا خلاف ظاهر الآية ، كما أنه مخالف للأصل في مرجع الضمائر المتعاقبة ، وهو أن يتحد مرجعها .
والأقوال التي دلت القرائن على ضعفها – إضافة إلى قول الزجاج - هي :
1. القول بأنها نزلت في أهل الكتاب ؛ لأن سياق الآية لا يساعد عليه .
2. القول بأنها نزلت في المنافقين ؛ لما ذكره ابن عطية – كما سبق - .
النتيجة :
التفسير الذي فسّر به ابن القيم – رحمه الله - قولَ الله جل وعلا : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ يعد من بدائع التفسير حقّاً ، غير أنّ ما صدّر به كلامه - من تقليلٍ من شأن ما ذكره المفسرون ، وتعميمه الحكم على أقوالهم بأنها لا تشفي عليلاً ، ولا تروي غليلاً – فيه نوع مبالغة .
ولعل مسلك الفريق الأول – الذي عليه أئمة التفسير - هو الأقرب إلى الصواب هنا ؛ لأن اللفظ يحتمل وجوهاً متعددة وقول الرازي يصلح أن يكون نتيجة لهذه الدراسة ، وهو : أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة ، وأن المقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة ، وانهتكت أستارهم .
وإذا استُثْنِيت الأقوال التي سبق التنبيه على ضعفها ؛ تبقى الأقوال الأخرى محتملة ، واللفظ يشملها ، فمَن تبيّن له رجحان أحدها فله اختياره ، غير أنه لا ينبغي إسقاط بقيتها ، وردها بلا حجة مقنعة . والأمر هنا كما قال القاسمي في تعليقه السابق على ما ذكره أبو السعود ، عندما قصر معنى الآية على القول الذي ظهر له رجحانه .
وظهر لي أن قول الله جل وعلا هنا : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ يمكن تفسيره بقول الله تعالى عن المجرمين : ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً ﴾(الكهف: من الآية49) فيكون بُدو أعمالهم التي كانوا يخفونها لهم بمعنى : ظهورها لهم في الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . وإذا بدت لهم الأعمال التي كانوا يخفونها فغيرها من باب أولى . والله أعلم .
([1] ) هكذا في النسخ التي بين يدي . والذي في كتب التفسير أن المحذوف هو جزاء وعاقبة ، والتقدير : بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون من قبل وعاقبته . انظر المحرر الوجيز لابن عطية 5/171 .
([2] ) لم أجده في تفسيريه الوجيز والوسيط ، ولعله في تفسيره البسيط .
([3] ) انظر قوله في معاني القرآن وإعرابه 2/240 . وقد ذكره ابن القيم بتصرف في العبارة.
([4] ) لم أعثر على هذا القول للمبرد فيما اطلعت عليه من كتبه ، وقد ذكر المفسرون عنه أنه قال : بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون . انظر معالم التنزيل للبغوي 3/138 ، وزاد المسير لابن الجوزي 3/23 . وقول المبرد هذا الذي نقله ابن القيم ذكره الرازي في تفسيره الكبير 12/160 .
([5] ) عِدَةُ الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم ص298-300 ، وبدائع التفسير 2/145-147 .
([6] ) انظر جامع البيان لابن جرير 11/321-322 .
([7] ) انظر المحرر الوجيز لابن عطية 5/171-172 .
([8] ) انظر التفسير الكبير للرازي 12/160 .
([9] ) انظر إعراب القرآن للنحاس 2/62 ، وعبارته : ( وهذا من كلام العرب الفصيح .)
([10] ) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/410 .
([11] ) انظر البحر المحيط لأبي حيان 4/477-478 .
([12] ) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/1291 .
([13] ) الاحتباك : هو أن يجتمع في الكلام متقابلان ، و يحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه . انظر التعريفات للجرجاني ص29-30 ، والتحبير في علم التفسير للسيوطي ص473-477 النوع الثالث والسبعين .
([14] ) التحرير والتنوير لابن عاشور 7/185-186 باختصار .
([15] ) إرشاد العقل السليم لأبي السعود 3/123-124 .
([16] ) المعمى : هو تضمين اسم الحبيب ، أو شيء آخر في بيت شعر إما بتصحيف ، أو قلب ، أو حساب ، أو غير ذلك انظر التعريفات للجرجاني ص233 .
([17] ) "دون ذلك خرط القتاد" مثلٌ يضرب للأمر دونه مانع . والخَرْطُ : قشر الورق عن الشجرة اجتذاباً بالفك . والقَتَادُ : شجر له شوك أمثال الإبر . انظر مجمع الأمثال للميداني 1/327 .
([18] ) محاسن التأويل للقاسمي 6/497 باختصار يسير جداً .
([19] ) أضواء البيان للشنقيطي 7/59 ، وقد فسّر الآية بمثل هذا التفسير كل من القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 15/266 ، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم 7/3044 ، وغيرهم .
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية ، وما أوردوا ، فراجع أقوالهم تجدها لا تشفي عليلاً ، ولا تروي غليلاً .
ومعناها أجل وأعظم مما فسروا به ، ولم يتفطنوا لوجه الإضراب بـ"بل" ، ولا للأمر الذي بدا لهم وكانوا يخفونه ، وظنوا أن الذي بدا لهم العذاب ؛ فلما لم يروا ذلك ملتئماً مع قوله : ﴿ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ قدّروا مضافاً محذوفاً ، وهو : خبر ما كانوا يخفون من قبل([1]) ، فدخل عليهم أمر أخر لا جواب لهم عنه ، وهو أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم ، بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه . ولما علموا أن هذا وارد عليهم قالوا : إن القوم في بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوا وقالوا :﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾(الأنعام: من الآية23) ، فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذي أخفوه .
قال الواحدي : وعلى هذا أهل التفسير. ([2])
ولم يصنع أرباب هذا القول شيئاً ؛ فإن السياق ، والإضراب بـ"بل" ، والإخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وقولهم : "والله ربنا ما كنا مشركين " لا يلتئم بهذا الذي ذكروه ، فتأمله .
وقالت طائفة منهم الزجاج : بل بدا للأتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث .([3])
وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير ، وفيه من التكلف ما ليس بخاف .
وأجود من هذا ما فهمه المبرد من الآية ، قال : كأن كفرهم لم يكن بادياً لهم إذ خفيت عليهم مضرته .([4]) ومعنى كلامه : أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ، ووباله فكأنه كان خفياً عنهم لم تظهر لهم حقيقته ، فلما عاينوا العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره .
قال : وهذا كما تقول لمن كنت حدثته في أمر قبل : وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك ، وقد كان ظاهراً له قبل هذا .
ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذي كانوا ينادون به على رؤوس الأشهاد ويدعون إليه كل حاضر وباد ، بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم ، ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد ، وقَتْلَ النفوس ، والسعيَ في الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك لجهله بسوء عاقبته ، وخفائها عليه .
فمعنى الآية - والله أعلم بما أراد من كلامه - : أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها ، وعلموا أنهم داخلوها تمنّوا أنهم يردون إلى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ، ولا يكذبون رسله ؛ فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك ، وأنهم ليس في طبائعهم وسجاياهم الإيمان ، بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب ، وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله ، وأخبر أنهم كاذبون في زعمهم أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا .
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبيَّن معنى الإضراب بـ"بل" ، وتبين معنى الذي بدا لهم ، والذي كانوا يخفونه ، والحامل لهم على قولهم : ﴿ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ﴾ فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا في الدنيا على باطل ، وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ، ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم ، بل تواصوا بكتمانه ؛ فلم يكن الحامل لهم على تمني الرجوع والإيمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل ، فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه ، وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل ، وأن الرسل على الحق ، فعاينوا ذلك عياناً بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه ، فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالإيمان ، ولعادوا إلى الكفر والتكذيب ؛ فإنهم لم يتمنوا الإيمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل ، وإنما تمنوا لما عاينوا العذاب الذي لا طاقة لهم باحتماله . وهذا كمن كان يخفي محبة شخص ومعاشرته وهو يعلم أن حبه باطل ، وأن الرشد في عدوله عنه ، فقيل له : إن اطلع عليه وليه عاقبك ، وهو يعلم ذلك ويكابر ، ويقول : بل محبته ومعاشرته هي الصواب ، فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة ، تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك ، وفي قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاودة بعد معاينة العقوبة ، بل بعد أن مسته وأنهكته ، فظهر له عند العقوبة ما كان يخفي من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ، ولو رد لعاد لما نهى عنه .
وتأمل مطابقة الإضراب لهذا المعنى ، وهو نفي قولهم : إنا لو رددنا لآمنا وصدقنا ، لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق . أي : ليس كذلك ، بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه ، فلم يظهر لكم شيء لتكونوا عالمين به لتعذروا ، بل ظهر لكم ما كان معلوماً وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه . والله أعلم .)([5])
الدراسة :
ذكر ابن القيم في كلامه السابق أربعة أقوال في تفسير قول الله جل وعلا : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ غير القول الذي ذهب إليه ، وهي :
القول الأول : أن الذي بدا لهم : العذابُ . وتقدير الآية : بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون من قبل من أعمالهم السيئة في الدنيا .
الثاني : أن المراد : ظهر لهم جزاء ما كانوا يخفونه من الشرك يوم القيامة عندما يقولون – كما أخبر الله عنهم - : ﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ .
الثالث : قول الزجاج : بل بدا للأتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث والنشور .
والقول الرابع : قول المبرد : بدا لهم وبالُ عقائدهم وأعمالهم ، وسوءُ عاقبتها ؛ وذلك لأن كفرهم ما كان بادياً ظاهراً لهم ؛ لأن مضار كفرهم كانت خفية ، فلما ظهرت يوم القيامة لا جرم قال الله تعالى: ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ .
وقد حكم ابن القيم على الأقوال الثلاثة الأولى بما يدل على عدم قبوله لها ، فذكر أن القائلين بالقولين الأول والثاني لم يصنعوا شيئاً ، وحكم على القول الثالث بالتكلف . ثم ذكر أن قول المبرد أجود منه ، إلا أنه لم يرتضه كذلك .
وهذه الأقوال التي ردها ابن القيم قبلها أكثر أئمة التفسير ، ووافقه على ردها طائفة قليلة منهم ، وهذا تفصيل يبين الإجمال :
اقتصر ابن جرير على تفسير الآية بالقول الأول ، وذكر أنه قول أهل التأويل ، وأسنده إلى كلٍ من السدي ، وقتادة .([6])
وسلك ابن عطية مسلك التفصيل في بيان معنى الآية ، فقال في أول تفسيره لها : ( هذا الكلام يتضمن أنهم كانوا يخفون شيئاً ما في الدنيا ، فظهر لهم يوم القيامة ، أو ظهر لهم وباله وعاقبته ؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .) ثم بدأ في ذكر الأقوال في ذلك .
ومما قرره من نتائج :
· أن القول بأن الآية نزلت في شأن المنافقين قول لا تستقيم معه الآية في سياقها ، وفي حمل الآية عليه تكلف .
· يصح أن يكون مقصد الآية الإخبار عن هول ما لقوه ، والتعظيم لما شقوا به؛ فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغير ذلك . فكيف الظن - على هذا - بما كانوا يعلنون من كفر ونحوه .
· يصح أن يقدر الشيء الذي كانوا يخفونه في الدنيا : نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأقواله ؛ وذلك أنهم كانوا يخفون ذلك في الدنيا بأن يُحقِّروه عند من يرد عليهم ، ويصفوه بغير صفته ، ويتلقوا الناس على الطرق فيقولون لهم : هو ساحر ، هو يفرق بين الأقارب ؛ يريدون بذلك إخفاء أمره وإبطاله . فمعنى هذه الآية على هذا : بل بدا لهم يوم القيامة ما كانوا يخفونه في الدنيا من أمرك ، وصدقك ، وتحذيرك ، وإخبارك بعقاب من كفر .
· على قول الزجاج يكون الضميران في الآية ليسا لشيء واحد .([7])
وكذلك الرازي ؛ ذكر خمسة أقوال في معنى الآية : الثاني والثالث والرابع من الأقوال التي ذكرها ابن القيم رحمه الله ، والرابع : أنها في المنافقين ، والخامس : أنها في أهل الكتاب ، أي : بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحدِ نبوّة الرسول ، ونعته ، وصفته في الكتب ، والبشارةِ به ، وما كانوا يحرفونه من التوراة مما يدل على ذلك.
ولم يتعقب شيئاً منها بشيء ؛ غير أنه نص بعد ذكره لها على أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة ، وأن المقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة ، وانهتكت أستارهم . وهو معنى قول الله تعالى : ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾ (الطارق: 9) . ([8])
ولم يزد القرطبي على ما ذكره كل من ابن عطية ، والرازي ؛ إلا أنه لما ذكر قول من قال : إن المراد بالآية المنافقون علّله بقوله : ( لأن اسم الكفر مشتمل عليهم ، فعاد الضمير على بعض المذكورين .) ثم نقل قول النحاس – تعليقاً على هذا القول -: وهذا من الكلام العذب الفصيح ([9]). ولم يذكر هو شيئاً يدل على اختيار أو ترجيح ([10]).
وجاء أبوحيان ليستوعب كل الأقوال السابقة - مع زيادة إيضاح وتفصيل - ، ويضيف إليها أقوالاً أخرى ؛ كل ذلك بدون أن يذكر ترجيحاً أو اختياراً .([11])
وذكر ابن كثير ثلاثة أقوال في معنى الآية ، كل واحد منها محتمل:
الأول : بل ظهر لهم ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر ، والتكذيب ، والمعاندة ، وإن أنكروها في الدنيا ، أو في الآخرة كما قال قبله بيسير : ﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾ (الأنعام:23-24) .
الثاني : ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا ، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه ، كقوله - مخبراً عن موسى أنه قال لفرعون - : ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ ..﴾ الآية (الإسراء: من الآية102) ، وقوله تعالى - مخبراً عن فرعون وقومه - : ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾(النمل: من الآية14) . وهذا هو القول الذي قرره ابن القيم ، ورجحه .
والثالث : يحتمل أن الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس ، ويبطنون الكفر ويكون هذا إخباراً عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار ، وهم المنافقون حين يعاينون العذاب ، يظهر لهم حينئذ غبُّ ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق .
وبعد ذكره لهذه الأقوال الثلاثة بيّن معنى الإضراب بـ"بل" بقوله : ( وأما معنى الإضراب في قوله : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان ، بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه جزاء على ما كانوا عليه من الكفر ؛ فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار .) وقد فسّر ما بدا لهم في كلامه هذا بالعذاب الذي هو عاقبة كفرهم ؛ فصار هذا كالإيضاح للقول الأول الذي ذكره ، فظهور ما كانوا يخفون من الكفر والتكذيب والمعاندة في الدنيا يراد به : ظهور جزائه وعاقبته .
ولم يصرح -كسابقيه - بترجيح أو اختيار لأيّ من هذه الأقوال .([12])
وأما ابن عاشور ففسّر الآية بتفسير قريب من تفسير ابن القيم ، إلا أنه قرره بطريقة أخرى حيث قال : ( ولمّا قوبل : ﴿ بَدَا لَهُمْ ﴾ في هذه الآية بقوله : ﴿ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ ﴾ علمنا أنّ البَداء هو ظهور أمر في أنفسهم كانوا يخفونه في الدنيا ، أي : خطر لهم حينئذٍ ذلك الخاطر الذي كانوا يخفونه ، أي الذي كان يبدو لهم ، أي يخطر ببالهم وقوعه فلا يُعلنون به ، فبدا لهم الآن ، فأعلنوا به وصرّحوا مُعترفين به .
ففي الكلام احتباك ([13])، وتقديره : بل بدا لهم ما كان يبدو لهم في الدنيا فأظهروه الآن وكانوا يخفونه ؛ وذلك أنّهم كانوا يخطر لهم الإيمان لما يرون من دلائله ، أو من نصر المؤمنين فيصدّهم عنه العناد والحرص على استبقاء السيادة والأنفة من الاعتراف بفضل الرسول وبسبق المؤمنين إلى الخيرات قبلهم ، وفيهم ضعفاء القوم وعبيدهم .... وهذا التفسير يغني عن الاحتمالات التي تحيّر فيها المفسّرون وهي لا تلائم نظم الآية ، فبعضها يساعده صدرُها وبعضها يساعدُه عجزها ، وليس فيها ما يساعده جميعها. ) ([14])
وبعد هذا العرض لأقوال هؤلاء الأئمة يتبين أنهم انقسموا إلى فريقين في تفسيرهم لهذا الموضع من كلام الله عز وجل :
الفريق الأول : اقتصر أصحابه على تفسير الآية ، وذكرِ الأقوال التي تحتملها – كل حسب طريقته - ، من دون ترجيح أو اختيار . وهذا الفريق يمثله أكثر أئمة التفسير .
والفريق الثاني : فسّر الآية بقولٍ رأى أنه الصواب ، ثم حكم على الأقوال الأخرى بالضعف أو ذكر أنها لا تصلح لتفسير الآية لسبب من الأسباب التي ظهرت له . ويمثّل هذا الفريق ابن القيم ، وابن عاشور -كما هو ظاهر من تفسيرهم للآية - .
وممن سلك طريقة أصحاب الفريق الثاني : أبو السعود ؛ فقد ذكر أن الذي بدا لهؤلاء هو : النار ، وأن المراد بإخفائها : تكذيبهم بها.
وهذا نص كلامه – مع اختصار - : ( ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ إضراب عما ينبىء عنه التمني من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها ، أي : ليس ذلك عن عزيمة صادقة ناشئة عن رغبة في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به ، بل لأنه ظهر لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من الداهية الدهياء ، وظنوا أنهم مواقعوها ؛ فلخوفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا .
والمراد بها : النار التي وقفوا عليها ؛ إذ هي التي سيق الكلام لتهويل أمرها ، والتعجيب من فظاعة حال الموقوفين عليها .
وبإخفائها : تكذيبهم بها ؛ فإن التكذيب بالشيء كفر به وإخفاء له لا محالة ....
هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الكريم .)
ثم ذكر أن الأقوال التي ذكرها المفسرون في تفسير الآية لا تخلو من اعتساف واختلال ، وأنه لا سبيل إلى شيء منها هنا .
قال : ( فبعد الإغضاء عما في كل منها من الاعتساف والاختلال ، لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً ؛ لما عرفت من أن سوق النظم الشريف لتهويل أمر النار ، وتفظيع حال أهلها وقد ذُكر وقوفهم عليها ، وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحبط به الوصف ، ورُتب عليه تمنيهم المذكور بالفاء القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها ؛ فإسقاط النار بعد ذلك من تلك السببية - وهي في نفسها أدهى الدواهي ، وأزجر الزواجر -وإسنادها إلى شيء من الأمور المذكورة - التي دونها في الهول والزجر ، مع عدم جريان ذكرها ثمة - أمرٌ يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله .) ثم خص أحد هذه الأقوال برد خاص ، فقال : ( وأما ما قيل من أن المراد : جزاء ما كانوا يخفون ؛ فمن قبيل دخول البيوت من ظهورها وأبوابها مفتوحة ؛ فتأمل . )([15])
وللقاسمي - رحمه الله- تعليق على ما قاله أبو السعود يصلح مضمونه أن يكون تعليقاً على أقوال أصحاب الفريق الثاني ؛ فقد قال : ( لا ريب في بلاغة ما قرره ونفاسته ، لولا تكلفه حمل الإخفاء على ما ذكره ، مما هو غير ظاهر فيه ، وليس له نظائر في التنزيل الكريم ؛ فمجازيته حينئذ من قبيل المعمى([16]) . وفي الوجوه الأول إبقاؤه على حقيقته بلا تكلف ، وشموله لها غير بعيد ؛ لأن في كل منها ما يؤيده ...
غاية الأمر أن ما قرره وجه منها بديع ، وأما كونه المراد لا غير ؛ فدونه خرط القتاد([17]) – والله أعلم بأسرار كتابه - .)([18])
وتعليقاً على تضعيف ابن القيم للأقوال التي ذكرها يقال :
القول الذي أشار – رحمه الله – إلى ضعفه ، وإلى أنه لا ينبغي تفسير الآية به – وهو أن المعنى : بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون – لا ينبغي تضعيفه ، ولا وجه لرده ؛ لأنه قد ورد ما يدل عليه في كتاب الله تبارك وتعالى ، وذلك في قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ (الزمر: 47-48)
( فقوله هنا : ﴿ وَبَدَا لَهُمْ ﴾ أي : ظهر لهم سيئات ما كسبوا ، أي جزاء سيئاتهم التي اكتسبوها في الدنيا ؛ فالظاهر أنه أطلق السيئات هنا مراداً بها جزاؤها . ونظيره من القرآن قوله تعالى : ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ (الشورى: من الآية40) .)([19])
وأكثر ما يقال عنه : إنه خلاف الأولى ؛ لأنه يحتاج إلى تقدير محذوف ، والأصل عدم الحذف .
وقول ابن القيم – متعقباً القائلين بأن الذي كانوا يخفونه هو ذنوبهم - : ( فدخل عليهم أمر أخر لا جواب لهم عنه ، وهو أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم ، بل كانوا يظهرونه ويدعون إليه ويحاربون عليه .) غير مسلّم ؛ لأن الذنوب أعم من الكفر ، فللكفار ذنوب كثيرة كانوا يخفونها ، منها ما هو كفر ، ومنها دون ذلك . وقد دلت نصوص قرآنية على أن الجوارح تشهد عليهم يوم القيامة ، وينطقها الله U لتخبر بما فعلوه مما أخفوه ، وظنوا أن الله – سبحانه – لا يعلمه . قال تعالى : ﴿
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ( فصلت : 19-22 ) .
ثم إن الأمر كما ذكر ابن عطية : إن مقصد الآية الإخبار عن هول ما لقوه ، والتعظيم لما شقوا به ؛ فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغير ذلك . فكيف الظن - على هذا - بما كانوا يعلنون من كفر ونحوه ؟!.
وأما تضعيفه لقول الزجاج فصحيح ؛ لأن الضميرين في الآية – على هذا القول - ليسا لشيء واحد ، وهذا خلاف ظاهر الآية ، كما أنه مخالف للأصل في مرجع الضمائر المتعاقبة ، وهو أن يتحد مرجعها .
والأقوال التي دلت القرائن على ضعفها – إضافة إلى قول الزجاج - هي :
1. القول بأنها نزلت في أهل الكتاب ؛ لأن سياق الآية لا يساعد عليه .
2. القول بأنها نزلت في المنافقين ؛ لما ذكره ابن عطية – كما سبق - .
النتيجة :
التفسير الذي فسّر به ابن القيم – رحمه الله - قولَ الله جل وعلا : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ يعد من بدائع التفسير حقّاً ، غير أنّ ما صدّر به كلامه - من تقليلٍ من شأن ما ذكره المفسرون ، وتعميمه الحكم على أقوالهم بأنها لا تشفي عليلاً ، ولا تروي غليلاً – فيه نوع مبالغة .
ولعل مسلك الفريق الأول – الذي عليه أئمة التفسير - هو الأقرب إلى الصواب هنا ؛ لأن اللفظ يحتمل وجوهاً متعددة وقول الرازي يصلح أن يكون نتيجة لهذه الدراسة ، وهو : أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة ، وأن المقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة ، وانهتكت أستارهم .
وإذا استُثْنِيت الأقوال التي سبق التنبيه على ضعفها ؛ تبقى الأقوال الأخرى محتملة ، واللفظ يشملها ، فمَن تبيّن له رجحان أحدها فله اختياره ، غير أنه لا ينبغي إسقاط بقيتها ، وردها بلا حجة مقنعة . والأمر هنا كما قال القاسمي في تعليقه السابق على ما ذكره أبو السعود ، عندما قصر معنى الآية على القول الذي ظهر له رجحانه .
وظهر لي أن قول الله جل وعلا هنا : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾ يمكن تفسيره بقول الله تعالى عن المجرمين : ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً ﴾(الكهف: من الآية49) فيكون بُدو أعمالهم التي كانوا يخفونها لهم بمعنى : ظهورها لهم في الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . وإذا بدت لهم الأعمال التي كانوا يخفونها فغيرها من باب أولى . والله أعلم .
([1] ) هكذا في النسخ التي بين يدي . والذي في كتب التفسير أن المحذوف هو جزاء وعاقبة ، والتقدير : بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون من قبل وعاقبته . انظر المحرر الوجيز لابن عطية 5/171 .
([2] ) لم أجده في تفسيريه الوجيز والوسيط ، ولعله في تفسيره البسيط .
([3] ) انظر قوله في معاني القرآن وإعرابه 2/240 . وقد ذكره ابن القيم بتصرف في العبارة.
([4] ) لم أعثر على هذا القول للمبرد فيما اطلعت عليه من كتبه ، وقد ذكر المفسرون عنه أنه قال : بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون . انظر معالم التنزيل للبغوي 3/138 ، وزاد المسير لابن الجوزي 3/23 . وقول المبرد هذا الذي نقله ابن القيم ذكره الرازي في تفسيره الكبير 12/160 .
([5] ) عِدَةُ الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم ص298-300 ، وبدائع التفسير 2/145-147 .
([6] ) انظر جامع البيان لابن جرير 11/321-322 .
([7] ) انظر المحرر الوجيز لابن عطية 5/171-172 .
([8] ) انظر التفسير الكبير للرازي 12/160 .
([9] ) انظر إعراب القرآن للنحاس 2/62 ، وعبارته : ( وهذا من كلام العرب الفصيح .)
([10] ) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/410 .
([11] ) انظر البحر المحيط لأبي حيان 4/477-478 .
([12] ) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/1291 .
([13] ) الاحتباك : هو أن يجتمع في الكلام متقابلان ، و يحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه . انظر التعريفات للجرجاني ص29-30 ، والتحبير في علم التفسير للسيوطي ص473-477 النوع الثالث والسبعين .
([14] ) التحرير والتنوير لابن عاشور 7/185-186 باختصار .
([15] ) إرشاد العقل السليم لأبي السعود 3/123-124 .
([16] ) المعمى : هو تضمين اسم الحبيب ، أو شيء آخر في بيت شعر إما بتصحيف ، أو قلب ، أو حساب ، أو غير ذلك انظر التعريفات للجرجاني ص233 .
([17] ) "دون ذلك خرط القتاد" مثلٌ يضرب للأمر دونه مانع . والخَرْطُ : قشر الورق عن الشجرة اجتذاباً بالفك . والقَتَادُ : شجر له شوك أمثال الإبر . انظر مجمع الأمثال للميداني 1/327 .
([18] ) محاسن التأويل للقاسمي 6/497 باختصار يسير جداً .
([19] ) أضواء البيان للشنقيطي 7/59 ، وقد فسّر الآية بمثل هذا التفسير كل من القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 15/266 ، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم 7/3044 ، وغيرهم .